|
عشتار – 2 – ثتنائية جوهر الألوهة
نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 4295 - 2013 / 12 / 4 - 16:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عشتار – 2 – ثتنائية جوهر الألوهة
(هذا هو الجزء الثاني من هذه المقالة، قراءة الجزء الأول قبل هذا الجزء يُساعد على فهمٍ تكاملي أفضل للمقصد)
بأكبر َمن قدْرِ الضغط النفسي و الجسدي لمُتلقي الأيدولوجية الدينية الذين يُسببهما دوران الديانات الإبراهيمية حول ثنائية الله و الشيطان و التي تُثبَّت نفسها بالعبادات و الطقوس، مُبقية ً الفرد محصورا ً في دائرة تلقي الفعل الإلهي و الاستجابه له و الدوران في فلك مشيئته الخيرة و الهرب بالجهاد الروحي من المشيئة الوسواسية الشيطانية المضادة، يأتي الضرر الأكبر لهذا المتلقي عن طريق تشويه مفهوم الألوهة الحقيقي الذي اختبره الإنسان الأول و آمن به قبل مأسسة الدين و انتقاله من مرحلة الفرد إلى الجماعة إلى المؤسسة الدينية. و لقد مر هذا المفهوم خلال مراحل تطورية مُعقَّدة صاغت شكله الحالي الذي كان محور المقال السابق.
و لقد حفرنا في الماضي حتى سومر القديمة لنزيل عن وجهي الله و الشيطان قناعيهما فنظرنا إلى إنليل و أنكي كشكلين من تجلي الألوهة بتفاعلها العميق مع الإنسان، دون أن يكون هناك حاجة لتحديد الخير و الشر كصفتين لهذا التفاعل، فإنليل نفسه ليس شريرا ً عندما يقرر إفناء الإنسان، و إنكي ليس خيرا ً عندما يقرر إنقاذ الإنسان بالمعرفة، أما فِعلا الإفناء و الإنقاذ فهمها فعلان على المستوى الإلهي لا يخضعان للمعاير الأخلاقية و لا يجب إخضاعهما، و يظل اسم الله كرمز للخير و اسم الشيطان كرمز للشر إسقاطين إنسانين على أفعال طبيعية ناتجة من جوهر الحياة نفسها و تفاعلها مع الإنسان و تفاعل الإنسان معها و العلاقات بين الإنسان و الكون و العناصر، لا تعنينا كمعيار أخلاقي ليس هنا موضع بحثه، لكن تعنينا كل الاهتمام و العناية كتعبير عن ثنائية وجه الألوهة التي فهمها الإنسان في أزمنته السحيقة.
ربما أن من أجمل ما يعبر عن فكر الإنسان الديني الأول هو الرمز "لينغوم يوني"، و هو ببساطة عضو الذكورة المنتصب "لينغوم" و الموضوع عاموديا ً في وسط عضو الأنوثة "يوني"، هذا الرمز الهندوسي الذي يعبر عن اتحاد الإله شيفا بالإلهة شاكتي. و هنا شيفا و شاكتي يمثلان تجلي للقاع الكلي للوجود براهمان في شكل ٍ تعبيري إنساني، حيث شيفا هو الألوهة الديناميكية المتحركة و شاكتي هي الطاقة الأنثوية المُنسابة المُظهره للألوهة في أشكال المايا الدنيوية المختلفة.
إن وجود الشكل "لينغوم يوني" في المعابد الهندوسية هو دليل ٌ واضح أن الإنسان في مفهومه للألوهة قد شاهد وجهين فاعلين مُتكاملين لا يوجدان بدون بعضهما البعض هما الوجه الموجب و الوجه السالب، و هنا لا أفضلية لأحدهما على الآخر، فكلمة موجب لا تعني أبدا ً "أفضل" و لا تعني "فاعل ديناميكي"، و كلمة سالب لا تعني أبدا ً "أقل" أو "أدنى" أو "مُتلقي الفعل" أو "ثابت"، لكن وجودهما هو ببساطة وجود وجهين تعبيرين للألوهة، أحدهما يصنع شيئا ً و الثاني يصنع شيئا ً آخر، و هما الاثنان تعبير من و تعبير عن نفس الألوهة الظاهرة كقوة في الطبيعة، و هما الإثنان لا يوجدان بدون بعضهما البعض و لا يمكن أن يظهر أحدهما بدون وجود الآخر فيه ووجوده في الآخر.
إن ثنائية الله و الشيطان لا يمكن فهمها إلا بردها إلى أصولها أو أحد أصولها الذي عبرنا عنه من خلال إنليل و إنكي على بساطة القصة الخاصة بشجرة معرفة الخير و الشر ثم الطوفان، و هي كتحليلٍ لا بد من رده إلى أصله الأول في تجليه من خلال مبدأ "لينغوم يوني" الموجب و السالب أو الذكورة في الأنوثة أو الأنوثة في الذكورة لا فرق. و لأنني من الذين يؤمنون بضرورة العودة إلى جذور الأشياء و البحث عن أسبابها في تطور التاريخ الأنثروبولوجي يشكل بالنسبة لي رمز "لينغوم يوني" مبدأ ً أبسط من مبدأ "ين يانغ" فالأول هو الإنسان الذي وعى اتحاد الذكر بالأنثى و أسقط هذا الشكل البدائي على مفاهيم الألوهة و العبادة و اعترف بكل بساطته و بدائيته و تلقائيته بالمجتمع البشري كنتاج تفاعلي بين الذكر و الأنثى لا انفكاك للواحد عن الآخر و أسقط هذا المفهوم على كل قوى الألوهة الموجودة في العالم الإلهي، فهذا الرمز "تشخيص مزدوج للمطلق الذي يتجلى في الزمان و المكان" (اقتباس حرفي من كتاب دين الإنسان، للدكتور فراس السواح)، بينما الثاني هو الفلسفة العقلية اللاحقة وراء وجهي الألوهة، الفلسفة المتطورة لعقل باحث و التي يكون هنا تطورها و سموها عائقا ً للفهم الأبسط الذي يقدمه الأول و الذي نسعى إليه هنا، هذا الفهم الأول و الأبسط المُتعلق بالفعل الجنسي العشتاري للمعبودة الأولى في الألوهية عشتار.
إن ثنائية الموجب و السالب، الذكر و الأنثى كانت سابقة ً لثنائية الذكر و الذكر، ثنائية الله و الشيطان الذكرين الذين تمثل ثنائيتهما الذكرية ذكورية واحدة هي فردية في حد ذاتها، تتميز إلى أخلاقية معيارية ثنائية ليست مثل ثنائية السالب و الموجب الذكر و الأنثى، فهي ليست ثنائية في حد ذاتها، إنها فردية الوجه ثنائية المعيار الأخلاقي و هذا بحد ذاته خروج عن فهم الألوهة المُزدوج الوجه في الفعل و الذي لا شأن له بالحكم الأخلاقي على الفعل نفسه. إن التشوية الذكري السلطوي السياسي الذي ترافق مع تغير شكل السلطة في المجتمع قد أفرز بحق انقلابا ً مُشوَّها ً و مشوِّها ً في آن معن لشكل الألوهة و مفهومها الذي سبقه، و علي أن أعود مرة ً أُخرى إلى إنليل و أنكي لتبيان شكل التشوه الواضح و الجلي، فأنليل الذكر هو الوحيد الذي يمكنه الاتصال بأبيه "آن" سيد الكون و النجوم، بينما أنكي أخو إنليل هو سيد الماء، و الماء في السومرية هو "نمو" الآلهة الأولى التي منها أتى كل الألهة حتى إنليل و أنكي، فأنكي هنا هو سيد أمه و ابنها في آن ٍ معا ً و المُتحد بها أيضا ً و حبيبها الذي تخصه بأحقية خلق الإنسان، و بهذا لا نُخطئ أبدا ً بل إننا مُصيبون حين نقول أن خلق أنكي للإنسان ما هو إلا القناع الذكوري الذي تحتجب تحته والدته "نمو"، و بذلك تعود الثنائية إلى طبيعتها القطبية بأنليل و نمو، الذكر و الأنثى "لينغوم يوني".
إن بداية انتقال السلطة إلى الذكور في المجتمعات البدائية ثم في تلك الدولية الأولى رافقه ظهور ثنائية الألوهة كإضافة على تشكيلات الدمى العشتارية المُنفردة و التي يفضل الدكتور فراس السواح أن يسميها دمى لا تماثيل لصغر حجمها و المبالغة في إظهار خصائص الأنوثة و الحمل و الأعضاء التكائرية الجنسية فيها، حيث بدأ يظهر الإبن الصغير محمولا ً على يدي الأم العشتارية ظاهرا ً في هيئة إبن و في هيئة حبيب أيضا ً كتماثيل منطقتي الأناضول و شتال حيوك ، رمزا ً لعشتار التي تُعطي الحياة لابنها و تتخذه حبيبا ً في ذات الوقت، فتخرج منها طاقة الحياة بالولادة و تعود إليها طاقة الحياة بفعل الحب مع ابنها و حبيبها. و لعلنا أيضا ً لا نُخطئ حين نتوقع أن هذا التمثيل في التماثيل و الدمى هو إسقاط لحالات زواج سابقة في المجتمعات الأمومية التي لم تكن في بداياتها تعرف تحريمات الزواج بين الأم و الإبن و الأخ و الأخت، لكننا نُخطئ جدا ً إن حكمنا على هذه الأشكال من التزاوج بمعاير عصرنا الأخلاقية التي لا شأن لها بمجتمعات بدائية خرج فيها الإنسان إلى الوعي مُنفصلا ً عن أسلاف ٍ مُشتركة من الحيوانات، رافعا ً رأسه لأول مرة ليرى ما لم يسعفه عقله الصغير أن يفهمه، مُجبرا ً على الحياة بكل ما فيها من شح ٍ و ضعف ٍ و خوف ٍ و صعوبات و انعدام أدوات.
إن تطور الوعي عند الإنسان و خروجه من العصر الحجري و اقترابه من الألف العاشر قبل الميلاد أدى إلى تطور هائل في مفاهيمه الدينية، فبعد أن كان الإبن الصغير محمولا ً على يد الأم العشتارية الأولى أصبح ناضجا ً واعيا ً رجلا ً كتموز حبيب عشتار، و دموزي حبيب أنانا، و ديونيسيس إبن سيميلي، و آتيس ابن سيبيل و حبيبها المُخصِب، و ما لبث بعدها هذا الإبن الكبير أن انقلب على أمه و حبيبته و استولى على المجتمع ليصبح الأمومي دولة ً ذكورية ً لها مجمع ٌ من الآلهة يرأسها الإله الذكر و تتحول العبادات إلى إله الشمس الذكر بدل الإلهة الأنثى القمرية و إن لم تكن قد فقدت دورها كاملا ً، حتى أتى الوقت الذي أصبح فيه أهم الآلهة ذكورا ً بيدهم الأقدار و المصائر، و تكفي مراجعة بسيطة لآلهة البانثيون الكنعاني أو اليوناني أو الروماني لمشاهدة إيل مُتربعا ً على العرش يقابله زيوس اليوناني و جوبيتر الروماني، في ذكورية ٍ لم تسلم منها حتى مجاهل الصحراء حيث تربع "هُبل" على العرش و الذي هو ليس إلا بعل الكنعاني مسبوقا ً بأداة التعريف "هـَ" التي هي بديل "ال" أو "السيد".
إن القضاء على ثنائية جوهر الألوهة لصالح الفردية الذكرية لم يكن إلا من مراحل تطور المفهوم الديني و انتقاله إلى المؤسسة، مع اعترافنا أن ثنائية جوهر الألوهة العشتارية نفسه قد تطور من مفهوم ٍ أسبق و أشمل تجلت فيه عشتار بكل طاقتها التي خرج منها الوجود، عشتار الأم الكبرى،،،،،،
،،،، لكن لذلك حديث ٌ قادم.
يتبع في الجزء الثالث.
------------------------------------------------------------------ المصادر: - دين الإنسان، فراس السواح. - لغز عشتار، فراس السواح. - مغامرة العقل الأولى، فراس السواح.
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عشتار – 1 - الله و الشيطان.
-
قراءة من سفر الحب الإلهي– تأمل صباحي
-
اللذة - إنسانيتنا عندما تغتالها الآلة التسويقية.
-
هلوسات ما قبل النوم – من أصبحنا؟
-
قراءة من سفر التطور – من الكرومانيون حتى اليوم.
-
قراءة من سفر هوشع – تأمل قصير
-
سيداو في العقل العربي الذكوري – عيون ٌ على الأفخاذ و ما بين
...
-
من سفر الإنسان - المرأة
-
عن الدكتور حسن و الدكتور سامي – ثروة العقول العربية
-
من سفر الإنسان – ما هو الحق؟
-
من سفر الإنسان - عشتروت
-
من سفر الإنسان – الإنسان
-
إشكالية العقلية العربية – السواقة، مساء الخير و عليكم السلام
...
-
وجبة سريعة من سفر التطور - إنتصاب القامة و الذكر الأضعف
-
نظرة ثائر – المرأة في قلب المسيح ضرب ٌ لمأسسة الدين و ستار ا
...
-
أصل مشكلة حركات الإسلام السياسي – الصحراء، شظف العيش و القبي
...
-
الله في وسط الصمت
-
ما هو الحب؟ - سؤال المليون دولار
-
من قلب الله - إن شئت َتُبصر
-
حين َ يُجن ُّ العاشق - فلتحترق الدنيا حين نكون
المزيد.....
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
الإمارات تعلق رسميا على مقتل -الحاخام اليهودي-.. وتعلن القبض
...
-
من هم المسيحيون الذين يؤيدون ترامب -المخلص-؟
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرتا اعتقال نتنياهو وجال
...
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|