Valia KAIMAKI
تشرين الثاني/نوفمبر 2002
اثار النقاش داخل البرلمان اليوناني في نهاية ايلول/سبتمبر 2002 حول قانون يتعلق بالمساعدة "الطبية للتوالد البشري" ردة فعل عنيفة من الكنيسة الارثوذكسية وطالب رئيس الاساقفة كريستودولوس بأن يصار بكل بساطة الى سحب القانون من التداول. انها ليست المرة الاولى تتدخل فيها الكنيسة في شؤون الدولة لكن يبدو ان صوتها اصابه الضعف. والسبب انها خسرت المواجهة حول ذكر الدين على بطاقات الهوية.
بدات المسألة في العام 2000 ، فمن اجل تطبيق المعايير الاوروبية اعلنت الحكومة نزع الاشارة الى الدين عن بطاقات الهوية اذ اعتبرت هذه الاشارة من المعطيات الشخصية غير العامة. جاء رد الكنيسة سريعا عندما طالب رئيس الاساقفة باستفتاء حول الموضوع وازاء رفض رئيس الوزراء السيد كوستاس سيميتيس، اطلق حملة تواقيع من شأنها إلزام الحكومة الاستفتاء الشعبي.
لا بد ان الكنيسة كانت تراهن على الحزب المحافظ وعلى المستائين من اداء حكومة حزب باسوك (الاشتراكي). لكنها اخطأت في حساباتها، فمع ان زعماء حزب "الديموقراطية الجديدة" وقّعوا العرائض في ابرشياتهم الا انهم لم يقدموا الدعم للحركة. وبدل ان يؤدي هذا التحدي الى انقسام في صفوف الحزب الحاكم فإنه دفعه الى التوحد بالرغم من بعض اصوات الاقلية المعارضة.
يوم 28 آب/اغسطس 2001، اعلن رئيس الاساقفة عن 3008901 توقيع وهو رقم مرتفع لكنه دون "الثورة" المعلن عنها. اضافة الى ذلك ارتكب رئيس الاساقفة خطأ سياسيا عندما حمل التواقيع مطالبا رئيس الجمهورية السيد كوستيس ستيفانوبولوس بإجراء الاستفتاء او بالاستقالة. اثار بأسلوبه هذا معارضة الرأي العام للكنيسة (١،٢٥ بالمئة اعلنوا معارضتهم الاستفتاء مقابل موافقة 26 بالمئة فقط) (١). اكتفى رئيس الجمهورية بتذكير رئيس الاساقفة كريستودولوس ان لا قيمة قانونية للتواقيع كون الاستفتاء المطلوب لا يتوافق مع الدستور.
هل هو انتصار للدولة على الكنيسة؟ ان اعتقادا من هذا النوع يدل على جهل بعقلية مجتمع تهيمن فيه الطقوس الدينية. فحتى اللاادريين في اليونان يشاركون في قداس الفصح والجميع تعلم في مدارس تتلى فيها الصلاة جماعيا كل صباح ويشكل التعليم الديني فيها مادة فعلية يجري فيها التلامذة امتحانات كغيرها. والكاهن يجلس دائما الى جانب رئيس البلدية في الاحتفالات الرسمية كما تقسم الحكومة اليمين على الانجيل ووزير التربية الوطنية مكلف ايضا مهام الشؤون الدينية. كلها حقائق رمزية تفسر صعوبة الفراق بين الدولة والكنيسة.
حتى حزب "باسوك" لا يحبذ الحديث عن "الانفصال" بل يفضل الاشارة الى "ادوار مختلفة يحددها الدستور" كما يوضح وزير الثقافة في الحكومة الحالية، السيد ايفانجلوس فنيزلوس: “الحرية الدينية مضمونة تماما. خلافا لبلدان اوروبية اخرى فإن لا ديانة "رسمية" في اليونان ووضع الكنيسة الارثوذكسية طاغ بمعنى انها تضم غالبية المؤمنين. المشاكل المتبقية تحلها المحاكم وبفضل التقدم التدريجي في سن القوانين”.
في كتابه الاخير (٢)، يعود استاذ القانون الدستوري انطونيس مانيتاكيس الى بداية تكون الدولة اليونانية الحديثة. فهي ولدت من ثورة 1821 ضد الامبراطورية العثمانية واقامت مع نشأتها كنيسة ارثوذكسية "وطنية" و"مستقلة" تحولت رسميا الى الاستقلال في العام 1850 لا بل الى السلطة الذاتية الكاملة بالنسبة الى كنيسة القسطنطينية، مركز اقامة البطريرك. عندها اصبحت قوانين الدولة هي التي تنظم الكنيسة وتلحقها بها. هكذا دأبت جميع الدساتير المتلاحقة من دون اعتراض من الكنيسة. لكن طوال الاحتلال العثماني ينسب الاعتقاد العام الى هذه الكنيسة المحافظة على اللغة والحضارة اليونانيتين مما أمن وحدة الهوية للدولة الجديدة.
لكن الكنيسة الجديدة بقيت بعيدة عن السياسة مما حرر الدولة من نفوذها الذي كان يتمثل حتى ذلك التاريخ بالبطريرك. من جهتها الدولة كانت تتدخل في ادارة الكنيسة وخصوصا لجهة تسمية الكهنة والاساقفة. لكن الدستور الجديد في العام 1975 حدّ من هذا التدخل مانعا في المقابل الكنيسة من التدخل في شؤون الدولة. يقول الاستاذ مانيتاكيسس: "تريد الدولة كنيسة خاضعة لها تلعب دورا حاسما في التوسط بين السلطة السياسية والمواطنين. وبالفعل فإنها عمدت طوال تاريخ اليونان الى تشريع قرارات الدولة”. والدليل على ذلك كما ذكرنا، الموقع المتميز لممثلي الكنيسة في الاحتفالات الرسمية.
لكن الدولة واحزابها تراهن على الكنيسة من اجل توسيع تواصلها مع الفئات الشعبية. ومنذ الثمانينات حاول الحزب الاشتراكي (باسوك) مصالحة التيار التقدمي مع الارثوذكسية باللعب على دور الكنيسة الغامض ـ في مرحلة الفاشية من اجل قطع الطريق على اليمين الذي يجند المناصرين تقليديا في الاوساط المسيحية. وتزامنت محاولة اجتذاب ناخبين جدد بعيدين عن الاتجاه اليساري بسبب عداوته حيال الكنيسة، مع البحث عن تعريف جديد للقومية.
وكما يشير تيوكليتوس، متروبوليت ايوانينا والذي يعبر عن أطروحات مخالفة لآراء زملائه، "بات كل شيء مرتبطاً بوجود مادة قومية. اني اضع الامة في المرتبة الثانية، مباشرة بعد الدين. اعتقد ان على الكنيسة ان تؤمن الضمير الوطني لليونانيين ـ كما للبلغاريين والروس”. انها رؤية لا تفتقر الى المنطق، فإذا كانت الكنيسة الارثوذكسية بنيت على الدولة وتبنت اهدافها الوطنية فمن الطبيعي ان تتملك تدريجيا الفكرة القومية وتناضل للحفاظ على الهوية الوطنية مع تراجع الطابع "القومي" للدولة والذي يمثل تهديدا للكنيسة.
عام 1998، اعطى انتخاب كريستودولوس لمنصب رئيس الاساقفة دفعا جديدا للكنيسة. وقد تحول الى وجه بارز بسبب شخصيته الحيوية ومحبته للشباب ودعوته لهم الى الكنيسة من دون ان يتردد في "التوجه الى الصبيان ممن يضعون حلقة في آذانهم”. وبما ان كلامه مثير دائما للاهتمام فإن وسائل الاعلام تطارده وتبث خطبه. ان اسلوبه في التحدث "باسم الشعب" و"باسم الامة" تفترض ضمنا انه يتكلم باسم اكثرية اليونانيين ايضا. هكذا يخلق تماهيا بين "المسيحي والمواطن" ويرتقي بنفسه الى مرتبة الزعيم السياسي، كما يقول الاستاذ مانيتاكيس.
عاد صوت الكنيسة الى الارتفاع بعدما خفت اثر سقوط الطغمة العسكرية عام 1974. ففي غياب ارقام دقيقة "يمكن الافتراض ان استخدام السلطة العسكرية المنهجي للايديولوجيا الارثوذكسية بالتزاوج مع الخضوع شبه التام للكنيسة امام هذه السلطة قد ساهم في انخفاض الذين يمارسون الطقوس الدينية بشكل منتظم بعد عودة الديموقراطية” (٣). ابتعد الناس عن الكنيسة التي اضطرت لتخفيف حضورها. الامور باتت مختلفة اليوم.
فالاساقفة والكهنة وموظفو الادارة الدينية يحاولون الحفاظ على مكتسباتهم المهددة بسبب انفتاح المجتمع بينما يسعى رئيس الاساقفة كريستولودوس لمعالجة شعور القلق الغامض الناتج من تحديات مثل العولمة وهجرة الاجانب. يترجم هذا القلق في بلدان اخرى بصعود الفاشية الجديدة او التيارات الرافضة للاجنبي لكن اليونان معفاة من هذه التوجهات لاسباب تاريخية ولا سيما مقاومة النازية ابان الحرب العالمية الثانية. "بالاضافة الى ذلك تتمتع الكنيسة كمؤسسة باحترام وسلطة ونفوذ اوسع من المؤسسات المدنية بما فيها البرلمان والاحزاب السياسية” (٤).
لا يخفي رئيس الاساقفة كريستولودوس رغبته بتوفير متسع للكنيسة يمكّنها من التفاوض مباشرة مع الدولة حول المسائل القومية. ويتخيل نفسه طرفا فاعلا رئيسيا في السياسة يبدي رأيه في كل المسائل ويؤثر في القرارات ليحوّل الكنيسة الى مجموعة ضغط. لكن هذا الطلب لا يؤدي سوى الى المأزق لان الكنيسة لا تملك الوسائل لتنفيذ هذه الرغبة وهذا ما دلت عليه قضية بطاقات الهوية.
مع ذلك لا ترغب الدولة في قطع صلاتها بالكنيسة وهي وافقت على تسوية جديدة عند التصويت على التعديل الدستوري الاخير الذي صوّت عليه البرلمان في ربيع العام 2001 . الاتفاق نفسه ابرم مع حزب الديموقراطية الجديدة المحافظ. قبل عامين وفي المرحلة الاولى من التعديل الدستوري قرر الحزبان (٥) عدم التطرق الى علاقة الدولة بالكنيسة في النقاش السياسي. وبالفعل فإن هذا التعديل الكبير لم يطاول المادة الثالثة التي تنص على ان المسيحية الارثوذكسية هي الديانة "المهيمنة" في اليونان والمادة الثالثة عشرة التي تضمن حرية المعتقد الديني وتؤكد ان حقوق الانسان والمواطن لا ترتبط في اي حال من الاحوال بالانتماء الديني. كذلك لم يطرأ تعديل على مقدمة الدستور "باسم الثالوث الاقدس" ولا على الاشارة الى الكتاب المقدس.
يعتقد الصحافي بيريكليس فاسيلوبولس "ان البعض يأمل في استقرار دور الكنيسة اذا خسر رئيس الوزراء سيميتيس الانتخابات المقبلة واذا فاز حزب الديموقراطية الجديدة. لكن في مطلق الاحوال وحتى لو نشبت ازمة كبيرة فإن المجتمع اليوناني الحديث لن يقبل بتعاظم دور الكنيسة”. الواقع ان الكنيسة لا تسنطيع وبالرغم من خطابها حول الانفتاح والتحديث، التخلص من صورتها المحافظة مما يجعلها في تماه مع حزب الديموقراطية الجديدة المحافظ.
وقد فسر هبوط شعبية رئيس الاساقفة كريستولودوس في استفتاءات الرأي كإشارة الى تخلي الاحزاب عنه (٦) باستثناء اليمين. وما يزيد من قلق كريستولودوس تدهور العلاقات داخل الكنيسة نفسها اذ انه ليس على تفاهم مع البطريرك وايضا مع عدد من الاساقفة الاعضاء في المجمع (٧). علاقته سيئة ايضا مع اسقف البيريه والذي يسميه مع ذلك "اباه الروحي”.
يعتبر تيوكليتوس ان خطأ الكنيسة الكبير هو في التماهي مع اليمين ويقول في هذا الصدد: “ان الكنيسة تتصرف على هذا النحو لانها تشعر بالخطر من جراء تراجع الايمان لكنها تؤذي تماما علاقتها بالدولة على المدى الطويل. علينا تحمل مسؤولياتنا واطفاء النار المدمرة للايمان والتي اشعلناها نحن. اني متفائل لكني اخشى ان لا يكون لدى الكنيسة سوى حلول مادية لمشكلات روحية بعيدة عن اشكالية السلطة. علينا ان لا ننسى اننا مسيحيون بالاختيار ومواطنون بالاجبار”.
بالرغم مما تشهده الابرشيات من عودة للاهالي (٨)، فإن علاقة المؤمنين بالكنيسة تبقى دقيقة. فالارثوذكسية لم تعد ذات تأثير على عادات اليونانيين بل على العكس فإن بعض الذين يقفون طوابير للركوع امام ايقونة عجائبية يثابرون على متابعة مسلسلات متلفزة تمتزج فيها التفاهة بالجنس.
لماذا اذن ضمن هذه الشروط ما زال الاشتراكيون يشعرون بضرورة تهدئة الازمة بدل حسمها نهائيا؟ عام 1981، وعد بيان حزب الباسوك الحكومي بالفصل التام بين الكنيسة والدولة لكن منذ ذلك الحين تراجعت الدولة والحكومات الاشتراكية المتوالية عن هذا الوعد. فالزواج المدني اصبح اختياريا في نهاية المطاف وليس الزاميا ولا يتجاوز عدد الزيجات في البلدية العشرة في المئة. كذلك ما زالت ادارة املاك الاكليروس الكبير تحت اشراف الكنيسة.
يمكن تفسير موقف "الباسوك" الخجول في هذا المجال باسباب انتخابية كما يقر استاذ الحقوق ميشال ستاتوبولوس. وقد شغل هذا منصب وزير العدل وكان العدو الشرس لانصار عدم الفصل بين الكنيسة والدولة وهو الذي اعلن انه "يجب التوقف عن ذكر الدين على الهوية وادخال القسم المدني والجنازة المدنية”. ومع انه ليس خبيرا في مسألة بطاقات الهوية فقد عبّر داخل الحكومة عن الأطروحات الاكثر تقدما وشارك تقريبا في جميع اللجان التي بحثت في شؤون الزواج خصوصا تلك التي انكبت في الثمانينات على دراسة العلاقة بين الدولة والكنيسة. وقد تعرضت جهوده في هذا الاتجاه لضغوط سياسية باسم الخشية من "خسارة الاصوات”.
لا تعديل ممكن للدستور قبل مرور عشر سنين. فرصة اخرى ضاعت. لم يكن يفترض بالاشتراكيين مواجهة الازمة التي خلقتها الكنيسة بل التقدم نحو الفصل التام بين الكنيسة والدولة ولو ان قفزة من هذا النوع لا تزال تخيف رجال السياسة.
--------------------------------------------------------------------------------
* صحافية، اثينا
١ استفتاء للرأي العام اجرته مؤسسة "مترون" في ايلول/سبتمبر 2001.
2
Les relations de l Eglise avec l Etat-nation, Editions Nefeli, Athènes, 2000.
3
Georgiadou Vassiliki et Nikolakopoulos Ilias, Le peuple de l Eglise , in L Opinion publique en Grèce, études-sondages 2001, Nea Sinora-A.A. Livani, Athènes, 2000.
4 المرجع السابق.
5 خلافا لرأي تحالف اليسار والحزب الشيوعي.
6 لا تتميز الاحزاب اليونانية بتوجه ديني وفي الممارسة وحدها يمكن التأكد من ان الاتجاه للتصويت لصالح اليمين يعني الانتماء الى صفوف المسيحيين "المتطرفين”.
7 نوع من مجلس اعلى للكنيسة ينتخب رئيس الاساقفة.
8 تزايد عدد الذين يمارسون الفروض الدينية خلال السنوات الخمس الاخيرة كما تراجع عدد الذين لا يحضرون ابدا الذبيحة الالهية من 16،1 بالمئة عام 1985 الى 5 بالمئة عام 2000.
9 تزايد عدد الذين يمارسون الفروض الدينية خلال السنوات الخمس الاخيرة كما تراجع عدد الذين لا يحضرون ابدا الذبيحة الالهية من 16،1 بالمئة عام 1985 الى 5 بالمئة عام 2000.
جميع الحقوق محفوظة 2001© , العالم الدبلوماسي و مفهوم