هيثم الحلي الحسيني
الحوار المتمدن-العدد: 4327 - 2014 / 1 / 6 - 06:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جيشَ العراق ولم أزلْ بك مؤمنا وبأنك الأملُ المرجّى والمنى
وبأنّ حلمك لن يطولَ به المدى وبأنّ عزمك لن يحيق به الونى
جيش العراق اليك ألف تحية تستاف كالزهر الندي وتجتنى
ولقد دفعت بما نظمت قرائحا ولقد عقدت بما نثرت الالسنا
ولقد ضربت ولست أملك مضربا ولقد طعنت ولست أملك مطعنا
بهذه الكلمات الخالدة, صدح صوت شاعر العرب الأكبر الجواهري, مخلدا لبطولات جيش العراق, وأدواره وكبريائه, على مستوى العراق, في وحدة أرضه وسلامة أمنه الوطني, ورمز سيادته, وعلى مستوى الوطن العربي, في الدفاع عن ترابه المقدس, وقد قدّر للقصيدة أن تشدو بها السيدة أم كلثوم, لولا التداعيات السياسية العربية, التي حالت دون ذلك1 .
وفي هذه الأيام, إذ يحتفي شعب العراق, بذكرى جيشه, في وقفة إجلال وتقدير, وحب وولاء, ووفاء لسجله الناصع, على مدى عقوده المنصرمة, وهو يشارف لقرنه الأول المديد, لابد من التذكّر إبتداءاً, أنّ أول إحتفال على المستوى الوطني, قد أجمع عليه جميع أبناء شعب العراق, بعد سقوط النظام وإنهيار الدولة العراقية, كان هو هذه الذكرى الخالدة, إذ أعلنتها سلطات الإحتلال مضطرة, يوما وعيدا رسميا للعراق 2.
وفي إستقراء التأريخ, فإن جذور الجيش العراقي, تمتد لآلاف السنين, إذ يمثل إمتدادا, لجيش بلاد وحضارة ما بين النهرين "الميسوبوتاميا", فكان الأول في التأريخ, في ممارسته للتنظيمات العسكرية, وسنّه لقوانينها, لتشمل أنواع الخدمة وتفاصيلاتها, وفي وسم الرتب العسكرية المختلفة, ومهامها وصلاحياتها وامتيازاتها, في دول وحضارات سومر وأكد, وأشور وبابل, التي عبرت جيوشها, المسافات الطويلة, في أعماق الشرق, وغربا حتى وصلت أرض مصر, وكان تحرير فلسطين, من أبرز منجزاتها, مما يسجل لها, في تفوق الأداء الإستراتيجي والقيادي والتنظيمي الإداري.
وكما أن جيش العراق, يمثل إمتدادا, لجيش الدولة العربية الإسلامية, في حاضرتها التأريخية بغداد, إذ وصل الجيش ذروته, في نواحي التنظيم والإدارة والتجهيز والتسليح, فضلا عن تطوراته في مجالات السوق "الإستراتيجية", والعمليات والتعبية "التكتيك", في القوات البرية والبحرية, إذ كانت أرض العراق, ساحة إرتكاز لإنطلاق معارك التحرير والفتوحات, ونشر الدعوة والعقيدة والحضارة, لسائر الإنسانية.
وفي التأريخ المعاصر, فإن جيش العراق, يمثل إمتدادا طبيعيا, لجيش الثورة العربية الكبرى, التي انطلقت في الحجاز, في العام 1916, إذ شكل الضباط العراقيون, ممن خدموا في صفوف الجيش العثماني, عمود بناء الفيلق الشمالي في الثورة, بقيادة الأمير الشريف فيصل بن الحسين, والذي إتخذ منهم, نخبة هيئة أركانه ومستشاريه المقربين, فضلا عن قادة الصنوف والأسلحة والتشكيلات, بما عرف بجيش الحجاز.
وقد استطاع هذا الفيلق, أن ينطلق من شمالي الحجاز, الى أعماق الشام, حتى هدفه السوقي, مدينة دمشق, التي دخلها محررا, وأسس فيها أول دولة عربية في التأريخ المعاصر, بقيادة الأمير فيصل, إذ بذل ضباط العراق, في هذه العمليات التحررية, الدماء والجهد, حتى معركة ميسلون الشام, في الدفاع عن الأرض العربية, من المستعمرين الجدد.
ويتواصل هذا الدور للجيش العراقي, قبل تأسيسه المعلن, من خلال مشاركة الضباط العراقيين, في ثورة العراق الوطنية الكبرى, التي انطلقت ذروتها, في الفرات الأوسط, في حزيران عام 1920, وكانت مقدماتها, قد بدأت منذ الإنزال البريطاني في الفاو, عام 1914, ومرورا بثورات النجف وتلعفر والسليمانية, إذ نفذ الضباط في عمليات تلعفر, خرقا كبيرا في صفوف جيش الإحتلال, بعد دخولهم الوطن, من الحدود السورية.
ثم كان للضباط العراقيين, مشاركات رئيسة, في كافة فعاليات الثورة الكبرى, خاصة في مجالات المشورة للعشائر الثائرة, وإستخدام الأسلحة الحديثة, التي غنموها من العدو, في ارض المعركة, والتخطيط للعمليات, حيث انتهت تلك التضحيات, الى إعلان أول حكومة عراقية, في تشرين من العام 1920, برئاسة السيد عبد الرحمن النقيب, والتي أفضت الى تأسيس الجيش العراقي, في 6 كانون الثاني, من العام 1921, من تلك النواة للضباط العراقيين, وتشكيل الدولة العراقية الحديثة, وتنصيب الأمير فيصل الأول, ملكا للعراق, بمباركة ضباط الجيش, الذين شاركوه عمليات التحرير, بدءا من الحجاز الى الشام, وصولا الى العراق, فضلا عن تأييدات قادة الثورة ورموزها الوطنية, الذين تواصلوا معه, في كافة صفحاتها 3.
وعليه فليس مستغربا, أن يولد جيش العراق كبيراً, منذ أول تشكيل قتالي له, في خان الكربولي في الكاظمية, وهو الفوج الأول اللواء الأول, الذي وسم بفوج موسى الكاظم, والذي استمر بهذا العنوان, بعد أن سبقته دوائر الدفاع والأركان العامة, من مديريات إدارة وصنوف وخدمات, فيدخل جيش العراق, مرحلة النضوج والإنجاز, دون طفولة أو صبا, لأنه تكوّن في رحم عمقه التأريخي, وأدواره الوطنية والقومية.
فكان له الدور الفاعل, في كافة صفحات تأريخ العراق الوطني المعاصر, وكان لاعباً مهما, في كافة التحولات السياسية فيه, التي شهدها العراق إبان الحكم الوطني الملكي, ثم بات اللاعب الرئيس فيها, بعد سقوط الملكية وإنشاء النظام الجمهوري, إذ كان صمام الأمان للإسقرار والسلم الأهلي, ليتجاوز بذلك طموحات بعض القادة السياسيين وتداعياتها.
ومع أن المؤسسة العسكرية في تلك المرحلة, قد تجاوزت مهامها المهنية, الى قيادة السلطة السياسية, بسبب الحماس الوطني, لبعض النخب الوسطى من ضباطه, بعد قيادتهم لحركات التغيير للنظم السياسية, بهدف التحرر الوطني, ومن ثم تحولّهم لممارسة السلطة, ثم تأخرهم في ترك تلك المهام الى المؤسسة السياسية, غير مؤسسة الجيش ذاتها, بقيت على مهنيتها ومسؤولياتها, بعد تجاوز تلك المراحل, التي شهدت صراعا وانقساما, على المستوى الفكري "الأيديولوجي", عمل السياسيون على إسقاطه, بين ضباط المؤسسة العسكرية 4.
وقد أدى جيش العراق مهامه وواجباته الكبرى, في الدفاع عن وحدة التراب الوطني, وقد روت دماء أبنائه الطاهرة, أرض العراق وحدوده ومياهه وسماءه, في دفاعه عن تربة الوطن, من جميع أشكال الغزو, الذي تعرض اليه العراق, وشعبه الصابر, وكان في جميع منازلاته, يؤدي واجباته الوطنية, بكل مهنية وشرف, مقدما دروسا مستنبطة كبيرة, في إستخدام الأسلحة والمعدات, وفي التخطيط والإدارة, وفي السوق والعمليات والتعبية, في كافة الأسلحة البرية والجوية والبحرية, وقد شهدت الأكاديميات العليا, أن هذا الأدء المتميز, كان يتجاوز كفاءة الأسلحة وقدراتها ذاتها, من خلال الإستخدام الكفوء, والإبداع المتميز فيه.
وفضلا عن واجباته الدفاعية, في حفظه لوحدة الوطن, وسلامة أراضيه, وأمن شعبه, فقد كان للجيش, أدوار رئيسة, في منجزات البناء الوطني, وتأهيل التخصصات الوطنية العليا, المساهمة فيه, وفي درء المخاطر الطبيعية, وكذا في مهام التربية والثقافة الوطنية, وإعداد الإنسان العراقي, وطنيا ومهنيا, وفي جميعها, كان محل تقدير الشعب العالي له, ودعمه وتاييده, كونه رمز لوحدته وعزته وكرامته, وعنوان لهيبة الدولة ومأسستها.
ولم تنتزع هذه العلاقة الوثيثقة, بين شعب العراق وجيشه, في أحلك الظروف الصعبة, التي مر بها الوطن, كما حصل بدرجات متفاوته, مع مؤسسات أخرى في الدولة, وقد ظهر ذلك جليا, في الرفض الوطني والشعبي العارم, للقرار الجائر, الذي أصدرته سلطات الإحتلال بحل الجيش, والذي جرى الإسراع بتداركه, من خلال سرعة القرار على إعادة التشكيل, بدلالة تسابق السياسيين وذوي الشأن, في التنصل والبراءة منه, لكسب رضا الشعب الساخط, على ذلك القرار, فضلا عن تنصل قيادات الإحتلال ذاتها, عن مسؤولية إصدار القرار, بعد أن اثبتت الأحداث فشله, وتداعياته الكبيرة, في الأمن الوطني العراقي, ومهام إعادة بناء الدولة ومؤسساتها.
فضلا عن تلك الأدوار والمهام الوطنية الكبرى, للجيش العراقي, فقد كانت له الأدوار الرئيسة في المهمات القومية, في الدفاع عن التراب العربي, والمقدسات القومية والدينية, فكان الجيش العراقي, محل إكبار أبناء الوطن العربي, لجهوده وتضحياته, فقد كان الجيش العربي الوحيد, الذي يعد من دول المواجهة الرئيسة, مع العدو الإسرائيلي, لأدواره المحورية, في جميع مراحل الصراع معه, برغم كون العراق ليس من دول الطوق جغرافياً, وستنصرف الورقة القادمة, لإستقراء تلك المهمات القومية, للجيش العراقي.
وبرغم الظروف الصعبة والقاهرة, التي يمر بها العراق وشعبه الصابر, وبرغم تداعيات وانكسارات العملية السياسية, والصراع المحتدم بين الكتل السياسية المشاركة فيها, والمواقف المحلية والإقليمية, المانعة لتسليح الجيش العراقي, ورفعه لقدراته القتالية, وكفاءة أسلحته, وتطوير تجهيز قواته, لأسباب تخص نوايا كل طرف معارض لها, ونزوعه ليبيقى جيش العراق, دون مستوى الكفاءة العالية5 .
غير أن رجال الجيش, يوصلون الأمس باليوم, في كافة الجبهات, دفاعا عن الأمن الوطني, بما يفوق مهامهم الرئيسة, فيقدمون التضحيات, في مستوى قادة الفرق والأمرين والضباط والمراتب, والتي يعجب لها جيوش العالم, إذ تعلّم ضباط الجيش العراقي وقادته, أن يكونوا في المقدمة, بين مرؤوسيهم وجنودهم.
فسلاما لرجال الجيش في كل عصوره, ولكل قطرة دم, سالت على تراب الوطن المقدس, وتحية إكبار وإجلال, لتلك الأجساد الطاهرة, التي احتضنها ثرى العراق والوطن الكبير, وسيبقى شهداء جيش العراق, في ذاكرة الشعب, نبراسا لأجياله الحاضرة والقادمة.
ويبقى العراق بخير, وأمن, ورفعة, ومنعة, وإزدهار, حافضا سيادته وكرامته وكبريائه, وسلامة شعبه, ومستقبل أجياله, طالما يكون جيش العراق, بخير وإقتدار وتطور, ومهنية وكفاءة, بعيدا عن السياسة, التي لا مقام لها, وهو الباق, حصنا وسورا للوطن, لأنه هو الأمل والمرتجى.
جيشَ العراق ولم أزلْ بك مؤمنا وبأنك الأملُ المرجّى والمنى
الهوامش:
1 كان مقررا لقصيدة الجواهري الكبير, أن تنشهدها السيدة أم كلثوم, تحية لجيش العراق الباسل, في حفل معرض دمشق الدولي, في أواخر عام 1958, بعد أن لحن كلماتها الأستاذ رياض السنباطي, وتفاصيل الحدث وملابساته, ذكره الكاتب اللبناني سعيد فريحة, في مقال له نشرته جريدة أخبار اليوم, الصادرة يوم السبت, 6 أيلول سبتمبر, 1958.
2 كان جمع كبير من ضباط الجيش العراقي, قد تجمع لفرض الإحتفاء, الرسمي والوطني, بذكرى تأسيسه الأولى, في 6 ك2 2004, في مبنى نادي العلوية في بغداد, وقد تحدث باسمهم في الحفل, الفريق الركن ابراهيم فيصل الأنصاري, رئيس اركان الجيش السابق, وهو من قامات قادة الجيش العراقي.
3 الباحث, مقدمات الثورة العراقية الكبرى, ومتبنياتها الفكرية والمجتمعية وأثرها في تشكيل العملية السياسية, موقع الحوار المتمدن, وموقع الجديدة.
4 الباحث, الدور السياسي للمؤسسة العسكرية العراقية, بعد العام 1958, بحث منشور, مجلة مؤسسة بيت الحكمة, الحلقة النقاشية, بغداد, 2004.
5 الباحث, المرتكزات الإستراتيجية للمؤسسة العسكرية العراقية, في خيار التسليح الروسي وتنوع مصادر التسليح, موقع الحوار المتمدن.
هيثم الحلي الحسيني
باحث في الدراسات الإستراتيجية
[email protected]
#هيثم_الحلي_الحسيني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟