منذ 7 نوفمبر 1988 تتالت الاحتفالات السنوية بذكرى تحول 7 نوفمبر 1987 وكانت هذه الاحتفالات تتصاعد من سنة إلى أخرى وتتسابق بعضها البعض في إظهار معالم الزينة وتمرر من خلال ذلك الخطاب تلو الخطاب الذي من المفروض حسب مقيمي هذه الاحتفالات أن يستوعبه التونسيون و الأجانب ويفهموا منه أنّ تونس بن على كما يقال تتحول من حسن إلى أحسن وتنعم بالازدهار الاقتصادي والتطور الاجتماعي والسياسي .
احتفالات هذه السنة زادت - كما يقال بالعامية - في الطنبور نغمة .
مآزيب تتدفق منها الأموال المصروفة في هذه السنة العجفاء بفعل الجفاف وما أصاب سوق السياحة من كساد نتيجة أحداث 11 سبتمبر وحادثة جربة هذه الأموال المصروفة في إقامة معالم الزينة التي بدت فيها المدن التونسية في هذا الخريف الكئيب كعجوز تتصابى .
فتلبس الألوان الصارخة من أحمر قان ينافسه البنفسجي الذي بات لونا وطنيا ثانيا… وبنايات مصالح وطنية وأخرى خاصة اتخذت دائرة مختلفة الألوان مكتوبا عليها شعارات ركيكة تمخّضت عنها قرائح محدودة الإلهام غارقة في الابتذال وضيق الحيلة .
"كلمة" تجولت في شوارع مدينة أريانة واتخذت منها عيّنة ممثلة لسائر المدن التونسية لتجري هذا التحقيق الصحفي وتشفعه بتعاليق المواطنين على ما ترى أعينهم ولتختم القول في هذا التقرير بمحاولة قراءة ما يختفي وراء إقامة الاحتفال بالذكرى الخامسة عشر " للتحول المبارك ". <![endif]>
بين الصورة والناظر إليها
حالما تدخل بك وسيلة النقل إلى مفترق 7 نوفمبر بطريق "إيكس سابقا" تطالعك سلسلة من الصور العملاقة التي تنتصب فوق البنايات والتي تمثل الرئيس في أوضاع مختلفة ونظراته تحدج المارة الذين لا يبدون عابئين بما يرون والذين سألتهم "كلمة" عن ردّ فعلهم على هذه الصور تراوحت أجوبتهم كالآتـــي :
-أبو عيال تبد وعليه علامات استعجال العودة الى بيته بعد يوم من العمل المتعب استغرب سؤالنا واستنكره "آش راحلي .. يعلق وإلا ما يعلقش ياحي ما لقيتو علاش تسألو".
- وآخر رحّب " بكلمة " التي قال إنه لا يعرفها ولكنه عبّر عن خوفه من التعليق ولمّا ألححنا عليه وضمنا له السرية قال " صح ليه ( يقصد الرئيس ) لقى مدينة خالية فأقام فيها الآذان "
أمام أحد المعاهد استوقفنا أستاذا سخر من "كلمة " في شئ من العطف لما قدّمنا له أنفسنا وقال من سيقرأ " لكم ؟ فلمّا أكّدنا له أنه يوجد من يقرأ لنا وطالبنا منه رأيه في الصور قال "إنها تذكرني بـ "الأخ الأكبر" في رواية جورج آرول التي عنوانها 1984 .
-سيّدة من عامة الناس قالت آشبيه صورة رئيسنا على الرأس والعين هو خير من غيره" ولما سألناها من هو غيره " قالت هال للي اسمو مواعدة وحب ينحي الرئيس ويقعد في بقعتو" كان الأمر أكثر مما يستطاع احتماله فضحكت "كلمة" حتى كادت تستلقي من شدّة الضحك .
- أستاذ آخر بدا أكثر من الكل جرأة ومرارة أيضا وقال بأسف "اننا بدأنا نشبه العراق وسوريا .. إنه شيء مخجل وأموال مهدورة فيما لا يعني بينما أدرس أنا وزملائي في أقسام مكتظة ومكسرة المقاعد ومصاطب وزجاج نوافذها مهشم تصفر فيه الرياح"
- أستاذ ثالث – في التعليم العالي - التقته " كلمة " في احد المنتديات وسألته عن رأيه فيما يرى وهو من متساكني منطقة اريانة فأجاب " ليعلقوا صور من يريدون ولكن على شرط الاّ يعطلوا حركة المرور وهو ما وقع وعطلني عن ايصال أولادي الى مدارسهم في الوقت " <![endif]>
اللافتات وخطابها
لقد تفننت مختلف المؤسسات والهياكل التابعة للسلطة في اتخاذ اللافتات التي كتب على بعضها بمادّة مذهبة جعلتها تبدو عند عبث الرياح بها كراقصات شرقيات. الخطاب الذي تضمنته هذه اللافتات يدور في مجمله حول انتخابات 2004 وحتمية ترشح الرئيس الحالي لها .
وبعضها أعطى نتائج هذه الانتخابات قبل أجرائها .
ممّا جعل بعض المعلقين من أسرة كلمة هذه المرة وليس من المواطنين يقول "إنّ الحملة الانتخابية انطلقت قبل موعدها بعامي" ولعل هذا الانطباع العام الذي أعطاه الاحتفال بذكرى 7 نوفمبر هذه السنة أمّا أكثر ما يلفت النظر في هذه اللافتات فهو ما تدلّ عليه من ضحالة مستوى من كتبوها فعباراتها ركيكة وأفكارها مسطحة وغاية في الخنوع والذلّة والصغار وممّا يزيدها ثقلا ما تتكلفه من سجع سخيف وهذه عيّنة ممّا سجله كنش كلمة من العبارات المكتوبة على اللافتات .
"الأمهات لبن علي مساندات" "فاح ورد أريانة والزين ديما معانا" "التجمّع حزب الشرعية والأغلبية" ( هكذا !! ) "ليلا ترحب بسيادة رئيس الجمهورية" وليلا هذه ماركة معروفة لحفاظات الرضع Couches … وفوط العادة الشهرية للنساء .
" تونس الزين البلد الأمين" لافتة باسم مدينة التضامن (حي التضامن ) كتب عليها " العهد الجديد أعاد للتضامن اعتبارها وأمجادها " أمّا التحفة ما كتب في شعبة روّاد " زيارتكم هذه ( تعني زيارة الرئيس لأريانة ) صفق لها الموج وزغردت لها عرائس البحر بشاطئ رواد " .
كلمة لم تر من المفيد سؤال الناس تعليقا عمّا كتب على هذه اللافتات فما هو مكتوب يعلق على نفسه بنفسه وعلى كلّ فزغردة عرائس البحر ليست دائما مؤشر خير وكل من له ثقافة واطلاع على الأساطير الجميلة يعرف ما فعله نداء عرائس البحر بأودسيوس الإغريقي …. ولكن ما أبعد مؤلفي هذه الشعارات المضحكة عن عالم الثقافة وما أدلّ شكل ومحتوى ما يكتبونه على أن تونس مسلمة أقدارها إلى الرداءة والذوق السقيم !
الاحتفالات بـ 7 نوفمبر تحول المؤسسة التعليمية إلى "كافيشانطا"
نعلم جميعا وخاصة من لهم بالمؤسسة المدرسية علاقة أن مدارس تونس ومعاهدها تتحول في المناسبات التجمعية إلى شعب ترابية فمنها يجلب التلاميذ ليصفقوا على حواشي الطريق التي تمر بها الركبان بعد أن يقع اقتلاعهم من على مقاعد الدرس في وقت الدرس وفيها تدور امتحانات على البرامج المدرسية يساق إليها التلاميذ قسرا ليؤلفوا انشاء عن 7 نوفمبر وأسراره الربانية .
كلّ هذا موجود في معاهد الجمهورية قاطبة ولكن ما يميّز به معهد المنزه السادس الثانوي الذي يديره مدير نشيط وطموح بالمعنى التجمعي هو انقلاب هذا المعهد إلى شعبة دستورية من الصنف الثاني أو الثالث فالأعلام الصغيرة وصور السيد بن على المعلقة في فضاءاته وتجعل ساحاته شبيهة بأسطح علّق عليها القديد أيام عيد الإضحى وجدرانه مكسوة بمقتطفات من خطب الرئيس وقد وصل الأمر يوم الجمعة 1 نوفمبر إلى إقامة " عوادة " صاخبة أقامها السيد المدير للاحتفال بـ 7 نوفمبر "بالمسبّق"
وهو ما عطّل الدروس والحصص الإضافية التي يتطوّع لها بعض الأقسام النهائية لتقديم الدعم لتلاميذهم المقبلين على امتحان الباكالوريا ! . إنّ من يدرسون في هذا المعهد القديم نسبيا لا يذكرون أنهم رأوا مثل هذا "الخنار" في حياتهم المهنية هذا برغم ما يعرف في هذا المعهد الموجود في حي راق و الذي يعد من أكثر المعاهد و المدارس تبعية للنظام
القائم
الإستنتاجات :
لقد أنجزنا هذا التحقيق قبل الإحتفال بذكرى 7 نوفمبر بأيام و هذا يعني أن ما هو آت
سيكون أعظم .
و لقد تعودت تونس عموما على هذا الضجيج الإحتفالي الذي تؤجج حماه وسائل الإعلام
المرئية و المسموعة ، و لكن هذا لا يمنع من نلاحظ أن إحتفال هذه السنة أكتسى صبغة خاصة
لكونه في اتجاه معاكس مع حالة البلاد الإقتصادية و الضعف السياسي للنظام الذي تمخض عليه
الأزمة السياسية القائمة منذ مدة .
و إن ما جاء في هذا التقرير و غيره مما لم يذكر التقرير ليبعث على تساؤل وجيه حول دلالة
هذه الإحتفالات الإستثنائية .
أهي علامات قوة فعلية يريد النظام استعراضها في الداخل و الخارج ليقنع بصلابة وضعه، أم
هي دلائل ضعف تريد أن تتخفى وراء التقاوي ؟ الحق أنه لا يمكن لهذين السؤالين جواب منطقي
فتونس التي لم تقع قط سياستها بالمنطق غير قادرة على تقديم هذا الجواب ، وقد حاولنا في هذا
القسم من التحقيق أن نستطلع آراء بعض المواطنين في هذه الإحتفالات النوفمبرية فكانت الأجوبة
كالآتي :" مواطن واع قال هذه دلائل قوة ولو كان النظام ضعيفا بالفعل" ولما سألناه توضيح هذا
الجواب قال : " إذا كان أعوان النظام و التجمع يستطيعون بكل سهولة أن يعطلوا حركة المرور
و يستخدموا محلات الناس كمساحات لتعليق دعايتهم و يكتبوا هذا الخور المكتوب على اللافتات
و يسخر بذوق الناس و ذكائهم دون أن يقوم لهم أحدا أو مجموعة ليحتجوا على هذه المهازل . فهذا
دليل على أن النظام قوي بل على أنه قوي بسبب ضعف الشعب " . مواطن آخر وهو أطار شاب
في مؤسسة خاصة قال لنا باستغراب " من قال لكم أن هذه الإحتفالات يتصورها و ينفذها النظام
حتى تسألوا عن دلالتها عن ضعفه أو قوته ؟ ... الأرجح أن وراء هذا الضجيج مجرد حفنة من
المسؤوليين الوصوليين و رؤوس الأموال المستكرشة تتسابق لإرضاء بن علي لتعزز مواقف خاصة
و ترضي مطامح شخصية " .
تلميذة في القسم النهائي من التعليم الثانوي قالت : " لا أعرف هل هو دليل قوة أم ضعف فأنا
لا أفهم في السياسة و لا أريد أن أفهم و لكن أرى من المؤسف أن تظهر بلادي بهذا المظهر الـ
Vulgaire ". في نفس الإتجاه فنان تشكيلي غير معروف ) و لو كان معروفا فربما امتنع عن
الحديث معنا ( قال : " المؤسف أن البلدان المتحضرة تجند فنانيها لتصور و تنفذ إحتفالاتها بالأحداث الهامة و لكننا في في تونس نوكل هذا الأمر لعديمي الذوق و الخبرة "
أما أكثر الأجوبة طرافة فكان جواب محامي " فذلاكجي " قال لنا : " ربما يتفننون في الإحتفال لدرء نحس رقم خمسة عشر و هو رقم ذكرى هذه السنة، فالجماعة في القصر كما تعلمون يعتقدون في الأمور الغيبية و في سر الأرقام تحديدا و يعرفون جيدا أن رقم خمسة عشر يعرف عند المنجمين بالأرقام برقم الشيطان le chiffre du diable ".