كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1224 - 2005 / 6 / 10 - 13:20
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
توقع الناس في سوريا والدول العربية وفي مناطق أخرى من العالم, كما انتظرت منظمات حقوق الإنسان المحلية والإقليمية والدولة أن تطرأ تغييرات عميقة وجذرية في الفكر والممارسة السياسية للدولة السورية ولحزب البعث العربي الاشتراكي الذي يقود هذه الدولة منذ ما يزيد عن أربعة عقود, أو منذ ما سمي بالحركة التصحيحية في نهاية العقد السابع من القرن الماضي, بعد وفاة رئيس الدولة السورية حافظ الأسد والأمين العام للقيادتين القومية والقطرية لحزب البعث الحاكم..
وكنت متيقناً, ومعي كثرة من الناس, خطأ هذا التوقع وخطر وذلك الانتظار وعواقبهما على الحياة السياسية في سوريا. وسبب ذلك بسيط جداً, هو أن القيادة التي مارست السياسة في فترة حكم حافظ الأسد هي ذاتها ما تزال تواصل القيادة أولاً, وهي التي فبركت وصول بشار الأسد إلى دست الرئاسة, تماماً كما فعل معاوية بن أبي سفيان حين نصب ابنه خليفة على المسلمين بالرغم من إرادة المجتمع حينذاك ثانياً, إضافة إلى أن فكر وممارسات واساليب عمل والخطاب السياسي لهذا البعث ما يزال كما كان قبل نصف قرن من الزمان. جاء في كتاب العقد الفريد لأبن عبد ربه نموذجا صارخا للأساليب التي أتبعت في عهد الأمويين لانتزاع البيعة الشكلية للخليفة من الناس حيث كتب يقول بأن عمال معاوية بن أبي سفيان كانوا لا يختلفون عنه في أساليبه "فعندما أرسل يطلب رأيهم في أمر أخذ البيعة ليزيد "وليا للعهد" قام يزيد بن المقنع , فلخص الموقف الأموي من الخلافة في عبارة موجزة بليغة عندما جمع فأوعى!. قال: "أمير المؤمنين هذا" وأشار إلى معاوية.. "فإن هلك , فهذا" وأشار إلى يزيد.. "فمن أبى, فهذا" وأشار إلى سيفه!.. فقال له معاوية: "أجلس , فإنك سيد الخطباء"!!·.
المشكلة في سوريا ليست في الأفراد الذين يحكمون لابلاد فحسب, بل في الفكر الذي يحمله الأفراد في هذا الحزب, أي في فكر حزب البعث ذاته, الذي يؤمن بمجموعة من القواعد التي يرفض تغييرها ويعتقد جازماً بأنه على حق دون غيره من القوى والفئات الاجتماعية, والتي أكل الدهر عليها وشرب ولم يعد لها اي موقع في الفكر الإنساني الحديث, إن موقعها المناسب هو المتحف السوري أو أي متحف من متاحف الدول العربية القديمة. ويمكن تلخيص هذه المجموعة من القواعد الفكرية فيما يلي:
إن حزب البعث العربي الاشتراكي يجسد فكر الأمة وضميرها وتطلعاتها نحو مستقبل مشرق يعيد للأمة كرامتها وعلوها. وفي هذا تبرز النرجسية الفكرية والسياسية لهذا الحزب ومن ساهم في تأسيسه. كما تبرز في نفي الآخر ودوره في العمل السياسي.
وأن هذا الحزب هو الذي ينبغي له أن يقود الأمة دون غيره من الأحزاب والقوى السياسية وأن يكون فكر البعث هو الخيمة التي يعمل تحتها ويحتمي بها الآخرون. ولا يجوز لأي حزب آخر أن ينافس هذا الحزب على القيادة أو الدور في الدولة والمجتمع, وإلا فالعاقبة معورفة للجميع. ماذا يعني ذلك؟ يعني منع الآخرين من الوصول إلى السلطة, أي ليست هناك اي تعددية سياسية بل أن هناك حكماً شمولياً يقوده حزب واحد هو حزب البعث لا غير. وفي هذا الموقف الفكري التجاوز الفعلي الفكري والسياسي على الحرية والديمقراطية.
وأن قائد الحزب هو قائد الأمة التاريخي الذي كلمته تعلى ولا يعلى عليها أي كلمة أخرى في البلاد, ومن يحاول ذلك فمصيره جهنم وبئس المصير. وفي هذا الموقف استلهام لفكر سلفي يؤمن بالفرد دون الجماعة ويمنح الفرد السلطة العليا على كل شيء وبعيداً كل البعد عن الفكر الجماعي والمؤسسي.
وأن كل الناطقين بالعربية هم عرب حتى لو كانوا من قوميات أخرى فليس هناك غير العرب شاءوا ذلك أم أبوا, وهي خير أمة أخرجت للناس, وهي أمة واحدة ذات رسالة خالدة! ولا شك أن هذا الفكر لا يحمل إلا الشوفينية والتمييز إزاء القوميات الأخرى, وهي اشبه بمواقف الأمويين القدامى إزاء الموالي من غير العرب في الدولة الأموية, وهي مماثلة لمن يتهمون العرب غير الشوفينيين بالشعوبية.
هكذا كانت الحياة في سوريا في عهد حافظ الأسد, وهكذا هي الآن, نظام شمولي مطلق لا مكان للفكر الآخر ولا للرأي الآخر إلا في السجن أو القبر أو الغربة. وأحداث سوريا على مدى أربعين عاماً تؤكد ذلك بما لا يقبل الشك.
طلب أحد العاملين في المنظمة العربية لحقوق الإنسان من عبد الحليم خدام إطلاق سراح من قضى في السجن أكثر من ربع قرن من السنين, فأجاب خدام "بروح إنسانية عذبة وشفافة جداً ومحبة لللإنسان!": ليسعد هؤلاء الرجال فقد دخل اسمهم في التاريخ بوجودهم أكثر من ربع قرن في السجون السورية!". هل يمكن أن نجد إنساناً سادياً يمكن أن يطرح راياً أشد عدوانية من هذا الرأي البائس والشرس. هكذا يفهم أحد قادة حزب البعث السوري الكبار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, فهل يرتجى من نظام فيه هكذا قادة أن يعيد التفكير بفكره ونهجه وسياساته؟ لا باي حال من الأحوال.
والأحداث الأخيرة تدلل على ذلك. وقف هذا الرجل في المؤتمر العاشر لحزب البعث ليتحدث زهاء ساعة كاملة في حين أن من حق كل ممثل في المؤتمر أن يتحدث خمس دقائق فقط, وعندما سؤل لماذا أطال الحديث ساعة كاملةو فأجاب بنرجسية لا تختلف كثيراً عن اسماء أخرى في الحزب الدولة, أنه عضو في القيادة, أي من حقه المطلق ذلك! أورد للقارئة والقارئ بعضاً من الواقع السوري الراهن, دع عنك الماضي القريب:
1. وجود المئات من سجناء الرأي والعقيدة في السجون السورية يعانون الأمرين من أجهزة الأمن السياسي السورية ومنهم الأستاذ الدكتور معروف دليلة, وهو اقتصادي متميز وعضوفي حزب البعث, وفق معلوماتي السابقة, ولم يكن ذنبه سوى دفاعه عن الحقوق المدنية للإنسان السوري. وهناك الكثير من المعتقلين ومنهم من هو من هم أعضاء في المنظمة العربية لحقوق الإنسان, مثل السادة محمد عدرون, رئيس المنظمة وحبيب صالح وعلي العبد الله, وغيرهم الكثير وخاصة من الكرد بعد أحداث القامشلي.
2. اضطهاد حقيقي للكرد السوريين لكي لا يعبروا عن كونهم من أبناء الأمة الكردية الموزعة على دول أربع معروفة لنا جميعاً هي: تركيا وسورية والعراق وإيران. وأن من تجرأ أو يجرأ على المطالبة بحقوقه كان وسيكون السجن أو التشريد في الغربة أو الموت نصيبه الأوفر. وهكذا كان وهكذا سيبقى ما دام حزب البعث على رأس السلطة. وليست أحداث القامشلي والموت الذي اختطف حياة نخبة من الكرد في تلك الأحداث باسلحة الجندرمة السورية ليست بعيدة عنا, وأخيراً نقلت الأنباء المحزنة بقتل إنسان جديد, هو المواطن الكردي السوري الشيخ معشوق الخزنوي تحت التعذيب, ثم ألقيت جثته على قارعة الطريق. إنه الأسلوب البعثي المفضل في دولة صدام حسين, ويبدو أنه الأسلوب المفضل لحكم البعث في سوريا ايضاً, وإلا فأن من واجبهم الأول اكتشاف القتلة وتقديمهم للمحاكمة لأخذ العدالة المغيبة في سوريا مجراها.
ما أن طالب الكرد في سوريا بحقوقهم المشروعة ومنها مساواتهم في المواطنة وتمتعهم ببعض الحقوق المشروعة كأبناء قومية أخرى غير القومية العربية, أي القومية الكردية, حتى هب النظام كله, وهبت معه أجهزته الأمنية, وهبت جمهرة من الرعاع العرب المدفوعين من النظام وأجهزته لتضرب المتظاهرين في القامشلي وتقتنل من تقتل وتعتقل من تعتقل دون ذنب سوى مطالبتهم بحقوقهم العادلة والمشروعة.
4. نشأت في سوريا وبالرغم من إرادة النظام, ولكن وفق القوانين الشكلية السائدة هناك, بعض منظمات المجتمع المدني. وبدأت هذه المنظمات عملها في ظل القانون وليس بعيداً عن عيون ورقابة أجهزة الأمن السياسي والشرطة السرية. حتى هذا النشاط العلني المحدود لمنتدى الأتاسي وغيره, حيث يجري تحت رقابة الدولة, لم تستطع الدولة الشمولية أن تتحمله, فراحت تعتقل الناس وترمي بهم في السجون وتضيق الحبل على رقاب العاملين في هذا المنتدى وفي غيره من منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني. وها هي محاولات خنق أصوات هؤلاء في مهدها, ولكنهم لن يسكتوا فقد بدأ العالم يتحرك ضد ما يجري في سوريا ويطالب بالتغيير الجذري, ولن يكون في مقدور خدام والأحمر وغيرهما تغيير مجرى التاريخ وإبقاء أصحاب الرأي الآخر في السجون والمعتقلات, كما فعلوا في السبعينات حتى الآونة الأخيرة بعدد كبير من قادة الحركة الديمقراطية والشيوعية وبعض القوى البعثية والقومية وببعض الجماعات الإسلامية, ومنهم رياض الترك ويوسف زعين والآتاسي وفائز فواز وكثيرون غيرهم.
3. هناك جبهة وطنية يجلس فيها أناس فقدوا الصلة بشعبهم وقضية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, وهمهم الحفاظ على مراكزهم ودفء مقاعدهم الوزارية أو الحزبية حيث يستلمون رواتبهم من الدولة, إنهم جماعة من المصفقين للرئيس أياً كان هذا الرئيس ما دام أميناً عاماً لحزب البعث العربي الاشتراكي, قائد الأمة وحامي حمى الأحزاب المدجنة قومياً وفكرياً وسياسياً وأخلاقياً. ومن المؤسف أنهم يحملون راية الحرية والديمقراطية بصورة عبثية ومذلة.
4. الدولة السورية تحكم من قبل الأمن السياسي ولا تختلف قيد أنملة عن الدولة العراقية في ظل البعث الصدامي, إلا في كونها تقتل دون ضجة وتسجن دون ضجة وتمارس ذات الموبقات التي مارستها أجهزة البعث العراقية دون ضجة! ومن عرف الأمن السياسي السوري يعرف تماماً ماذا يعني ذلك, تماماً كمن عرف الأمن العراقي في فترة حكم البعث.
5. الفساد الوظيفي الإداري والمالي, بكل معاني هذا الفساد المنتشر في المنطقة العربية وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي, منتشر من قمة الدولة إلى أخمص قدميها, والممارس لكل ذلك والعليم به هو أجهزة الأمن الداخلي والقومي. فما تعيين رئيس الجمهورية, لأنه ابن حافظ الأسد الرئيس السابق, وبالطريقة الكاريكاتيرية التي جرت, ليس سوى جزءاً من الفساد الوظيفي, إذ جرى التعيين على طريقة "تريد أرنباً خذ ارنباً, تريد غزالاً خذ أنرباً", وكأن ليس في سوريا من هو أفضل من ابن حافظ الأسد. فكيف يحق لهذا الرئيس أن يحاسب الآخرين, وهو قد عين بهذه الطريقة, أن يحتج على الفساد الذي يعم سوريا. وعندما اعترض أحد النواب على طريقة التعيين باعتبارها ملكية جمهورية جديدة, وجد نفسه في التوقيف وتحت التعذيب والتهديد, أجبر على إثرها تقديم الاعتذار الشديد لرئيس مجلس النواب لما تفوه به من حقائق دامغة!
6. أجهزة الأمن وعلى مدى سنتين تمارس المشاركة مع قوى الأمن البعثية العراقية السابقة وجماعات الإسلام السياسي المتطرفة وهيئة علماء المسلمين وبعض العشائر العراقية في تهريب الأموال والأسلحة والرجال إلى العراق وتساهم في تنظيم وتوجيه العمليات الإرهابية ضد الشعب العراقي والوضع الجديد. وأخيراً تم اختطاف المناضل الشيوعي والاقتصادي العراقي السيد شاكر الدجيلي في سوريا من قبل أجهزة الأمن السياسي السوري وبالتعاون الوثيق مع أجهزة صدام حسين السابقة. وما تزال أخباره مقطوعة عن حزبه وأهله وشعبه.
إن الدولة السورية وأجهزة الأمن السياسي فيها مسؤولةٌ مسؤوليةً كاملة ًعن قتلى العراق الذين سقطوا بسبب التفجيرات والانتحاريين بسبب سماحها لهم بالعبور والمشاركة ودعم تلك الجهود بهدف إشغال "العدو الأمريكي!" بمشاكل العراق لكي لا يتقدم صوب سوريا.
7. وفي الوقت الذي تحتل إسرائيل جزءاً أساسياً من الأراضي السورية (مرتفعات الجولان) منذ عقود من السنين, ولم تحرك سوريا ساكناً بشأنها, بل حولت المعركة إلى لبنان ليدافع شعب لبنان عنها ويكون درعاً لها. حتى الوجود العسكري السوري في لبنان استثمر استثماراً رهيباً من قبل أجهزة الأمن السورية, إذ هيمن على الحياة العامة والحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية, وحول لبنان إلى جزء تابع إلى سوريا تسود فيه ذات السياسات الأمنية والاستبداد المطلق, كما أصبح لبنان سوقاً سوداء وموقعاً لتهريب السلع والأموال لصالح أجهزة الأمن والجيش وغيرهم ومجالاً لتحقيق المزيد من الأرباح على حساب الشعبين السوري واللبناني, مما فجر الصراع وأدى إلى خروج القوات وأجهزة الأمن بطريقة يرثى لها من أرض لبنان. إلا أنها ما تزال تمارس, عبر الأجهزة الأمنية اللبنانية السرية التي كونتها أجهزة الأمن السورية في لبنان, ذات السياسات وتتسبب في موت من لا يعجبها بالطرق التي تناسب أجهزتها الأمنية. وليس عبثاً أن يتوجه الاتهام بموت رئيس الوزراء السبق السيد رفيق الحريري أو الكاتب الصحفي سمير قصيرة نحو أجهزة الأمن السورية والعاملين معها ولصالحها في لبنان. ويأمل الإنسان أن تضع لجنة التحقيق الدولية يدها على المجرمين القتلة حقاً.
إن العراقيات والعراقيين الذين يرفضون الاحتلال الأمريكي للعراق بشكل تام, والذي كان النظام البعثي المماثل للنظام السوري سبباً له, ويعملون من أجل التعجيل بإنهائه العملي وليس القانوني فحسب, يعجب للوقاحة التي تتميز بها جمهرة من الصحفيين والسياسيين السوريين الذين يتحدثون عن احتلال العراق, وهم يعيشون يومياً ومنذ ما يزيد عن ثلاثة عقود قرب مرتفعات الجولان السورية المحتلة من قبل إسرائيل. ومن استمع إلى الشيوعية القحة السيدة وصال فرحة, التي فقدت كل صلة لها بواقع الحياة السورية والدولية والفكر الماركسي في ما عدا مواقفها الستالينية المحزنة, وهي تتحدث من على منصة مؤتمر البعث العاشر بنفس اللغة والخطاب الذي تحدث به البعثيون الذين حملوا راية الاستبداد والقهر السياسي والاجتماعي والثقافي في سوريا منذ عقود, يدرك ما يجري في سوريا والمصيبة التي يفترض تداركها.
إن ما يجري في سوريا اليوم يعتبر تجاوزاً فظاً على حقوق المواطنة وحقوق الإنسان وحقوق القوميات. ويضع هذا الواقع على عاتق العالم كله مهمة التحرك لمنع ما يجري هناك ومساندة قوى المجتمع المدني السورية وكل المناضلين في سبيل الديمقراطية ومن أجل إزاحة الدكتاتورية عن السلطة, إن مهمة السوريين النضال لتأمين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية للشعب السوري وإنقاذه من سياسات البعث الراهنة, ومن واجبنا تقديم الدعم السياسي والمعنوي الكامل له.
برلين في 9/6/2005 كاظم حبيب
· راجع: إمام, إمام عبد الفتاح د. الطاغية - دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي-. عالم المعرفة 183, سلسلة كتب ثقافية شهرية يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت. مارس/آذار 1994 م. ص 199.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟