غسان صابور
الحوار المتمدن-العدد: 4308 - 2013 / 12 / 17 - 11:54
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جـــنــازة ســـوريـة
أرسلت قريبة لي من سوريا شريطا يدوم عدة دقائق, لجنازة ابنها والذي كان يؤدي خدمته العسكرية.. قتلته إحدى عصابات المعارضة الإسلامية. عمره عشرون سنة.
مما لفت نظري بهذه الجنازة. الزغاريد. النساء الملفحة بالسواد من أقارب المجند الشاب الشهيد.. أم.. أخوات. خالة.. عمات.. بنات خالة.. بنات عمة. دموع ودموع مخنوقة.. دموع صامتة. ثم عشرات من رفاق الشاب المجندين.. أعمارهم بين التاسعة عشرة والواحد والعشرين.. بلباس الميدان. مع بنادقهم.. حاملين تابوت رفيقهم.. يمرون بخشوع واحترام أمام والدة صاحب الجنازة.. يقبلون يديها مرتين.. ثم مرة من رأسها... مع هتافات متواصلة واحد تلو الآخر.. وجمهور القرية يردد بعدهم... بالروح.. بالدم.. نفديك يا ســـوريــا... نفديك يا ســوريـا... ولم أسمع مرة واحدة الهتاف التقليدي السوري المعتاد والذي كان يتردد أوتوماتيكيا بجميع المناسبات والمظاهرات السورية : بالروح.. بالدم.. نفديك يا بـــشـــار!!!.....
قريبتي تعرف أنني أكتب بالحوار.. وبالرغم من أنها تعرف أن هذا الموقع محجوب في سوريا.. بلا سبب.. سوى الغباء المستشري من زمن طويل.. وما زال مستمرا.. ومع هذا طلبت مني.. أن أكتب أي شيء عن ابنها... رغم أنني منذ غادرت البلد من زمن طويل.. لا أعرفها.. ولا أعرف ابنها الذي قتلته أياد آثمة غادرة.. مثل آلاف الشباب السوريين الذين مزقتهم هذه الحرب الغبية.. حرب غادرة طائفية.. مزقت ســـوريــا وشعبها الطيب.. كالتسونامي الهائج...........
*********
رغم أنني من سنين عديدة أمارس صياغة الكلمات, وأتقن اللغة العربية. ولم أترك الكتابة رغم ابتعادي عن أرض الوطن من سنين طويلة.. لأسباب مريرة عميقة.. نسيتها.. ولكنني لم أنس أبدا الأرض التي ولدت بها.. ورغم اتقاني للغة وكتابتها.. في المناسبات الحزينة.. وخاصة في الجنازات والتعزيات, أفقد كل مرونة وكل اختيار. وأتلعثم ببضعة كلمات مخنوقة مكسورة.. دون متابعة. لأنني أكـره الموت بجميع أشكاله. وخاصة يؤلمني موت ألاف الشباب بلا سبب على أرض ســـوريــا الممزقة. وخاصة عندما يقتلون ويذبحون بوحشية بأيدي مقاتلين غرباء.. أو مهلوسين سوريين, قانعين أنهم ذاهبين إلى الجنة, لأنهم يقتلون الآخر الكافر...
هذه أغبى وأجـرم فترة بتاريخ هذا البلد.. وهذه المجازر الطائفية اللاإنسانية الوحشية, والتي لم نــر لها شبيها أو رديفا أو مماثلا لها بأبشع العصور من تاريخنا.. أو بأبشع فظائع العالم وحروبها الطائفية... إذ يذبح مقاتلون بشرا بعد صــراخ الله أكبر...
*************
صديق فيسبوكي سوري. مقيم في العاصمة الإيطالية روما, يكتب بالعامية الكاريكاتورية من وقت لآخر على صفحته عن الأحداث السورية.. علقت على إحدى فيسبوكياته بهذه الكلمات.. كلمات واقعية تتجدد كل يوم.. كل ساعة.. كل لحظة على الأرض السورية... وخاصة بعدما شــاهدت جنازة المجند ابن قريبتي :
يا صديقي... يكفي متابعة ما يجري على الأرض السورية, ثلاثة دقائق فقط, على أية قناة تلفزيونية عربية أو غربية, حتى نغرق في الحزن والأسى والألـم على وطننا وأهلنا وبلدنا وما تبقى من حضارتنا وتاريخنا... ولم يتبق.. ولم يتبق يا صديقي ســوى الغباء الطائفي.. وحشيش الدين.. وموات كل ثقافة وعقل وحكمة!!!...
استطيع ترديد هذه الكلمات الصرخة.. الف مرة في اليوم... فلن يسمعها أحد.
استطيع كتابة كلمات رثاء مخنوقة, غير كاملة.. متقطعة.. لمئات الجنازات اليومية.. سوف يبكي الأهل والمقربون وحدهم.. ولن تـهــتـز الإنسانية.. ولن تتحرك الأمم, ولن تغير مصالحها ومخططاتها.. ومئات آلاف القتلى والمشردين والثكالى واليتامى والمنكوبين, ليسوا سوى بيادق وأرقاما وهمية على خرائط, تفتح على طاولات مناقشات المصالح... من سيهتم بموت ابن قريبتي الشاب سوى أمه وبعض من رفاقه الذين سيموتون بعده في الكمائن وعلى المتفجرات المختلفة, وبوجه مناظير القناصة الإسلاميين المجهولين.. أو بقذيفة هاون (غير فتاكة) وهبتها أمريكا وبريطانيا وفرنسا, عبر تركيا لتقتل أعدادا إضافية بريئة سورية.. بانتظار مفاوضات على مصالح إضافية أخرى...
من يموت اليوم.. ومن هم غالب الشهداء الأبرياء خلال هذه السنوات الثلاثة... شباب بــعــمــر الورود الطيبة اليافعة.. عمرها بعمر الزهور... شباب البلد.. بالمئات بالآلاف... ولا نــعــرف مــن يقتل مــن؟... ولماذا... هل تبقى القتل والتقتيل من أجل الحرية والديمقراطية؟؟؟... هل من أجل خلق خلافة إســلامية كما كانت من خمسة عشر قرن... أم هي مجزرة شاملة مخططة مرسومة مدروسة كاملة لمحو شعوب المنطقة بأكملها.. وخاصة بعض الإثنيات والطوائف المتحضرة تاريخيا واجتماعيا.. حماية لديمومة مستقبل دولة إســرائيل التي هي محكومة بالتوسع.. ولا حياة لها بلا تـوسـع على أنقاض جيرانها...
تساؤلات... تساؤلات عن أسباب موتنا بــصــمــت وانقراضنا في العراق وسوريا ولبنان وفي مــصــر أيضا... لماذا تتوسع هذه الحرب الطائفية التي ترعاها وتدللها وتغذيها الولايات المتحدة الأمريكية... لماذا القتل والتقتيل مركز منتشر في مناطق إثنية دينية معينة.. صحيح أن الأضرار الحياتية منتشرة بالوطن السوري كله.. وكل الطوائف وكل الإثنيات التي تشكل قواعد الوطن السوري.. تعاني من مآسيه وجراحه ومصائبة ونكباته... ولكن ألم تلاحظوا أن الهجمات والفظائع والاغتصابات والتفجيرات وعمليات الاختطاف تركزت على طوائف معينة, بغاية تهجيرها أو فنائها... وأن عمليات اختطاف رجال دين وراهبات من دين معين, تتكرر وتتكرر, بلا حساب ولا عقاب ولا أية إدانة من هذه المعارضة الإسلامية (ولنسمي القطة قطة) التي تجتمع وتــعــد القتلى والمهجرين, كلما اجتمعت بالفنادق الغالية الفخمة في اسطنبول وباريس ولندن وجدة. فلا تدين المجازر الطائفية, بل تقوي تهييجها وتمولها.. مطالبة أمريكا بأسلحة فتاكة, غير الأسلحة الغير فتاكة.. والتي تضحك بها أمريكا على عقولهم خاصة وعقولنا.. بحجة محاربة الإرهاب.. وهي أول من خلق الإرهابيين ورباهم ودللهم وحضنهم وأواهم... بأموال عبيدها وخدامها من السعوديين والخليجيين.. طبعا ألف ألف مرة...
ونحن... نحن سنتابع الجنازات.. وتتابع أمهاتنا البكاء على أولادهن وأطفالهن...إلى متى؟... وهل سيوقف Genève2 نكباتنا وضحايانا ودموع أمهاتنا؟؟؟... لست أدري يا قريبتي البعيدة الغالية التي لا أعرفها...
كم كنت أود أن أكون بقربكم.. حتى أشارك صامتا بواجبات التعزية... وآمل أن تشارك كلماتي المخنوقة هذه بلملمة بعض الجراح...وتأكدي أنني لا أنسى لا ابنك ولا كل من ماتوا... وســاصرخ باسمهم بوجه الآثمين الذين فجروا هذا البلد... من أينما أتوا... وكائن من كانوا من جميع أطراف مسببي هذه النكبة السورية التاريخية.. والتي لا يــعــرف أحد متى ســوف تنتهي...
بــــالانـــتـــظـــار...
لك ولكل أمهات الشهداء السوريين, كل خشوعي ومودتي ومحبتي وولائي واحترامي... وأصدق تحية مهذبة.. حــزيــنــة.
غـسـان صــابــور ـــ لـيـون فــرنــســا
#غسان_صابور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟