|
نظرة تحليلية للاتفاقيات المنعقدة لأجل احتلال الشرق الأوسط وتقسيم كردستان
طلعت خيري
الحوار المتمدن-العدد: 4288 - 2013 / 11 / 27 - 23:43
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
نظرة تحليلية للاتفاقيات المنعقدة لأجل احتلال الشرق الأوسط وتقسيم كردستان
رستم جودي
مصالح الإنكليز في عموم العالم العربي وحاجتهم إلى قوة العرب السياسية والعسكرية لردع الطموحات الإقليمية الأخرى، كانت أهم الأسباب لاتخاذ موقف العداء تجاه الكرد. فلا وجود لكيان سياسي كردي مستقل في جدول أعمال الإنكليز وخاصة بعد أن حلت خلافاتها مع الأتراك في إرغامهم على التنازل عن الموصل، ومع الإيرانيين في إدامة وتوسيع امتيازاتهم على إنتاج النفط.
أدركت الشعوب العربية بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، بأنها قد خدعت وأفرطت في الثقة بالغرب عندما وجدت فيه المنقذ من التسلط العثماني، فسرعان ما كشفت عن اتفاقية سايكس-بيكو التي تم من خلالها تقسيم العالم العربي إلى مناطق نفوذ، كذلك وعد بلفور الذي يضمن إمكانية إنشاء دولة يهودية في فلسطين وغيرها من الأمور التي لم تكن في الحسبان، وقد تم حينها التعبير عن خيبة الأمل هذه بعبارة المستجير من الرمضاء بالنار .وعندما بدأ حلم الاستقلال يزين مخيلة العرب، صدموا بعمليات نزول الجنود الأوروبيين على شواطئهم وتعرضت بلادهم مرة أخرى للاستيلاء من قبل القوى الأجنبية التي كانوا يعتبرونها حتى الأمس القريب قوة صديقة وحليفة ساعدتهم على التخلص من الحكم العثماني ووعدتهم بالاستقلال. وكان من الطبيعي أن تكون حصة الأسد من التركة العثمانية للإنكليز، نظرا للمكانة التي كانت تتمتع بها الإمبراطورية البريطانية في العالم. يقال أن الإنكليز يبدؤون باللعبة في النقطة التي يرغب بها الآخرين، لكنهم دائما يعملون على أن تسير في المسار الذي يؤدي إلى ما يبتغونه هم، ومن أجل الوصول إلى أهدافهم يتبعون كل الأساليب بغض النظر عن نزاهتها. وبالفعل فقد بدؤوا مع العرب من النقطة التي كانوا يريدونها بوعود الخلاص والاستقلال، بينما كان الهدف الأساسي والحقيقي هو السيطرة وبسط النفوذ على المنطقة العربية. فالمنطقة كانت في غاية الأهمية من كافة النواحي للغرب الرأسمالي الصاعد؛ فهي تعتبر خزينة من المواد الخام الأولية التي باتت المصانع في الغرب بأمس الحاجة إليها، بالإضافة إلى كثافة سكانية مؤهلة لان تكون سوق تدر على الغرب أرباح لا يستهان بها وموقع استراتيجي مهم في إطار تكامل النظام الاستعماري وخاصة التواصل مع مناطق النفوذ في شرق أسيا، وامتلاكها لاحتياطات ضخمة من عنصر البترول الذي ازدادت أهميته مع التطور الصناعي. كل ذلك كان يسيل لعاب الغرب الرأسمالي، لكن تناقضاته داخل القارة الأوروبية ووجود الدولة العثمانية كانت عوامل تحول دون إمكانية السيطرة على هذه المنطقة رغم أهميتها. ثم جاءت نتائج الحرب العالمية الأولى لتزيل تلك العقبات وتترك الباب مفتوحا أمام الغرب لتحقيق طموحاته التي طالما حلم بها. فبعد الهزيمة التي مني بها في الحرب بات من المستحيل إنقاذ "الرجل المريض" من الموت وباتت أولويات الحركة القومية التركية تنحصر في إنشاء دولة مركزية قومية على أنقاض الإمبراطورية، متخلية عن توجهاتها في إحياء الإمبراطورية مرة أخرى لإدراكها أن ذلك مستحيل. والعرب كانوا يعيشون حالة ضعف ومجزؤون فيما بينهم، يصعب عليهم من الناحية العملية النضال من اجل الاستقلال وبناء الدولة العربية الواحدة اعتمادا على قواهم الذاتية، فما كان لهم إلا أن يتوكلوا على الإنكليز. أما إيران فكانت مقسمة من الناحية العملية بين النفوذ الروسي والإنكليزي يديرون البلاد وفق ما تمليه مصالحهم، مقابل أموال يدفعونها لأسرة الكاجار التي كانت تحكم إيران اسميا، لذلك لم يكن من الممكن على هذا الأساس أن تتطلع إيران إلى لعب دور إقليمي في المنطقة، بل إن سقف تطلعاتها لم يكن ليتعدى القدرة على إنشاء دولة مركزية جديدة على أنقاض ما تهدم، وهي العملية التي نجح نسبيا في تحقيقها رضا شاه. كان وضع الكرد أكثر تخلفا؛ فقد وجدوا أنفسهم في خضم التطورات دون معرفة التعامل معها، ودون أن يعلموا بأنه كان في انتظارهم مستقبل مأساوي يتعرض فيه وجودهم كأمة لخطر الزوال ويضطرون لدفع ضريبة الدم بشكل متواصل طوال قرن كامل من الزمن. وتخلى الروس مؤقتا عن تحقيق حلمهم في الوصول إلى مياه المحيط الهندي والخليج الفارسي، حيث تعذر عليهم الاستمرار في الحرب بعد أحداث ثورة أكتوبر في الداخل، رغم الانتصارات النسبية التي كانوا يحققونها في جبهات القتال ضد الجيوش العثمانية، وبدلا من الاستمرار في الحرب تم ترجيح توقيع معاهدات الصلح مع القوى المختلفة ليتسنى للثورة الفتية التقاط الأنفاس والتوجه نحو البناء الاشتراكي. هكذا تمكنت الجيوش الاستعمارية الفرنسية والإنكليزية من السيطرة بسهولة وتقسيم التركة العثمانية في ظروف غياب الوريث الشرعي أو انشغاله بقضايا أخرى، مع ذلك لم تسير الأمور على الشكل الذي كان قد تم التخطيط له مسبقا، لان التاريخ يعلمنا أن التوجهات السياسية والمخططات رغم ما تتمتع به من خصائص، تواجه دائما المشاكل التنفيذية، وهذه المشاكل قد تؤثر في كثير من الأحيان على مجريات الأحداث. فالقدرة التنفيذية تتعامل على الأغلب مع أمرين؛ أولهما درجة الاستعداد والإمكانات وحشد الطاقات ومبررات وحجج وأمور عديدة أخرى يأخذها بعين الاعتبار الطرف الذي يجد نفسه بصدد القيام بعمل ما، أما الأمر الآخر فيتعلق بالشروط الموضوعية التي ستجري فيها العملية؛ الظروف المحيطة وموازين القوى والمواقف السياسية النابعة عن توجهات فكرية وأرضية ثقافية وما إلى ذلك من قضايا. ونجحت ثورة أكتوبر رغم كل العوائق في بناء دولة جديدة على مساحة جغرافية شاسعة تجاور مجموعة من الدول في شرق أوروبا واسكندنافيا والشرق الأقصى وشرق أسيا والشرق الأوسط، وهو عامل جديد يظهر على الساحة السياسية في العالم. والعملية هنا تتجاوز نقاط الخلاف التي كانت موجودة سابقا بين روسيا القيصرية ودول غرب أوروبا؛ فالحديث هنا يدور حول نظام سياسي جديد يعد الشعوب بالرفاه والتقدم والمساواة والعدالة الاجتماعية، ويشد انتباه الطبقات الفقيرة في العالم الرأسمالي، ويشكل قوة دفع إلى رغبة شعوب المستعمرات إلى الاستقلال والحرية. والغرب بات مضطرا إلى التعامل مع الأمر الواقع واخذ هذا العامل بعين الاعتبار، بالإضافة إلى أن الحركة القومية التركية ومن خلال الدعم والمساندة التي حصلت عليها من الاتحاد السوفيتي، ظهرت قوية وتمكنت من بناء نظام جمهوري يسيطر على اكبر قدر ممكن من الأراضي التي كانت تحكمها الدولة العثمانية، ووصل التعاون مع السوفيت إلى درجة توقيع معاهدة الدفاع المشترك في عام 1925. وتمكن حاكم إيران الجديد رضا شاه من بناء دولة مركزية، وكان يطمح إلى الاستقلالية وتحويل إيران إلى دولة قومية يتم فيها صهر الثقافات الأخرى في بوتقة الثقافة الفارسية، على غرار ما شهدته بعض القوميات في أوروبا في القرن التاسع عشر. بالإضافة إلى كل ذلك كان هناك عامل الشعوب، التي توجهت إلى النضال بعد إدراكها أبعاد السياسة الاستعمارية الأوروبية، وشهدت المنطقة مظاهر عديدة من المعارضة استمرت حتى الستينات من القرن الماضي، أسفرت عن جلاء الجيوش المحتلة عن المنطقة. على ضوء ما تقدم وجدت القوى الاستعمارية نفسها مرغمة على القيام ببعض التعديلات على نصوص المعاهدات التي أبرمت مسبقا فيما بينها، نظرا لتعذر تطبيقها كما هي في إطار المستجدات التي ظهرت على الساحة الدولية والإقليمية، وكان الأمر بحاجة إلى مزيد من المعارك والحروب وتوقيع المزيد من المعاهدات على أساس ذلك؛ فكانت معاهدة سيفر في 1920 واتفاقية أنقرة بين الأتراك والفرنسيين عام 1920 ولوزان 1923 وأنقرة بين الإنكليز والأتراك في 1926 وغيرها التي أسفرت عن رسم حدود واضحة تمارس من خلالها القوى المختلفة سيادتها. وبقيت مع ذلك قضايا عالقة ومفاهيم قابلة للتأويل في العلاقات بين القوى حسب الشروط المختلفة، مثل قضايا الموصل ولواء اسكندرون وبعض الجزر في الخليج وقضية الكويت ووضع فلسطين ….الخ . وبذلك تمكن الإنكليز من إضافة أهم بقاع العالم من الناحية الإستراتيجية إلى ممتلكات التاج البريطاني، وباتت الطرق المؤدية إلى الهند والعائدة منها أكثر أمانا وتم السيطرة على منابع النفط التي زادت أهميتها الحيوية سواء كان في زمن الحرب أو السلم. ربما أنهم كانوا يتمتعون بإمكانات كبيرة بالمقارنة مع غيرهم؛ حيث كانوا يعيشون أقوى وأغنى مراحل تاريخهم لذلك لم يترددوا في العمل على إحكام السيطرة فعليا على المنطقة الممتدة من ميزوبوتاميا إلى وادي النيل منبت الحضارات وموطن الثروات، وممارسة النفوذ على المناطق المجاورة. فالإنكليز كانوا يبنون نظام عالمي جديد على أساس التطورات التي شهدتها مجالات الإنتاج المختلفة، وكان تنظيم خارطة الشرق الأوسط في هذا الإطار ذو أهمية حياتية، وعلى هذا الأساس كان تناول الإنكليز للأوراق في المنطقة في إطار ما يخدم مصالحها، والمصالح تأتي قبل كل شيء، وقد تحدث عن ذلك بكل صراحة أحد رؤساء الحكومات في العهد الفيكتوري دزرائيلي حين قال: "لا يوجد لبريطانيا أصدقاء دائمين، بل هناك مصالح بريطانية دائمة".ويمكن تناولها على النحو التالي : كان لابد من إعاقة الميول والرغبات التركية والفارسية في بناء دول فتية مركزية قادرة على القيام بأدوار إقليمية، ولهذا حاولت من جهة الاستفادة من الانتفاضات الكردية وخاصة في شمال كردستان للضغط على تلك الدول وابتزازها وبالتالي الحصول على أكبر قدر ممكن من التنازلات، فتعامل الإنكليز مع الحركة الكردية لم يكن ليتعدى إثارة القلاقل للأتراك والفرس واستخدامهم كورقة ضغط وطعنهم من الظهر بعد أن يتم لهم الحصول على التنازلات التي يريدونها. لهذا نجد أن مبادئ السياسة الإنكليزية في الشرق كانت تتعارض مع إقامة وطن مستقل للكرد، وكان من السهولة بمكان الاستفادة من قوة الكرد لابتزاز الآخرين، والعمل دائما على إعاقة هذه القوة من التحول إلى إرادة سياسية قادرة على التحكم بوطنها وذلك في ظروف افتقار الكرد إلى طليعة سياسة وطنية قادرة على تمثيل تطلعات الشعب بأكمله إلى الحرية والاستقلال. أما من الجهة الثانية فكان الواقع العربي؛ حيث وجدت بريطانيا أن القوة التي من الممكن أن تحدث التوازن تجاه الميول القومية الفارسية والتركية، هي ما يتمتع به العرب من مزايا؛ دورهم في نشر الرسالة الإسلامية وموقعهم الجيوبوليتكي والقوة السكانية وتمركزهم على اكبر احتياطات للنفط في العالم، هذه الأمور جعلت الإنكليز يفكرون بترجيح الورقة العربية. وعلى خلاف تعاملهم مع الكرد، كانت السياسة الإنكليزية تهدف إلى إنشاء مونارشيات عربية تتمتع نسبيا ببعض القوة في ظل الانتداب، وقد قيل عن وزير المستعمرات حينها والذي قاد الإنكليز فيما بعد في الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وستون تشرشل بأنه "صانع العروش"، فكل العروش العربية التي نصبت سواء في الخليج العربي أو وادي الرافدين أو وادي النيل كانت إنكليزية الصنع، وكان الهدف من ذلك منع الأتراك والفرس من التحول لوحدهم إلى قوى ذات نفوذ إقليمي في المنطقة. مصالح الإنكليز في عموم العالم العربي وحاجتهم إلى قوة العرب السياسية والعسكرية لردع الطموحات الإقليمية الأخرى، كانت أهم الأسباب لاتخاذ موقف العداء تجاه الكرد. فلا وجود لكيان سياسي كردي مستقل في جدول أعمال الإنكليز وخاصة بعد أن حلت خلافاتها مع الأتراك في إرغامهم على التنازل عن الموصل، ومع الإيرانيين في إدامة وتوسيع امتيازاتهم على إنتاج النفط. بعد ذلك فان السماح لتطور الحركة الكردية كان سيؤثر سلبا على مكانة الإنكليز في العالم العربي، خاصة وان قسما مهما من وطن الكرد أصبح جزء من العراق وسورية، وكان ترجيح الإنكليز لصالح العرب، وقد ظهر ذلك واضحا من خلال المعارك التي دارت بين الحركة الكردية بقيادة الشيخ محمود البرزنجي والقوات الإنكليزية في العشرينات من القرن الماضي، والتي أسفرت عن تصفية تلك الحركة ونفي قائدها. ويبدو أن إنكلترا ما تزال مستمرة في موقفها العدائي تجاه الكرد حتى يومنا الحالي أيضا، ولا يمكن العثور على حل للمسألة الكردية في آفاق سياستها الموجهة إلى الشرق الأوسط، وقد ظهر ذلك من خلال الدور الذي لعبته في إطار المؤامرة الدولية التي استهدفت الشعب الكردي في شخص قائده الوطني القائد آبو. بالطبع كان لابد للإنكليز من أن يتخذوا مجموعة من التدابير التي من شانها أن تحول دون تحول العرب إلى قوة تهدد مصالحهم؛ فعملوا من جهة على إثارة وتعميق خلافات تترك بظلها على توجهات الوحدة. وقد نجحوا في ذلك إلى أبعد الحدود، فمصالح الملوك طغت على الانتماء القومي العام وأضعفت الحساسية إزاء القضايا القومية المشتركة. من جهة أخرى كان هناك مشروع إقامة دولة يهودية في فلسطين؛ فهذا المشروع الذي تمخض عن إنشاء دولة إسرائيل لم يكن في أي من الأحوال ذو دوافع أخلاقية إزاء المجازر التي كان يتعرض لها اليهود في العالم، ولا إعادة حقهم في "ارض الميعاد"، بل كان مشروعا يهدف إلى لجم التوجهات القومية لدى العرب، وامتلاك نقطة ارتكاز أكثر استقرارا وضمانا. فنظرا لأهمية المنطقة كانت القوى الاستعمارية تبحث عن ضمانات توفر الاستمرارية لمصالحها، ويبدو أن هذه الضمانات لم تكن لتتحقق فقط من خلال العروش، بل كان الأمر يتطلب قوة أخرى تدخل المعادلة، وإسرائيل استكملت الشروط، فهي تعتبر جسم غريب وبالتالي ستكون علاقاتها مع الغرب الاستعماري علاقات أكثر من إستراتيجية بل هي علاقات مصيرية، وستكون في عداء مستمر مع العرب، فهي تهدد أمنهم ووجودهم القومي،وهم يرون فيها بنية مصطنعة لابد لها من الزوال. وإذا كانت إحدى قوائم إسرائيل هي الحجج التوراتية والحلم الصهيوني في ارض الميعاد، فان القائم الآخر والاهم هو تأمين متطلبات النظام الاستعماري الغربي، لان هذا النظام أدرك حاجته إلى مخفر يتمتع بكل مظاهر القوة، يقوم بمهام حراسة مصالح الغرب ويجد من القيام بهذه المهمة مبررا لوجوده أيضا. وباتت دعائم الهيمنة الإنكليزية هي استخدام العرب ضد الأتراك والإيرانيين وإعاقة أحلام هؤلاء الإقليمية من التحقق، واليهود ضد العرب لمنعهم من التوصل إلى صيغ وحدوية وتمتعهم بالعناصر التي تجعلهم أسيادا حقيقيون على أوطانهم، وإنكار حق الكرد في التحرر وبذلك كان "السلام البريطاني" في المنطقة قائم على المزيد من التنازلات من تركيا وإيران، وجسم عربي ممزق ومتفكك، وكرد يتعرضون للإبادة، وإباحة كل الأساليب والوسائل لإنشاء دولة إسرائيل. بريطانيا كانت تعيش ذروة انتصاراتها، وإذا كانت الذروة تعني نقطة النهاية في الصعود، فمن البديهي أن بعد الذروة ستأتي عملية النزول، ومهما بدا الأمر غريبا فان ما تحقق فعلا بعد الحرب العالمية الثانية كان تعبيرا عن مرحلة النزول التي أصابت النظام الاستعماري التقليدي، فنتيجة نضال شعوب المستعمرات وما أتت به الحرب العالمية من أهوال، وجد هذا النظام نفسه منهك القوى عاجزا حتى عن ترقيع ما مزقته الحرب، وظهرت عناصر جديدة أكثر فاعلية في المعادلة الدولية؛ الاتحاد السوفيتي ورغم ما تعرض له من خسائر تمكن من الخروج منتصرا، بل تمكن من ضم مجموعة من دول شرق أوروبا إلى نظامه بالإضافة إلى الصين. والولايات المتحدة الأمريكية ظهرت على الساحة كقوة في غاية التأثير نظرا لما تتمتع به من قوة مادية وعسكرية، خاصة أنها كانت نسبيا في منأى عن تحمل أعباء حربين عالميتين. وظهرت حركات التحرر الوطني كقوة فاعلة في العديد من أنحاء العالم تناضل ضد مختلف أنواع الاستعمار والتحكم الأجنبي. واهتزت مكانة الإنكليز في إيران بعد حركة مصدق، وفشلت في الحفاظ على نفوذها هناك مضطرة إلى إخلاء الميدان للولايات المتحدة، ثم جاءت الهزيمة التي تعرضت لها قوات العدوان الثلاثي المؤلفة من إنكلترا وفرنسا وإسرائيل، في حرب السويس عام 1956، لتشكل الشعرة التي قضمت ظهر البعير بالنسبة للنظام الاستعماري القديم، وتهاوت العروش في مصر والعراق، والبقية لم تكن في منأى عن الخطر. وكان العالم يشهد أفول نجم "السلام البريطاني"، ليلمع بعده نجم آخر هو نجم "السلام الأمريكي". وقد اضطر الإنكليز إلى تسليم دورهم القيادي في النظام الرأسمالي للأمريكان بعد أن ذاقوا مرارة الهزيمة، وكانت أهم المفاتيح التي سلمت هي مفاتيح الشرق بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص. أدركت الولايات المتحدة إنه من غير الممكن إحياء النظام الاستعماري القديم، لكنها مع ذلك أدركت الأهمية الحياتية للمنطقة بالنسبة لنظامها، ومع مرور الوقت كانت تزداد أبعاد هذه الأهمية وضوحا. فمن الناحية العملية كان لابد من وراثة ما تركه الإنكليز، لكن الأمور لم تكن سهلة والمسائل بالغة التعقيد، فالحديث يدور قبل كل شيء عن ميراث تركه نظام مهزوم؛ القوة العسكرية التي كانت تتمتع بها أمريكا كانت تؤهلها للقيام بنشر قواتها في كافة مناطق العالم، وتعرفت شعوب الشرق الأوسط على الأسطول السادس منذ الخمسينات من القرن الماضي، وهي أول من امتلكت السلاح الذري وقامت ببناء قوات بحرية في غاية التجهيز وقوة طيران ضخمة. أما قدراتها المادية فقد مكنتها من التحكم بأوروبا الغربية وجعلها تدور في فلك السياسة الأمريكية، فقد وفرت لدول أوروبا الغربية الأموال الكافية لتتمكن من خلالها ترقيع اقتصادياتها و أعمار ما خربته الحرب، ومقابل ذلك كان تنازلها عن مناطق النفوذ في العالم، ولم يبقى لأوروبا الغربية وخاصة إنكلترا إلا أن تقدم "النصح" لصانعي القرار في أمريكا، نظرا لما يتمتعون بها من خبرات وتجارب، وتأييد المواقف الأمريكية في المحافل الدولية. واليوم أيضا نجد أن ما يجري في الشرق الأوسط هو خليط من القوة العسكرية والقدرات المادية الأمريكية مع الفكر السياسي الإنكليزي، من هذا المنطلق يتم التدخل في المنطقة بالطابع الانكلو سكسوني أو الانكلو أمريكاني. لقد تم ضم تركيا إلى حلف الناتو وتم التركيز على دورها ضد الخطر السوفيتي على أنها الجبهة الجنوبية للحلف، أما في إيران فقد تمكنت المخابرات المركزية الأمريكية من التخلص من إدارة الدكتور مصدق إثر عمليات دامية أعادت العرش من خلالها مرة أخرى للشاه، محولة بذلك إيران إلى مخفر متقدم ليس فقط للتحكم بما تتمتع به إيران من ثروات، بل لإعاقة أي تطور ثوري تحرري في كل منطقة الخليج. أما بالنسبة للعرب، فقد عملت الولايات المتحدة على تقوية المونارشيات التي كانت تتعرض للاهتزاز جراء تطور الحركة القومية التحررية العربية، فقامت بتحديث جيوشها لكي تتمكن من قمع ردود الفعل الداخلية أو التصدي لهجوم خارجي، مع العلم أن الأساطيل الأمريكية الحربية في البحار كانت مستعدة للتدخل في اللحظات الحرجة، وفي هذا الإطار يمكن تقييم السياسة الأمريكية في العالم العربي في مجموعة من النقاط تسعى من خلالها إلى تحقيق أهداف واضحة سنحاول تناولها، مع العلم أن هذه السياسة لم تتبع نفس المسار وقد طرأ عليها تغيرات مهمة ولدت لدى البعض حالة من الارتباك والصدمة، خاصة بعد أن تعرض النظام الاشتراكي القائم الذي كان يقوده الاتحاد السوفيتي للانهيار. تسعى الولايات المتحدة لقيادة العالم، وهي تزيد من إصرارها في هذا المجال لاسيما بعد زوال العائق السوفيتي، وهي لهذا بحاجة إلى مناطق ارتكاز إقليمية في مختلف بقاع العالم، والشرق الأوسط يمتاز بموقع جغرافي مهم في هذا المجال. مهما بلغت درجة التطور التقني فانه من الصعوبة بمكان على الولايات المتحدة إدارة المعارك في أفغانستان أو العراق على سبيل المثال من فلوريدا؛ فبعد المسافات يعيق ذلك. وقد ظهرت أهمية هذه المسألة بشكل واضح، حين رفض البرلمان التركي السماح للجيوش الأمريكية باستخدام الأراضي التركية والقواعد الموجودة هناك في الحملة ضد العراق، وكان قرارا أربك الإدارة الأمريكية. فلو فرضنا على سبيل المثال أن الدول الخليجية أيضا أقدمت على موقف مماثل، لكان بمثابة الكارثة بالنسبة للولايات المتحدة. من هذا المنطلق فإنها في سعي دائم للتمركز في المنطقة، وتعمل دائما على رسم خريطة سياسية في المنطقة تخدم أغراضها العسكرية للسيطرة على العالم. وان اكتشاف مصادر الطاقة في القوقاز وآسيا الوسطى، بالإضافة إلى مصالحها الحيوية في شرق آسيا تزيد من أهمية المنطقة، خاصة أنها مثلت على الدوام دور الجسر، وهي الآن مؤهلة للعب دور محطة لعبور المواد التي تحتاجها المصانع الأمريكية. وان التعامل مع الأنظمة العربية يتم على أساس توفير فرص سهلة لحركة الجيوش الأمريكية؛ حيث السماح دون أي معارضة لاستخدام المجالات الجوية والشواطئ وحتى مراكز القيادة وغيرها من مما تحتاجه العمليات العسكرية. تملك المنطقة العربية وخاصة دول الخليج القسم الأكبر من الاحتياطي العالمي للبترول الذي يعتبر أساس الإنتاج الصناعي الأمريكي، وأمن هذه الثروة كان وما يزال الشغل الشاغل للإدارات الأمريكية المتعاقبة، فهي تحصل تقريبا على ثلثي ما تحتاجه من هذه المادة من هذه المنطقة، لهذا تعتبر مسألة حياة أو موت حتى السوفيت كانوا يراعون هذا الجانب في تعاملهم مع المنطقة وكانوا يتوخون الحذر ازاء المساس بالمصالح البترولية الأمريكية، وقد أدركت الولايات المتحدة خطورة الموقف حين حاول العرب استخدام سلاح البترول في حرب عام 1973 مع إسرائيل، ولتجاوز وقوع مثل هذه الأزمات زادت من تواجدها العسكري في المنطقة وعمقت الروابط مع الأنظمة العربية المصدرة للنفط لتصل إلى مستوى الاستراتيجي، فالأمر لم يقف عند حد الاستفادة من بترول العرب بل تم استخدام ورقة البترول العربي لما تتمتع به من قوة في السوق لابتزاز الآخرين أيضا. فالدول العربية قادرة على التحكم بالأسعار وتحديد سقف الإنتاج وما غيرها من الأمور التي من شانها أن تساعد الولايات المتحدة على إمكانية فرض سيطرتها على العالم. فقد عملت على احتواء النظام التقدمي في جنوب اليمن وجندت الجيش الإيراني لقمع الثورة في عُمان ولم تتردد في شن الحرب على العراق بعد محاولة النظام العراقي السابق احتلال الكويت وحتى الحرب الأخيرة على العراق كلها أمور تأتي في مقدمة أسبابها ضمان المصالح البترولية الأمريكية. حاول السوفيت الاستفادة من التوجهات التحررية العربية وابرم معاهدات للتعاون والصداقة مع مجموعة من الدول العربية مثل مصر وسورية واليمن الجنوبي، البعد القومي لهذه التوجهات كان يشكل خطرا على الأنظمة التابعة للغرب وتحول العالم العربي إلى ساحة للصراع بين القطبين في العالم، فالاتحاد السوفيتي كان يحاول الاستفادة من أي فرصة ترسخ تواجده العقائدي والعسكري والسياسي في المنطقة،والحكومات العربية التي كانت في موقع المواجهة مع الغرب وإسرائيل تمكنت من تقوية مواقعها على أساس الدعم والمساندة التي كان يقدمها السوفيت في كافة المجالات حتى انه يمكن القول إن المواقف الراديكالية العربية كانت تعتمد إلى حد بعيد على حالة التوازن بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي ولكن الأنظمة العربية وبحكم هويتها الطبقية كانت تخشى من أن الوجود السوفيتي سيؤدي إلى تقوية الأحزاب الشيوعية والأفكار الاشتراكية التي ستهدد وجودها، فهذه الأنظمة كانت تستخدم سلطة الدولة لتقوية مواقعها الاقتصادية، فهي رغم الشعارات التي كانت ترفعها والتي تتحدث عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ، كانت ذات توجه رأسمالي،ولكن تناقضاتها مع إسرائيل كان يؤثر سلبا على علاقاتها مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة التي حاولت دائما احتواء هذه الأنظمة وقد نجحت في إبعاد مصر عن مجال النفوذ السوفيتي وكذلك عن مواقع الصراع العربي الإسرائيلي، ودفعت إسرائيل لضرب الحركة الوطنية اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية وحاصرت سورية بالإضافة إلى السياسات التي استهدفت النظام العراقي، وتصفية النظام في اليمن الجنوبي وتعرضت ليبيا للهجمات العسكرية والحصار الاقتصادي إلى جانب ذلك كانت تستمر في تزويد الأنظمة التابعة لها وخاصة في الخليج بالأسلحة الحديثة والخبرات الفنية مع اتخاذ التدابير التي من شأنها أن تمنع استخدام هذه الأسلحة والقدرات ضد إسرائيل.وقد سعت الولايات المتحدة إلى ضم الدول العربية إلى الجهود الموجهة ضد الخطر السوفيتي في إطار الحرب الباردة وتنظيم هذه الدول في إطار أحلاف ومعاهدات إقليمية لتطويق الاتحاد السوفيتي وتركت لها حرية اختيار الأساليب المناسبة لقمع أي توجه اشتراكي في الداخل.وانتهاكات حقوق الإنسان تحولت بمجملها إلى قضايا سجلت ضد مجهول طالما تعلق الأمر بحماية الأنظمة الدكتاتورية والمونارشية ومكافحة الخطر الشيوعي. الأمن الإسرائيلي كان وما يزال من أولويات الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، فهي تدفع سنويا أموال طائلة لتنفيذ برامج التسلح الإسرائيلي لان ضمان المصالح الأمريكية مرتبط إلى درجة ما بمقدار ما تتمتع به إسرائيل من قوة عسكرية، فهي رأس الحربة ضد أي توجه عربي نحو الحرية والتقدم، وتعمل بالنيابة عن القوى الإمبريالية، وتشكل امتدادا لسياساتها في المنطقة، وهي مهمة خاصة بعد انقضاء عهد الاستعمار القديم وتواجده العسكري في البلدان، وجودها في المنطقة شكل البديل كقوة عسكرية قريبة من مركز الأحداث وعلى أهمية الاستعداد للتدخل عندما تتعرض مصالح الغرب للخطر، وهي مهمة من جهة أخرى لما يتمتع به الرأسمال اليهودي من تأثير على القرار السياسي في الولايات المتحدة ذاتها، وتم إرغام مصر على توقيع "اتفاقية سلام" مع إسرائيل وبذلك تكون قد نجحت في تهميش اكبر قوة عربية وإبعادها عن القضايا المصيرية للشعوب العربية في الوقت الذي كانت تأمل فيه تلك الشعوب أن تقود مصر نضالها في سبيل تحقيق طموحاتها القومية.وأغرقت لبنان في مستنقع الاقتتال الداخلي وتعرض الفلسطينيين للمجازر وظل السيف الإيراني يهدد رقبة العراق في زمن الشاه، ثم حرض النظام العراقي على شن حرب ضد إيران ما بعد الشاه وكل ذلك لتبقى إسرائيل بعيدة عن أي خطر يهدد وجودها، أو يمنعها من القيام بدورها على أكمل وجه. من الممكن ملاحظة الفارق بين الإنكليز والأمريكان في السياسة التي يتم إتباعها في الشرق الأوسط وخاصة في العالم العربي فالتطور التكنولوجي الهائل أدى إلى زيادة أهمية البترول وبالتالي بات الأمر يتطلب تركيز أكثر على مصادره، ونزعة الهيمنة العالمية زادت من الأهمية الإستراتيجية للمنطقة، ولم يعد للأنظمة العربية دورا يذكر في إحداث التوازن مع تركيا وإيران لأنهما تحولا إلى تابعين تربطهما روابط عضوية مع الولايات المتحدة على الأقل حتى نشوب الثورة في إيران،بل أن سلوك بعض تلك الأنظمة بات يقلق الولايات المتحدة، واضطرت إلى الكشف عن عدائها للعرب في الكثير من المناسبات وخاصة إذا كان الحديث يدور عن الأمن الإسرائيلي، المواقف العدائية كانت واضحة وقد أدركت الشعوب ذلك ولكن الأنظمة استمرت في علاقاتها في سبيل الاحتفاظ بالسلطة حتى أنها وضعت قسما من فوائض النفط في خدمة الحرب ضد الشيوعية في الوقت الذي كانت شعوبها تتضور جوعا.وبات واضحا للجميع بان الحرب في أفغانستان ضد الحكومة التي كانت تدعمها وحدات الجيش الأحمر المتواجدة هناك، كان يتم تمويلها من قبل السعودية،فالولايات المتحدة كانت تدرك بان فوائض النفط بما تؤدي إليه من تراكم للثروة سيؤدي على امتلاك الأنظمة لوسائل القوة الأمر الذي قد يحدث خلل في التوازن وبالتالي كانت تعمل على إعاقة مثل هذه الإمكانية، البترول يدر أرباح كبيرة وبالإضافة إلى هذه الأرباح هناك الكثافة السكانية أو بعبارة أخرى العامل البشري بالإضافة إلى أن الحديث يدور حول العالم العربي الذي عاش أمجاد الماضي ويتطلع بين الحين والأخر إلى إحياء تلك الأمجاد، الفقر والتخلف كان يعيق تلك التطلعات ولكن توفر المال وظهور الكوادر المحلية ولد نوعا ما عامل الاعتماد على الذات والبحث عن الهوية من خلال الربط بين الماضي المجيد والحاضر الغني، والتطورات في إيران وبعدها الأوضاع في أفغانستان أعطت دفعا جديدا لهذه التوجهات ، الولايات المتحدة كانت تغض النظر عن هذه التطورات بسبب انشغالها في الحرب الباردة وبعد الانهيار الذي أصاب النظام الاشتراكي،تحاول إعادة النظر في موازين القوى وتنظيمها على أساس يخدم مصالحها في المرحلة الجديدة ، تثير قضايا حقوق الإنسان وتدعوا الأنظمة العربية إلى إجراء الإصلاحات الديمقراطية وان هذه الدعوة تتحول أحيانا إلى تهديدات سافرة وحتى إلى تدخل عسكري مباشر كما حصل في العراق. تستخدم كل الوسائل لنشر الثقافة الغربية ليتسنى لها إعاقة الصحوة الدينية والقومية وبدلا من الاعتزاز بالماضي الحضاري تحاول فرض المفاهيم البراغماتية لعيش اليوم على أساس نزعة استهلاكية والإسراف في صرف الأموال في المجالات التي لا تخدم القضايا المصيرية. فالولايات المتحدة قد تقبل أن يكون العرب أغنياء وليس باستطاعتها منع ذلك ولكنها لا ترضى بان يتحول هذا الغنى إلى قوة، لان القوة من شأنها أن تهدد أمن إسرائيل وتعيق تدفق البترول وتشكل على المدى البعيد أرضية لبديل حضاري في الشرق بعد توفر عنصر الثقة بالذات وأتباع السبل العلمية والعملية لحل القضايا العالقة. الولايات المتحدة لم تعد بحاجة إلى أنظمة دكتاتورية وفاشية في المنطقة وخاصة بعد زوال الخطر السوفيتي ، بل أن وجود مثل هذه الأنظمة قد يؤدي إلى إعاقة حركة الرأسمال العالمي، وهي تحاول فرض ما جرى في شرق أسيا على الشرق الأوسط أيضا، فهي تعيد النظر في البناء السياسي في المنطقة وتحاول رسمه من جديد على أساس العوامل الجديدة التي ظهرت. لم يكن متوقعا أن تقدم الولايات المتحدة مساهمة إيجابية لحل القضية الكردية في السنوات الماضية، نظرا لما يربطها من علاقات مع كل من تركية وإيران. فكانت تتحاشى أي تحرك من شأنه أن يزعج هاتين الدولتين فمكانة تركية الإستراتيجية في الحرب الباردة خاصة وأنها كانت تشكل الجناح الجنوبي لحلف الناتو وكذلك دور إيران كمخفر متقدم لحماية المصالح الغربية في الخليج كانت عوامل تزيد في أهميتها بالنسبة للأمريكيين عن مناصرة شعب مظلوم للتخلص من محنته، وكانت راضية عن ما آل إليه مصير جمهورية كردستان في مهاباد التي كانت تبحث عن صيغ للحكم الذاتي وبذلك تكون حتى مطالب الحد الأدنى أيضا مرفوضة ولكن توجهات النظام العراقي في السبعينات كانت تزيد من قلقهم، فقد قام بتأميم البترول وارتبط بعلاقات مع الاتحاد السوفيتي وبات يمثل اكثر المواقف راديكالية ضد إسرائيل في العالم العربي وقد كان بإمكانه الإفراط في الراديكالية لأنه من جهة يتمتع بقدرات مالية وبشرية والعلاقة مع السوفيت وفرت له الإمكانات الدفاعية والاهم من ذلك كان بعيدا عن خط المواجهة. فهو لا ينتمي إلى دول الطوق كما هو الحال بالنسبة لمصر وسورية والأردن ولبنان، فهذه المواقف كانت تثير القلق في إسرائيل وتشكل عائقا أمام رغبة بعض الأنظمة العربية الدخول في سياسة التطبيع مع إسرائيل،دول الخليج أيضا كانت تخاف هذا النظام لأنه لا يقل عنهم غنى ولكنه في نفس الوقت يتحدث عن النظام الجمهوري والنضال من اجل حل القضايا العربية وعلى رأسها قضية فلسطين كان من الطبيعي أن تتأثر شعوب تلك الدول بمواقفه تلك ويتعرض وجود تلك الأنظمة للخطر خاصة إذا لقيت الدعوات قادمة من العراق صدى لدى شعوبها. وكان بإمكان هذا النظام أن يشكل القلاقل لإيران خاصة وانه تعيش في إيران أقلية عربية كبيرة من الممكن إثارة انتماءاتها القومية والضغط من خلالها على إيران. كان للكرد في العراق مطالب وحقوقه مشروعة حرمهم منها الإنكليز وبعد انهيار الحكومة الملكية اثر الثورة التي قام بها الضباط في عام 1958 وجد الكرد أمامهم مرة أخرى إن الفرصة سانحة لإعادة مطالبهم تلك وبدأ الأمر في البداية بالتفاهم ثم الخلافات وبعد ذلك المعارك في إطار حرب دامت حوالي خمسة عشرة عاما من ضمنها طبعا أعوام الهدنة ووقف العمليات العسكرية. لقد وجدت الإدارة الأمريكية حينذاك انه ليس من الحكمة أن تضيع فرصة استخدام الورقة الكردية، وبالفعل قدمت الدعم للحركة الكردية في جنوب كردستان والمفهوم الطبقي للحركة كان مهيأ لمثل هذا التعامل، في البداية حاولت أمريكا الضغط على العراق من خلال المضايقات التي كانت تثيرها إيران حيث التحشدات العسكرية في المنطقة الحدودية ونشوب معارك محدودة، ولكن الورقة الكردية كانت أفضل من ذلك، فالقيادة الكردية من حيث المبدأ لم تكن في خلاف مع الولايات المتحدة وكانت على طرف نقيض مع التوجهات الاشتراكية ، بالإضافة إلى أن المسالة الكردية كانت تعبيرا عن مطالب مشروعة لشعب بحقه في التحرر وهذه أمور جعلت من التدخل الأمريكي أكثر سهولة دون أن يؤدي الأمر إلى إثارة ردود أفعال دولية، تؤكد وثائق الكونكرس الأمريكي أن الولايات المتحدة قدمت الدعم فعلا للكرد في حربهم ضد النظام العراقي وكان مبررهم في ذلك أن هذا النظام كان يهدد حلفائهم في المنطقة، وان أهداف هذا الدعم كانت واضحة حيث أنها كانت محدودة في إطار إثارة القلاقل للنظام العراقي لكي يكف عن تهديد المصالح الأمريكية وحلفاؤها وان هذا الدعم لم يكن من شأنه أن يؤدي إلى تمتع الكرد بإطار واسع من الحكم الذاتي أو إنشاء دولة مستقلة لان مثل هذا الأمر كان من شانه أن يثير الروح القومية لدى الكرد في تركيا وإيران أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها الإستراتيجيين ولذلك فان السقف الأعلى للدعم الأمريكي للكرد لم يكن ليتعدى استخدامهم كورقة ضغط ضد العراق ليكف عن معارضة مخططاتها ، وشاه إيران محمد رضا بهلوي أيضا عبر عن هذه القضية على نحو يظهر فيه أن الحكومة العراقية كانت تضايقه وتثير له المشاكل وخاصة في مجال قضايا جزر الخليج التي كانت تشكل موضوع خلاف وقضية خوزستان .وان دعمه للحركة الكردية في جنوب كردستان لم يكن يتعدى صفعة يلطم بها وجه النظام العراقي ليكف عن مضايقته وعندما تم له ذلك توقف عن دعم الكرد الأمر الذي أدى إلى تصفية الحركة. ويؤكد في هذا الإطار كمحي الذي عمل وكيلا في وزارة الخارجية الإسرائيلية في مذكراته التي نشرت فيما بعد بأنهم كانوا على علاقة مع القيادة الكردية في العراق لفترة طويلة من الزمن وأنهم كانوا يقدمون الدعم للكرد بالتنسيق مع شاه إيران. في هذا الإطار يمكن التوصل إلى النتيجة التالية وهي انه في ظروف الحرب الباردة لم يكن الدعم الأمريكي بالتنسيق مع إيران وإسرائيل للحركة الكردية ليتجاوز استخدام الورقة الكردية لممارسة الضغط على العراق، فالحكومة العراقية كانت تتهرب من إيجاد حل عادل للقضية الكردية وكانت تتصرف إزاء الكرد من خلال مواقف عنصرية شوفينية وتشن حرب إبادة واستخدمت طوال العقود الثلاث الماضية الأسلحة المحرمة دوليا وقد استفادت الولايات المتحدة من هذا التعنت كمبرر للتدخل ولكن الكرد كانوا يحلمون في وضح النهار حين اعتقدوا بان الأمريكان سيعملون على حل القضية لان روابطها مع كل من تركيا وإيران كانت تحول دون ذلك وكانوا يخطئون أيضا حين اعتقدوا انه من الممكن أن تصل القضية الكردية إلى حل عادل وتحقيق آمال الشعب الكردي في الحرية من خلال النظام الرأسمالي، ولم يكسب الكرد من جراء هذا الدعم غير مزيد من المواقف الشوفينية والعداء تجاههم في المنطقة، وعندما تحقق للغرب ما يبتغيه من هذا الدعم وهو كف النظام في العراق عن مضايقتهم، ترك الكرد يواجهون مصيرهم المأساوي لتغرق آمالهم في بحر من الدماء. كانت الحرب العراقية ـ الإيرانية فرصة حاول الغرب الاستفادة منها إلى أقصى الحدود، وكان يأمل بأن هذه الحرب التي من شأنها أن تضعف النظام الجديد في إيران ستفتح المجال أمام احتمال حدوث انقلاب يعيد المياه إلى مجاريها السابقة، والثورة في إيران التي كانت تهدف إلى إقامة علاقات جديدة مع العرب في إطار الدين الواحد ولم تتردد في إعلان عدائها السافر لإسرائيل، وجدت نفسها مشغولة في حرب شعواء مع العرب، وبدلا من الدور الإقليمي الذي كانت تنوي القيام به وجدت نفسها مضطرة إلى الدفاع عن أراضيها ضد الجيوش العراقية المحتلة، وتعرضت البنى التحتية للدمار وتجاوزت الخسائر في الأرواح المليون قتيل على الجبهة الإيرانية، ولم يقل الدمار عن ذلك في الجبهة العراقية وكانت دول الخليج الأخرى مرتاحة للوضع طالما كانت المعارك تدور بين قوتين كبيرتين في المنطقة وكان من مصلحة تلك الدول أن تفقد قواها، وراحت الصحف الخليجية تصور صدام على أنه حامي البوابة الشرقية للوطن العربي وتقدم الأموال له بسخاء، والمنظمات الدولية التي تدور الشبهات حول استقلاليتها، ترددت في التدخل لوقف هذا القتال الذي تحول إلى جحيم واستخدمت فيه الأسلحة الكيماوية وكان يصل عدد القتلى أحيانا إلى الآلاف في اليوم الواحد، فالغرب وخاصة الولايات المتحدة كانت تجد في استمرار أمد الحرب مزيدا من إنهاك للقوة يتعرض لها النظام في العراق ليفقد القدرة على أن يكون خطرا على مصالحها. انتهت الحرب دون أن يكون هناك غالب او مغلوب، وكانت الدولتين منهوكتي القوى، وأعلن الخميني بأن قبوله لوقف الحرب يعني تجرع كأسا من السم ولكنه مضطر على القيام بذلك. وراح صدام يبحث عن التعويضات عن الخسائر التي تكبدها في الحرب وطالما أنه كان يخوض الحرب بالنيابة عن دول الخليج ويحمي أمنها لذلك كان عليها أن تدفع هذه التعويضات، وتم إثارة قضية الكويت وادعى النظام أنها أرض عراقية وكانت في السابق جزء من ولاية البصرة وبالتالي كان لابد أن يعود الحق لأصحابه، أي أن تدخل الكويت في إطار الدولة العراقية، وفوجئ العامل في آب عام 1990 بدخول صاعق لوحدات الجيش العراقي إلى الكويت، لم تكن الولايات المتحدة لتقف مكتوفة الأيدي إزاء هذا الوضع. منابع النفط تتعرض للخطر والمسألة تتعلق باحتلال دولة ذات سيادة من قبل دولة أخرى ولم تلقَ صعوبة في الحصول على التأييد العالمي لشن حرب ضد العراق وتحرير الكويت وبالفعل نجحت في جمع ائتلاف دولي وقادته في حرب أسفرت في مدة قصيرة عن تحرير الكويت ولكنها لم تتمكن من إسقاط النظام في العراق. توقعات قيادة الجيوش الأمريكية في المنطقة والتي كانت ترتكز على أن الهزيمة التي مني بها النظام ستضعف مكانته وسيتم الإطاحة به من خلال انقلاب تقوم به قيادات الجيش المهزوم في ساحات المعارك، لم تتحقق، ومحاولات السعودية لإيجاد البديل باءت بالفشل، والنظام بدوره ولإثبات قدرته في السيطرة على الموقف قام بشن حملات تأديبية في الجنوب ضد الشيعة وفي الشمال ضد الكرد، وانتهزت قوات التحالف الفرصة للتدخل في الموقف على أساس أنها ستقوم بحماية الكرد في إطار منطقة آمنة تمنع في أجواءها تحليق الطيران العراقي وتم تشكيل قوات خاصة لهذا الغرض سميت بقوات المطرقة. وجدت أمريكا ومن خلال التطورات التي شهدتها المنطقة أنه من الممكن اتخاذ القضية الكردية كإحدى المرتكزات المهمة للسيطرة على المنطقة، وبدأت هذه القضية تحتل مكانا في السياسة الخارجية الأمريكية، ولم تعد تهتم كما في السابق بالتحفظات التركية في هذا المجال خاصة وأن مكانة تركيا في النظام الرأسمالي لم تعد في نفس الدرجة من الأهمية كما كانت في السابق، فالمعسكر المعادي الذي كانت تتحمل مسؤولية التصدي له في المنطقة قد تعرض للانهيار، وإيران لم تعد دولة حليفة بل تعتبرها أمريكا أحد أطراف محور الشر في العالم وباتت تجد من المسألة الكردية هناك قوة احتياطية لتمارس من خلالها الضغط على إيران أما بالنسبة للعراق فالكرد يتميزون بمكانة خاصة ويملكون قدرات عملية ليس من الممكن إهمالها خاصة إذا كان الحديث يدور عن الإطاحة بالنظام العراقي، وبالفعل كان للتعاون الكردي دورا مهما في سير المعارك التي أطاحت بالنظام العراقي وخاصة في الجبهة الشمالية. ومن الممكن هنا ملاحظة التغيير الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه الكرد، فالإنكليز قاموا بإنشاء نظام في الشرق الأوسط يستند إلى قيام دول مونارشية عربية على أساس النزعة القومية وذلك لإحداث التوازن من خلال الحد من نزعة السيطرة الإقليمية للفرس والأتراك. والولايات المتحدة تتناول المسألة الكردية والبحث عن مكانة سياسية معينة للكرد لإضعاف الدول القومية التي باتت تهدد مصالحها الحيوية في المنطقة، وهناك أمثلة عملية لا بد من الإشارة إليها، هيئة الإذاعة البريطانية الـ BBC التي تبث برامجها بالكثير من لغات العالم لم تفكر حتى اليوم أن تنشأ قسما يبث برامج باللغة الكردية مع أن الكرد يمثلون قوة بشرية كبيرة في أهم مناطق العالم من الناحية الاستراتيجية، ولكن بعد حرب الخليج الثانية أو ما تسمى بحرب تحرير الكويت أصبح الناس يسمعون يوميا برامج باللغة الكردية تبثها إذاعة صوت أمريكا وقد تطور هذا البث ليصل في الوقت الراهن إلى أربعة ساعات يوميا. وبدأت وزارة الخارجية تعقد الكونفرانسات التي تبحث في المسألة الكردية ويتم استقبال بعض القيادات في جنوب كردستان من قبل الموظفين في أرفع المستويات حتى مستوى وزير الخارجية الأمر الذي لم يشهده تاريخ العلاقات الكردية الأمريكية في السنوات السابقة. في ظروف الحرب الباردة كان من الصعوبة بمكان إحداث تغييرات إستراتيجية، وكانت الأنظمة الدكتاتورية والمونارشية تبرر وجودها وأعمالها القمعية على أساس التوازن القائم بين المعسكرين، وقد شهدت تلك المرحلة استحواذ الدولة القومية على عناصر القوة التي مكنتها من البحث عن مكانة محلية أو إقليمية باتت تتعارض مع مصالح القوى العالمية ولكن انتهاء الحرب الباردة أزال ذلك المبرر من الوجود. الرأسمال بطبيعته يبحث عن مصادر الربح، والبحث عن الربح يتعارض مع الحدود الجمركية ولهذا قامت البرجوازية الناشئة في أوروبا ببناء الدول القومية الكبيرة عبر تحطيم الحواجز الجمركية ومناطق النفوذ الإقطاعية التي كانت تقسم الوطن إلى وحدات سياسية مختلفة، واليوم أيضا يجد الرأسمال العالمي من الدول القومية المحافظة عائقا أمام البحث عن مصادر للربح وبالتالي يعمل على تهميش دورها وتحويرها لتتناسب مع خصائص العولمة. ولابد من التذكير هنا بأن المسألة ليست فقط عبارة عن نشر الأموال والاستثمارات فهذا هو الجانب الاقتصادي فالأمر يتطلب إلى جانب ذلك تغيير في البنى السياسية والحقوقية وغيرها من المعايير العالمية، والبنى القومية القديمة في الشرق الأوسط مستهدفة في هذا الإطار فطبيعتها السياسية تتعارض مع المنحى الجديد "للنظام العالمي" ولا بد أن يتم تجاوزها ليحل محلها أنظمة ذات طبيعة ليبرالية منفتحة تتخذ النظام البرلماني والتعددية أساسا لها وتراعي حقوق الإنسان وحق الاقليات في ممارسة حقوقها. في هذا الإطار تظهر أهمية القضية الكردية، فالشعب الكردي هو المتضرر الوحيد تقريبا من النظام السياسي القائم في الشرق الأوسط، فلا يتم الاعتراف بحقه في الوجود ويتعرض لمختلف أنواع البطش والإبادة حين مطالبته بأدنى الحقوق المشروعة ولهذا فإن من حق هذا الشعب أن يساند أي محاولة تستهدف تغيير الأنظمة الدكتاتورية والمونارشية القائمة على إنكار وجوده في المنطقة. فالكرد هم أهم القوى التي من الممكن من خلالها التأثير أو ممارسة الضغط على الأنظمة في العراق وإيران وتركيا وسوريا نظرا لواقع التجزئة المفروضة على وطننا ومن البديهي أن الولايات المتحدة التي تعمل على بناء نظام جديد في المنطقة ستأخذ هذه القوة بعين الاعتبار. من الواضح أن الإدارة الأمريكية تحاول القيام بذلك من خلال الكرد والذين يتلاءم موقعهم مع سياستها ويبدو أن النهج القومي البدائي أكثر توافقا مع مصالحها، وهي تتناول القضية الكردية من خلال وجهات نظر القوى القومية البدائية ولهذا عملت على الدوام على إضعاف مكانة حركة التحرر الديمقراطي الوطني الكردستانية المعاصرة التي تقودها حركتنا، وبات من المسلم به أن كل الهجمات والحملات العسكرية التي استهدفت مواقع حزبنا في الجنوب كان يتم التخطيط لها في البنتاغون ودوائر القرار السياسي في أمريكا ولم تكتفِ بذلك بل شنت حملة شعواء عملت بكل ثقلها العالمي للنيل من قيادتنا الوطنية المتمثلة في شخص القائد آبو. وقد عبر عن ذلك وزير خارجية اليونان السابق على هامش المحاكمة التي تستمر حاليا في أثينا للنظر في قضية دخول قائد حركتنا إلى الأراضي اليونانية في ظروف المؤامرة الدولية من خلال تصريح مفاده أن الولايات المتحدة قامت بهذه العملية كمقدمة للحملة العسكرية على العراق التي كانت بصدد القيام بها لكي توفر للقوى الكردية المرتبطة بها فرصة الانفراد بالسيطرة على الحركة الكردية بشكل عام، في ظروف غياب البديل الثوري في كردستان، حتى أن القسم الكردي في صوت أمريكا يكاد يكون مكانا للتعبير عن وجهة نظر القوى القومية البدائية في جنوب كردستان وإن بعض المذيعين الذين كانوا يظهرون تعاطفا مع النضال الذي يخوضه حزبنا تم إبعادهم أو على الأقل لم يعد يتم سماع أصواتهم، فالولايات المتحدة تكن مواقف العداء تجاه حركة التحرر المعاصرة في كردستان وتصف نضالنا بالإرهاب وتستمر وزارة الخارجية الأمريكية في ضم اسم تنظيمنا إلى القوائم التي تصدرها سنويا عن ما تسميه بـ "المنظمات الإرهابية" وهي تحاول عبثا التفريق بين نضالنا الذي تصفه بالإرهاب وبين قضية الشعب الكردي، وهي مواقف دنيئة تتعارض مع الواقع العملي الذي يظهر في كل مناسبة مدى التلاحم بين نضالنا وجماهير شعبنا في كل أجزاء كردستان. مما لاشك فيه إن أهداف الشعوب في الشرق الأوسط سوف لن تقف عند حدود المصالح الأمريكية، بل ستعمل على تجاوز ذلك مناضلة في سبيل استكمال أهدافها في الحرية الكاملة على كافة المستويات، والتاريخ يشهد أن هذه الشعوب استمرت طوال الوقت تخوض نضالا عنيدا من اجل تلك الأهداف، السجل النضالي لحركتنا حافل بأسمى آيات التضحية والمقاومة،وتكشف المقابر الجماعية التي يتم العثور عليها اليوم في العديد من مناطق العراق عن مقاومة للاستبداد مهما بلغت أساليب النظام من بطشها وتعسفها، وان الشعوب التي دفعت هذا القدر من البدائل سوف لن ترضى باستبدال شكل من الهيمنة بأخر مهما بدا هذا الأخر معتدلا ولينا، بل إنها سوف لن تقبل بأقل من زوال كل أشكال الهيمنة و التسلط بغض النظر عن أسماءها وأشكالها، وان الولايات المتحدة مهما بدت قوية سوف لن تتمكن من بناء نظام جديد أو رسم خارطة سياسية جديدة في المنطقة إذا أهملت وتغاضت عن حقائق الشعوب ومطالبها وان مثل هذا التغاضي سوف لن يجنبها من المصير الذي واجهته الجيوش السوفيتية في أفغانستان وقبلها الجيوش الأمريكية في فيتنام في القرن الماضي والأحداث التي أعقبت الحرب في العراق تثبت ذلك. نحن ندرك أن التدخل الأمريكي المباشر في المنطقة بات واقعا لابد من التعامل معه، ونؤمن بإمكانية حل الخلافات معه من خلال التفاهم في إطار الاحترام المتبادل دون التوجه نحو المواجهات العسكرية ، وهذا مرتبط الى حد بعيد بمدى الاحترام الذي لابد من أن تظهره الولايات المتحدة لرغبة الشعوب في تقرير مصائرها بذاتها، وتبتعد عن المعايير المزدوجة في التعامل مع الأمور . أن الأسباب الأساسية للتدخل الأجنبي في المنطقة هي مواقف وتصرفات الأنظمة الاستبدادية والاوليغارشية التي وفرت المظلة الشرعية لهذا التدخل ، ونحن في الوقت الذي نستنكر فيه كل أشكال الهيمنة الأجنبية على المنطقة لن نتردد في نفس الوقت من إظهار الغبطة إزاء تعرض الأنظمة الاستبدادية للسقوط والانهيار بغض النظر عن القوة التي لعبت دورا مباشر في ذلك، لأننا نؤمن أن العامل الأساسي في هذا المجال يبقى دائما حركة الجماهير. وان مراكز الفكر والسياسة في المنطقة عامة وفي العالم العربي بشكل خاص لابد من أن تتحمل مسؤولياتها وتحدد أولوياتها في إطار إعطاء المبادرة لحركة الجماهير المنظمة والواعية، والعمل قبل كل شيء على إزالة الآثار السلبية التي تركتها الأساليب الشمولية والاستبدادية في التحكم بأقدار الشعوب، وبدلا من "الانشغال في مقاهي الشرق بحرب الكلمات والأكاذيب " وإثارة الخلافات الأثنية والمذهبية والمواقف الشوفينة، لا بد لها من العمل الدؤوب على الإمساك بزمام الأمور وإزالة الحجج التي تبرر التدخل الأجنبي من خلال البحث عن صيغ التفاهم مع القطاعات القومية والاجتماعية المختلفة وبرامج عمل تتخذ من التعاضد الأممي أساسا لها. إننا كحزب العمال الكردستاني PKK نعارض كل أشكال الهيمنة الأجنبية على المنطقة ونؤمن أن البديل عن الأنظمة الرجعية المتحجرة هو وحدة الشعوب في إطار اتحاد شرق أوسطي ديمقراطي قائم على أسس المساواة والحرية والعدالة الاجتماعية، اتحاد حر واختياري تنتفي فيه كل مظاهر الظلم القومي والاجتماعي، فالمواقف الدينية المتزمتة والأصولية في معالجة الأمور سوف لن تؤدي ألا إلى تعقيدها بشكل أكثر، والمواقف الشوفينية باتت تتعارض مع طبيعة العصر الذي نعيش فيه وان مثل هذه المواقف من شانها أن تعمق الأزمات والانعزالية والتخلف عن مواكبة العصر، ويبقى الحل الأمثل لتجاوز الأزمات هو البحث عن الصيغ الديمقراطية المشتركة في النضال والالتزام بالمبادئ التي تعبر عن المصالح المشتركة بين شعوب المنقطة. ونحن في حزب العمال الكردستاني PKK في الوقت الذي نستنكر فيه كل المواقف العدائية التي تستهدف وجود الشعب الكردي، نرفض بشكل قاطع كل المشاريع التي من شانها أن تتخذ من المسالة الكردية قوة احتياط وركيزة للتدخل الأجنبي لان مثل هذه المواقف تسبب ضررا بالغا للطبيعة النضالية لشعبنا، وتجعله عرضة للعزلة ومعاداة الآخرين، ونجد أنه من الطبيعي أن تكون للكرد علاقات مع مختلف القوى الشرق أوسطية و الأوربية وخاصة الولايات المتحدة لما تتمتع به من مكانة في المنطقة ولكن يجب أن لا تتحول القضية الكردية في أي وقت من الأوقات إلى جزء من المخطط الأمريكي في المنطقة، فالمهمة التاريخية لشعبنا تكمن في التمركز في الجبهة الأمامية للنضال من اجل التحول الديمقراطي وان الحل العادل للقضية الكردية يمر عبر التحول الديمقراطي في الدول التي تحكم كردستان، وبالتالي فان نضال شعبنا هو جزء لا يتجزأ من النضال الديمقراطي العام في هذه الدول ويجب أن تعلم القوى الوطنية والديمقراطية العربية والفارسية والتركية أيضا أنها سوف لن تكون قادرة على حل قضاياها إذا ما استمرت في تناسي نضال الحرية في كردستان، فمستوى نجاحها مرتبط عن قرب بدرجة الدعم والمساندة الأخوية التي ستساهم من خلالها في إيجاد حل عادل للقضية الكردية. ونؤمن بان الحلول الجزئية التي تتناول القضية الكردية في إطار كل جزء على حدة تحمل في طياتها مخاطر من شانها أن تسبب أضرارا جسيمة في تطلعات شعبنا نحو الوحدة والتحرر، فالواجب والمسؤولية الوطنية تفرض العمل على إيجاد مشروع وطني مشترك يعبر عن آمال شعبنا في الأجزاء الأربعة في إطار التعاون الأممي مع الشعوب الأخرى في المنطقة، وان أي تحرك كردي في جزء ما يفتقر إلى البعد الوطني العام سوف يخفق لا محال في إيجاد حل حتى في إطار الجزء ذاته وقد آن الأوان لكي يتجاوز الكرد الخلافات التي تنبع من المصالح العائلية والعشائرية والحزبية الضيقة وان يبحثوا عن البرامج الوحدوية التي تتخذ المصلحة الوطنية العامة منطلقا أساسيا في النضال، وان الوحدة الوطنية الكردية سوف لن تضر بمصالح الشعوب الأخرى بل أن مثل هذه الوحدة من شانها أن تشكل مرتكزا للنضال الديمقراطي في المنطقة عموما وطليعة لافتتاح عصر النهضة لشعوب الشرق الأوسط على أنقاض انهيار عروش الاستبداد والظلم.
http://www.pkkonline.com/arabic/index.php?sys=article&artID=252
#طلعت_خيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجرائم السياسية في شريعة يسوع ( سفر أعمال الرسل ) – 26
-
الكنيسة المارونية من مساندة الأحزاب القمعية الى الديمقراطية
...
-
الأمم المتحدة تستنبط قوانين الاعتقال الإداري من شريعة يسوع (
...
-
هزائم مشركي العرب وأهل الكتاب – رد على مقالة كامل النجار
-
الكذب والمراوغة السياسية في شريعة يسوع (سفر اعمل الرسل ) - 2
...
-
العلماء المسلمين الذين قيل أنَّهم برعوا في العلوم الدنيوية -
...
-
دور الكنيسة المارونية في دعم الأحزاب القمعية (حزب البعث في ا
...
-
اله المسيحية يستعين ببولس لدعمه طائفيا في رومية (سفر أعمال ا
...
-
صراعات الأديان السياسية في أوربا واسيا (العثمانيون )
-
رد على مقالة إبراهيم جركس ..قضيه ضد وجود الله
-
انتحال الشخصيات الدينية لأهداف سياسيه (المسيحية أنموذج ) سفر
...
-
المؤلفة قلوبهم – رد على مقالة سامي لبيب
-
لو يعلم بولس أن يسوع إلها حقيقيا لما نقض عهده أمام اليهود (
...
-
محاكم التفتيش اليسوعية في الأندلس ( ثمار الله محبه )
-
يسوع يعفور المسيحيين
-
مدى التخلف في عقائد اليسوعين
-
نظريات الإله الأحمق
-
التقية والكذب المباح في المسيحية ..رد على مقالة سامي لبيب
-
التخريف العلمي في التوراة
-
كروية الأرض في الكتاب المحرف التوراة
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|