|
حكايات مرّة
رحمن خضير عباس
الحوار المتمدن-العدد: 4311 - 2013 / 12 / 20 - 07:47
المحور:
سيرة ذاتية
حكايات مُرّة رحمن خضير عباس كنّا صغارا ،لا تتسع طاولات الصف لعبثنا ومشاكساتنا نستغل الوقت بعراك طفولي لاحدود له ، مستغلين خلو القسم من معلم الرياضة . فجأة يبرز مدير مدرستنا بمعية شاب اسمر ، ذي ملامح سومرية .فاحم العينين فارع الطول . قال لنا المدير : معلم الرياضة الجديد ، لم نشعر بإنسحاب مديرنا ، فقد كنا مسمّرين على حافة من الصمت. ، تشرئب أعناقنا الى معلمنا الجديد ، تأملنا أناقته ، بدلتة الزرقاء وقميصه الابيض الذي تتدلى من ياقته ربطة عنق زاهية. كانت الدهشة تخيم على عيوننا المتعطشة لمعرفة معلمنا الجديد . وما ان أمرنا بالجلوس حتى ارتسمت على فمه ابتسامة حنونة وهويقدم نفسه الينا (: ماجد مكطوف .. ولادة الناصرية معلمكم الجديد لدرس الرياضة ..) بهذه الكلمات أذاب عنا جدران الخوف والتوجس ، وهو يستل من اعماقنا الرغبات المكبوتة في المشاكسة ،لنتحول من طلبة مشاغبين الى اطفال وديعين وهو يحاورنا عن هواياتنا ورياضتنا المفضلة ، واستعداداتنا لأن نكون اعضاء في فريق المدرسة الكشفي .. تلك الليلة لم يستطع التعب ان يسرق النوم من عيوننا . كنا نحلم بمخيمات كشفية لاتخلو من مغامرات كنا نقرأها في مجلة (سمير) . كان ذالك في بداية الستينات من القرن الماضي حينما كنا في المدرسة الإبتدائية الوحيدة في ناحية الغراف . كانت مدرستنا مملة لاروح فيها , ولكن ماجد مكطوف وبعض زملاءه من المعلمين الشباب اعادوا لها روحا جديدة . كنا نتسابق ونلعب كرة الطائرة والمنضدة والعاب الساحة والميدان ,. وكان ماجد يبثُّ فينا روح البحث والمغامرة ، ويؤجج فينا طاقات الإبداع .. اتذكر حينما اخذ فريقنا الكشفي الى الناصرية بمناسبة عيد الجيش ، ابى الا ان نزور داره في الناصرية . ومنذ تلك اللحظة اكتشفنا اننا إزاء اب وأخ ومعلم . كما توثقت علاقاته باهالي الغراف حيث كان يزور بيوت تلامذته ، يبدي لهم مشورته . حينما نجحتُ من المرحلة الإبتدائية ، زرته الى الناصرية لأزف له بشرى نجاحي . اخذني الى السوق ليشتري لي ساعة يدوية . كانت تلك الهدية أثمن ما حصلت عليه في حياتي . تقطعت الدروب بنا ، وكانت الأعوام تصهل كالخيول ، في معتركات حياتية شرسة وحادة ، اخذت السياسة والدراسة تلتف حول أعناقنا وتتركنا منهمكين في تلمس دروب معتمة . علمت ان استاذ ماجد تزوج من إنسانة فاضلة تشتغل في التعليم وانتقلا معا الى بغداد . ولكنني لم ألتق به ابدا . بعد تخرجي من جامعة بغداد ، اصبحت ضائعا ما بين التدريس والعسكرية ، وما إن حانت فرصة تسريحي من الإحتياط حتى غادرت هذا الوطن ، وأنا اردد مقطعا شعريا ، لااتذكر اسم قائله" هذه الصحراء ، فاقطعها ، ولاتبخل عليها ياطويل العمر .."علمت في مهجري ان ماجد قد فقد زوجته التي توفيت من مرض ألمَّ بها ، وبقي ماجد بعدها أعزلا في مواجهة ظروف قاهرة ،فقد عانى الأمرّين ايام محنتها ، وانفق كلما ادخراه معا من أجل شفائها ، ولكنها رحلت لتتركه وحيدا لايؤنسه في وحدته سوى ابنه ( محمد ) وحفنة من الذكريات . حينما زرت العراق في الربيع الماضي . اتصلت به وحددت موعدا للقاء .. من بعيد بدا لي ماجد يتوكأ على عصاه . أغمضت عيني قليلا لأسترجع صورة ماجد المعلم الشاب الذي ينقضّ على الكرة بحركات متقنة ، فتنطلق تصفيقاتنا مفتخرين بقوة معلمنا وقدرته على الفوز على فريق الخصم في تلك المدرسة، فنقلد حركاته الرياضية الرشيقة . هل ذا الشيخ المتعب هو استاذ ماجد ؟ لم يترك لي وقتا للتفكير وهو يعانقني بدموع تنزلق على وجنتيه الشاحبتين . قال مازحا: لم تتغير وكأنك مازلت في نفس الرحلة في الصف الرابع الإبتدائي ، ضحكنا ونحن نلوذ بأفياء الزقاق المؤدي الى بيته في منطقة الكريعات. كان لقائي به ، هو الأول بعد نصف قرن ، ولم يخطر ببالي أنه الأخير . كنت اداري دموعي الهاربة بضحكة زائفة . سرنا الى بيته المختبيء في أزقة ضيقة . قدم لي ابنه الرائع محمد ، تحدثنا باختصار عن السنوات وكأنها سحب عابرة ، تحدثنا عن الهموم الحادة ‘ الأوضاع في العراق ، الغربة في المهجر ، والغربة في الوطن ، هموم السياسة وهموم الوطن ..كنا نتحدث بسرعة وكأننا نريد إختصار السنين . " ادركني الوقت ، ابو محمد .." قلت له وكأني اريد الهروب من واقع مر . حينما ودعني وهو يدس ثمن إجرة التاكسي في جيب السائق ، قلت له : حينما ازور العراق العام القادم سيكون لنا الوقت الكافي لأن نلتقي أكثر . لكنني لمحت شبه ابتسامة على وجهه هي اشبه بالسخرية من الحياة ومنعطفاتها. امس وانا اطالع صفحة الفيس بك . فإذا بخبر وفاة ماجد ، تسمرت عيناي في الخبر . كانت دموعي تتسلل بصمت وانا استعرض قصة حياة هذا المربي الفاضل ، الذي استطاع ان يترك بصماته الطيبة على أجيال من تلامذته . لترقد روحه الطاهرة بسلام ولتبقى ذكراه الطيبة بين محبيه .
#رحمن_خضير_عباس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حول ضرب البريطانيين في البصرة
-
هاشيدا...رائحة الدم ولون الدمع
-
جان جينيه ..القبر والمدينة
-
فنانون ..بلاحدود
-
مسرى الناي .. سِفر الوجع المزمن
-
على صهوة المجد.. واشكالية الهوية الشعرية
-
عيّنة من نوابك ..ايها الشعب العراقي
-
مظاهرات اليوم
-
تجليات الواقع والخيال ..في رواية طوفان صدفي
-
هروب سجناء القاعدة
-
السطوع
-
مدن اخرى ..وقلق المكان
-
الجونوسايد في مصر
-
رواية (كوميديا الحب الألهي) والذاكرة المعطوبة
-
الرحيل ..وحزن اوتار العود
-
علي دواي .. بصيص أمل في عراق جريح
-
قف بالمعرة ..
-
وأد الأطفال ..في بلاد النفط
-
أحمد القبانجي .. سجينا
-
بغداد عاصمة ..لأية ثقافة
المزيد.....
-
بيونسيه حققت فوزاً تاريخياً.. أبرز لحظات حفل جوائز غرامي 202
...
-
إطلالات خطفت الأنظار في حفل جوائز غرامي 2025
-
ماسك: ترامب وافق على إغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية
...
-
ألق نظرة على الصور الفائزة بجائزة مصور السفر لعام 2024
-
بيسكوف: روسيا ستواصل الحوار مع السلطات السورية بشأن جميع الق
...
-
الشرع يؤدي مناسك العمرة في مكة المكرمة (صور)
-
لبنان.. -اللقاء الديمقراطي- يدعو لتسهيل مهمة رئيس الحكومة ال
...
-
إنقاذ الحديد الجريح
-
مذيعة سورية تجهش بالبكاء وتناشد الشرع الكشف عن مصير أخيها (ف
...
-
كيف يمكن استخدام اليوغا كعلاج نفسي لتحسين صحتك العقلية؟
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|