|
جاليليو الذي تجاهلناه
السيد نصر الدين السيد
الحوار المتمدن-العدد: 4288 - 2013 / 11 / 27 - 14:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
شهد عام 1633 محاكمة الفاتيكان للعالم الإيطالى جاليليو جاليلى (1564-1642) بتهمة الهرطقة والخروج عما هو معلوم من الدين بالضرورة. فلقد تجرأ السيد جاليليو وأعلن فى كتابه الشهير الـ "حوار حول النظاميين الرئيسيين للعالم" أن الأرض تدور حول الشمس مخالفا بذلك تعاليم الكنيسة التى كانت تؤمن بعكس ذلك. وأسفرت المحاكمة عن الحكم القاضى بحبسه مدى الحياة الذي خفف بعد ذلك إلى تحديد إقامته فى منزله. وبعد مرور 359 على واقعة المحاكمة وفى 31 أكتوبر 1992 وقف بابا الفاتيكان ليعبرعن أسف الكنيسة للطريقة التى تعاملت بها مع السيد جاليليو وليعترف بأنه كان محقا فيما أعلنه من أن الأرض هى التى تدورحول الشمس وليس العكس. وبالطبع لم يكن إعتذار المؤسسة الدينية الكاثوليكية العلنى عن موقفها من جاليليو بالأمر السهل على نفوس القائمين على شئونها. إذ يعنى هذا الإعتذار الإعتراف الضمني بتراجع الدور الذي يلعبه "منهج التفكير الدينى" فى تقرير مصائر الأمم وتحديد مكانتها فى عالم الألف الثالثة. وهو الدور الذي بات يلعبه الآن بكفاءة وفعالية المنهج الجديد الذي بشر به جاليليو ومن خلفه من التابعين وهو "منهج التفكير العلمى" بما ينتجه من معرفة علمية ويحققه من منجزات تكنولوجية. ولقد أسهم هذا المنهج، بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على ظهوره، فى خلق تقافة جديدة ترتكز على العلم، الذي تعرفه موسوعة ستانفورد للفلسفة بأنه "أى نشاط ممنهج ومنضبط يسعى وراء الحقائق المتعلقة بعالمنا وتتضمن قدر كبير من الشواهد الإمبريقية"، وهي الثقافة الذي أطلق عليها اسم "الثقافة العلمية".
الثقافة العلمية يعتبر مفهوم "الثقافة العلمية" من المفاهيم المعقدة لانطوائه على العديد من الأبعاد. وأول هذه الأبعاد هو بعد "التعريف" المعنى بتعريف غير المتخصصين وعموم أفراد المجتمع بمنتجات العلم من نظريات وإكتشافات وبتجسداتها المتمثلة فى المنجزات التكنولوجية أو التنظيمية أو الخدمية. أما البعد الثانى فهو ماتعنيه من شيوع لـ "روح" منهج التفكير العلمى بين أفراد المجتمع، بما ينطوى عليه هذا المنهج من وضوح ودقة فى عرض الأفكار والمفاهيم وإستخدام لأدوات التفكير المنطقيLogical Thinking فى مناقشتها ومراجعتها. أما ثالث هذه الأبعاد فهو تفهم تداعيات المعرفة العلمية، المتجددة دوما، على رؤية الإنسان للواقع الذي يعيش فيه. فلهذه المعرفة العديد من الخصائص التى تمكنها من تجاوز السياق، أو المجال، الضيق الذي أنتجت فيه لتؤثر فى المجالات الأخرى للفكر الإنسانى. فعلى سبيل المثال أدى ظهور "نظرية الكم" Quantum Theory، التى تفسر سلوك الجزيئات والذرات وكل ماهو أصغر منها، فى عشرينات القرن العشرين إلى تآكل مفهوم "الحتمية" أو "حتم المصير" الذي ساد الفكر الإنساني فى مراحل سابقة. كما أدى إنشاء علم "السيبرنيطيقا" Cybernetic، الذي يهتم بدراسة التحكم والاتصال في الكائنات الحية والكيانات الاجتماعية والآلات، في نهاية أربعينات القرن العشرين والقوانين التي اكتشفها وعلى رأسها قانون آشبى للتنوع اللازم، إلى التأكيد على أنه بقدر تنوع الأفكار التي ينتجها الإنسان وبقدر أصالتها وجدتها بقدر ما يتمكن هذا الإنسان من السيطرة على مقدرات واقعه ومن تطويع هذا الواقع لصالحه. وبالمثل أدى إكتشاف القوانين التى تحكم سلوك "المنظومات الفيزيائية ذاتية التنظيم" Physical Self-Organizing Systems، والتي يتخلق فيها الإنتظام ذاتيا وبدون أى تدخل من خارجها، فى سبعينات القرن العشرين إلى التأكيد على عدة أمور. وأول هذه الأمور تأكيدها على "إستقلالية" المجتمع وأفراده كشرط من شروط التقدم بما يعنيه هذا الشرط من ضرورة تحرر المجتمع من كافة أشكال "الوصاية الخارجية" على سلوكها وسلوك أفراد المجتمع سواء تمثلت هذه الوصاية على هيئة نتاج فكرى لمرحلة تاريخية بعينها أو على هيئة مسلمات عامة جردت من السياق الذي أنتجها. أما الأمر الثانى فهو تأكيدها على الدور الذي تلعبه "اللامركزية"، المتمثلة فى ضرورة إشراك كافة أفراد المجتمع فى كل قرار وفعل متعلق بتنمية المجتمع، فى تطوير المجتمعات. كما تعلمنا علوم "الإنتظام الذاتى" أن "الغد هو الأفضل دائما" فقد بينت دراستها للمنظومات المعقدة، المادية والإجتماعية، أن تلك المنظومات تفرز بمرور الزمن أشكالا وبنى جديدة أكثر رقيا وحداثة من سابقتها وأن أحوالها ترتقي دوما من أوضاع بسيطة وساذجة إلى أوضاع أكثر تعقيدا وتطورا. ونكتفي بهذه الأمثلة لضيق المجال.
الثقافة الغائبة والآن وبعد أن عرضنا في عجالة للأبعاد الثلاثة لمفهوم "الثقافة العلمية" فإن نظرة على أحوالها في مجتمعنا توضح بجلاء أننا نحن الذين ندين لجاليليو بإعتذار يفوق في شدته ذلك الذي قدمه له الفاتيكان. فالبعد الأول من أبعاد هذه الثقافة الذي يعنى بنشر المعرفة العلمية بشتى صورها وتجلياتها يكاد يكون غائبا عن إعلامنا المرئى والمسموع والمقروء. فلا نجد فى إعلامنا المقروء مطبوعة تماثل مجلة "الأمريكى العلمى" Scientific American، التى صدرت عام 1845، أو مجلة "العالم الأمريكى" American Scientist، التى صدرت عام 1913. وهما المجلتان اللتان تهتما بعرض أحدث الإكتشافات العلمية والإنجازات التكنولوجية بلغة مبسطة لقراءهما. كما يفتقد إعلامنا المرئى لقنوات مماثلة لقناتى "الإكتشاف" Discovery و"الجغرافيا القومية"National Geographic اللتان تقدما معرفة علمية متنوعة بطرق مشوقة. لذا لايكون مستغربا أن يؤمن 63% من المصريين بالخرافات أو أن يتحاشى 75% منهم ضرب القطط والكلاب ليلاً لاعتقادهم أن العفاريت تتشكل فى أشكال هذه الحيوانات أو أن يعتقد 31 % منهم بتقمص الأرواح وبقدرة الجان والعفاريت على التأثير فى حياة الإنسان ... !.
أما بالنسبة للبعد الثانى للثقافة العلمية، والمتعلق بمدى شيوع "روح" منهج التفكير العلمى بين أفراد المجتمع، فمتابعة سريعة للبرامج الحوارية التى تملأ الفضائيات أو لمقالات الرأى التى تحتشد بها صحفنا القومية والمستقلة لايجد صعوبة تذكر فى إكتشاف غيبة هذه الروح عن غالبيتها العظمى. إذ تغيب عن غالبية مايطرح فيها من أفكار ومفاهيم صفة الوضوح وتغلب عليها صفتى الغموض والإلتباس. أما المنهج السائد لمناقشتها فهو منهج "التفكير الانفعالي (أو العاطفي)" Emotional Thinking الذي تحكمه العواطف ولايقيم وزنا للشواهد أو للتحليل المنطقي لمجريات الأمور. كما تتبدى غيبة هذه الروح فى ممارساتنا اليومية فكم منا يعتمد على "الخرائط" فى تجواله داخل أو خارج المدن؟ ... وكم منا يسخدم الجداول أو المخططات البيانية فى عرض أفكاره؟ ... وكم منا من يخطط لما يود القيام به فى المستقبل ولا تحكمه فلسفة "ماتقاطعش" و"إحيينى النهاردة وموتنى بكرة"؟ ... وإذا كان البعدان الأولان للثقافة العلمية يتعلقان بعموم أفراد المجتمع فإن بعدها الثالث، المعنى بتفهم آثار الإكتشافات العلمية والإنجازات التكنولوجية على المجتمع وعلى أفكارنا عنه، يتعلق بنخبته من مثقفين ومفكرين. وهذا البعد هو البعد الغائب الذي لا وجود له تقريبا في أدبيات مثقفينا.
#السيد_نصر_الدين_السيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الة الزمن المعكوس
-
جاءنا البيان التالي
-
زمن الهوجة
-
عن الثورة الثقافية ... معالم على الطريق (3/3)
-
عن الثورة الثقافية ... عشان ايه وليه؟ (2/3)
-
عن الثورة الثقافية ... ترويض المفاهيم (1/3)
-
نظرية رأس السمكة
-
تحديث الثقافة المصرية .... المشروع القومى المنتظر
-
سلام مربع ل -جهادية- بلدنا
-
نظرية التطور والثقافة
-
الثقافة العَلمانية: كلمنى عن بكره (4/4)
-
الثقافة العَلمانية: وإنك لعلى خلق عظيم (3/4)
-
الثقافة العَلمانية: المعرفة هى الحل (2/4)
-
الثقافة العَلمانية: هكذا تحدث أمارتيا سن (1/4)
-
وقُضِيَ الأمر ... فماذا أنتم فاعلون؟
-
الرفاه المُنتظَر والمرجعية المنشودة
-
مجتمع المعرفة ودستورنا المرتقب
-
الأقدام الصينية وحداثتنا المشوهة (2/2)
-
الأقدام الصينية وحداثتنا المشوهة (1/2)
-
الإنسان والواقع ... ملحمة التفسير والتغيير: عصر علوم التعقد
...
المزيد.....
-
عمال أجانب من مختلف دول العالم شاركوا في إعادة بناء كاتدرائي
...
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|