مايدور في المشهد السياسي الداخلي العراقي المحتقن في الوقت الراهن من إحتمالات وتبدلات وتسارعات مضطردة نحو التغيير الداخلي الشامل وإنهاء حاسم ونهائي للديكتاتورية ، بات يثير جملة من التكهنات والتساؤلات والتي بلغ بعضها مبلغا خرافيا في هوله وتجنيه على كل الحقائق والمسلمات ، وبما يخدم الدعاية القومية المضللة للنظام العراقي السائر في طريق الإضمحلال النهائي بعد أن تخلى وبأريحية منقطعة النظير عن كل الطروحات والمبررات التي كانت تعرقل عمل المفتشين الدوليين والتي تسببت في إطالة عمر المعاناة الشعبية العراقية المبتلاة أصلا بهذا النظام منذ أكثر من ثلاثة عقود ، فحديث السيادة الوطنية والكرامة القومية وشلة الجواسيس الأممين والدفاع عن أسرار النهضة القومية والوقوف بوجه المخططات الصهيونية كلها قد أضحت من شعارات الماضي البعيد ودخلت ملفات النسيان بعد أن شعر النظام بجدية التهديدات الأميركية ، ففرط في السيادة ، وأمعن تفريطا في الأمن القومي العربي والذي كان هو الوحيد الذي إخترقه مشكلا أكبر مصادر التهديد لصيغته !! ثم جاء الإستسلام الأخير للقرار 1441 ليشكل ماهو أكبر من الفضيحة بكثير حتى أن اللغة العربية وهي البحر في أحشائها الدر كامن قد عجزت عن إيراد الكلمة التي تصنف موقف النظام العراقي وهو يتوسل ويقدم ماهو أكثر من الممكن والمسموح لأي نظام سياسي في العالم من تنازلات مقابل الحفاظ على السلطة وإمتيازاتها وزعاماتها الفارغة القائمة على بحور من الفشل والهزائم والتراجع السياسي والحضاري الشامل وتفتيت مقومات الوحدة الوطنية للشعب العراقي ، لقد عودنا تاريخ النظام العراقي وهو الفاشل الدائم في فن ( إدارة الأزمات ) على توقع المزيد ثم المزيد من التنازلات وهاهو ملف علاقته الساخن مع إيران يشهد على مناوراته وأساليبه التراجعية الخطرة ، ففي أزمة الثورة الكردية عام 1975 وبغرض إفشالها تخلى لشاه إيران عن الحقوق التاريخية والثابتة للعراق في شط العرب في خطوة لم يجرؤ عليها الراحل نوري السعيد الذي قاتل بشراسة من أجل حقوق العراق ووحدة وسلامة أراضيه ؟ فيما جاء نظام البعث القومي ليفرط وإلى الأبد بما لايملكه من أجل ( الحفاظ على الثورة ) كما قال حينذاك ؟ فيالبؤس تلك الثورة التي لاتستقر إلا بتمزيق البلد والتخلي عن حقوقه !! ثم تحرك نفس النظام بعد التغيير الثوري في إيران ليحول بغباء سياسي قل نظيره وعن طريق حملة العنتريات القومية المعروفة بتصحيح جريمته القومية ويلغي إتفاق الجزائر لعام 1975 من جانب واحد متصورا أن العلاقات الدولية تشبه العلاقات بين البلطجية والفتوات في روايات نجيب محفوظ الشهيرة ؟؟ وكانت كارثة وطنية عراقية كلفت العراقيين أكثر من مليون قتيل من زهرة شبابهم كما كلفت الإقليم الخليجي المجاور والمساند مئات المليارات من الدولارات وكانت تبعاتها الإستراتيجية هي التي عمقت ورسخت الوجود الأميركي في الخليج العربي وبعد ثمان عجاف من الحرب الدموية المنسية وبفضل جهود الولايات المتحدة وحلفائها في الضغط على إيران توقفت الحرب بتعادل دموي مريع ثم عاد صدام وإعترف بإتفاق الجزائر معتبرا أن الحرب كانت ( فتنة )!! وتناسى كل شعارات الحشد والدعم والتأييد لإستقلال عربستان وللحقوق العراقية المضافة في الأرض والمياه ... إلى آخر عبارات ( الشقاوة السياسية العراقية ) ؟ ليتلخص الصراع بحكاية
( تيتي تيتي رجعتي مثل ماجيتي ) !!!
وهكذا كانت دماء العراقيين وتضحياتهم قربانا لنظام سياسي فاشل تجسدت كارثته الحقيقية في الجريمة القومية الكبرى بغزو الكويت وتشريد شعبها وإعتبارها المحافظة التاسعة عشر لجمهورية البعث المفلس وهي الجريمة التي مهدت لتدمير العراق عبر عاصفة الصحراء والإبقاء على الظام العراقي الصدامي كرمز شاخص من رموز الهزيمة القومية الكبرى ، ليعود النظام ذاته ويعترف بالكويت وفق قرار أممي رسمي رغم أنه لم يتخل عن حكاية الإنتصار الكبير في أم المعارك ؟ كما لم يتخل عن تمجيد حادث الغزو والذي أسماه يوم ( النداء العظيم ) !! إنها إذن سلسلة من الهلوسات التراجعية الخطرة التي تجعل من تصفية النظام وإنهائه قضية قومية كبرى لاتحتمل التأجيل ولا المراوغة ، والحقائق الإستراتيجية القائمة حاليا تنبيء بشكل واضح على قرب النهاية ، وفي تلك النهاية القريبة يعمد بعض العرب لإثارة مخاوف إستراتيجية وقومية لا أساس لها من الصحة ولاتحركها سوى نوازع الوهم وحب الظهور والتميز بمواقف مخالفة من أجل إظهار مصداقيتها وحرصها على الهم القومي لتتهم العراقيين بمشاعرهم القومية ولتحاول إيتزاز المعارضة العراقية الوطنية بحملات من الأكاذيب وعواصف الدخان التي لاقيمة لها ومنها مثلا إن الوجود الفلسطيني في العراق في خطر حقيقي وأن الفلسطينيين سيشهدون مذابح جماعية في حال دخول المعارضة العراقية ! ليربطون بذلك ذلك الربط الإستراتيجي الغبي الذي حاول صدام فيه جاهدا أن يربط القضية الفلسطينية بمصير نظامه ؟ وهي معادلة مختلة الجوانب ولاتهدف سوى لحملة تشويشية برع بها النظام و أنصاره .
فواقع الأمر وحقائق التاريخ القريبة والبعيدة تؤكد وبما لايدع مجالا للشك من أنه لايوجد نظام عربي أضر بالقضية الفلسطينية وأنزل بها ما أنزل من الدمار مثل النظام العراقي الحالي ؟ وهو نظام ولغ بعيدا في الدم الفلسطيني وساهم مساهمة فاعلة في تمزيق الجبهة الفلسطينية الداخلية وخلق الإنشقاقات وتدبير الإغتيالات والمزايدة الرخيصة بإسم القيادة الفلسطينية الشرعية وشراء الذمم والمحاسيب والأنصار وإغراق الساحة الفلسطينية بالدم الفلسطيني وفقا لنظريته في القتل والتخريب وهي نظرية ( الضد النوعي ) الذي طبقها على العراقيين وإستحضرها في تعاملاته مع الأطراف والمنظمات الفلسطينية المختلفة لذلك لم يخطأ كثيرا السيد ياسر عرفات حينما أعلن من بيروت في فورة غضبه على عمليات الإغتيال العراقية لعدد من قيادات فتح عام 1978 من أن
( أعداء العرب ثلاث .. كارتر .. بيغن .. وصدام ) ؟؟
لقد مارس النظام العراقي من عمليات القتل ضد القيادات الفلسطينية بشكل تفوق كثيرا على عمليات الموساد وكانت إغتيالات علي ناصر في الكويت والسرطاوي في روما والقلق وحمامي في باريس وغيرها الكثير نتاج التلاقح بين مخابرات السلطة العراقية وبعض التنظيمات ألإرهابية الإبتزازية الفلسطينية التي لاتعبر عن حال ورأي المواطن الفلسطيني المقموع ، كما أن أسلوب الدعاية القومية الإيتزازي للنظام العراقي قد أشاع وهما قاتلا من أن الفلسطينيين يؤيدون النظام مهما قال وفعل ؟ وليس في ذلك أدنى قدر من الصحة ؟ فصور التظاهرات التي تحمل صور صدام المهزوم داخل الأرض المحتلة ماهي إلا مسرحية فاشلة لشلة صغيرة من مرتزقة المرحلة يمثلون الجهاز الحزبي البعثي ومن جماعة مايسمى بجبهة التحرير العربية ليسوا هم كل الشعب الفلسطيني بل ولاحتى القطاع المؤثر وهؤلاء يسببون ضررا للنضال الفلسطيني يفوق بكثير الضرر الناجم عن رصاص العدو وهي عملية تعرفها السلطة الفلسطينية وقد شخصتها وقررت مؤخرا منع التظاهرات المؤيدة للنظام العراقي ومنع حتى الخطب الدينية في المساجد التي تسيء للعلاقة مع الغرب؟!.
ويلعب الحكم العراقي بالورقة الفلسطينية لعبا خبيثا يريد من خلاله توريط الشعب الفلسطيني والذي لايملك النظام العراقي سوى لعبة التخفي خلف معاناته ووضع السيناريوهات المضحكة لدعمه كما يقول عبر تشكيله مايسمى ب ( جيش القدس ) ؟ لتحرير الأرض السليبة من البحر إلى النهر ! في خطوات مزايدة واضحة وهو النظام الذي لايستطيع تحرير ذاته وإرادته ؟
واليوم وفي إطار تشبث السلطة العراقية بالحكم والتحكم أخذت بتسريب بعض المعلومات والمخاوف المغلوطة حول نوايا شريرة للحكم العراقي القادم تجاه الفلسطينيين المقيمين في العراق والذين إندمجوا في المحتمع العراقي وباتوا جزءا من نسيجه ، وهي مخاوف لا أساس علمي لها فمن أساء من الفلسطينيين لايختلف في درجة عقابه ومحاسبته عمن أساء من العراقيين وتغذية مواقف تاريخية سابقة حصلت في بيروت وعمان والكويت وحتى ليبيا عبر عمليات الطرد لايراد به إلا الإساءة للنضال الشعبي العراقي ، وهي قضية ليس لها سوابق تاريخية في التفكير الجماعي للعراقيين والصراع ضد السلطة لايعني إطلاقا محاسبة الآخرين من الضيوف على أمور هي أكبر من طاقتهم وجماعة أو عصابة أبو العباس أو فاروق حجازي أو جبهة التحرير أو أي تنظيم إرتزاقي آخر لايمثلون الشعب الفلسطيني الحر المكافح الرافض للهيمنة والعدوان ، لقد لعبت السلطة العراقية على أوتار معزوفة التوطين لعبتها الخبيثة ، لأن سكوت إتفاق أوسلو الخبيث سكوتا مشبوها عن ملف عودة اللاجئين الفلسطينيين لمدنهم وقراهم قد فتح الطريق أمام حلول وتكهنات ومشاريع عديدة ومنها تدخل طرف ثالث بحاجة للعمق البشري ولايجد غضاضة من إستقبال مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين منذ عقود طويلة في لبنان تحديدا والذي يرفض التوطين لأغراض داخلية مرتبطة بتوازن القوى الطائفية فكان تسريب بعض الأنباء عن نوايا حكومية عراقية في التدخل في الموضوع والذي منه يتصورون أنه سيكون المدخل المناسب إعادة تعويم وتسويق النظام العراقي وإدماجه في مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي كان يتم الترويج له في مراحل سابقة ، وقد ترك النظام العراقي هذا الموضوع يأخذ مدياته في حدود الإشاعة دون أن يعلن النظام موقفا أو يحدد منهجا كجزء من عملية مراقبة للموقف ولردود الأفعال عبر بالون الإختبار هذا ، لتترك القوم سواءا في المعارضة العراقية أو غيرها يتطاحنون على موضوع لم يعلن النظام موقفه الصريح منه ؟ فضلا عن أن خطاب السلطة القومي الشكل لايرفض الموضوع في إطاره العام؟؟ لتبقى كل الإحتمالات قائمة والخيارات مفتوحة أمام من يهمهم الأمر من قادة النظام الدولي الجديد ؟؟! ، لذلك فقد إتبعت السلطة تحركا مدروسا ذو نوايا خبيثة قبل أعوام قليلة حينما أصدرت قانونا للتملك يتيح للفلسطينيين المقيمين في العراق التملك في محيط محافظة بغداد وهو الأمر الممنوع على العراقيين أنفسهم ؟ لتقول السلطة إيحاءا من أنها جاهزة للدخول في ملف التسوية وعلى جميع المسارات ؟.
في تقديري أن الفلسطينيين أذكى بكثير من أن يقعوا بشراك فخ قد جربوا أمثاله في عمان وبيروت ، كما أن الشعب الفلسطيني وهو يتحسس آلامه ويداوي جراحه ويعالج مصائبه ليسوا على إستعداد لإستبدال وطنهم بأوطان الآخرين ولا للدفاع عن سلطة مهزومة تحارب معركتها الأخيرة بسيوف من خشب لاسيما وأن للفلسطينيين أكثر من فرصة متاحة للهجرة والعيش في إستراليا أو كندا أو إسكندنافيا وضمان أرباح حياتية أفضل بكثير من كل الدول العربية ولكن لهم وطن مقدس ومستباح على مرمى البصر ولهم حقوق أقرتها الشرعية الدولية ليسوا على إستعداد للتنازل عنها مهما طالت المعاناة ، كما أنهم لن يكونوا سلما يصعد عليه من فشل في قيادة شعبه ومن ورط أمته في نزاعات عقيمة دمرتها ، فالعراق وأي بلد عربي آخر هو الحاضنة الطبيعية للشعب الفلسطيني ولكنه لن يكون بديلا عن فلسطين والنظام الذي جلب الكوارث على الأمة ليس هو من تصطف الرايات الفلسطينية خلفه مهما تكفلت الدعايات الرخيصة والوسائل الخرقاء بخلط الأوراق ، كما أن العراقيين وهم يكافحون الفاشية ويأملون بخلق العراق الحر لاتؤثر فيهم أفعال زمر من المرتزقة معزولة ومعروفة الدوافع التي تحركهم .
إن ماتزرعه أنظمة الموت والدمار من ألاعيب ومكائد وتفرقة بين الشعوب سيرتد على صدور أصحابه ولن يحيق المكر السيء إلا بأهله ، فليس من شيمة الأحرار الإنتقام بل العدل .