|
أيّة علاقة بين الموظّف المتفرّد و الإدارة؟
فتحي الحبوبي
الحوار المتمدن-العدد: 4289 - 2013 / 11 / 28 - 07:05
المحور:
الادارة و الاقتصاد
---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- نشر هذا النصّ في نسخته الأصليّة باللغة الفرنسيّة، ثمّ ترجمه كاتبه إلى العربيّة. لذلك، فالمعذرة إن بدت بعض تعبيراته ثقيلة وغير موفّقة. ----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
يقول ، الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع ، ريموند آرون Raymond Aron: "إن علم الاجتماع لا يريد أن يعرف إلّا أشخاصا يتكرّرون، وطبقات معلنة أو مستترة-;- كل فرد منهم يصبح واحدا من بين كثيرين، مجهولا، ليست له أهمّية إذا بقي وحيدا متفرّدا (...) . بعيدا عن التوظيف، و دون الرغبة في بثّ الهلع والروع باطلاق النار بالكرات الحمراء على الإدارة en tirant à boulets rouges sur l Administration ، أؤكّد دون إمكانيّة الخطأ، أن هذه المقولة تفسّر جزئيّا، الحياة الصعبة لبعض الموظّفين التي لا تشبه بقيّة النّاس، و خاصة منها حياتهم المهنية، التي تجمد أو لعلّها تجمّد بفعل رغبة بعض المسؤولين، فتشكّل ما يشبه الإهانة للعقل والإعتداء الصارخ عليه، أو ما يشبه الحياة المشلولة، لشخص معوّق وتحت الصفر أو لعلّه أحمق وغير سويّ. ان هؤلاء الموظّفين المتفرّدين قد يعملون بشكل جيد ويبذلون جهودا جبّارة قد تصل بهم إلى أن يتصبّبوا عرقا غزيرا، خدمة لإداراتهم . لكن ذلك لا ينظر له بعين الرضا في مؤسّساتهم وبصفة أخصّ لدى رؤسائهم المباشرين. فيكون عملهم من قبيل الجهد الذي لا طائل منه. لكنّه، على أية حال، قد يتسبّب، بدلا من ذلك، في تصبّب رؤسائهم عرقا باردا لا يشتهونه لأعدائهم فضلا عن أحبّائهم. ولأنّ هؤلاء المسؤولين لا يشعرون بالذنب، فإنّهم لا يعطون مرؤوسيهم الحقّ مطلقا. وهذا لا أخاله إلّا نوعا من قصر النظر الإداري الذي لا يقدّر الجدارة و مزايا الرجال حقّ قدرها. إنّها حقيقة مريرة، لها وقع القنبلة لدى أقلّية من المسؤولين الذين لا ينقلون الحقيقة ، في محاولة منهم للاستفادة من الاشكالات في صلب مصالحهم الإداريّة ، بغرض إعاقة هذا الصنف من الموظّفين من التّمتّع، مثل نظرائهم ، بحقوقهم المشروعة في الترقية، إن على مستوى الرتبة أو على مستوى الوظيفة. بل إنّها تَصَرُّفاتٌ سَيِّئةٌ قادرة على إيقاف شَعْرَ الرّأسِ مِنَ الهَلَع agissement à faire dresser les cheveux sur la tête ، شبيهة بالتآمر، وتدلّ على عدم اعتبار لهؤلاء االموظّفين المهمّشين عبر تركهم تقريبا للموت كما يقول الفرنسيون"laissés pour mort". وذلك بسبب فرادتهم وحسب، التي ينظر إليها على أنها غير طبيعية و غريبة و ليس على أنّها ميزة إيجابية بل أو إبداعية. مع العلم أنّ هذا التفرّد قد يكون دليلا على شخصيّة استثنائيّة، وتفوّق غير عادي في أداء الواجب، وبالتالي يكون شاهدا على بوادر النبوغ والعبقريّة. إنّه من المسلّم به أنّه لا معنى للموظّف ولا فاعليّة له، إن لم يتصرّف في اتجاه تغيير بعض العادات السيئة التي، للأسف، غالبا ما نلاحظها في إدارتنا. لذلك، فعندما يواجه الموظّف اللّامبالاة، أو أي شكل من أشكال المقاومة، غيرا الواعية أو المفتوحة تجاه فكرة تغيير هذا السلوك المريض، الذي يعوق، "أن يعود لقيصر ما هو لقيصر"، فإنّه يشعر بالكبت والدونيّة، و يستنتج دون عناء أنّ الضروري بالنسبة له ليس فقط إنتقاد الوضع، ولكن أيضا، وهو الأهم، إنتقاد من تسبّبوا فيه-وهم المسؤولون- هذا هو بيت القصيد ومربط الفرس. وما يعتبر أكثر إثارة للقلق أن هذا السلوك هو، بقدر ما أعرف، يتعارض مع روح القوانين و التشريعات المتعلّقة بموظّفى الدولة، الذي يفترض تحقيق المساواة المطلقة بين موظّفين بنفس المستوى العلمي. بما يعني أيضا ضمان تكافؤ الفرص لهم. إلّا أنّ منح تمييز، أو مكافأة للبعض منهم، يبقى أمرا جائزا -دائما- عندما يتميّزون ويتفوّقون في عملهم من خلال تفرّدهم . وبالتّالي ، فإقرار ترقيات إستثنائيّة يستفيدون منها بشكل منهجي، يعدّ أمرا لا بدّ منه، ومن نتائجه بعث روح المنافسة بين الموظّفين وتكريس مزيدا من التحفيز لديهم. بما يؤثّر إيجابا في الخدمات الإداريّة المقدّمة إلى المواطن. إنّ تاريخ الفلسفة و العلم يبرز لنا عديد الأمثلة من بين الفلاسفة والعلماء الذين، بحكم تفرّدهم، لم يتمكّنوا من النجاح في دراستهم ، أو أنّهم قد برعوا في مجالات هي غير مجالاتهم. وهذا هو حال العالم الفذّ نيكولاس كوبرنيكوس مفجّر الثورة الفلكية، الذي درس الفنون دون أن يحصل على شهادة التخرّج. وذلك قبل التخصّص في القانون والطب، ثم التفوق والبروز بشكل لافت في علم الفلك، بفضل دروس تلقّاها من أستاذ متميّز، أصبح فيما بعد مساعدا له ومتعاونا معه. و لم يمنعه ذلك من التشكيك في النظام البطلمي القائم على مركزيّة الأرض، وبيان تناقضاته بإعلانه في كتابه الرئيس " دوران الأجرام السماوية " عن مبادئ علم الفلك الشمسي القائم على مركزيّة الشمس. وهي المبادئ التي هزّت بقوّة المجتمع العلمي في عصره، وفرضت تغييرات عميقة في جميع مجالات المعرفة الإنسانية. و هو أيضا حال كارل ماركس، الذي درس القانون والتاريخ والفلسفة و حصل على الدكتوراه في الفلسفة. ولكن أعماله الصحفيّة، هي التي جعلته على بيّنة من قصوره في مادة الاقتصاد السياسي ، ودفعته إلى الانخراط في بحوث معمّقة في الاقتصاد والسياسة، ليتمكّن في نهاية الأمر، بعد أكثر من 20 عاما من الكدّ والعناء، من نشر أهمّ أعماله على الإطلاق وهو كتاب "رأس المال". حيث تركّز مضمونه على إبراز التناقضات الداخليّة للنظام الرأسمالي . لذلك ، فقد أعتبر كارل ماركس واحدا من أكبر المنظّرين في الاقتصاد السياسي. ولعلّ تطبيق الماركسية اللينينية ، لأكثر من 70 سنة، في مختلف بلدان الشرق، هي أكبر دليل على أهمّيّة نظريّة ماركس إن في الإقتصاد او في السياسة . وهذا هو أيضا حال تشارلز داروين الذي كان، بعد تخلّيه عن دراساته الطبيّة واللاهوتيّة، قد أظهر في أعماله، تمكّنا حقيقيّا من علم الأحياء. فنظريته حول تطوّر الأنواع، التي أعلن عنها في كتابه " عن أصل الأنواع / نشأة الانواع الحيّة عن طريق الانتقاء الطبيعي " (On the Origin of Species by Means of Natural Selection )، والتي قلبت وزعزعت الأدلّة التاريخيّة حول أصل الإنسان، واعتبرت، رغم أن الجدل حولها لا يزال قائما حتى يومنا هذا، واحدة من الثورات العلميّة الأكثر أهميّة في العصر الحديث . وذلك -طبعا- بصرف النظر، عن المفهوم الديني للخلق. و هو كذلك حال ألبرت أينشتاين الذي ، بعد تعلّم ضعيف وسيّئ، أمكن له أن يحدث ثورة في الفيزياء بفضل نظريّته حول النسبيّة العامة والنسبيّة الخاصّة و اكتشافاته حول المفعول الكهروضوئي l effet photoélectrique. ولذلك فهو يعتبر أحد أهمّ رجال العلم على مرّ التاريخ. إن مغزى الحكاية و جوهر المسألة هو التذكير، ببساطة شديدة، بحقيقة ملموسة جيّدا، وهي - رغم أنّ كل الحقائق ليست دائما جيّدة لقولها - أنّ الوقت قد حان لهؤلاء المسؤولين الذين يهمّشون الموظّفين، لتغيير ممارساتهم تجاههم. وأنّه إذا ما أخذنا في الاعتبار الطابع الفريد والمتميّز لبعض الموظّفين، فإنّه يصبح لزاما على الدولة إعادة النظر في مسالة التمييز التقليدي بين الموظّف العادي و الموظّف الفريد، المتفرّد والمختلف، بفضل عبقريته، وإبداعه وتفوّقه. وينبغي لهذا التمييز، أن يشجّع هذا الرهط من الموظّفين، غير الراضين عن وضعهم، الباذلين لجهود كبيرة ومضنية- دون جدوى- والمحتلّين للرتب الأخيرة في الهرم الإداري ، فيجعلهم، يحتلّون ،آليّا، المراتب الأولى في ذات الهرم. وهو ما يعني، قطعا، أنّ يدبّ الرعب في قلوب رؤسائهم، الذين هم في معظمهم لا يستحقّون أبدا، المناصب التي يشغلونها. وهو ما يعني، أخيرا، أن العلاقة بين الموظّف المتفرّد و إدارته تتّسم دوما بانعدام الثقة من كلا الجانبين لأنّها مشوبة بالريبة والحذر الشديد. لهذه الاسباب وغيرها، فإنّ الإدارة-عموما- لا تؤدّي دورها كما هو منتظر منها، وخدماتها -للأسف- هي دون المأمول. المهندس فتحي الحبّوبي
#فتحي_الحبوبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإرهاب الفكري بين الشرق والغرب : محاكمة غاليلي وابن رشد نمو
...
-
في التباس الصلة بين مفهومي الخلافة والإسلام السياسي
-
السياسات القذرة في تونس ومصر ما بعد ثورتيهما
-
نعوم تشومسكي: الإستثناء الجميل زمن الرداءة الأمريكيّة
-
في الثورة التونسيّة والإرهاب والفوضى العمرانيّة
-
نيكولا دي كونْدرْسِيه: نهاية أليمة لعبقريّة عظيمة
-
عن الغرب و العالم العربي الاسلامي
-
الإنسان العربي بين الحلم واكراهات الواقع
-
تونس ومصر... ثورتان بين خطا الخيارات وتصحيح المسارات
-
الفكر الغربي وهلاميّة نهاية التاريخ
-
لا للتعسّف الإداري*
-
غزّة العزّة والإباء.. إشتدّي أزمة تنفرجي
-
المجلس التأسيسي التونسي إمبراطوريّة للجشع
-
لا للاستفزاز و لا للعنف المجاني واللصوصيّة المنظّمة
-
وقفات نضاليّة خارح الإتّجار ومنطق الغنيمة السياسيّة
-
الأجر الأدنى المضمون بين نوّاب المجلس التأسيسي التونسي والرئ
...
-
جولة في زحمة عنف ما بعد الثورة
-
عن الأسس النظريّة للدولة المدنيّة
-
نقّاد الفكر الديني وثالوث التكفير والإضطهاد والقتل
-
عن سيرورة تشكّل مفهوم الحداثة
المزيد.....
-
الصين تحظر تصدير مواد للصناعات العسكرية إلى أميركا
-
فايننشال تايمز: هل بدأت روسيا بدفع فاتورة الحرب؟
-
الوون الكوري الجنوبي يهوي عقب إعلان الأحكام العرفية
-
مصر تكشف عن موعد استحقاق ودائع سعودية بقيمة 5.3 مليار دولار
...
-
تونس.. عائدات السياحة تتجاوز 2.2 مليار دولار وسط توقعات قياس
...
-
وزير مالية إسرائيل: البرلمان سيصوت الأحد على موازنة 2025
-
قرار صادم.. رئيس كوريا الجنوبية يعلن الأحكام العرفية بالبلاد
...
-
استمرار تدهور مناخ الأعمال بقطاع السيارات في ألمانيا
-
بحضور ماكرون.. السعودية توقع اتفاقيات مع شركات فرنسية
-
مصر.. ساويرس يمنح الجامعة الأمريكية أكبر تبرع في تاريخها ويت
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|