أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين كركوش - رواية (طشاري): لماذا أصبح العراقيون المسيحيون -طشاري ما له والي- ؟















المزيد.....


رواية (طشاري): لماذا أصبح العراقيون المسيحيون -طشاري ما له والي- ؟


حسين كركوش

الحوار المتمدن-العدد: 4285 - 2013 / 11 / 24 - 16:27
المحور: الادب والفن
    


حسين كركوش

رواية (طشاري): لماذا أصبح العراقيون المسيحيون "طشاري ما له والي" ؟

بعد (سواقي القلوب) و (الحفيدة الأميركية)، صدرت الرواية الثالثة لإنعام كججي (طشاري، دار الجديد، بيروت،2013) وهي تتحدث عن طبيبة عراقية مسيحية أسمها (وردية) كانت قد ولدت في الموصل ثم درست الطب ببغداد وبعد تخرجها خدمت لسنوات طوال في مدينة الديوانية كطبيبة نسائية ثم بعد ذلك في بغداد. وبعد أن أمست (وردية) مسنة وشبه مقعدة ووحيدة في مسكنها البغدادي فأنها تضطر اضطرارا للذهاب لاجئة لفرنسا بسبب ما شهده العراق من أحداث بعد عام 2003 وبعد أن هاجر أفراد عائلتها الأقربون والأبعدون مثلما هاجر عراقيون مسيحيون كثيرون وأصبحوا (طشاري ما الهم والي). في المطار الباريسي تستقبل الراوية ( الكاتبة ؟ ) عمتها وردية مع جمع من العراقيين المسيحيين الواصلين كلاجئين مثل (وردية). وبفضل (استجواب) محايد تم تدوينه بأسلوب رشيق ورصين تنجزه الراوية لعمتها (وردية) ، تنفتح الرواية، زمانا ومكانا، في رحلة استرجاعية لمدينة الديوانية خصوصا وللعراق عموما ولأماكن أخرى في العالم، رحلة نتذوق خلالها طعم العسل وطعم العلقم.
جسد (وردية) داخل القصر الرئاسي الفرنسي لكن روحها في العراق
الجملة ألأولى في رواية (طشاري)، وهي تمام السطر الأول من الصفحة الأولى (النص يبدأ من الصفة 9 من الكتاب)، تتكون من أربع كلمات لا يرد فيها ذكر إلا لقصر الأليزيه، أي القصر الرئاسي الفرنسي:
(( هذا هو الأليزيه إذن.))
الصياغة اللغوية لهذه الجملة والإيحاءات التي تتضمنها خصوصا بوجود مفردة (إذن)، تفيد أن رغبة أو شوقا أو لهفة طال انتظارها لرؤية قصر الأليزيه، وها هي تتحقق الآن. الأليزيه، إذن، أو فرنسا أو، إذا شئنا التوسع قلنا (الغرب) عموما، يحضر بكثافة في الجملة الأولى من الرواية. وسيكون للأليزيه حضورا أكثر قوة وكثافة لو حولنا رواية (طشاري) إلى فيلم سينمائي تتحول فيه هذه الجملة المقروءة إلى جملة بصرية، أي لقطة سينمائية (كلوز). الاليزيه يظل حاضرا في الرواية في الصفحات التي تلي عندما تدخل (كاميرا) المؤلفة داخل القصر فنشاهد نحن القراء العراقية المسيحية المسنة (وردية) على كرسيها المتحرك ومعها عدد من العراقيين المسيحيين اللاجئيين تمت دعوتهم من قبل السلطات الفرنسية للقصر الرئاسي الفرنسي بمناسبة تواجد قداسة بابا الفاتيكان في فرنسا. وداخل القصر نشاهد الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي الذي ((ينزل من على المنصة ويتقدم إليها (وردية) من دون الآخرين ليصافحها ... تأبط ساركوزي ذراعها وقادها على مهل ص10))، ونشاهد أيضا قداسة البابا بنديكتوس وهو ((يمد لوردية كفا نحيلة كأنها من الخزف الأبيض. ص17))
استنادا لهذا الاستهلال énoncé الذي تبدأ به رواية (طشاري) أعتقد أن من حق القارئ أن يتوقع بأنه سيقرأ رواية على غرار رواية (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم أو رواية (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس حيث نجد في الروايتين حضورا طاغيا لفرنسا سواء كمكان تدور فيه الأحداث الروائية أو وجود لشخصيات روائية فرنسية تؤدي أدوارا رئيسية أو ثانوية، أو وجود قرائن فرنسية تاريخية/ جغرافية/ انثربولوجية. لكن هذه الظنون والتوقعات لن تحدث وسيحصد أصحابها الخيبة حالما يصلون الصفحة 16، أي، والرواية ما تزال في بدايتها، وأحداثها ما تزال تدور داخل (الأليزيه). في هذه الصفحة 16 تظهر مدينة الديوانية ويظهر أهالي الديوانية. لكن أي ظهور !
مساقط للرؤوس وأخرى للأفئدة
الديوانية محتفل بها في رواية (طشاري). الديوانية وشم لا يمحى: (( لقد وشمتها (وردية) المدينة (الديوانية) وشما لا يشبه الريفيات، على ذقنها أو حاجبيها أو ظاهر كفها، بل على روحها. وهي "دكة" تحبها ولا تتمنى زوالها مع الوقت ص33)). الديوانية حفرت بعمق في ذاكرة العراقية المسيحية (وردية) : ((كل ما عاشته "وردية" قبل الديوانية قشرة بصل)) وكل ما عاشته فيها ((سيمد جذورا ويرسخ وينمو ويتفرع ويخضوضر ويبرعم ويطرح الثمار ... إن هناك مساقط للرؤوس وأخرى للأفئدة. وهي "وردية" ستؤرخ لهذا المكان (الديوانية) مسقطا لقلبها وسماء حنت عليها ومنحتها الكثير من القليل الذي تملك. ص31))
الديوانية وأهاليها يظهرون، أول ما يظهرون في الرواية، كجدار مرمري صلد تتذكره (وردية) وتريد أن تستند عليه وهي في شيخوختها. هم يظهرون بمهابة وتبجيل أو إذا شئتم فأنهم يظهرون كعصا المارشالية تتوكأ عليها وردية بأبهة، وقبل هذا وبعده فأن أهالي الديوانية يقترنون في ذاكرة وضمير وعقل (وردية) مع أعز الناس لقلبها، زوجها المتوفي وأبنائها الأحياء:
(( رفعت (وردية) رأسها تتأمل الثريات والنقوش الذهبية والرسوم البديعة التي تطرز سقف القاعة (داخل الأليزيه) وتمنت لو كان زوجها المرحوم جرجس معها، يمسك بيدها ويقارعها كأس الكريستال. لو ركبت هند (ابنتها) الطائرة من كندا ورافقتها إلى قصر الأليزيه. لو حضر أبنها براق، لو صعدت ياسمين (أبنتها الأخرى) إلى أعلى برج في دبي ونطت إليها. لو جاء أهالي الديوانية الذين كانت تعرفهم: متصرف اللواء وقائد الفرقة الأولى والعلوية شذرة والمرضع بستانة وغسان الفلسطيني والدكتور شكري فرنجية والست لويس والجدة نانا وأم يعقوب. لو وقفوا كلهم معها ظهرا وسندا. الصفحات 16-17))
وعلى امتداد الصفحات التالية من الرواية يظل حضور الديوانية وأهاليها طاغيا تبهت أمامه كل الأماكن وكل الناس. فحالما نغادر الصفحة (17) تذبل صورة فرنسا شيئا فشيئا وتصبح شاحبة وتظل في الرواية ديكورا ليس إلا، وقصر الأليزية يختفي نهائيا من الأحداث الروائية حالما تخرج منه (وردية) ولن نعد نراه ولا نسمع عنه، وكأن أهميته لا تكمن في كونه رمزا لدولة عظمى هي فرنسا بل لأن العراقية (وردية) دخلته لا أكثر ولا أقل. الواقع، أن فرنسا كلها، وليس قصرها الرئاسي فحسب، تستمد وجودها في الرواية من تواجد (وردية) على أرضها، ولو كانت (وردية) قد ذهبت لاجئة لأي بلد آخر لكان ذاك البلد قد حضر في الرواية بدلا من فرنسا. ومثلما يغيب قصر الأليزيه يغيب نهائيا، أيضا، قداسة البابا ولن نراه أبدا، و يغيب نهائيا الرئيس الفرنسي ساركوزي. وبدلا من هولاء جميعا تظهر الديوانية وأهاليها عبر ذاكرة العراقية (وردية).

إشكالية (الهوية) أم وضوحها ؟
علينا أن نتذكر ولا ننسى أن (وردية) هي عراقية مسيحية وليست مسلمة، وهي اضطرت لمغادرة بلدها العراق بسبب مضايقات يفترض أنها تعرضت لها على يد (مسلمين)، وفوق ذلك هي الآن في بلد مسيحي، هي في فرنسا ((الأبنة البكر للكنيسة الكاثوليكية. ص27)) كما تصفها الرواية، والرئيس الفرنسي بنفسه ينزل من على المنصة ويأخذ بيدها داخل القصر الرئاسي، وبعد هذا كله فأن المسيحية وردية تجد نفسها الآن في حضرة أعلى سلطة كهنوتية مسيحية في العالم، أي قداسة بابا الفاتيكان بلحمه وشحمه. هذه المعطيات كلها يفترض أن تكون للمسيحية وردية (سندا وظهرا)، وليس أهالي الديوانية أو العراقيين عموما، وهذه المعطيات يفترض أن تجعل المسيحية (وردية) تشعر وكأنها في بلدها، وتجعلها تشعر بالأمان الحقيقي وبالطمأنينة الروحية، وأن تدير ظهرها للعراق وأهله الذين كانوا سببا وراء هجرتها وأبناء ديانتها، وأن تقطع أي خيط يربطها بالعراق، أو أقله تنسى العراق. لكن، ومرة أخرى، تخيب مؤلفة (طشاري) هذه الظنون. فالقصر الرئاسي الفرنسي لا يعني شيئا كبيرا عند وردية: ((لا هيبة لهذا المكان سوى هيبة التاريخ وقرقعة الأسماء الطنانة. ص9))، وأسم قداسة بابا الفاتيكان لا يبدو أنه حفر حفرا في ذاكرة (المسيحية) العراقية وردية: (( ما أسمه ؟ بنديكتوس ؟ تنسى وردية الأسم لأنها لم تعتد عليه. ص15))، وبالنسبة لفرنسا الكاثوليكية فأن المسيحية وردية تجد نفسها غريبة فيها: ((جاءت إلى هذا البلد الذي لا تعرف أهله ولا يعرفونها. ص18)) ((من يعرف هنا الدكتورة وردية ؟ ص18))
وفي العراق ؟ هل كانت العراقية المسيحية تشعر بغربة، روحية على الأقل ؟ هل كانت تجد نفسها (نكرة) كما وجدت نفسها في الغرب المسيحي ؟
في العراق كانت وردية أسم علم مشهور لا تحتاج إلى آل التعريف أو آل الدلالة. في العراق حتى شرطة المرور يعرفونها ((يتعمدون أن يؤشروا لها بالتوقف، لكي يسلموا عليها ويتشاقوا معها. ص20)). وعندما انتقلت من الديوانية لبغداد للعمل هناك كان يكفي أن (( يقف سائق سيارة الأجرة في كراج الديوانية ويصيح (دختورة وردية ... بعد ثلث ركاب ونقبط ... دختورة وردية ص22)) حتى يعرف أهالي الديوانية إلى أين هم ذاهبون، تماما مثلما يكفي أن ينادي سائق سيارة أجرة في كراج أي مدينة عراقية (بغداد... بغداد) فلا يحتاج الركاب أن يسألوه عن المدينة التي ينادي عليها.

الوطن ليس مجرد (تفاصيل) إنما هو (ياقوت) العمر
وإذا كانت المسيحية العراقية (وردية) تجد صعوبة في تذكر أسم بابا الفاتيكان، فأنها لا تجد صعوبة في تذكر أدق التفاصيل عن حياتها في العراق. وهذه ليست مجرد تفاصيل تثرثر بها (وردية) لتطرد عنها الوحشة، مثلا، بل هي، كما تقول (( ياقوت عمري. إن حياتي من دونه هباء ص24)). إنها، بالنسبة لوردية، مسألة وجودية على الطريقة الشكسبيرية (نكون أو لا نكون). وكينونة (وردية)، بما فيها من عمق وروح وطنبة عراقية وتسامح وشمائل إنسانية وارتباط عضوي ب(الأخر) المختلف من مواطنيها العراقيين غير المسيحيين، كانت قد أكتملت في العراق. من فصوص (ياقوت) عمرها، مثلا، هي (العلوية شذرة) من أهالي الديوانية التي ما تزال محفورة في ذاكرتها رغم مرور عقود من السنين، مثلما تظل محفورة في ذاكرة العراقية المسيحية (وردية) فصوص أخرى من (ياقوت) عمرها كالطقوس والمعتقدات وأسماء الأولياء والأئمة: الإمام (( العباس أبو راس الحار ليس غريبا عليها (وردية). ولا باقي الأئمة والأولياء الذين يتبرك بهم الأهالي ويلهجون بذكرهم. من يجرؤ على أن ينقض قسما بالعباس ؟ أسماء تتردد في تضرعات الحوامل عندما تحين تلك الساعة التي ما مثلها ساعة. يأتيهن المخاض ويشعل الطلق مجسات أعصابهن. يستنجدن بحيدر نصير لهن على الوجع الذي يفلق أسفل الظهر. يقعن دخيلات على الحمزة الذي يرقد عندهم في الديوانية. ينذرن أن يوزعن خبز العباس بعد انقضاء الشدة ص73)).
الهوية الفرعية والهوية الوطنية وعقد الجنتلمان
أفترض إن كون المسيحية (وردية) لا تحتاج لآل الدلالة في العراق ذي الأكثرية المسلمة، وكونها تصبح نكرة مجهولة الهوية لا يعرفها أحد في الغرب المسيحي، تكون مؤلفة (طشاري) قد حسمت نهائيا موضوع (هوية) المسيحيين في الشرق (طبعا في الرواية: المسيحيون العراقيون). فهم لا يعانون من مشكلة أسمها (الهوية)، هم مسيحيون ومواطنون عراقيون في آن واحد، دون أي تضاد أو تصادم بين الهويتين. وعلى امتداد الصفحات التالية من الرواية نستطيع أن نستنبط استنتاجا هو بمثابة حقيقة مفادها: إن العراقيين، كل العراقيين، ولأنهم مختلفون، قد وقعوا فيما بينهم عقدا غير مكتوب، عقد الجنتلمان، ينص على العيش المشترك بينهم لكن دون أن يتنازل أحد عن هويته ودون أن يذوب داخل هوية الآخر. إن (وردية) مسيحية وهي لا تتنازل عن هويتها المسيحية ولا تقبل الذوبان داخل هوية عراقية أخرى مغايرة، شأنها شأن جميع المكونات الدينية والمذهبية والقومية والعرقية التي يتشكل منها النسيج العراقي. لكن (وردية)، كما أبناء المكونات الأخرى في العراق، لها هويتها الأكبر، هي الهوية العراقية، حيث نتعرف على انخراط أخيها في النضال القومي العروبي، ومشاركتها هي في النشاطات السياسية سوية مع بقية العراقيين دفاعا عن بلدها العراق في العهد الملكي، عندما كان ((الكل مشدود للمعركة الوطنية ص81))، وكانت وردية قد تعرفت وهي في الثانوية ((إلى معاني حب الوطن. وكان في صفها أربع طالبات مسلمات وأثنتان مسيحيتان وسبع عشرة يهودية. إنها (وردية) المكلفة بجمع التبرعات لضحايا المظاهرات من الطلبة الجرحى برصاص الشرطة. لا تتأخر في الذهاب إلى اليهوديات فيتبرعن، مثل الأخريات، على مضض أو عن طيب خاطر. أحب اليهود موطنهم الذي وفر لهم عيشة طيبة ص81)).

(طشاري) بين عصفور من الشرق والحي اللاتيني
ولهذا، ولربما تأكيدا لهذه الثيمة المركزية، فأن مؤلفة (طشاري) عمدت، من الناحية التقنية، أن تبني الشخصية المحورية (وردية) بطريقة مغايرة عن أبطال روايات (عصفور من الشرق) و ( الحي اللاتيني) و (موسم الهجرة إلى الشمال). أبطال هذه الروايات ذهبوا للغرب وهم في مقتبل العمر بينما ذهبت إليه (وردية) في خريف العمر (في الثمانين من عمرها). (وردية) ذهبت للغرب وقد أنضجتها التجارب والأحداث، تجاربها وأحداث حياتها الخاصة، والتجارب والأحداث العامة التي عاشها بلدها العراق.
شخصية (وردية) هي الشخصية المحورية في الرواية، ولأنها كذلك فهي يفترض أن تكون، شأن الشخصيات الروائية المحورية في أي عمل روائي وشأن شخصيات الروايات الثلاث التي ذكرناها توا، من (الشخصيات الدائرية Round Characters ) أو من (الشخصيات الديناميكية Dynamic Characters)، حيث تنمو شخصيات كهذه وتتطور وتتغير داخل السياق الروائي. ولكن هذا لا ينطبق على شخصية (وردية). شخصية (وردية) بالإمكان تصنيفها في خانة ( الشخصيات المنبسطة Flat Characters ) أو ( الشخصيات الساكنة Static Characters ) أو (الشخصيات المتقولبةStock Characters ) التي تظل هي هي من بداية الرواية حتى نهايتها، لا تنمو ولا تتغير بطريقة عميقة وجوهرية. وإذا سمحنا لأنفسنا بأبتكار تعريف لشخصية وردية فبالإمكان أن نطلق عليها صفة (شخصية روائية مكتملة بذاتها)، أي ليست بحاجة لأن تنمو وتتغير. ولهذا، وبالعكس مما نجده في الروايات الثلاث أعلاه، فأن مؤلفة (طشاري) لم تلجأ لاستخدام تقنيات تساعد على نمو شخصية (وردية)، كالوصف مثلا، أو الحوار مع آخر أو حوار داخلي أو مصادفات غير متوقعة تواجهها (وردية دائما شبه صامتة على كرسي متحرك تستعيد ذكرياتها وعلاقاتها مباشرة مع أقربائها في باريس وبالتلفون مع أقربائها في أصقاع العالم). وهذا يتم ليس لعجز عند المؤلفة، كما نفترض، ولكن لأن المؤلفة، كما نعتقد، لا تريد ذلك. لماذا ؟ لأن شخصية (وردية) بهذه المواصفات هي، كما نرجح، انعكاس لفلسفة المؤلفة وتعبير عن وجهة نظرها فيما يخص موضوع (هوية) مسيحي الشرق.
(وردية) المسيحية العراقية القادمة من الشرق إلى الغرب أو من الجنوب إلى الشمال لا تعاني من أزمة هوية، وهي لم تقدم إلى الغرب من الشرق بحثا عن شيء مفقود، كأن يكون الجنس أو العاطفة أو الثروة أو الشهرة أو تحقيق الذات.
ورواية (طشاري) هي، أصلا، ليست حول علاقة الشرق بالغرب، بقدر ما هي حول علاقة الشرق مع نفسه. فالعراق( الشرق) الذي غادرته (وردية) وما تزال تحن إليه وتعشقه بعد أن وصلت الغرب، هو بلد (( مدسوس بين فكي الشيطان. هكذا كان في التاريخ ص 35 )).
والعراق المعاصر ؟ هل هو أيضا ((مدسوس بين فكي الشيطان)) ؟ الرواية تجيب، ضمنيا، ب"نعم". فقد شهدت (وردية) نفسها (( كل الثورات والانقلابات والانتفاضات ص36)) الداخلية عندما كان العراقيون يستغيثون وهم يرددون (( علكت ... ولعت. شبت النار في البلد))، وآنذاك ((تكون القيامة قد قامت والدبابات تحركت من معسكراتها)) وبعدها ((ينهمر الرصاص وتتبدل السحنات وترتجل المحاكمات وتنصب المشانق وتصل الدماء إلى الركب ص 35)). مع كل ذلك، فأن هذا الشرق (العراق)، المتخاصم مع نفسه والعنيف حد اللعنة والذي خبرته (وردية ) جيدا طوال ثمانين عاما، ما يزال في عين (وردية) مكانا بهيا تحن له. ورغم كل الأحداث المأساوية التي عاشتها (وردية) في العراق المعاصر إلا أنها (ليست كافية لإقناع وردية ص35)) بأن العراق (( بلد مدسوس بين فكي الشيطان))، لكن شرط أن يترك أبناءه يدبرون شؤونهم بأنفسهم بعيدا عن تدخلات خارجية.

السؤال السهل الصعب
إذن، لماذا هاجرت أو هجرت المسيحية العراقية وردية ؟ هي ترد كالآتي: (( إن السفر لم يكن قدري لكنني سرت إليه مثل المنومة. لم يعد لي، في ذلك البلد ما يبقيني ولا من يمسكني ص24)). لكن السؤال لم تتم الإجابة عليه ويظل كما هو: لماذا هاجرت أو هجرت (وردية) ومعها أبناء ديانتها المسيحيون، من العراق وأصبحوا (( طشاري ما له والي) ؟ على من تقع المسؤولية ؟ هذا هو السؤال المركزي في الرواية.
لا المؤلفة ولا (وردية) تضعان اللوم على العراقيين غير المسيحيين، فالعراقيون، كل العراقيين ( أهل أريحية وسماحة ص 18))، ولا على الإسلام (الإسلام كديانة وليس كسياسة)، فالشيخ داؤود الذي يؤم الصلاة في المسجد)) قال للعراقية المسيحية وردية عندما وصلها تهديد من الجماعات الإسلامية المتطرفة عندما كانت ببغداد: ( دكتورة، لا تخافي، نحميكم بعيوننا ص 130))، واللوم لا تضعه الرواية على العلاقات الاجتماعية العراقية، ولا على المنظومة الأخلاقية العراقية، فالعراقيون جميعا يمتازون برقة، فهم ((قدوا من أشعار وأبوذيات ص 18)).
من إذن هذه الجهة ؟ الراوية (المؤلفة ؟) تقول إن (( ساحرة شريرة تمسك بعصا البدد السحرية. ( رفعتها) عاليا في الهواء ثم (ضربت) بها بقعة من الأرض (العراق) كانت خصيبة، آمنة من الزلازل، محروسة بين نهرين، مأهولة بمليون نخلة، طافحة بذهب أسود، جاثمة على فوهة خليج ملتبس بين عرب وفرس ... تضرب الساحرة طاردة أهل البلاد إلى أربعة أطراف الدنيا. تبددهم بين الخرائط وهم دائخون لا يفقهون ما يحل بهم ص18)). لكن لماذا ؟ لأنها (( تريد أن تنتقم لأنها دميمة وشريرة... لأنها ورق وأصباغ ورسوم تتحرك وهم (العراقيون) صخر جلمود ص18)).
لو سعينا لإيجاد حل لهذه الأحجية ونزعنا عنها قشرتها الشعرية الأسطورية وحولناها إلى لغة حقائق باردة، أو لو صغناها بجملة تقريرية يبدو أن المؤلفة تتحاشى استخدامها كي لا تقع في المباشرة و الابتذال، فلا نظن أننا سنكون على خطأ لو استنتجنا ان هذه (الساحرة الشريرة) هي الولايات المتحدة التي شنت الحرب على العراق. ومع الحرب حدثت حرب أخرى على المجتمع العراقي بأسم الطائفية أمسى (التسامح) ضحيتها الأولى الكبرى. فبعد أن كان العراقيون ((جميعا أخوة وأحبابا وأبناء وطن واحد))، وبعد أن كانت وردية ((وهي المؤمنة بيسوع وبشفاعة مريم، تحضر القرايات على الحسين في عاشوراء ص171))، نهضت بعد الحرب (( حواجز وسيطرات وتفتيش طائفي والطلقة بفلس ص170))، و انتشر في شوارع بغداد أفراد ((بعضهم ملثم وبعضهم مسلح وبعضهم ملتح والباقي يبدو وكأنه في ورطة وجودية. المدينة كلها في ورطة وجودية. ولا أحد يعرف لمن يأمن وممن يخاف. والشوارع مقسمة حسب الطوائف ص20)).
هل هذا الوضع العراقي ( حواجز وسيطرات وتفتيش طائفي) استثنائي أم هو القاعدة في المجتمع العراقي ؟ نعم هو وضع استثنائي نشأ بسبب تسيد (( الزعاطيط وأدعياء الدين والطماعين والمتعصبين وكل الذين يريدون ترويع كرام الناس ص 130)). أما الوضع العراقي الأصيل، أي القاعدة وليس الاستثناء فهو الذي يمثله المتدين ((الشيخ داؤود)) الذي يشتم هولاء (الزعاطيط). العراق القاعدة وليس الاستثناء هو هذا الموزائيك، الهارموني، المختلف/ المتناسق المتواجد منذ الأزل الذي تستعرضه الرواية على امتداد الصفحات 240- 242. وحالما ضعف التسامح وتغلب التطرف سقط السقف الموزائيكي أو كاد وأصبح العراقيون في العراء بمواجهة ورطة وجودية.
لكن، هل سيظل العراقيون داخل هذه (الورطة الوجودية) ؟ هل سيتحول العراق نهائيا إلى (بلاد ألف ويلة و ويلة) ؟ هل سيظل العراق داخل تضاريس (أطلس الويلات)، أم ثمة أمل في الخلاص ؟
لقد كان الروائي فؤاد التكرلي قد حذر في روايته (الرجع البعيد)، وهو يتحدث عن انقلاب 8 شباط 1963 من أن دماء عراقية غزيرة ستسيل: (بلاكت راح يروحون ضحايا هواية، على بختك، عامي شامي ص 318). ومنذ عام 1963 استمر العراقيون يقتلون (عامي شامي)، وبعد التكرلي واصلت الأجيال الأصغر سنا من الروائيات والروائيين العراقيين طرح التحذير نفسه:
أما شبعنا نحن العراقيون من الدم ؟
هذا هو السؤال السهل الصعب، الذي تختتم به رواية (طشاري ص251)، وهو سؤال فيه لوعة ومرارة وألم وفزع واستغاثة. إنه، كما قلنا، سؤال وليس يقين، وجوابه أو بالأحرى أجوبته يتكفل بها القراء وحدهم.



#حسين_كركوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ( هروب الموناليزا): توثيق لخراب الماضي وهلع من إعادة استنساخ ...
- الحزب الشيوعي في عراق ما بعد صدام حسين
- العنف ليس قدر العراقيين ولا مصيرهم الذي لا خلاص منه
- الخارجية الاميركية تعلم العراقيين اصول الكلام : هزلت ورب الك ...
- حتى لا يتكرر( كرسي الزيات) مرة اخرى


المزيد.....




- الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
- يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
- معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا ...
- نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد ...
- مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
- مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن ...
- محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
- فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م ...
- ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي ...
- القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة ...


المزيد.....

- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسين كركوش - رواية (طشاري): لماذا أصبح العراقيون المسيحيون -طشاري ما له والي- ؟