أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة















المزيد.....



وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1222 - 2005 / 6 / 8 - 10:44
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


جاء الاغتيال البشع للصحافي الدمقراطي اللامع سمير قصير، رحمه الله، ليؤكد مرة اخرى ان القوى المتربصة بلبنان، التي اذهلها الطابع الحضاري والسلمي لما سمي "انتفاضة الاستقلال"، بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، والنتائج "الانقلابية" التي حققتها، ـ هذه القوى لن ترضى بأي حال ان تترك اللبنانيين وشأنهم، لاعادة ترتيب البيت اللبناني، بعد المعاناة المريرة في ظروف حرب اهلية قاسية لمدة 16 سنة، واحتلال اسرائيلي لمدة 22 سنة، ووجود دكتاتوري سوري لمدة 29 سنة.
ويأتي النظام السوري، وبعض الاجهزة واوكار التخريب اللبنانية المرتبطة به، في رأس قائمة المتهمين بالاغتيال. علما انه الان من مصلحة عدة اطراف معادية للشعب اللبناني، وبالاخص اميركا واسرائيل والنظام الدكتاتوري السوري، تعكير الاوضاع اللبنانية، لعدم ثقة هذه الاطراف بقدرتها، منفردة ومجتمعة، على اعادة تركيب المعادلة اللبنانية الصعبة، بما يتلاءم مع مصالحها القريبة والبعيدة.
وسواء كانت الاجهزة السورية (وأعوانها) ضالعة ام لا في اغتيال الشهيد سمير القصير، فإن "اعادة النظر" في العلاقات السورية ـ اللبنانية تبدو احد اهم مقومات اعادة تركيب المعادلة اللبنانية، ولا سيما بعد الانتخابات الحالية، التي اعادت خلط الاوراق بطريقة لا ترضي جميع الاطراف اللبنانية الفاعلة، وفي الوقت نفسه لا ترضي تماما اي من اللاعبين الاقليميين والدوليين على الساحة اللبنانية.
وعلى هذا الصعيد، لا يكاد يخفى على اي محلل سياسي، وحتى اي مراقب او متابع عادي، ان العلاقة المتناقضة، بمختلف اشكالها وتداعياتها السلبية والايجابية، بين الزعيم الوطني اللبناني وليد جنبلاط وبين سوريا، هي مكوّن اساسي للعملية السياسية برمتها في لبنان، وللعلاقات السياسية اللبنانية ـ السورية بشكل خاص، والعلاقات السياسية اللبنانية ـ العربية والسورية ـ العربية بشكل عام.
وقد تبدى الطابع المتناقض لهذه العلاقة ـ اول ما تبدى ـ في الموقف المهادن، فالمتحالف، حيال سوريا، من قبل وليد جنبلاط، بعد اغتيال والده الشهيد الكبير "المعلم" كمال جنبلاط، على يد "شراذم البعث" كما قال وليد جنبلاط نفسه مؤخرا، وبعد صمت طويل. إذ جاء موقف جنبلاط سابقا، الممالئ، فالمؤيد، لدمشق، على عكس ما كان يتوقعه في حينه الكثيرون، وخاصة في صفوف الطائفة العربية الدرزية الكريمة. وتبدى ذلك الطابع المتناقض، من ثم، في "التقلبات" الظاهرية لوليد جنبلاط في علاقته "التحالفية" مع سوريا، وصولا الى المرحلة الاخيرة، حيث تحول جنبلاط من موقع حليف رئيسي لسوريا في لبنان، الى موقع زعيم المعارضة اللبنانية، التي طالبت بالانسحاب الفوري السوري، والتي ضمت في صفوفها بعض ألد اعداء "الوجود" السوري في لبنان، الذين كانوا في ما مضى علنا، ولا يزالون ضمنا، ألد اعداء الخط الوطني للقيادة الجنبلاطية ذاتها.
ومن ضمن هذا السياق، يؤخذ على وليد جنبلاط اطلاق بعض التصريحات والعبارات المتسرعة، او "زلات اللسان"، كما سماها البعض وكما اعترف هو نفسه، التي كانت تبدو لاحقا اشبه شيء، اما بـ"قنبلة دخانية" يطلقها جنبلاط كي تلفت النظر الى جهة، لتغطي تحوله الى جهة اخرى؛ او بـ"قشرة موز" يرميها جنبلاط هنا او هناك بهدف "تزحيط" بعض الاطراف الى اتخاذ مواقف معينة، يعود هو نفسه فيما بعد (او لا يعود) للتخلي عنها او وضع مسافة بينه وبينها.
وقد ذهب بعضهم الى ان يتخذوا من ذلك "دليلا" على "لاجدية" و"لاجدارة" القيادة الجنبلاطية. وحسب تعبير بشير الجميل فيما مضى "ان وليد جنبلاط "يتولدن"، والوقت ليس وقت "ولدنة"!"، وقد قال ذلك بعد اجتماع الرجلين، برعاية المندوب الاميركي فيليب حبيب (اللبناني "الاصل!")، الذي كان يسعى جاهدا لـ"تسويق" انتخاب بشير الجميل لرئاسة الجمهورية. وقد ساوم الاخير وليد جنبلاط للحصول على تأييد "رئاسته" للجمهورية اللبنانية، مقابل منح وليد جنبلاط (كما كان كمال جنبلاط في السابق) مركز "رجل العهد القوي". ولكن وليد جنبلاط رفض بحزم الدخول في هذه المساومة والانخراط في اللعبة الاميركية ـ الاسرائيلية، التي كان حزب الكتائب منخرطا فيها حتى النخاع الشوكي؛ وقد قطع جنبلاط حينها الاجتماع، وامام ذهول فيليب حبيب و"البشير"، وعلى مرأى من قوات الاحتلال الاميركية والاسرائيلية، ركب سيارته واتجه ليس الى قصر المختارة، ولا الى اي مكان آخر سواه، بل تحديدا الى... دمشق. هذا الموقف، المناقض 180 درجة لحالة الامر الواقع "الاسرائيلية" التي كان يراد فرضها على لبنان حينذاك، لم يتوان بشير الجميل عن وصفه بأنه "ولدنة". ولكن بعد ايام معدودة من ذلك اللقاء الدرامي الفاشل، فإن "مشروع رئيس الجمهورية" بشير الجميل خرج شخصيا ونهائيا من الساحة، ودخل في ذمة التاريخ. وتأكد ان المسألة لم تكن ابدا مسألة "ولدنة" من قبل الزعيم الوطني وليد جنبلاط، بل مسألة "شب واستحلى!" من قبل بشير الجميل، الذي أرادوا فرضه على الشعب اللبناني كرئيس للجمهورية.
اهداف الحملة على وليد جنبلاط
ومن المهم لأي تحليل لطبيعة القيادة الجنبلاطية التوقف اولا لازالة التباس اساسي يتعلق بالجانب الوراثي التقليدي، العشائري ـ الطائفي، لتلك القيادة. ويكاد يرى حتى بالعين المجردة ان الهدف الاول والاخير لجميع الحملات والمآخذ على وليد جنبلاط ليس هو الطعن بقيادته الطائفية ـ العشائرية، بل على وجه التحديد الطعن بالدور الوطني للقيادة الجنبلاطية.
واذا تجاوزنا، ولو من باب الجدل المنطقي، نظرة الاستخفاف بمواقف وليد جنبلاط، فلا يسعنا الا ان ننظر، بدون اي ظل لاي استخفاف، الى الصورة العامة للازمة العاصفة الاخيرة، التي سبقت ورافقت واعقبت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ونتفكر في ما نتج عنها ـ حتى الان على الاقل، وهو اول الغيث ـ من تحقيق معجزة ازاحة قوات واجهزة الدكتاتورية السورية عن كاهل الشعب اللبناني وعن صدر كل مواطن لبناني، في ظروف محلية واقليمية ودولية بالغة التعقيد.
فلقد تم تحقيق هذه العملية ـ المعجزة، بمواجهة نظام دكتاتوري مشبوه، مكيافيلي، ديماغوجي وجزار، كالنظام السوري. وطوال حوالى ثلاثين سنة، مرغ هذا النظام العروبة والاخاء العربي في رغام القومجية الكاذبة، بتحويل لبنان الجريح الى "مغارة علي بابا والاربعين حرامي".
ولم يكن مثل هذا النظام ليتورع ـ وهو يعرض خدماته باستمرار ـ لعقد "صفقة" جديدة مماثلة لصفقة دخوله الاول الى لبنان (بدأت الروائح "التطبيعية" للصفقة الجديدة تفوح مع "استيراد" تفاح الجولان المحتل، ومع المصافحات الاتيكيتية البريئة اثناء جنازة البابا) مع اميركا واسرائيل وتركيا، ضد المقاومة الفلسطينية، وضد المقاومة العراقية الشريفة، وضد "سلاح المخيمات" و"سلاح المقاومة" و"حزب الله" وكافة القوى الوطنية والدمقراطية في لبنان. وكانت محاولة اغتيال الشخصية الوطنية البارزة مروان حمادة، ثم اغتيال الرئيس الحريري اول "دفعة عربون على الحساب" قدمها النظام السوري و"اعوانه" "اللبنانيون" للدوائر الاميركية والصهيونية. ولكن مثل هذه "الصفقة" كتب لها الفشل، حتى الان، بسبب الرد العارم غير المتوقع من قبل الجماهير الشعبية اللبنانية ولا سيما القوى الوطنية والدمقراطية الحقيقية الواعية، وعلى رأسها الزعيم الوطني وليد جنبلاط. وربما يدخل اغتيال الشهيد سمير القصير ضمن عملية "تبادل الخدمات" بين الثلاثي الاميركي ـ الاسرائيلي ـ السوري.
ولهذا، ولأجل فهم مجريات الاحداث الهامة، الحالية والقادمة، ليس فقط على الساحة اللبنانية، بل وعلى الساحتين السورية والفلسطينية، والساحة العربية بمجملها، ونظرا للاهمية الخاصة للعلاقات اللبنانية ـ السورية، ولكون العلاقة مع الدولة السورية هي المدى القومي الاول للبنان، تأتي في المرتبة الاولى من الاهمية محاولة سبر العلاقة بين القيادة الجنبلاطية والدولة السورية.
وهنا لا بد من التذكير انه بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونزول المظاهرات المليونية التي نظمتها المعارضة، من جهة، و"حزب الله" من جهة ثانية، فإن وليد جنبلاط هو الذي اضطلع بدور الجسر الرابط بين "المعسكرين"، بالتمسك بضرورة انسحاب النظام الدكتاتوري السوري، وفي الوقت نفسه معارضة القرار 1559 لجهة نزع سلاح المقاومة الاسلامية والمخيمات الفلسطينية.
واذا كان "حزب الله" قد اتخذ موقفا متميزا عن موقف "المعارضة" اللبنانية بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بهدف عدم الانجرار (ولا سيما عبر بعض الاطراف ذات التاريخ المشبوه في "المعارضة") الى المؤامرات الاميركية التي تضع في رأس مهماتها نزع سلاح المقاومة في لبنان، فهو في الوقت نفسه، إذ دافع عن مبدأ العلاقات التاريخية الاخوية اللبنانية ـ السورية، لم يكن من الممكن ان ينحدر الى مستوى الدفاع عن ارتكابات الاجهزة السورية وزبانيتها (الشريك "السري" للاميركيين)، وان يخرج عن الاجماع الوطني بضرورة الكشف عن القتلة والمتواطئين المباشرين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ولذلك فهو قد تعمد الوقوف جانبا وترك النظام الدكتاتوري السوري "يقلع شوكه بيده" ويسحب "بسلام" وصايته وادواته الاجرامية ومخابراته القذرة من لبنان. وكان هذا الموقف "العملي" لحزب الله خطوة حاسمة نحو اللقاء الاساسي مع القوى الوطنية الشريفة في "المعارضة"، وعلى رأسها الزعيم الوطني وليد جنبلاط.
بالرغم من كل ما يأخذه بعض المسطحين والمغرضين على وليد جنبلاط من اخطاء ثانوية وتكتيكية او ذبذبات سياسية عارضة، مقصودة من قبله او غير مقصودة، فإن كل من له عينان يمكنه ان يرى بوضوح الان ان وليد جنبلاط، وبالرغم من الحجم الديمغرافي المحدود للطائفة الدرزية، يمثل الآن "الحلقة المركزية" في العملية السياسية برمتها في لبنان، ومن ثم في التداعيات الاقليمية والدولية للمسألة اللبنانية.
ويتجلى هذا الدور المركزي لجنبلاط في المظاهر، او العوامل، التالية:
1 ـ دوره المباشر النابع عن وزنه الخاص بصفته الزعيم الاول للطائفة العربية الدرزية الكريمة، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي اسسه كمال جنبلاط، ورئيس كتلة "اللقاء الدمقراطي" النيابية.
2 ـ بالرغم من كل الضغوط الاميركية ـ الصهيونية، ضد المقاومة الاسلامية و"حزب الله"، فإن وليد جنبلاط يحرص على التمسك بشدة بالعلاقة الستراتيجية المركزية مع السيد حسن نصرالله و"حزب الله" واركان الطائفة اللبنانية الشيعية الكريمة. وهو في ذلك يمثل ويجسد الاستمرار التاريخي للعلاقة الرحمية بين الحركة الوطنية اللبنانية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي قامت على اكتافها، وبين المقاومة الاسلامية لاسرائيل والاحتلال والعدوان الاسرائيلي.
3 ـ وفي الوقت ذاته يتمسك وليد جنبلاط بورقة العلاقة التحالفية المركزية مع البطريرك الماروني الجليل مار نصرالله بطرس صفير.
ومن خلال هذه العلاقة بين جنبلاط والبطريرك يجري العمل على توجيه مختلف سفن الاطراف "المسيحية" المعارضة في اتجاه تنظيف لبنان من بقايا مخلفات واوساخ المفوض "السامي" جدا رستم غزالة، ولكن بما لا تشتهي الرياح الاميركية ـ الاسرائيلية، وبما لم يكن يشتهي، ولا يشتهي الى الان، بعض ربابنة تلك السفن انفسهم من القادة "المسيحيين الدجالين"، من امثال امين الجميل وميشال عون، الذين ليسوا ـ في احسن الحالات ـ سوى "صيادي فرص" سياسية، ولا يريدون سوى ازاحة وصاية الدكتاتورية السورية ("حامية المسيحيين" سابقا، والمنبوذة منهم لاحقا) واستبدالها بالوصاية الاميركية ـ الاسرائيلية، او الوصاية الفرنسية، على لبنان. ولن نستغرب ان يعود بعض هؤلاء للعمل والترويج من جديد للوصاية السورية، بالتنسيق مع الدوائر الاميركية المعنية.
4 ـ واخيرا لا اخرا يتمسك وليد جنبلاط بالعلاقة الوثيقة مع عائلة الحريري وكتلة تيار "المستقبل" وقطاع رجال الاعمال والمعارضة السنية الوطنية المعتدلة.
ولا يستطيع سوى المغرض واعمى البصيرة الا يرى الان ان الوحدة الوطنية اللبنانية، بمواجهة الدكتاتورية السورية، كما بمواجهة الخطر الاسرائيلي والمخططات الاميركية، انما تمر عبر "الحلقة المركزية" التي تمثلها الان، على وجه التحديد والحصر: القيادة الوطنية الجنبلاطية.
ومن اجل التقرب من فهم التطورات الجارية على الساحة اللبنانية، من المهم إلقاء نظرة على "خطة العمل" التي اتبعها، ويتبعها وليد جنبلاط، للوصول الى ما تم الوصول اليه حتى الان:
أ ـ برهن وليد جنبلاط انه يدرك تماما ان "الثغرة" التي دخلت منها الدكتاتورية السورية الى لبنان، هي الحجة "التاريخية" البالية، التي اوجدها الاستعمار منذ مئات السنين، والتي تاجرت ولا تزال تتاجر بها اسرائيل، ونعني بها حجة "عقدة الخوف عند المسيحيين" و"حماية المسيحيين" (!!). ومن الملاحظ انه بعد الانسحاب السوري الاخير مباشرة، فإن الاصابع المشبوهة عمدت الى تنفيذ سلسلة من التفجيرات الاجرامية في المناطق المسيحية تحديدا. وهذا يدل ان "المايسترو" لا يزال هو ذاته، سواء كانت هويته اميركية او اسرائيلية، وهو لا يزال يلعب اللعبة القديمة ذاتها، ولكنه هذه المرة يلعب وهو مكشوف تماما، سواء كانت ادواته "سورية"، او "لبنانية" وبالاخص "مسيحية".
وطوال فترة الوجود الدكتاتوري السوري في لبنان، فإن الحجة ـ اللازمة التي كانت ترددها جميع الابواق المستفيدة من هذا الوجود، هو ان استمراره هو ضرورة لحماية "السلم الاهلي" المهدد على الدوام في لبنان. ولسد هذه "الثغرة"، ونزع هذ الحجة التقليدية البالية، تحرك وليد جنبلاط، اولا، باتجاه اعادة الوحدة الوطنية الى الجبل، بعد ان كانت قد اصيبت بخلل كبير في اعقاب معركة الجبل في 83 ـ 1985، التي خططت لها واشعلتها اسرائيل مع "القوات اللبنانية" العميلة، والتي كان لها هدفان:
ـ هدف اساسي ـ في حال الانتصار، هو: اقتلاع الدروز من الجبل وتشتيتهم، لضرب القاعدة الشعبية الاساسية للقيادة الوطنية الجنبلاطية،
ـ وهدف بديل ـ في حال الهزيمة، هو: زعزعة اسس الوحدة الوطنية في الجبل، كنتيجة للانعكاسات السلبية على الجماهير المسيحية العادية التي تحملت تبعات تلك المعركة دون ان تكون مسؤولة عنها.
وقد قام البطريرك الماروني الجليل مار نصرالله بطرس صفير بزيارته التاريخية الى مدينة دير القمر، في 2001، حيث التقى الزعيم الوطني وليد جنبلاط، في ما سمي "المصالحة الوطنية" الدرزية ـ المارونية والمسيحية في الجبل.
وهنا علينا ان نفتح قوسين لنشير انه بطبيعة الحال ان البطريركية المارونية لم يكن لديها ميليشيا، ارسلتها للقتال في حرب الجبل او غيرها. كما انها لم تكن مؤيدة لتلك الحرب القذرة التي شنتها "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع، وهي ـ اي "القوات" ـ التي تتحمل مسؤوليتها ومسؤولية تبعاتها بالكامل. فلماذا يعقد وليد جنبلاط "المصالحة" مع البطريرك، اي مع الطرف الذي لم يكن بالواقع "طرفا" في حرب الجبل؟!
ان هذه "النقلة" اذا صح التعبير هي من أهم الخطوات السياسية، التي ترقى الى مستوى الخطوة الستراتيجية التاريخية، التي قام بها جنبلاط، حيث انه بذلك قدم اسهاما كبيرا في عملية تدعيم وتكريس الزعامة المسيحية المعتدلة والمتوازنة للبطريكية المارونية. فمعلوم ان البطريركية كانت تاريخيا تنأى بنفسها عن انحرافات السلطة السياسية في مختلف عهود رؤساء الجمهوريات المسيحيين الموارنة. وقد تبدى ذلك بالاخص في عهد كميل شمعون، الذي سار في حينه في ركاب "حلف بغداد"، واراد تجديد رئاسته، مدعوما من الغرب الامبريالي، مما فجر الانتفاضة الشعبية في 1958. وقد وقف البطريرك الماروني حينذاك بولس المعوشي، رحمه الله، ضد سياسة شمعون، فأخذت ابواق الشماعنة والكتائب وغيرهم من "المسيحيين الدجالين" تسخر منه وتسميه "محمد المعوشي". ومنذ ذلك الحين بدأ "المسيحيون الدجالون" تطبيق خطة خبيثة مدروسة لاضعاف مركز البطريركية، وتشجيع الاتجاهات الطائفية المسيحية المتطرفة المرتبطة بالغرب الامبريالي واسرائيل. وقد تبدى ذلك ايضا في الحملة المشينة التي شنتها "القوات" على البطريرك انطونيوس خريش، سلف البطريرك صفير، واضطراره للاستقالة في 1986. واخيرا لا آخرا في الموقف العدائي لـ"الجنرال" ميشال عون من البطريرك صفير. وعلينا ان نعترف ان إضعاف الدور المعتدل والحكيم للبطريركية المارونية لعب دوره السلبي في ترك الحبل على الغارب لشتى اصناف المتطرفين والمغامرين والعملاء من "المسيحيين الدجالين"، وبالتالي في تفاقم الاوضاع اللبنانية، ولا سيما في ظروف الحرب الاهلية التي اندلعت في 1975. وانه لمما يلفت النظر ان البطريركية المارونية قد عارضت، على طريقتها، الاحتلال الاسرائيلي للبنان، ووقفت من البداية موقفا متحفظا، ثم معارضا، من الدخول السوري الى لبنان، في حين ان "المسيحيين الدجالين" ومنهم الذين يرفعون الان عقيرة اصواتهم ضد الوجود السوري، هم الذين سبق واستدعوا الدكتاتورية السورية الى لبنان، تماما كما استدعوا الاحتلال الاسرائيلي وساروا في ركابه وقاتلوا الى جانبه.
وان تعزيز المكانة القيادية للبطريركية المارونية، وإن كان يبدو في الشكل، وللجهلة، ونترك جانبا ابواق المغرضين والمشبوهين، وكأنه تعزيز للطائفية، الا انه في الواقع تعزيز للخط المسيحي المعتدل، وتحجيم ومحاصرة للاتجاهات المتطرفة والمغامرة والعميلة لـ"المسيحيين الدجالين".
وان تحقيق "المصالحة الوطنية" في الجبل على يد البطريرك الماروني هو امر ذو دلالة بالغة جدا سياسيا وتاريخيا، حيث تبدو البطريركية بوضوح بأنها جاءت لتصلح ما افسدته "القوات اللبنانية" خصوصا و"المسيحيون الدجالون" عموما.
و"تحت جبة البطريرك" اصبح بالامكان الدخول في تحالفات سياسية محلية مرحلية، انتخابية وغير انتخابية، حتى مع الاحزاب والقوى "المسيحية!"، من امثال جماعة سمير جعجع، وجماعة بشير الجميل، وجماعة ميشال عون، الذين يدخلون مرغمين تلك التحالفات مع القوى الاسلامية والوطنية بقيادة وليد جنبلاط، على قاعدة معارضة الوجود الدكتاتوري السوري، مقابل "تبليعهم" المواقف المعارضة للاحتلال والعدوان الاسرائيلي ضد لبنان.
ان تحقيق "المصالحة الوطنية" في الجبل لم يكن ممكنا بوجود الاحتلال الاسرائيلي، الذي كان سيعمل، ويدفع عملاءه ليعملوا، المستحيل لاجل افشال مثل هذه الخطوة. وبذلك فإن الانتصار الوطني والقومي التاريخي الذي تحقق في ايار 2000، بتحرير جنوب لبنان والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي الذي دام 22 سنة، كان شرطا مسبقا ومقدمة ضرورية لارغام "المسيحيين الدجالين" على طأطأة رؤوسهم وقبول "المصالحة الوطنية" في الجبل على اليد التي ارادوا في السابق عضها وكسرها، ونعني بها يد البطريركية المارونية.
وبتحقيق "المصالحة الوطنية"، سد وليد جنبلاط "الثغرة" التي دخل منها الوجود الدكتاتوري السوري الى لبنان. فبدأ العد العكسي لهذا الوجود. ونرى هنا بوضوح الترابط العضوي بين الاحتلال الاسرائيلي والوجود الدكتاتوري السوري و"الطابور الخامس" اللبناني.
ب ـ ان وحدة جبل لبنان (التي استعيدت بالمصالحة الوطنية التاريخية بين جنبلاط والبطريرك صفير) هي، جغرافيا وتاريخيا، سياسيا واقتصاديا، أمنيا وعسكريا، الاس الاساسي في استقرار ووحدة لبنان ككل، ومن ثم في الدور الاقليمي للبنان، ولا سيما العلاقات مع الشقيقة سوريا، من جهة، والمواجهة مع العدو الاسرائيلي، من جهة ثانية. ووليد جنبلاط هو الذي يمسك اليوم، والى اجل غير مسمى، بهذه الورقة الجيوبوليتيكية الحاسمة.
ج ـ في علاقته الممتازة مع الطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة، ولا سيما مع "حزب الله"، ومن خلال ذلك مع ايران وجميع الدول والقوى المعارضة لسياسة الهيمنة الاميركية، يضمن وليد جنبلاط استمرار ضبط "المسيحيين الدجالين" تحت جبة البطريرك، و"عدم تشجيعهم" على الانجرار نحو اتفاق "17 ايار" جديد مع اسرائيل (امين الجميل لا يزال الى اليوم يدافع بكل وقاحة عن "اتفاق 17 ايار" القديم الذي فشل بفضل نضالات وتضحيات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. وميشال عون يتبجح بأنه من صناع القرار 1559).
د ـ وفي علاقته الممتازة مع البطريرك، ومن خلاله مع مختلف القوى المسيحية الداخلية، والدول والقوى الخارجية المعارضة للوجود السوري في لبنان، يضمن جنبلاط "تذكير" النظام السوري وزبانيته و"طابوره الخامس" وجميع المنتفعين من الوجود السوري السابق في لبنان بـ"محاذير" الانجرار في اي مخطط لتخريب لبنان لمصلحة الدكتاتورية السورية، من جهة، واميركا واسرائيل، من جهة ثانية.
هـ ـ واخيرا لا آخرا، في علاقته الممتازة مع كتلة الحريري وتيار المستقبل والمعارضة الوطنية السنية المعتدلة، وعبرهم مع قطاع المال والاعمال، يضمن جنبلاط تحقيق:
1ـ التوازن الداخلي بين مختلف الكتل والجماعات السياسية والطائفية في لبنان.
2ـ الاستمرار في خطة التنمية الاقتصادية للبنان، واقامة التوازن بين استراتيجية المقاومة واستراتيجية التنمية، ولا سيما عن طريق مواجهة سلبيات سياسة "الانفتاح الاقتصادي" غير المضبوط والفساد المنفلت، التي تتناقض على خط مستقيم مع استراتيجية المقاومة والصمود الوطني.
3ـ التوازن في العلاقات العربية والاقليمية والدولية للبنان.
ان تحقيق "معجزة" انسحاب الدكتاتورية السورية من لبنان، ليس عن طريق الاجتياح الاميركي كما جرى في العراق، بل عن طريق هبة شعبية لبنانية، وبطريقة "سلمية" و"دمقراطية" و"حضارية"، يشهد على:
اولا ـ مستوى نضج الجماهير الشعبية اللبنانية، بمختلف انتماءاتها الدينية والمذهبية والحزبية والسياسية.
وثانيا ـ أهلية وجدارة القيادة الوطنية الجنبلاطية، التي قادت لبنان، عبر كل تعقيدات الوضع اللبناني، الى مرفأ الخلاص الوطني من الدكتاتورية السورية، دون الوقوع في احابيل المؤامرات الاميركية ـ الاسرائيلية والارتماء في احضان الغزاة الاميركيين، كما فعلت ـ للاسف الشديد ـ بعض اطراف المعارضة "الدمقراطية"، "الكردية" و"اليسارية" و"الاسلامية" وغيرها، في العراق.
وبطبيعة الحال ان "الشركة المحلية ـ الاقليمية ـ الدولية" للمتضررين من "المفاجآت" اللبنانية، بدءا من تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي وانتهاءا بطرد النظام الدكتاتوري السوري، لا تقف مكتوفة الايدي. وبالاضافة الى عمليات الاغتيال والتفجير والتوتير وتعكير الاجواء، التي بدأت بمحاولة اغتيال مروان حمادة ولن تنتهي باغتيال سمير قصير، فإن هذه "الشركة" تعمل ايضا، بالتأكيد، على سيناريوهات "ايجابية" لاعادة ترتيب الاوضاع لصالحها.
من هذه السيناريوهات، على سبيل المثال لا الحصر، عقد "صفقة" تفاهم اميركية ـ سورية جديدة حول لبنان. وتهيئة "جنرال" جديد (المرشح الاكبر الان هو الجنرال ميشال عون) كي يكون هو "الطرف" اللبناني في هذه "الصفقة"، بحيث يضطلع فيها بدور "شهاب جديد" او "لحود جديد" بعد ان احترقت ورقة لحود الاول. ويكون ذلك بمثابة تمهيد لتحقيق هدف نزع سلاح المقاومة واخضاع المخيمات الفلسطينية، وعقد اتفاقية "سلام" مع اسرائيل، من موقع "لبناني سيادي!"، له قواعد "شعبية"، غير محروق اسرائيليا كما كان عهد امين الجميل، وغير محروق سوريا كما هو عهد اميل لحود.
وهذا كله يقتضي طرح السؤال الكبير:
ـ ماذا يريد وليد جنبلاط؟!
انه من الصعب جدا الاجابة المباشرة على هذا السؤال. ولكن من خلال مراقبة التاريخ السياسي للرجل، بـ"تقلباته" و"ثوابته"، يمكن الاقتراب اكثر ما يكون من الحقيقة بالقول: إن وليد جنبلاط هو "مسكون" بكمال جنبلاط! وهو يحاول، بطريقته وامكانياته، وضمن التعقيدات اللبنانية وتهافت الاوضاع العربية والنكسة الكبرى على الساحة الدولية بعد انهيار المنظومة السوفياتية، ان يشق الطريق لتحقيق المشروع السياسي الذي استشهد لأجله كمال جنبلاط.
ان تعقيدات الوضع اللبناني تتكشف اكثر فأكثر عن الوقائع والتوقعات المفصلية التالية:
اولا ـ ان التطورات على الساحة اللبنانية اصبحت مرتبطة، اكثر من اي وقت مضى، بالتطورات على الساحتين الاقليمية والدولية، وبالعكس.
ثانيا ـ ان جميع الاطراف المحلية والاقليمية والدولية، المعنية بالشأن اللبناني، اصبحت حساباتها مرتهنة بمواقف وليد جنبلاط، الذي بات هو الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة.
ثالثا ـ ان رؤوس شخصيات مركزية لبنانية هي مطلوبة الان، ومنها على سبيل المثال السيد حسن نصرالله والبطريرك صفير، ولكن في مقدمة المطلوبين هو رأس وليد جنبلاط، كما كان رأس كمال جنبلاط، كشرط لا بد منه لتمرير اي مخطط او "صفقة" جديدة ضد لبنان والشعب اللبناني، وضد الثورة الفلسطينية، وضد حركة التحرر العربية برمتها.
ورابعا ـ ان التفاف جميع القوى الوطنية اللبنانية الواعية، من الشيوعيين واليسار العلماني الى "حزب الله"، وجميع الفئات القومية والتقدمية العربية المخلصة، حول قيادة وليد جنبلاط، يصبح مقياسا للوطنية الواعية والعروبة الصادقة، وشرطا لا بد منه لانقاذ لبنان ولشق الطريق لنهضة جديدة لحركة التحرر العربية.



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القيادة الوطنية الجنبلاطية والنظام الدكتاتوري السوري
- القضية الارمنية
- سوريا الى أين؟
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق
- وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟
- جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
- المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد ...
- المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
- من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
- الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن ...
- العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
- أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا ...
- مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو


المزيد.....




- -لقاء يرمز لالتزام إسبانيا تجاه فلسطين-.. أول اجتماع حكومي د ...
- كيف أصبحت موزة فناً يُباع بالملايين
- بيسكوف: لم نبلغ واشنطن مسبقا بإطلاق صاروخ أوريشنيك لكن كان ه ...
- هل ينجو نتنياهو وغالانت من الاعتقال؟
- أوليانوف يدعو الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من امتثال ...
- السيسي يجتمع بقيادات الجيش المصري ويوجه عدة رسائل: لا تغتروا ...
- -يوم عنيف-.. 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية على ...
- نتنياهو: لن أعترف بقرار محكمة لاهاي ضدي
- مساعدة بايدن: الرعب يدب في أمريكا!
- نتانياهو: كيف سينجو من العدالة؟


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - وليد جنبلاط: الرقم الاصعب في المعادلة اللبنانية الصعبة