|
لاهوت في زمن الربيع العربي
صليبا جبرا طويل
الحوار المتمدن-العدد: 4294 - 2013 / 12 / 3 - 14:09
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الاختلاف بين البشر مصدره الله... أما الخلاف بينهم، فمصدره الإنسان. ليس من اجل التمييز، أو التفضيل، أو المقارنة، كتبت هذا المقال، ولكن من اجل الاستنارة، والتزود بمعارف جديدة تخدم الزمن الذي نعيشه. وتخدم روحانيات الإنسان الذي بات فيه القتل والذبح على الهوية الدينية عنوانا، أمل أن يكون وجود الله وسيلة تسامح ومحبة تجمع الاختلاف بدل تعميق الخلاف.
انطلاقا من احترام عقائد كل من يشاركني هذا الكوكب، فأني استخدم تحليلي العقلي أولا وأخيرا في كتابة هذه المقال. الأمر الذي دفعني لكتاباته، ومشاركة القراء بما أفكر فيه، هو أهمية الموضوع عند الكثيرين من محبي الفكر، والمعرفة، والبحث، والاستطلاع. أدعو كل من يقرأه، إلى عدم التردد في تصويب، أو دعم، أو نقد ما اطرح، فكل ما يقدموه من ردود يثرى الفكر البشري الإنساني، وما أقدمه يتقبل النقض والنقد، والاعتراض لأنه بشري المنشأ. ليكن المنهج، والطريقة، والأسلوب ديمقراطي، علمي، وبعقل متفتح، بعيد عن أسلوب التشهير والوعيد، والشتم، والتكفير، وأذكر أن الاختلاف لا يفسد الود. ويفرحني أيضا أن ينظر القارئ، إلى هذا المقال بعيون عقله من خلال الإنجيل المقدس.
من أكتب عنه، هو يسوع المسيح – المسيح عيسى ابن مريم- صاحب رسالة:" السلام والمحبة"، الذي يحتفل بعيد ميلاده كتقليد سنوي ومنذ أكثر من آلفي عام المسيحيون في كل أرجاء العالم. عادة دينية، واجتماعية مستمرة، ومتكررة، ذكراها باقية، وقصة ميلاد تحكى. مؤمنون، وملحدون وغيرهم يتشاركون في هذه المناسبة لأن التاريخ الميلادي يبدأ منها، ويتبعها دخولهم في عام جديد يتطلعون أن يكون أكثر اخضرارا وازدهار من شجرتهم المنتصبة في بيوتهم وقلوبهم الدافئة. فمن يشكك بميلاده عليه مراجعة المصادر التاريخية القديمة التي دونها المؤرخون المعاصرون له. أرجو أن لا يتشنج البعض، أو ينتفض غضبا بعد قراءته هذا المقال، لأن هذا المقال كتب لأجل كل من يؤمن بقدرة الله سبحانه وتعالى العجائبية . قدراته الغير محدود، له العزة والمجد يستطيع أن يقول للشيء كن، فيكن. يستطيع أن يخلق من الحجارة طيور، وحتى بشر.... فمن يقوى أن يمنع الله أن يأتي ويعيش بيننا بصورة إنسان؟ من يتحدى الله بذلك؟ من يعصى أمره؟ من يمنعه؟ من يقف ضد أرادته؟ من يواجهه؟. أليس هو القدوس الجبار المهيمن... فأي تحدى لله تعدي على إلوهيته، وأي تحديد له يعني تقيد إلوهيته، وتكبيلها، ووضعها في مرتبة دون المقاييس البشرية.
الكتاب المقدس يقول: "إن الإنسان ينظر إلى العينين، وأما الرب فينظر إلى القلب " (1صم16:7). انطلاقا من هذه الآية الكريمة اسأل القارئ الكريم أن يتأنى في حكمه على ما يقرءا، ويفكر من خلال عقله المجرد الحر، ثم يصدر أحكامه. الحرية هبة الله من السماء للإنسان على الأرض، وخصه وحده بها. منعها، واحتكرها بعض من البشر غلفوها بقداسة لمصالحهم الذاتية. معظمنا تعرف، أو عرف المسيحية من خلال ما قرأه، أو تعلمه، أو سمعه. فالمسيحية منذ فجر انطلاقها، ومرورها خلال العصور السياسية، والفكرية التي عاشتها شهدت ارتفاع، وهبوط، وكساد، وانتعاش، وأخطاء. وما زالت لغاية ألان تواجه أزمات المجتمعات المتغيرة الساعية للتطور، التغيير ظاهرة طبيعية. التطور حقيقة لا يمكن إنكارها، أو وقف مسيرتها. صمدت الكنيسة أمام كل الأزمات التي عصفت بها، وحافظت على بعدها الروحي سليما معافى. في العلاقات الإنسانية اليوم لا نتعجب من رؤية بعض من الخارجين عن القانون، أو الشاذين جنسيا يتوافدون على الكنيسة من اجل التزود بالروحانيات. فذلك لا يعني أن الكنيسة تشجعهم، الكنيسة لا تمنع أحدا من دخولها، أو يؤمن بمعلمها. فكل من أراد أن يتزود روحيا بتعاليم السيد المسيح وبمبادئه فذلك من حقه ككائن حي يتواجد في مجتمع بشري إنساني، يؤمن بإنسانية الجنس البشري، وتعدديته الثقافية، و تنوعه العرقي...أقول ذلك انطلاقا من قول السيد المسيح:" ما جئت لأدين العالم، بل لأخلص العالم"(يوحنا12:47)، لقد جاء المسيح من اجل المرضى وليس الأصحاء.
الحكماء قالوا: " قل لي من تصاحب، أقول لك من أنت"، فما رأيك هنا إن كان المقصود هو المسيح. هذا الرجل كان لا يتردد في مجالسة الزناة من رجال ونساء، سارقين ومرضى، ومضطهدين، وأصحاب عاهات، برص، كسيحون، ومرضى نفسيين، وفقراء، وبسطاء، وعميان، وأرامل، ومرائين، مساجين، ومهمشين ...وغيرهم كثر. يصادقهم، يأكل معهم، يرعاهم، يعالجهم، يسهر في بيوتهم، يسامرهم، ... ببساطة سيقول معظمنا " هذه التشكيلة صعب التعامل معها، أو بعض منها حثالة يفضل تفاديها والابتعاد عنها، كونهم عاهات أخلاقية، قد يسيئوا لسمعتنا. ويشوهوا صورتنا الاجتماعية، ومخالطتهم عار ومجتلبة للفضيحة. فان كان المسيحي هو القائل. فكيف يمكنه أن يقتدي بالمعلم المسيح ؟ الذي جاء لعلاج عيوب المجتمع، ليس بحسب الشريعة الموسوية بالقتل، أو الرجم، أو النبذ. بل جاء ليقدم العلاج النفسي لهم، لمشاكلهم التي يعود سبب وقوعها على المجتمع، والتربية الخاطئة، وليس على الفرد، فالمجرم نتاج مجتمعه، وبيئته التي أدرنا لها ظهورنا بدل عن معالجتها...باستحقاق، وبامتياز نقول أن المسيح أول طبيب نفسي جاء لمعالجة قضايا البشر الاجتماعية والنفسية.
المسيحيون يرددون إن أعظم حدث في التاريخ هو صلب المسيح وموته وقيامته، وهي جوهر، وحجر الزاوية، وصخرة الإيمان المسيحي - لا اعتراض عندي أو شك في موت المسيح وصلبه وقيامته- لكن من وجهة نظري الخاصة، فإن أعظم حدث في التاريخ البشري هو ميلاد المسيح، ميلاده ألمعجزي، خصه الله به دون غيره ممن سبقه، أو جاء من بعده، من البشر. اجتهد بقولي هذا، رغم أني لست لاهوتيا، ولا رجل دين، ولم أكن يوما طالبا في معهد لاهوتي، بل علمانيا كغيري ممن يتمتع بثقافة متواضعة ،ومحدودة، لا تحرمه، أو تجرمه، أو تكفره من قول ما يفكر في عالم يشهد ثورات فكرية في شماله، وأزمات فكرية في جنوبه، فمن اجل تفاهم عالمي، ومستقبل أنساني أفضل، علينا أن نتقبل ما يقول الأخر وما يفكر به دون الطعن بدينه أو مبادئه أو معتقداته.
المسيح لم يكن ثمرة جماع بين رجل وامرأة، بل كان كلمة الله، وروح من الله ، التي زرعت في رحم مريم. فكلمة الله تجسدت في رحم مريم لتصبح بشرا، فلا نستطيع بأي مقياس بشري، أو لاهوتي أن نقول أن المسيح بشر كسائر البشر لأنه وبكل وضوح وببساطة لم يأتي للعالم بفعل جنسي، لم يكن هناك مضاجعة ذكر لأنثى،فالمولود المبشر به للولادة من مريم أعظم، وفوق البشر أجمعين، من فجر التاريخ حتى ساعتنا هذه، عقيدة المسيحي مرتبطة بهذا الميلاد ألعجائبي. الذي يؤكد أن المسيح ولد بجسد بشري بخلق الهي، فهو ابن الله، هو الله. كما أن ابن الإنسان، هو إنسان فلا يمكن للعقل أن يفترض انه بشر مثلنا مثله. لهذا اجزم انه فوق البشر أجمعين وأعظمهم خلقا.
المسيح كلمة وروح من عند الله، كلمة الله الخالق قوة غير محدودة أو مقيدة، الله يقول للشيء كن، فيكون. هو صنع الكون بكلمات منه، كلاماته نافذة تغمرها الحكمة ولا شيء يضاهيها فكل ما أراد ويريد يكون. هو البداية والنهاية هو العقل اللامحدود، انه العقل الكوني الجبار الذي يجمع كل العقول البشرية في ذاته اللامتناهية الموجود منذ الأزل . ارتضى الله أن ينزل من علياء مجده ويأخذ جسدا بشريا، وأن يلد في مغارة للحيوانات، لا شك عندي بذلك، أن ينتابني نوع من الشك، أكون قد أدنت نفسي بأن الله لا يحمل صفة الخالق والقدوس والقدير والمهيمن والجبار... بمعنى أن أفكر لو للحظة باستحالة حدوث هذا الأمر فأني الغي صفة الإلوهية عن الله، لذلك احترم أرادة الله ونزوله للعيش بيننا كبشر، أو كبشر والله، ولبسه جسدا بشريا مثلنا من صنعه .
خلال حياة المسيح، صنع عجائب عظيمة كثيرة على الأرض، لا يقوى بشر أن يقوموا بمثلها. فكان الشافي والمقيم من الموت، من أقام الموتى أيعجز عن القيامة من الموت؟. أيستحيل على الله الذي عاش بيننا، أن يصرع الموت بالموت؟، ويقوم من الموت ويرتفع إلي السماء، إلى مجده العلوي كما جاء ونزل وعاش بيننا، فان كان جوابنا إيجابا فذلك دليل أخر على قدرته الفائقة العجائبية، وان كان سلبا فذلك دليل على عدم وجوده وضعف قدراته.
ليس من اجل الفضول، كتبت هذا المقال، ولكن من اجل الاستنارة، والتزود بمعارف جديدة تخدم الزمن الذي نعيشه، وتخدم روحانيات الإنسان التي بات فيه القتل والذبح على الهوية الدينية عنوانا، والإلحاد يتصاعد، نموا وازدهارا. السبب في ابتعاد الإنسان عن الفكر الروحي، وعدم تدخله به هو توظيف الدين في السياسية والاقتصاد، فالإلحاد بات جوابا على معاملات المؤمنين السيئة التي تناطح مفاهيم علمية واجتماعية جديدة لا تقوى على مجاراتها أو إخضاعها، وبسبب التزمت الفكري المنطوي بين صفحات الكتب التي ندعوها مقدسة، فان لم يلبي الدين مطالب البشر الروحية بطريقة سمحة، وبأسلوب حواري مقنع، فسيخسر مكانته الروحية وقوته الدينية، فالكفر كالإيمان مصدره الدين.
البعد عن الدين لا يأتي إلا بسبب المواقف المتزمتة التي يقف رجال الدين فيها من إيمان البشر، فكلما زادت ترهيبا وعنفا كلما ابتعد الإنسان عن الإيمان لأنها لا تترجم إلى التسامح والمحبة، إلي طريق الخلاص البشري، بل تسعى لإثبات وجودها بالقوة. القوة تخضع الناس لبعض الوقت، وليس كل الوقت ولا تدوم لأن الزمن متغير غير مستقر ولا يحتمل الجمود، وان دامت فإنها تبنى مجتمع متخلخل لا يسعى للنمو والتطور، بل المحافظة على نفسه من خسارة مكانته ودوره. والنتيجة انهياره، وموته لأنه يحمل بذرة فناءه. ما يقوم على التهديد يطويه الزمن، ولا يقدر على الصمود، أو الاستمرار لان التطور حتمية حاصلة متواصلة من اجل سمو وسيطرة الفكر البشري المبدع، المستقل، المنفتح، الديمقراطي الحر، الواعي.
#صليبا_جبرا_طويل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بين العلم والدين
-
تقتل غسلا للعار
-
عاصفة مبعثرة من الأفكار
-
تضخم الأنا الديني
-
العرب وشعوب العالم
-
من حقنا معرفة تاريخنا
-
ألحرية ألفكرية -أم الحريات-
-
الرجال الحقيقيون
-
تعددت آلهة الربيع العربي
-
العرب في ربيع
-
حسناوات في الربيع العربي
-
أديان اليوم مع ماركس ونتشه
-
ربيع الثورة عورة
-
القيامة مع الربيع العربي
-
مسيحيون على صليب الثورات العربية
-
الانسانية منطق وعقل
-
المرأة وكيف نريدها؟
-
توافق او شرق اوسط جديد
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|