|
العالم يضبط البيت الأبيض متلبساً بالنصب علي القارة السوداء
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1228 - 2005 / 6 / 14 - 10:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
غريب أمر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، فبعد أن كان بالأمس القريب أحد قلائل الساسة الذين اختاروا دق طبول الحرب وشن العدوان علي العراق لأسباب ثبت بالدليل الدامغ أنها كاذبة ومزورة ومختلقة.. اصبح اليوم أحد دعاة مضاعفة المساعدات المالية للدول الإفريقية الأكثر فقراً. ومن أجل هذه »المبادرة« شد »بلير« الرحال وعبر المحيط ليجتمع مع »حليفه الاستراتيجي« الرئيس الأمريكي جورج بوش لاقناعه بالمساهمة في زيادة سقف »المساعدات« العاجلة التي تحتاجها تلك الدول الإفريقية التي ترزح تحت نير »الفقر المدقع« والذي هو ـ بالمناسبة ـ أكثر كماً وكيفاً من الفقر »العادي«. ورغم أن البعض شكك في نوايا »بلير«، وقال إنها ليست أكثر من حملة علاقات عامة يستهدف رئيس الوزراء البريطاني من ورائها تحسين سمعته محلياً ودولياً بعد أن وصلت إلي الحضيض بسبب هرولته وراء بوش وسيره في ركابه والمشاركة في حرب عدوانية رفضها الرأي العام العالمي وأدانها القانون الدولي.. رغم ذلك فان التحرك البريطاني، الذي تزامن مع تولي بريطانيا الرئاسة الدورية لمجموعة الدول الصناعية الثماني الكبري التي تعقد مؤتمر قمتها الصيفي يومي 6 و7 يوليه المقبل في المنتجع الاسكتلندي »جلين ايجلز«، ينطلق من حقيقة موضوعية هي أن تلك البلدان الأفريقية، وبالذات الواقعة جنوب الصحراء، تواجه كارثة إنسانية بكل ما في الكلمة من معني، حيث تزايدت نسبة المواطنين الذين يعانون من الفقر المدقع، وتزايدت معدلات وفيات الأطفال حيث يموت أسبوعياً 200 ألف طفل تقل أعمارهم عن خمس سنوات، أي إن تسعة أطفال يموتون كل دقيقة! كما تموت 10 آلاف امرأة أثناء الوضع، فضلاً عن أن مليوني شخص سيموتون في تلك البلاد نتيجة إصابتهم بمرض الإيدز هذا العام. إزاء هذا الوضع المأساوي أعربت الحكومة البريطانية عن دعمها لخطة ترعاها الأمم المتحدة تهدف إلي مضاعفة حجم المعونات المقدمة إلي تلك البلدان المنكوبة. وقال وزير الخزانة البريطاني، جوردون براون، إن »مأساة 11 سبتمبر خلقت نوعاً من الالتزام تجاه بعضنا البعض وأوجبت الاعتراف بوضع عقد جديد بين الدول المتقدمة الغنية والدول النامية الفقيرة«. وأشار إلي أن هذه الخطة ستكون مشابهة لمشروع مارشال الذي وضعته أمريكا لاقتصادات أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وانطلق بلير من خطة براون ليطرح »مبادرته« التي تستهدف مضاعفة المساعدات المالية لإفريقيا لتصل إلى مبلغ يتراوح بين 25 و50 مليار دولار وسافر ــ كما قلنا ــ لاقناع حليفه بوش بدعم هذه المبادرة. * فماذا كان رد الرئيس الأمريكي؟ ** قرر بوش دفع 674 مليون دولار إضافية كمعونة لأفريقيا، إضافة إلى 4.1 مليار دولار قدمتها واشنطن خلال السنة المالية الحالية. وليست المشكلة أن هذا المبلغ ليس هزيلا فقط، وليس بالغ البخل فحسب، بل انه ينطوي أيضا علي قدر كبير من النصب والاحتيال. وليس هذا رأي كاتب هذه السطور فقط وإنما هو أيضا رأي نانسي بيلوسي زعيمة المعارضة الديمقراطية في مجلس النواب الأمريكي التي قالت بالنص: »مع الأسف رد الرئيس علي الطلب الطارئ لرئيس الوزراء البريطاني للمزيد من المساعدات لأفريقيا من دون أن يقدم أي مبادرة ولا أي قروض جديدة.. فالرئيس رفض طلب بلير مضاعفة القروض المخصصة حاليا لأفريقيا، ويقوم بالتمويه من خلال تحويل القروض التي خصصتها الولايات المتحدة لأفريقيا من حساب إلي آخر«. وهو نفس الاستنتاج الذي توصلت إليه منظمة »أفريكا أكشن« غير الحكومية حيث قالت إن »ما فعله بوش ليس التزاما جديدا، لأن الكونجرس كان قد صدق علي هذه القروض من قبل.. أي أن بوش أعاد منح أموال كانت قد خصصت سلفا لأفريقيا«. إذن نحن إزاء عملية نصب صريحة من جانب أكبر دولة في العالم. وهذا »النصب« مقترن بدرجة كبيرة من »الوقاحة« السافرة. والدليل علي ذلك ان الاتحاد الأوروبي وافق علي زيادة الإنفاق علي المساعدات تلبية لتعهد بخفض الفقر ومساعدة الدول الأكثر فقرا، ووافق الأعضاء القدامي في الاتحاد الأوروبي »15 دولة« علي إنفاق مالا يقل عن 51.0% من إجمالي الناتج المحلي علي المساعدات بحلول عام 2010 و7.0% علي الأقل بحلول عام ،2015 كما تعهد الأعضاء الجدد العشرة في الاتحاد بالسعي إلى إنفاق 17.0% علي الأقل بحلول عام 2010 من أجل الوصول إلي نسبة 33.0% عام 2015. * فماذا كان موقف أمريكا؟ ** لقد رفضت، بإباء وشمم، تخصيص 7.0% من دخلها الوطني للمعونات الدولية مكتفية بنسبة لا تزيد علي 15.0%. كما رفضت دعم اقتراح فرنسي بفرض ضرائب علي تذاكر السفر الجوي الدولي من أجل تمويل المساعدات الإضافية. وحتي بالنسبة للديون فأنها وافقت فقط علي مبدأ توسيع شطب فوائد الديون لتشمل المنظمات متعددة الأطراف كالبنك الدولي، لكنها لم توافق بعد علي شطب الديون المستحقة لصندوق النقد الدولي والتي يمكن أن تمول عبر عمليات بيع الذهب حسب اقتراح بريطاني، علما بأن الصندوق قال ان السوق يمكن ان يستوعب -دون مشاكل كبيرة- بيعا شاملا لما بين 13 و16 مليون أوقية من 4.103 مليون أوقية ذهب لديه وهو ما تروج له بريطانيا وتعارضه أمريكا. وهذا كله يؤكد أن موقف إدارة بوش موقف استفزازي خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنها أنفقت في حربها علي العراق حتي الآن ما يزيد علي 200 مليار دولار وآلاف القتلي والجرحي بينما ترفض أن تدفع من أجل إنقاذ أرواح ملايين البشر في أفريقيا اكثر من 674 مليون دولار! وتتضح بشاعة الموقف الأمريكي اذا تذكرنا ان الولايات المتحدة مسئولة مسئولية مباشرة عن إفقار الأفارقة بمشاركتها في نهب القارة السمراء وتجريفها من ثروتها البشرية في حقبة العبودية البغيضة التي تمثل وصمة حقيقية في التاريخ الأمريكي، وبالتالي فأننا لا نتحدث عن مساعدات أو معونات للدول الأفريقية وإنما نتحدث في حقيقة الأمر عن تعويضات مستحقة للأفارقة عن تاريخ طويل من النهب الاستعماري والاستبعاد. ورغم ان الموقف الأوروبي أفضل من الموقف الامريكي بكثير فانه مازال دون المستوي المطلوب ويكفي ان نذكر ان الدول الغربية أنفقت عام 2004 وحده علي الأسلحة والجيوش اكثر من تريليون دولار ولو أن هذا المبلغ قد استخدم في أغراض أخرى لأدي الي إنهاء الفقر والمرض في معظم أنحاء كوكب الأرض. ولو أن الدول الغنية تخلت عن 1% فقط من عوائدها من التجارة العالمية، لأدي ذلك الي توفير 70 مليار دولار لدول أفريقيا جنوب الصحراء وهو ما يعادل تقريبا خمسة أضعاف ما تتلقاه من مساعدات دولية حاليا. نقطة أخيرة.. لا يجدر إغفالها في هذا السياق هي ان تحرك بعض الدول الغنية لمضاعفة المساعدات المقدمة للدول الأفريقية الأكثر فقرا، رغم تواضعه ونقصانه عن المطلوب، جاء تحت ضغط الرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني النشطة. والدليل علي ذلك ان رئيس الوزراء البريطاني صاحب المبادرة المشار إليها تلقي اكثر من مليون رسالة وصلته عن طريق البريد الإلكتروني تحثه علي القيام بهذا التحرك. كما تشكل تحالف »نداء عام من اجل العمل لمكافحة الفقر« الذي يضم ممثلين عن 150 مليون شخص في 72 دولة وهذا التحالف يبذل مجهودات وضغوطا لا تتوقف من اجل إنقاذ ملايين الأرواح من الأفارقة. فالأمر جد خطير.. ويستحق تصرفا يرقي الي مستوي هذه الكارثة المروعة.. ويكفي عزيزي القارئ ان تحسب عدد الدقائق التي أمضيتها في قراءة هذا المقال وتضرب هذا العدد في »تسعة« لتعرف عدد الأطفال الأفارقة الذين قضوا نحبهم في تلك الأثناء.. ولتعرف بالتالي حجم الجريمة التي ترتكبها الدول الغنية وعلي رأسها الولايات المتحدة في حق أبناء القارة السمراء الذين يموت أطفالهم كل ثانية. صحيح ان هناك عوامل داخلية لهذه الكارثة وفي مقدمتها الحروب والفساد والديون والاستبداد لكن حتي هذه العوامل الداخلية لها جذر خارجي تتحمل مسئوليته تلك الدول الكبري التي نهبت القارة السمراء في فترة العبودية والاستعمار ثم أثقلتها بالديون التي دفعتها أفريقيا أضعافا مضاعفة بعد »الاستقلال« حيث تدفع الدول الأفريقية خمس دخلها لتسديد فوائد ديونها التي تقدر بنحو 350 مليار دولار. والعجيب ان أفريقيا التي يتحدث زعماء الدول الغنية عن »مساعدتها« هي التي »تساعد« تلك الدول الغنية حيث تنساب الثروة الأفريقية للغرب فوائد وأرباحا بالمليارات كل عام.. بينما لا تتوقف الدول الغربية عن دعم منتجاتها الزراعية بالشكل الذي يلحق الدمار بملايين الفلاحين الأفارقة وفي نفس الوقت تضع الأسواق الغربية السدود والحواجز أمام المنتجات الزراعية الأفريقية وتحول دون دخولها في ظل منافسة عادلة. من هنا يجوز لنا ان نقول أن القارة السمراء لا تحتاج إلى »مساعدات« بل أن من حقها ان تحصل علي »تعويضات«.. إذا كانت هناك عدالة في هذا العالم.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
! الأجانب يمتنعون
-
مبادرة من أجل بناء الثقة.. المفقودة
-
اعتذار.. لفنان محترم
-
السياسة المصرية خرجت من غرفة الإنعاش.. وهذا هو المهم
-
مبادرات علي الهواء
-
!الحقونا : لماذا يبيع المصريون أعضاءهم؟
-
لماذا نتفاوض مع أمريكا.. ولا نتحاور مع أنفسنا؟!
-
مفاجآت من الوزن الثقيل فى استطلاع رأى رجال الأعمال
-
!فضيحة العرب بجلاجل.. حتي في برازيليا
-
أخيراً .. شئ يستحق القراءة !
-
إرهابيون عشوائيون .. وإعلاميون على باب الله
-
البريطانيون يقاطعون.. والعرب يطبّعون !
-
القرن الآسيوي .. يدق الأبواب
-
عناد الوزير الذى تجاهل وعد الرئيس
-
علمـاء بـريطـانيا يهـددون بمقـاطعة الإسـرائيليين المتـواطئين
...
-
! ومازالت صاحبة الجلالة فى بيت الطاعة
-
هل يحمل أخطبوط الإرهاب شهادة منشأ مصرية؟
-
حوار عراقي.. بدون سلاح.. في القاهرة
-
ثورة السوسن .. واللوز.. والليمون
-
»ولفويتز« يقتحم البنك الدولي بأسلحة الدمار الشامل
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|