|
الزم بيتك .. ولك أجران
حكيم المصراتي
الحوار المتمدن-العدد: 4291 - 2013 / 11 / 30 - 17:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في وطننا العربي البائس، بوسع المرء أن يتسكع في الأزقة طوال العام، ويكفّر المواطنين، ويقيس طول لحاهم بالمسطرة، ثم يتقدم لامتحان الثانوية العامة ويتحصل على درجة راسب بجدارة؛ بعد هذا كله، يظل بوسعه أن يحشر نفسه في خانة (العلماء)، ويلوي لسانه بالعربية المقدَّدة، ويشرع في افتراء الأكاذيب على الله باسم "الاجتهاد الشرعي".
إنّ الأمر ليس بصعبٍ على الإطلاق. فالمجموع الذي ترصده الدول العربية للتسجيل في معاهد العلوم الشرعية، ونوع الطلبة الموجهين لها، يُنبئك عن حجم الكارثة التي تلحق بالحالة الثقافية والفكرية للمسلمين وعلمائهم معًا. فدعونا نشاهد سويًا - وبعينين مفتوحتين - حجم الكارثة التي نعيشها اليوم:
في السعودية مثلاً، تشترط وزارة التعليم نسبًا مئوية تصل إلى 90٪-;- فما فوق للكليات الطبية، فيما يتدنى مجموع القبول في المعاهد الشرعية، والتي تعهد إليها الدولة بمعظم القوانين التشريعية، ليصل إلى ما دون 60٪-;- أو شرط الحصول على الشهادة الإعدادية فقط. ولهذا السبب، تتدحرج رؤوس "المفكرين"، تحت ضربات سيوف "الأميين"، منذ عصر "الحلاج" على الأقل.
من داخل هذه المعاهد الشرعية بالذات، أصدر عالم كبير، يحمل لقبًا يبعث على الرهبة، وهو (رئيس هيئة كبار العلماء والرئيس العام لدارات البحوث العلمية والدعوة والارشاد بالمملكة)، كتابًا بعنوان (الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض)، يستهل مقدمته بقوله عن علماء الفضاء الغربيين [وقد وجب التثبت مما يقوله هؤلاء الكفار والفساق عن الكواكب وخواصها، وإمكانية الوصول إليها .. ].
- ثم يقول في فقرة أخرى [وقد أجمعت آراء السلف من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن القيم على ثبوت الأرض وعدم دورانها]. ثم يواصل في معرض رده عمّن يقول بسكون الشمس ودوران الأرض حولها [هو قولٌ شنيعٌ ومنكر، ومن قال بذلك فقد كفر وضل، ويجب أن يستتاب، وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيْئاً لبيت مال المسلمين] وهى فتوى كان من شأنها أن ترعب "كوبرنيكس“ في قبره.
إن هذا الكتاب لم يصدر في العصور الوسطى أو في عصور الظلام، بل صدر قبل ثلاثين عامًا فقط﴿-;-1﴾-;-، وتم توزيعه على الطلاب في "دور العلم"، في وقت كان العالم يشاهد هذه المهزلة - ضاحكًا - من فوق سطح القمر.
*** وفي مصر مثلاً، والتي تشترط معظم جامعاتها نسبًا تصل إلى 98٪-;- للكليات العلمية، ترصد مؤسسة دينية عريقة بحجم الأزهر، مجموع 70٪-;- - وغالبًا 60٪-;- - للالتحاق بها. ﴿-;-2﴾-;- والواضح هنا، أن هذه المجاميع المطلوبة ليست مجاميعًا متدنية وحسب، وإنما تفتح الباب على مصراعيه لكل أميّ وجاهل، لكي يستبدل مطواة البلطجة بعمامة الدين، ويقود المواطنين من أيديهم إلى هاوية لا قرار لها.
لا عجب إذن أن تصدر فتاوي مثيرة للرثاء، مثل فتوى (رضاع الكبير)، التي صدرت عن عالم مهيب، يحمل الدكتوراه الأزهرية في جيبه و"زبيبة" الصلاة في جبهته، ويشغل منصب (رئيس قسم الحديث) في كلية أصول الدين. ﴿-;-3﴾-;- ولا عجب أيضًا أن يتصدر المشهد الديني الحنيف، الذي يمس قلب كل مسلم، مهرّجون في عمائم العلماء، من طراز (هاتولي راجل).
ولهذا السبب ما يزال المسلمون ضائعين في بحر من الفتاوي المتضاربة، كان آخرها ما حدث من مهازل فقهية بشأن أحداث 30 يونيو وميدان رابعة، والتي وصلت إلى حد تقاذف الفتاوي والشتائم معًا، من [خوارج وعملاء] إلى [أصحاب الروائح المنتنة] بين عالمين وقورين، أحدهما (المرشد) وثانيهما (المفتي).
*** وفي السودان مثلاً، وهو بلد كان يحظى بسمعة عالمية متقدمة في الثقافة والتمدن، حتى ثمانينيات القرن الماضي عندما ضربه إعصار الأصوليين، الذين دشنوا عصرهم بشعارات رنانة مثل "أسلمة البنوك" و"لا تواني في تطبيق الشريعة" تحت رعاية علماء كبار من طراز (الترابي)، والذي لم يحمل في جعبته أي خطط تنموية سوى خطة "البركة والمسبحة". فماذا كانت النتيجة؟
انهار السودان اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا في بضع سنين، وأفلست البنوك الإسلامية، وفقد نصف المواطنون رؤوسهم ومدخراتهم معًا، وبلغ السودان أرقامًا مرعبة من حيث نسب الفقر والبطالة وحجم المساعدات. وسقط السودان من قاموس العالم إلى الأبد، فلا أحد يذكره الآن، إلا إذا وردت كلمة "زول".
أكثر من ذلك، فبفضل المركزية التي رسّخها "أمير المؤمنين" وباركها علماؤه "الربانيون"، وحصر كافة السلطات في العاصمة على حساب الجنوب المهمش ورفض حقه في الحكم الذاتي، انقسم السودان الواحد إلى سودَانيـْن اثنين، رغم أنف كل اجتهادات العلماء الشرعيين.
والأمثلة كثيرة، تمتد في خط مستقيم – ومحزن - من أفغانستان الحضارة الذي تركه المتطرفون هشيمًا تذروه الرياح، مرورًا بالصومال الذي صار فقهاؤه يصدّرون "الموت" بدلاً من "الموز"، وحتى نيجيريا التي تنشط بها جماعة من الفقهاء تسمي نفسها "بوكو حرام" : أي التعليم حرام، وباسم الاجتهاد الشرعي أيضًا!
*** و ليبيا لم تنس نصيبها من هذا العُرس الجماعي!
فكان آخر ما صدر عما يسمى بـ (رابطة علماء المسلمين)، فتوى بتحريم "الطرح الفيدرالي"، واعتباره [كبيرة من الكبائر التي توجب غضب الله وعذاب جهنم وبئس المصير]، بحجة أن الفيدرالية مدعاة [للتشرذم والانقسام وتقوية الجهوية ..]. وقد صدرت هذه الفتوى المريبة في وقت كان فيه "الأبرياء" من عجائز وأطفال تاورغاء يُقمعون بقوة السلاح، ويهجّرون قسرًا من مدينتهم، و(تقسّـم) أراضيهم ومساكنهم معًا، تحت مرأى ومسمع العلماء أنفسهم، وبدون أن تصدر لأجلهم فتوى واحدة تذكرهم بالاسم. وإذا لم تكن هذه الفتوى صادرة عن جهل مستفحل بالدين والأخلاق والسياسة، فلابد أن "علماء ليبيا" غارقون حتى رؤوسهم في غضب الله وسخطه.
إن خطورة هذه الفتاوي الطائشة، ليس في كونها تلغي فكرة الحوار الوطني والعمل السياسي من أساسه فقط، بل إنها تعطي المبرر "الشرعي" للإرهابيين الذين يملؤون البلاد، لممارسة هوايتهم الممتعة في تفجير رؤوس المواطنين. وقد بدأت حفلة الموت فعلاً، بعد استهداف عدد من ناشطي "الحراك الفيدرالي" بعبوات ناسفة أو رسائل تهديد، عقب صدور تلك الفتوى بأيام قليلة.
ولم يتوقف التخبط والتناقض عند هذا الحد. فقد صدرت قبل ذلك فتوى أو اجتهاد شرعي - سمّه ما شئت - بـ"تجميد" زواج الليبيات من الأجانب، في بلد وصلت فيه نسبة العنوسة بين نسـائه إلى أكثر من 30٪-;-، دون أن يصدر أي "اجتهاد" حقيقي لمعالجة هذه الأزمة الاجتماعية الهائلة، أو طرح خطط ومشاريع بديلة.
هذا فضلاً عن قانون "العزل السياسي"، الذي صاحبته فتوى ذكيّة مفـادهـا أن تطبيق قانون العزل السياسي [فرض كفاية]، الأمر الذي أعطى الضوء الأخضر للميليشيات المسلحة أن "تكفي" الشعب عن رأيه ومهمته في الحياة، وتحاصر المؤتمر الوطني العام، وتفرض القانون بالرشاشات والصفع والركل، وأمام أنظار الشعب الحائر.
أما آخر الغيث فهي قطرة، لكنها قطرة في حجم إعصار.
فقد صدرت فتوى شرعية بـ"وجوب" الخروج في مظاهرات شعبية حاشدة لطرد الميليشيات من العاصمة (طرابلس)، بعد أشهر قليلة فقط من صدور فتوى "مضادة" بتحريمها وتجريمها في (بنغازي). ثم عادت دار الإفتاء فأتبعتها بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة بفتوى أخرى مؤدّاهـا أن [القاتل والمقتول في النـار]، في مساواة فاضحة - وغير معقولة - بين متظاهر سلميّ أعزل يذود عن عرضه، وبلطجي قاتل مدجج بالسلاح.
*** كان خليقًا بالمسؤول الليبي أن يتعلم الدرس الموجع، وأن يعيد النظر في وضع الانتساب الى الكليات الشرعية من أساسه، وأن يتم ضبط مناهجها التعليمية بما يتلاءم مع معطيات الحداثة في عصر النانوتكنولوجي، حتى لا يكون بوسع كل من هبّ ودبّ، أن يتقيّـأ فتاويه المميتة فوق رؤوس المواطنين.
لكن المسؤولين - العاجزين - لم يتعلموا الدرس بعد، ولن يتعلموه على الأرجح. ولم يبق ثمة ما يمكن فعله سوى أن يهبّ الشعب لاستعادة ثورته المسروقة، وأن يبدأ بأولاء الذين يغذون أفكار التطرف والإرهاب في نفوس الشباب، من تفجير للقبور، وصدع للنسيج الاجتماعي، وفصل للتعليم، وإعادة للمشهد الصومالي بكاميراتٍ ليبية؛ أولاء الذين لم ينتخبهم أحد، ولم يختارهم أحد، ولا يعرف أحد من أعطاهم الحق أصلاً في التشريع، ومن فوق "منبر" عاجي.
إن إحدى البدائل المطروحة في ليبيا، هي انشاء "مجلس عام للإفتاء" وحلّ ما عداه من هيئات وروابط، بحيث يضم هذا المجلس أساتذة متخصصون في السياسة والاقتصاد، وكل المجالات الأخرى دون استثناء؛ لا رئاسة فيه لشخص، ولا كلمة فيه سوى للأغلبية، وتناقش فيه المسألة من جوانبها العلمية والتطبيقية والشرعية . ثم يظل من حق الأمة أن تقبلها أو تردها. مصداقـًا لحديث الرسول الكريم نفسه، الذي يقطع الطريق على عمائم اللاهوت الإسلامي بقوله فى الصحيح [إن الله قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة].
أما من يحاول أن يلهب أرض ليبيا بفتاويه النارية، حسب ما تمليه عليه أهواءه السياسيـة، ومطمئنًا إلى نيل "أجر المجتهد" حتى وإن أخطأ، فنقول له:
الـزم بيتـك .. واكفِنا شرَّك ..
ولك أجـران بإذن الله.
د. حكيم المصراتي _____________________________________________________ ﴿-;-1﴾-;- صدر هذا الكتاب في سنة 1982، وعنوانه بالكامل (الأدلة النقلية والحسية على إمكان الصعود إلى الكواكب وعلى جريان الشمس وسكون الأرض). وقد قامت السلطات السعودية بمصادرته لاحقًا خوفًا من الفضيحة، التي كانت قد حدثت على أية حال.
﴿-;-2﴾-;- هذا لو استثنينا بقية الفروع القروية الصغيرة، التي لا تشترط أي مجاميع أو نسبٍ على الإطلاق، ولا تدخل ضمن معيار التقييم أصلاً.
﴿-;-3﴾-;- يقول د. عزت عطية مدافعًا عن فتواه [إن بعض العامة قد نظروا إلى رضاع الكبير نظرة جنسية بحتة، وفاتهم أن من ينفذ رخصة شرعية إنما يقوم بعمل ديني "يؤجر عليه"، وإرضاع الكبير ثابت وحاصل في الصحيحين، ومن يعترض عليه إنما يكون اعتراضه على "الشرع والسنة" ..]
#حكيم_المصراتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|