عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 1219 - 2005 / 6 / 5 - 12:20
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
النضوج والتكتل الغائي 1948-1958
لا نبتعد عن الحقيقة إن قلنا أن مفهوم الضباط الأحرار يعكس في بعض جوانبه, نظرة الضباط إلى ذاتهم وإلى دورهم (التاريخي) المستنبط من حرفويتهم العسكرية وتبلورها كمهنة متخصصة وبالتالي من قدرتهم على إحداث التغييرات الجذرية المطلوبة بإعتبارهم (رواد) للصحوة الوطنية/ القومية وللتقدم الاجتماعي. أي هنالك تماثل نسبي مع فكر وممارسة الفئات الاجتماعية الوسطى المدنية حاملة هذا الدور. والضباط- على الأقل حسب تصورهم- يمثلون جزءً من الانتلجنسيا الوطنية لكونهم "يلعبون دوراً كبيراً في العصرنة والتحديث في بلدانهم" حسب قول المؤرخ أرنولد توينبي. أو ما بلغ فيه ميرسكي من كون الضباط في عالم الأطراف " افضل قطاعات الانتجلنسيا تثقيفاً... وهم يناضلون من أجل تحديث بلادهم المتخلفة ". و" أختار سلك الضباط أن يعتبر نفسه- بل ويظهر أمام أعين المواطنين- حامل راية أفضل ما في الثقافة الوطنية وكياناً يمثل مجمل الأمة ... ".
هذه التقيمات الايجابية المبالغ فيها لا تعكس الصورة الحقيقية والمطلقة لموقع هذه الفئة الاجتماعية في ظروف هذه البلدان ولا تتعقب سلوكيتها السياسية المحافظة أو تلك القلقة منها, كما لا تعكس سنن التطور فيها, نظراً لأن المؤسسة العسكرية تستمد نفوذها ودورها السياسي من جدلية المهمة الملقاة على عاتقها ومما تمتلكه من وسائل عنف, ومن طبيعة بنائها الداخلي وقدرتها على العمل المنظم ذو الفعالية الكبيرة, وتطلعاتها التي نمت في ذيل الحركة الاجتماعية من أجل الاستقلال الوطني والتقدم الاجتماعي.. ناهيك عن انعدام الاستقلالية الداخلية للعسكريين والذي يعتبر عامل اساسي من أجل تحديد موقع الجيش ضمن الهرم السياسي للبلد والخاضع للعديد من المؤثرات التي تفقد هذه المؤسسة الكثير من استقلاليتها.
بمعنى أخر, أن ظروف واقع التطور الاجتماعي في بلدان عالم الاطراف لا تجعل من فئة الضباط أفضل الممكنات المتاحة للتقدم الاجتصادي أو نسلم بإعتبارهم الطليعة المتقدمة التي تحرر المجتمع برمته وأن نضال هذه الفئة يخدم أفضل المصالح التاريخية لكل التراكيب الاجتماعية.
في الحقيقة هناك مجموعة من التناقضات تكبح دور المؤسسة العسكرية (الريادي المفترض), منها: ما يقع على صعيد التناقض بين المهمة الأرأسية لمهمة الجيش,الحفاظ على جغرافية النظام والأمن الخارجي والداخلي, من جهة والطابع الخاص للنشاط الذهني والعلمي من جهة أخرى. كما أن منهج البحث يتناقض مع طبيعة العلاقات في المؤسسة العسكرية, لأنه يستند على الطرح النقدي للظواهر من خلال دراسة الامكانيات والحدود ونقد الظروف المجتمعية.. اي أنه يقتضي خطوة جدلية دائمة الحركة, يتجه محورها الأراس نحو نقض ما هو قائم والبحث عن الآفاق المستقبلية. و يكمن في هذه النقطة جوهر التعارض بينهم وبين بقية فئات الانتلجنسيا, على أن نضع هذا التعارض في حدوده النسبية.
تتميز فئة الضباط بقدرتهم على التحكم بوسائل العنف بإعتبارهم [اخصائيون محترفون للعنف], لقد أدركوا من خبرتهم ومن حرفويتهم, إن إسقاط نظام ما في بلدان عالم الأطراف, يمكن تحقيقه بسهولة كبيرة نسبياً, عندما لا تستطيع أو/و لا ترغب المؤسسة العسكرية في الدفاع عنه وحمايته, وهذا ما دللت عليه الوقائع التاريخية لعراق القرن العشرين.
أزعم كما اشرت سابقاً, أنه: ضمن المعطيات الموضوعية أن كل التغيرات الجذرية والعميقة في العراق كانت تتم عبر المؤسسة العسكرية أو بمباركتها. أما الانتفاضات الشعبية والحِراكات الاجتماعية الواسعة على كثرتها, هي ارهاصات أنضاج الظروف اللازمة لتحقيق مطلبية التغيير, الذي يصطدم دائماً بجدار القوى المحافظة التي تحتكر التصرف بالوسائل العنفية في الوقت ذاته. وأزعم أيضاً إن هذه الحالة تكاد أن تكون أحدى قانونيات التطور في هذه البلدان وسنه من سنن الصراع الاجتماعي.
وعليه يمكننا رصد الجانب الأخر من التوترات التي تقع في قلب تناقضات المؤسسة العسكرية ذاتها وبالأخص بين القيادات العليا ذات العقلية التقليدية, التي ترى أن واجبها الأرأس يكمن في الحفاظ على النظام وجغرافية حدوده وطبقيته, بينها وبين القيادات الوسطية والصغرى الذين يربطون بين المشروع الوطني والحفاظ على النظام من خلال الترابط الجدلي بينهما.
بمعنى آخر " ادراج الجدلية محل الطرح الاستاتيكي التجميدي. إن الدولة المعاصرة تتكيف من جديد بصورة ميسورة نسبياً من حيث أبعادها الاقتصادية والثقافية. ومكان التناقضات – بين النظام والحركة, بين المحافظة والجدلية- يقع فعلاً في قلب الدولة, أي في الجيش, من هنا مناخ التناقضات, والتوترات القصوى وعدم التفهم والهامشية ".
لقد تطورت المؤسسة العسكرية ضمن تطور مركزية الدولة ومؤسساتها التي اوجبتها إطار الحاجات الخاصة بها وبأليتها ضمن ما فرضته العوامل الداخلية والخارجية من توجهات وضرورات, وأولويات الصراع الاجتماعي ومدى حراكيته. إذ ترتب على ذلك أن يلعب الجيش دورا (ربما) مركزيا في عملية بناء السلطة السياسية, في البلدان الفاقدة لارث التعددية السياسية, أو/و تلك الدول ذات المركزية المفرطة, أو/و تلك البلدان التي يقوم تراثها الثقافي/ السيسيولوجي على الدمح بين السلطتين الروحية والزمنية. وهذا ما دللت عليه التجربة العراقية. خاصةً إذا علمنا إن تتبع تكوين الدولة العراقية الحديثة منذ عام 1921 يكشف عن حقيقتين وهما:
- أن الدولة العراقية المعاصرة قد أقامتها قوى الاحتلال البريطاني على العراق وبأشراف قيادة عسكرية, وإلى حدٍ ما سياسية بريطانية.
-. إن الغالبية العظمى ممن كان على رأس الدولة العراقية أثناء التأسيس كانوا من الضباط العراقيين الذين عملوا في الجيش العثماني ومن ثم ضباطاً في (الجيش العربي) الذي حارب إلى جانب بريطانيا والملك فيصل الأول (الضباط الشريفيون) الذي هو منهم.
وهذا يعني بوضوح أن الدولة العراقية لم تكن من حيث التأسيس والنخبة الحاكمة مدنية, بل كان جل المهيمنين على المراكز الحساسة في البلاد بيد العسكريين. ولهذا برز بوضوح دور العسكر على امتداد عمر الدولة العراقية.
ولاسباب موضوعية, فقد صاغت الظروف الداخلية والتأثيرات الخارجية قوة فعالية تأثير ضباط الجيش على القرار المركزي للدولة, وفي الوقت نفسه في إبراز إختلافاتهم في الرؤية والرأي إزاء المواقف الحياتية الملموسة وصراعاتها الاجتماعية, وبالتناغم مع التطلعات الذاتية لبعضهم, في بروز ميلهم نحو الانحراف عن مجال مهمتهم الأراسية والتطلع إلى القيادة السياسية بإعتبارهم ذوي رسالة تحديثية ودور تاريخي (ربما مزعوم). بمعنى آخر "... تحول الجيش من حرس بريتوري إلى طليعة تقدمية... لكونه أداة بيد الطبقة الوسطى الجديدة ", خاصةً عندما قاد تغيرات عميقة في الواقع المادي.. وكان بمثابة اتجاه تاريخي للفئات الوسطى.
لقد تكاثفت, في أعقاب هزيمة حركة مايس التحررية كما مر ذكرها سابقاً, جملة من الظروف الذاتية والموضوعية داخل المؤسسة العسكرية وفي البلد ومحيطه الخارجي.. أدت إلى أن تستعيد الفئات المسيسة من الضباط ثقتها بنفسها, ويتصاعد تذمرها الذاتي نتيجة العمليات المكثفة للطرد والاحالة على التقاعد والإجبار على الإستقالة للعديد من الضباط مما ولد تذمراً لديهم , سرعان ما نحول إلى حالة نوعية تمثلت في تحوله إلى ظاهرة من السخط الواعي, تبلورة في صيرورة جديدة أدت في نهاية المطاف إلى فهم ضرورة تكتلهم الغائي المستند على الرؤية الجمعية لأهم معضلات وإشكاليات الواقع العراقي, والابتعاد (قدر الإمكان) عن التكتلات ذات الولاءات الدنيا من: ذاتوية وأسروية, عشائرية وقبائلية, دينية وطائفية, والاستعاضة عنها بالتعبير عن مسلمات اجتصادية/ سياسية/فكرية مُعبرٌاً عنها بهذه الدرجة أو تلك, من حيث الشمولين الاجتماعي والجمعي لأبعاد الواقع العراقي وبتلك النوعية التي تصرخ الحياة بها..
لكن في الوقت نفسه يجب عدم إغفال البعد الذاتي للضباط والشهوة الطاغية (لبعضهم) للسلطة كغاية مستهدفة بحد ذاتها. هذا الرصد لبعض الطامحين والمغامرين يجب أن لا يغفلنا عن ماهيات تكتل البعض الآخر, لأنه من السطحية بمكان التركيز على أن غائيتهم ونضالهم في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وما تمخض عنها من انفتاح فكري وسياسي, كان منصباً على السلطة ولذات السلطة بحد ذاتها.
وعليه مثلت ظروف هزيمة حركة مايس التحررية وتفليص حجم الجيش, بداية فقدان ثفة الضباط, وخاصةً المسيسين منهم, بمؤسسة العرش والعائلة الهاشمية الحاكمة وتطلعتها وطبيعة إدارتها للحكم.. وقد أدت هذه الوضعية الجديدة المتوترة بينهما, إلى حالتين متباينتين هما:
أولا - تكاتف نخب الحكم السياسية وراء مؤسسة العرش وحماية النظام برمته عبر سياسة نفعية زبائنية ذات أربعة أبعاد هي:
- تغيير استراتيجية الاستقرار وذلك بإبعاد الجيش ما أمكن عن التدخل في الحكم؛
- تحديث قوى الأمن الداخلي لمواجهة الانتفاضات الشعبية بدلاً من الجيش؛
- تعزيز نفوذ العشائر في البرلمان والسيطرة على الريف؛
- الاعتماد المتزايد على التحالف مع المراكز الرأسمالية.
هذه السياسة العامة أدت بصورة غير مقصودة إلى :
ثانياً – تعمق الخلاف بين القوى الاجتماعية الحية عامةً والضباط المسيسين خاصةً, وقوى نظام الحكم برمته.. مما أدى بالضباط ومن يقف خلفهم من القوى الاجتماعية, إلى البحث عن الاجابات التي تطرحها تساؤلات الحياة.. ووجدت ضالتها في التفسيرات التي كانت تطرحها الاحزاب السياسية, أو بعضها على الأقل, وخاصةً تلك المطالبة بالتغيير المتلائم مع روح العصر ومضامينه. هذا التشابك بين الاطراف قسح المجال لدخول الاحزاب السياسية إلى قلب مؤسسة الدولة, وذلك من خلال إقامة العلاقات التنظيمية الحزبية المنظمة, التي حفزت على وعي الذات السياسية والوظيفية للضباط وخاصة أولئك الذين لا تزال, علاقاتهم الطبقية وشيجة مع واقعهم الاجتماعي ولم تصهرهم المهنوية العسكرية. هذه العلاقة الحزبية (بالمعنى الواسع) جسدت تجليات الوعي الاجتماعي ووسعت المدارك وسلطت الضوء على ماهيات الحكم وطبيعته, وقاعدته الاجتماعية وتناقضاتها ومضامين تحالفاتها الخارجية ومدى عكسها لمصالح الوطن.
لقد رأى هؤلاء الضباط وخاصةً الصغار منهم, أن مصالحهم متجسدة في برامج هذه الاحزاب وليس مع القوى الاجتماعية للنظام.. هذا الانتماء وما تولد عنه.. ساعد على إنضاج فكرة التكتل الغائي ونمو الوعي السياسي وعمق في الوقت نفسه من فهم التناقض والعداء مع السلطة والتي بلغت, منذ ذلك الوقت, حدود اللا عودة.
لقد شعرت النخب الحاكمة بهذه التطورات وتخوفت منها ومن عواقبها, ومن أية محاولة محتملة الوقوع على غرار ما حدث في مايس 1941.. ولذا إتخذت جمبة من الإجراءات للحد من تأثيراتها, منها:
- زيادة السيطرة والرقابة العسكريتين وإحالة العديد من الكفاءات العسكرية على التقاعد, أو نقلهم للوظائف المدنية, وخاصةً تلك التي لها مواقف من بريطانيا وبعثتها العسكرية , أو أولائك المشكوك في ولائهم للعرش؛
- إبعاد الوحدات الفعالة عن العاصمة وأن تكون بلا ذخيرة عند مرورها فيها. وكانت أقرب وحدة فعالة في المسيب التي تبعد عن بغداد حوالي 70 كم؛
- عدم إستخدام الجيش في القمع الداخلي إلا في حالات الضرورة القصوى, والاقتصار على قوى الأمن الداخلي, حيث؛
- تحسين المستوى المعاشي للضباط من خلال الرواتب التي زيدت خلال الفترة 1934-1958 حوالي ثلاث مرات, الأولى عام 1939والثانية خلال عام 1947 والثالثة عام 1954, أي بمعدل مرة كل 8 سنوات تقريباً.
كانت كل هذه الإجراءات تدابير وقتية أريد لها إلغاء ما أمكن من تسيس الضباط والحد من الانتماءات الحزبية.. لكن الوقائع التاريخية أثبتت خطل مثل هذه التدابير, لأنها لم يُنظر لها بكل شموليتها الاجتماعية, مما أدى إلى إنتشار العلاقات السياسية والحزبية بشكل ملحوظ داخل المؤسسة العسكرية.. خاصةً إذا علمنا أن أغلب الضباط, والصغار منهم على الأخص, ينحدرون من عوائل الفئات الوسطى والأقل منها, ومن المتحسيسين إلى ماهيات الاوضاع الاجتصادية/ السياسية العامة ولضرورات التغيير.
لقد هيأت هذه الظروف وأنضجت إلى حدٍ ما العامل الذاتي. وكان من نتائجه توثيق عرى التحالف بين القوى الاجتماعية لقاعدة الحكم, من رؤساء العشائر والكبار منهم على وجه الخصوص, والنخب العسكرية العليا وكبار الملاك والارستقراطية القديمة. لكن هذا التحالف أدى من جانب آخر إلى كبح عمليات التغيير الاجتصادي/السياسي, إذ لم تلعب الدولة- عبر مؤسساتها وبإعتبارها أكبرمالك ومورد- كمحفز على تحديث البنى الاقتصادية وبالتالي الاجتماعية, وكذلك الألية السياسية لإدارة السلطة التشريعية منها والتنقيذية.
في الوقت نفسه أدى هذا التحالف إلى إبعاد المؤسسة العسكرية من التأثير المباشر على قرارات السلطة المركزية بصورة مؤقته مقارنةً بالمرحلة السابقة, لكنه عمق التناقض بينهما من جهة, ومن جهة ثانية عزز المواقع الاقتصادية والسياسية لقواها الاجتماعية وحمى مصالحها على حساب الطبقات والفئات الاجتماعية الجديدة ووزنها النوعي مثل الفئات الوسطى والبرجوازية الوطنية وفئات الشغيلة في المدينة والريف مما زاد من فجوة التناقض بحيث أمست الدولة العراقية للفترة 1941-1958 " أكثر قرباً من الدولة العثمانية منها إلى دولة حديثة. وكما في الدولة العثمانية أصبحت الدولة في العراق ألة لحماية التوازن بين القوى في المجتمع ولم تعط للقوى الجديدة أي اهتمام يذكر ... " مما زاد من تعمق أزمتها البنيوية وهيأ الدور لقوى العنف المنظم لتلعب دورها في حل مثل هذا التناقض.
وقد رصدنا في هذه الظروف, تبلور فكرة لدى الضباط القادة الآمرون , تتكون من ثلاثة أبعاد مترابطة, تعكس واقع تطورهم العام وتفاعلهم الجدلي لما يفرزه الواقع المادي لشعولهم. هذه الأبعاد يمكن تحديدها بـ :
- أن العسكرية أصبحت مهنة تخصصية تتطلب معرفة علمية؛
- يضطلع الضابط العسكري ب(دور تاريخي) مناط به سواءً على صعيد مهنويته أو/و في رؤيته التنموية لواقع البلد؛
- أصبحت المؤسسة العسكرية تعكس الواقع الاجتماعي العراقي بتلاوينه المتعددة.
هذه الفكرة, حسب قراءتنا مستنبطة لحد بعيد من:
- وعي أهمية الدور المهني الذي لعبه الضباط في أغلب دول المنطقة تاريخياً, ومن(النضوج) النسبي لتصورهم الذاتي للحياة؛
- كما أنه مستوحى من دور القوة (العنف) في إدارة الدول حديثة الاستقلال التي لم تنضج فيها مقومات المجتمع المدني الحديث؛
- ومن تعامل المراكز الرأسمالية, ضمن مستجدات ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية وإخمادها عبر الجيش للجذوات التحررية التي نشبت في كثير من هذه البلدان؛
- وأخيراً من فشل وعجز أكثر حكومات هذه البلدان عن تحقيق التنمية الاجتصادية المطلوبة عبر الآلية البرلمانية.
- مبررات التكتل الغائي:
ساهمت هذه الفكرة والظروف الموضوعية والذاتية للبلد والمؤسسة العسكرية, على بلورة التكتل الغائي لدى هذا الضابط أو ذاك, ثم نضجت وتطورت لدى هذه المجموعة أو تلك.. ثم تم تبنيها, أو ما مرادف لها, من خلال تكوين خلية أو لجنة عسكرية لدى هذا التيار السياسي أو ذاك الحزب.. هذا الشكل التنظيمي- كظاهرة اجتماعية, شجعته ظروف معينة على الولادة .. ثم نمى بفعل تراكم عوامل كمية أنتجت حالتها النوعية المجسدة في بلورة النزوع الثوري للتغيير.
وإستنباطاً من تاريخية المؤسسة العسكرية, يمكننا القول أن المزاج الثوري الحامل بالتغيير, لم يظهر فجأةً أو كنتاج لحادث فردي أو رغبوية أنوية, بل هو نتيجة لتراكمات بطيئة تدريجية لازمت المؤسسة العسكرية منذ تأسيسها.. وهذا ينسجم نسبياً مع النزوع السيكولوجي/ السيسيولوجي للفرد العراقي في نحوه نحو المعارضة وسليقته المنتفظة , هذا من جهة. ومن جهة أخرى, يعكس هذا المزاج الثوري, في بعض جوانبه, الأزمة البنيوية للسلطة وإخفاقها في إعادة انتاج ذاتها وتحقيق التطور المنشود. ولما كانت الحياة تصرخ بضرورة التغيير الذي قواه الجديدة (من الفئات الوسطى بصورةٍ أساسية ), لم تكن لديها القدرة الموضوعية والذاتية على تجسيد هذا التغيير, نتيجة الاغلاق المحكم للتداول السلمي للسلطة عبر الآلية البرلمانية وقمع أية محاولة لبرالية جادة, مما أدى تثوير هذا المزاج لدى الضباط المسيسين.. مما دفعهم للتكتل الغائي بغية تحقيق صيرورة التغيير. ومن جانب ثالث " فإنّ المشاعر القوية التي كانت تجيش في أعماق الناس كانت تجيش أيضاَ في أعماق الجيش. وليس اكتشاف السبب صعباً. فالجيش اعتمد منذ عام 1935 وإلى حدٍّ كبير, على التحنيد الإلزامي, وبهذا فقد مال إلى أن يعكس المجتمع بطبقاته المختلفة, وكان لا بد له من أن يعكس في النهاية مشاعره وصراعاته ".
كانت حرب فلسطين الأولى 1948, درساً بليغاً في سياسة القوة التي أثرت في جميع ما تلاها من سلوك سياسي خلخل الثقة بالقيم السابقة للحكام وما ينسجون من علاقات دولية وإقليمية... فكانت هذه الحرب الحد الفاصل بين التكتلات السابقة ذات الطابع الفردي وغير الناضجة المحدودة الابعاد, وبين الشكل الغائي للتكتلات [الضباط الأحرار], التي أمست ظاهرة تستحق الدراسة والتأمل. كما كان للقطيعة التي تمثلت بين الضباط المسيسين والزعامة الحاكمة المتواطئة حافزاً قوياً لإنضاج فكرة التكتل من الناحية الذاتية. في عموم المشرق العربي.
وهكذا جسدت حرب فلسطين والعودة الخائبة للجيش وطبيعة إدارتها والنتائج التي تمخضت عنها, ودور بريطانيا فيها, "… والتوقف المستغرب لعمليات القوات العراقية للفترة من تشرين الأول (أكنوبر) وحتى كانون أول (ديسمبر) 1948عندما كان المصريون مشتبكين مع الإسرائليين في معركة حاسمة, والإشاعات المستمرة حول الاتصالات السرية لملك الأردن عبد الله بن حسين مع الزعماء الصهاينة... " والأهم إلقاء تبعية النكبة ومسؤوليتها على الضباط, كلها تعد من أهم الأسباب الأرأسية لتشكل هذه التكتلات. كما كانت باعثاً قوياً على الانقلابات العسكرية, بغض النظر عن مصداقية هذه الادعاءات, لكل بلدان الجوار الفلسطيني.
كما إن حرب فلسطين لعبت دوراً في إعادة إنبعاث فكرة (الدور التاريخي) للضباط, والعودة القوية لهم إلى واجهة القوى المؤثرة على القرار المركزي للدولة. فلا عجب أن رأينا أن أول تكتل غائي للضباط العراقيين (بالأحرى إرهاصاته العملية الأولى) تكوَّن أثناء حرب فلسطين, كدافع وجغرافية.
مثلت هذه البداية, مقارنةً بتكتلات الثلاثينيات, البداية الجدية المتميزة ذات مضامين جديدة؛ وعقلية نوعية أكثر إدراكاً لواقع البلد ولذاتهم؛ ذات طابع جمعي وليس فردي؛ تحمل مطالب مُعبر عنها سياسياً ؛ مستقلة عن النخب السياسية الحاكمة؛ ذات طبيعة سرية واسلوباً تنظيمياً ذي مرونة مشتق من جوهر أعراف وقيم المؤسسة العسكرية؛ ووسائلها مستنبطة من نوعية غائياتها؛ لها صلات أوثق بالقوى الاجتماعية الجديدة وأحزابها السياسية؛ مستهدفةً النظام السياسي برمته وقاعدته الاجتماعية.
رمت الظروف والتطورات السياسية للبلد والمؤسسة العسكرية بثقلها على الضباط لتجديد قدرته ( أو قل دوره) المستقل بالتعاون مع الأحزاب السياسية. إذ " كان الجيش العراقي, وهو جزء من الأمة, غير بعيد بطيعة الحال عن تلك الأحداث فلم يكن بالإمكان عزله عنها أو جعله أداة طيعة دائماً بيد أولئك الحكام رغم التنكيل الذي أصابه بعد ثورة 1941 الوطنية ومحاولة إيجاد الحواجز بينه وبين كل حركة وطنية, فقد كنا نلاحظ أن الروح الوطنية في صفوف الجيش آخذة بالإتساع, لا سيما وأنه قد تلمّس خيانة الفئة الحاكمة في حرب فلسطين بصورة لا تقبل الشك. وبينما أهذ الناس بعتقدون أن لا فائدة نرجى من إصلاح حكام البلاد الطغاة الفاسدين, سرت هذه العقيدة نفسها في الجيش فأخذ الكثيرون من أبنائه بفتشون عن الوسيلة الكفيلة بتخليص البلاد من تلك الطغمة الفاسدة, وقد ازدادوا اقتناعاً بأن ذلك الوضع المستند إلى حراب الأجنبي لا يمكن إزالته إلا بقوة السلاح الذي يعززه إيمان عميق بالوطنية, وكلما كانت المنظمات الوطنية تزداد إيماناً بحق الثورة بعد أن استنفذت كل الوسائل السلمية للسير بالبلاد سيراً ديمقراطياً, رسخت العقيدة لدى الجيش بأنه المؤسسة الوحيدة التي تملك فرض إرادة الشعب بالقوة ".
لقد أخذ الضباط المسيسون المبادرة في تنظيم أنفسهم نحو الغائية الاجتماعية/السياسية, في ظرف كانت سماته الأرأسية مشحونة بالتوتر الاجتماعي والاحتقان السياسي والأزمة الاقتصادية وبالحراك الثقافي العام وعدم القدرة في التأثير على الآلية البرلمانية وتداول السلطة سلمياً.
ضمن هذا الظرف المشحون وعت الكوادر, وخاصةً الشابة, المسيسة في المؤسسة العسكرية ولمست ضرورة التغيير العام منذ نهاية الاربعينيات تحديداً وبدأت تستوعب ماهية قدراتها وطبيعة الدور المناط بها, حتى باتت تمثل منعطفاً جديداً في امكانية تحقيق هذه الصيرورة المرتقبة في كلية الحكم الشمولية شكلاً وجوهراً, وبقاعدته الاجتماعية الضيقة. من هنا بدأ التحرك نحو التكتل المنظم والغائي, بعد نضوج جملة محفزات ودوافع تزاحمت وتناكبت, على بلورة مثل هذه القناعة/ الفكرة لدى هؤلاء الضباط خريجي المدرسة العراقية.. منها :
- الظروف الذاتية للمؤسسة العسكرية:
تكاثفت جملة التغيرات التي حدثت في ذات المؤسسة والتي بدأت مع بدايات صعودها المؤثر في الحياة السياسية.. وتبلورت هذه التغيرات منذ مطلع العقد الخامس .. منها :
- منذ إنكفاء حركة مايس وما آل عنها بالنسبة للضباط من إعدام الحياة لرموزها وطرد وتسريح وإحالة على التقاعد وإجبار الكثير على الاستقالة.. بالإضافة إلى عودة المستشارين البريطانيين إلى مراكزهم في المؤسسة العسكرية, مما أدى إلى تقزيمها حجماً وإنحطاط قدراتها نوعاً, من قبل السلطات العراقية المنفذة لمقترحات البعثة البريطانية.
- العودة غير المظفرة والإداء الواهن في حرب فلسطين وإكتشاف التواطئ بين الحكام العرب والمراكز الرأسمالية, وخاصةً بريطانيا, والصهيونية العالمية..أثناء هذه الحرب.. كلها عوامل " جعلت عدداً أكبر وأكبر من الضباط يتخلى أكثر فأكثر عن الاوهام بخصوص العائلة الهاشمية الحاكمة.. " في العراق والمنطقة, إذ " كان الناس مترددين في إتهام العائلة المالكة وإتهام نظام الحكم.. لكن في حرب فلسطين إنكشف الموضوع وظهر أنهم كانوا متآمرين لإقامة ما يسمى بدولة إسرائيل ".
- ومما عمق هذه الفكرة, أن العرش والنخبة الحاكمة ألقت باللوم على الجيش في إخفاقه في هذه الحرب, مما أدى إلى انتفاض الكرامة المهنوية لدى الضباط وخاصةً الكوادر الوسطى, الذين كانوا يغلون حقداً على الرؤوس التي أدارت هذه اللعبة المتواطئة, وعلى تلك التي كانت طرفاً فيها من حكام ودول.. أدى هذا الظرف المعنوي والنفسي, إلى تلمس هؤلاء الضباط وعي ضرورة التغيير, خاصةً وان المزاج (الثوري) الذي رافق وثبة كانون1948 وما بعدها, بدأ يتسلل إلى الجيش بصورة غير مُعلنة في البدء, بفعل التراكم الكمي للأحداث وتطورها النوعي.
- ونتيجة لدخول الحزبية السياسية الحديثة, المتعددة المشارب الفلسفية, إلى كم كبير نسبيا ًمن المكونات الاجتماعية, منها العسكرية, وتأثر عناصرها الشابة سواءً من الضباط الصغار أو المراتب (ضباط الصف والجنود), مما أثمر وعياً أكثر نضجاً وتوثباً وتألباً ضد العرش ونظامه السياسي, كما انضجت علاقات أرقى نوعياً مما سبق بين الكتل العسكرية أو بين بعضها وبعض قيادات الاحزاب السياسية المعارضة, سواءً بصورة منفردة [ مع الحزب الشيوعي؛ الاستقلال؛ الوطني الديمقراطي؛ وإلى حدٍ ما مع البعث في فترة متأخرة من التظام الملكي], أو محتمعة كما هي الحال مع جبهة الاتحاد الوطني.
- ويمكن أن نضيف عاملاً آخر.. من عوامل بلورة وعي التغيير وتبنيه.. ألا وهو الأصول الاجتماعية لمنتسبي الجيش, سواء أكانوا ضباطاً, والصغار منعم خاصةً, أو من المراتب. لقد توسعت القاعدة الاجتماعية للفئات الوسطى في المجتمع منذ النصف الأول من الخمسينيات, بخطى واسعة ومتسارعة حتى بلغت نسبتها في حدود 28% من مجموع القادرين على العمل أي في حدود 740 ألف فرد في مطلع عام 1958 .. مما أفسح المجال لأبنائها للانخراط في المؤسسة العسكرية. لهذا نرى أن أغلبية الضباط منذ منتصف الاربعينيات, ينحدرون من عذع الفئات الاجتماعية بمختلف شرائحها المتوسطة والصغيرة, التي غالباً ما تكون راديكالية طامحة نحو التغيير, بحكم تكوينها ونفسيتها وموقعها في عملية الانتاج الاجتماعي وفي إنتاج المعرفة العلمية.. هذا الدور يتجلى بقوة في عالم الأطراف النامية. في الوقت نفسه هذه المكانة الاجتماعية تضعها في تناقض مع النخب السياسية التقليدية, في المصالح والتوجهات الفكرية والرؤى المسنقبلية.
- دور منظومة العوامل الذاتية والنفسية للضباط كحافز لتنبي فكرة التغيير, إذ يلعب البعد الذاتي وتحقيق الذات المهنية والطموح الشخصي دوراً في التكتل الذي تغذي نزعتة طبيعة وخصوصية المؤسسة العسكرية وخصوصية وعلاقاتها؛ ودرجة التفاعل النفسي/الاجتماعي السائد المتماثل مع نزعة [الزعامة الملهمة, الصمدانية] و[عبادة الأبطال] والمستنبطة من التراكم الثقافي- السيسيولوجي العام؛ من القيم والمعتقدات ذات البعد التاريخي؛ ومن الأنوية الذاتية .
- يضاف إلى ما سبق’ ما تشيعه أنظمة المؤسسة العسكرية ذاتها, بصورة مباشرة أو غير مباشرة, وتغذيه بصورة دائمة ألا وهو التركيز على الأبعاد التاريخية (للدور التاريخي) للجيش ودوره في تكوين السلطة العراقية, المنطلق من فكرة مفادها [ بأنهم ليسوا خدنلً للدولة,, بل اسياداً لها ]. لقد حققت هذه الفكرة ذاتها في الثلاثينيات, بعد أن رافقت نشوء الدولة,, ومن ثم أحتجبت عن الظهور بعد فشل حركة مايس 1941, لتستعيد ذاتها ودورها منذ نهاية الأربعينات.
هذه العوامل وغيرها, دفعت بالقوى الواعية المسيسة من منتسبي الجيش إلى تبني فكرة/ فعل التغيير, خاصةً عندما إقترنت بالعوامل الموضوعية للبلد بصورة عامة.
- العوامل الموضوعية للبلد : الداخلية والخارجية:
تمثلت العوامل الداخلية المحفزة للتكتل الغائي بوصفه وسيلة للتغيير المنتظر, في جملة من المحاور الأرأسية, منها:
- الأزمة العضوية للنخبة السياسية.. التي انعكست في مجمل سياساتها وآليات عملها وظروف تجسيدها ومضمون توجهاتها وما اصاب اغلب مفرداتها من إخفاق.. وأدت جميعها إلى أن تكون عرضة إلى الحراك الأفقي الدائم والتبدل المستمر وعدم الثبات في إدارة السلطة العامة, ضمن دائرتها الضيقة, خاصةً بعد المخاض الكبير لوثبة كانون 1948؛ وجملة الانتفاضات الشعبية اللاحقة, وعلى الأخص في الأعوام 1952,1954 و1956..سواء الشاملة منها أو الجزئية لمساحات الوطن؛ أو بعض طبقاته وفئاته الاجتماعية؛ للمطلبية المحدودة أو العامة..التي عبرت جميعها عن ذاتها بمختلف أشكال الحراك الاجتماعي ذي الايقاع السريع, من إضراب وإعتصام, من مناشدات إلى مصادمات, التي عكست في جملتها, حالة الرفض لسياسة النخبة الحاكمة وما تركته من احتقانات اجتماعية وإشكاليات أثنية وطائفية سياسية وتمايزات اجتماعية/ ثقافية وإهمال للقوى الاحتماعية الجديدة.
في الوقت نفسه وجدت كتل النخبة الحاكمة نفسها في تناقض تناحري مع هذا الحراك الاجتماعي, سواءً بصدد القاعدة الاجتماعية للحكم أو/و تغيير آلية إدارة الحكم, كذلك في افساح المجال للفئات الوسطى والمثقفة؛ أو من أجل بناء وتوطيد مؤسسات المجتمع المدني وإستقلاليته عن الدولة؛ في التوزيع العادل للثروة الاجتماعية وتحقيق العدالة النسبية؛ أو في تعجيل التنمية الاجتصادية المتوازية جغرافياً وطبقياً, بغية الحد من منطق قانون التطور اللا متكافئ لكافة مناطق البلد؛ ومن درجة التبعية للسياسة البريطانية.. وغيرها من المطالب المنبثقة والمشتقة مما ذكر أعلاه.
إن ردود فعل النخبة السياسية والعرش, على هذه المطالب المُعبر عنها, والذي أقترن في الكثير من الأحيان بالعنف الشرس, الذي نجم عنه أيضاً تبلور فكرة الابتعاد النهائي الذي لا رجع فيه, عن العائلة الهاشمية الحاكمة وعرشها في العراق, وعن القوى الاجتماعية المساندة لها, التي أوجدت نظاماً سياسياً عقيماً, لم يؤدِ حتى إلى تجديد إعادة إنتاج ذاته, بدرجةٍ أرقة نوعاً وأوسع كماً وأطثر تلائماً لمتطلبات الواقع الاجتماعي المتغيّر, مما أدى به إلى كبح القدرات الذاتية لآليته على تجاوز أزمته البنيوية الداخلية وإنعكاساتها الخارجية. وكان من عواقبها الطبيعية إغلاق منافذ التغيير لدبه, ناهيك عن القوى الآخرى من خارجه, وإجترار نفسه والعيمتة شبه المطلقة للعقلية التي تجاوزها الزمن روحاً وممارسةً.
لقد لمست, عمق أزمة الحكم هذه, العديد من القوى الاجتماعية والسياسية, بل وحتى الأجنبية, منها بعض المراكز الرأسمالية كبريطانيا والولايات المتحدة على وجه الخصوص, اللتين رأتا, ضمن منطق مصالحهما, ضرورة أبعاد الرموز التقليدية المسيطرة على الحكم, من أمثال عبد الإله والسعيد وغيرهما من المخضرمين ومن الضباط الشريفيين الذين تكونت شخصيتهم في العهد العثماني وبعقلية " تركية عبد الحميد" في أجواء العصور الوسطى. لكن هذه الرغبة أصطدمت بصخرة الرفض من قبل هؤلاء, مما دعا البريطانيين والامريكيين, كلٌ على حدة, إلى التفكير بإستخدام الجيش للقيام بإنقلاب فوقي بإشرافها لتدارك حدوث ما لا تحمد عقباه, وقد فاتحوا بالفعل بعضاً من قيادات المؤسسة العسكرية للقيام بذلك .
- ولعبت العوامل الاقتصادية, مخاصةً ما يتعلق منها بالبناء الاقتصادي وسيادة الانماط الاقتصادية المتخلفة وما ينجم عنها من علاقات انتاج لا تنسجم ولا تتناسب وضرورات التنمية ومتطلبات العصر وروحه. تتضح هذه االحالة بصورة مجسدة في سيادة العلاقات شبه الاقطاعية المهيمنة والكابحة لزيتدة الانتاج الاجتماعي, مما ترتب عنها في أحدى تجلياتها تعميق الصراع بين الفلاحين شيوخهم من جهة وزيادة حدة التناقض بين المدينة والريف و سيادة قانون التطور المتفاوت بينهما. كما أن تباطؤ الانتاج الاجتماعي وإعادة إنتاجه والتوزيع غير العادل للثروة الاجتماعية وعقم آلية الإدارة الاقتصادية وتخلفها لمؤسسات الدولة, كمنتج ومبدد للريوع النفطية وغيرها من الموارد.. كلها عوامل هيأت تربة نمو الاملاق العام المطلق والنسبي وما نجم عنه من توترات سيكولوجية وسيسيولوجية, جعلها عوامل سببية ساعدت على إيقاظ جذوة ((ضرورة التغيير)) لدى الضباط المسيسين. وهذا ما انعكس في المطالب الشعبية المعبر عنها, في الاهداف التي تم تبنيها من أغلب كتل الضباط الأحرار.
- في الوقت ذاته لعبت سياسة السلطة الخارجية وتحالفاتها العربية والإقليمية والدولية, دوراً مهماً في تعميق الأزمة البنيوية للسلطة وبالتالي في إنضاج فكرة التكتل لأجل التغيير, وعلى الأخص تلك العوامل الناجمة عن الارتباط الشمولي بالغرب وتحالفاته وعلى الأخص مع بريطانيا, والقائمة على التبعية الاقتصادية شبه الكاملة في مختلف مضاميرها, بل أمست بريطانيا الموجه الأرأس للسياسة الخارجية العراقية على وفق ما تقتضيه مصالحها. هذا التبعية افقدت العراق العديد من عناصر الفائدة المرتجات من ميزة مكانته الجيو- سياسية.. كما إنها لعبت دوراً في فقدان المصالح العربية ووطدت الاستعمار الاستيطاني في فلسطين وبعض ما آل إليه واقع التشتت والتخلف العربي. ثم إمتدت هذه السياسة إلى الارتباطات العسكرية المجحفة والتي توجها حلف بغداد وغائيته وما أنبثق عنها من علاقات وآلية عمل وهدف, وما تمخض عنها من تكتلات إقليمية ودولية ليس فيها مصلحة استراتيجية للعراق, بل ساهمت في إبعاد العراق عن واقع تاريخيته وإنتماءه العربي.. وعن واقع حركة التحرر العربية والعالمية في حينها والهادفة لنحقيق ذاتها والخروج من تبعيتها ونخلفها المزمن والولوج في الزمن الحضاري.
في الوقت ذاته لعبت الظروف والتغيرات الداخلية التي شهدتها دول الجوار العربية والإقليمية دوراً كبيراً في إنضاج وبلوغ مرام التكتل وغائيته.. منها:
- النجاح السهل للثورة المصرية, الذي أعاد الأمل وفي الوقت عينه, أسرع في إنضاج البعد الذاتي لتشكيل حركة الضباط الأحرار, والتماثل وإياها في العديد من المحاور, بل محاولة إستنساخها والتماهي معها ومع آليتها من قبل بعض الكتل القومية.
- كثرة الانقلابات العسكرية, المدعومة خارجياً, ونجاحها في سورية قد أيقظ احساس الضباط العراقيين بقدرتهم على إستعادة الدور الذي كان يلعبه في الثلاثينيات وطموح بعض قادته آنذاك على التماثل مع ما يجري في المنطقة من إقحام الجيش في العملية السياسية وبتشجيع من الولايات المتحدة.
- كما إن كسر طوق إحتكار السلاح الذي نجحت فيه الثورة المصرية, قد ساهم في تحريك مطلبية التماثل وإياها, إو على الأقل, تحديث مكونات سلاح الجيش العراقي, ضمن الظرف الملموس الذي كان ماثلاً في الأذهان أثناء وما قبل حرب فلسطين الأولى, أو ما نجم عن الانظمام إلى حلف بغداد, حيث أن ما إشتراه العراق من حلفائه وما قدموه له لا ينسجم وما أخذه على عاتقه من مهام. كما لا يمكن مقارنته بما أستلمته الثورة المصرية من جيكوسلوفاكية والاتحاد السوفيتي السابقين ولا حتى بشروط بيعه. هذا الظرف زاد من علامات الاستفهام لدى الضباط العراقيين الواعين والمسيسين وشكوكهم نحو الحكم وحلفائه.
كانت موضوعة تحديث الجيش مدار نقاشات وحروب كلامية ساخنة على الساحة السياسية منذ تأسيس الدولة العراقية, بين قيادة الجيش والبعثات الاستشارية البريطانية, وبينها وبين الحكومات العراقية.. بل كانت إجدى أهم دوافع القضاء على بكر صدقي وحكومته, عندما تجرأ وطلب من دول المحور تزويد العراق بالمعدات العسكرية الحديثة. هذا المطلب تجدد عند الاستعداد لحرب فلسطين, حيث إمتنعت المراكز الرأسمالية الكبرى, وخاصةً بريطانيا, عن تزويد الجيش العراقي بما يلزمه من إحتياجات ضرورية, بحجج واهية بغية تحقيق وعد بلفور بالاتفاق الضمني أو/و المباشر مع كل الزعماء العرب آنذاك.
- النمو النوعي لحركة التحرر العربية والإقليمية, سواءً في المغرب العربي عامةً والجزائر خاصةً, أو في مشرقه كما في لبنان والخليج وعمان, وما لعبته عملية تأميم قناة السويس من تثوير للروح الاستقلالية وللذات القومية. كما أن الموقف المعادي, أو على الأقل, غير المبالي إزاءها من قبل نخبة الحكم وقاعدته الاجتماعية ذي الارتباطات الخارجية, إدى إلى إزدياد وتائر النقمة العامة ضد نخبة الحكم وعجل في بلورة فكرة إسقاطها كفكر واسلوب وكمشروع سياسي/اجتصادي .
- تفاعلات عملية تأميم النفط من قبل حكومة مصدق في إيران والتي أثارت مجدداً موضوعة النفط وأهميتها, وضرورة الاستفادة منه والحصول ‘اى أكبر ما يمكن من عوائده. لقد كان النفط وكيفية إستغلاله والموقف من الاتفاقيات النفطية, كان أحد أهم المقاييس التي تقاس بها مدى وطنية وجدية أية حكومة. هذه الحالة قد طبعت العقل والسلوك السياسي برمته منذ إكتشاف النفط, وتبين ذلك بوضوح عندما حاولت حكومة انقلاب 1936 بشخص وزير المواصلات كامل الجادرجي بتعديل اتفاقية النفط, مما اثار حفيظة الحكومة البريطانية التي سارعت, بالتعاون مع القوى القومية, في إغتيال بكر صدقي وإسقاط حكومته وفكرة التعديل نهائياً قبيل بدئها.
- تنامي الظرف الدولي الملائم لحركات التحرر الوطني والناجم عن إندحار النازية وإشاعة الروح الديمقراطية وإشتداد النزعة من أجل الاستقلال السياسي والتنمية الاقتصادية.. هذا الحراك في العالم(المنسي) إقترن بتصاعد وتائر مناهضة الاحلاف العسكرية.. ومنها عالمنا العربي عامةً ومشرقه بصورة خاصةً.
هذه العوامل وغيرها جردت نظام الحكم ونخبته من مقومات شرعيتها, ومن مبررات إدارتها للسلطة ودوام إحتكارها, مما دفع بالضباط المسيسيين نحو إستكمال شروطهم الذاتية والارتقاء بها إلى مستوى الطموح المنتظر والمتمحور حول بلورة حراكهم الاجتماعي في تنظيم ملموس ومجسد من جهة, ومن جهة أخرى بإحساس الضباط, والمسيسيين منهم خاصةً, بقدراتهم الذاتية على إحداث التغيير, بما يمتلكوه من ادوات قسر مادي بالتماثل مع ما ساد في المنطقة. بمعنى أخر تفاعلت هذه العوامل بصورة جمعية جدلياً وأثمرت في بلورة كل من :
- شكل الظـاهرة : تنظيمات عسكرية متعددة, تبلورت في مركز واحد يدور في
فلكه أو قريباً منه أصغر حجماً يجمعها :
- مضمون الظاهرة : المُنصب على تبني التغيير المنشود في شكل وجوهر الحكم,
وذات مضامين اجتصادية/سياسية تتلاءم, إلىحدٍ كبير, والواقع
العراقي في إمتداده القومي.
كانت هذه التفاعلات الداخلية في قلب المؤسسة العسكرية, ذات طابع سري, لم تتطابق مع ظاهر الحالة, حيث أن الشكل العام للظاهرة, تم التعبيرعنه بالقول: [الجيش هادئ هنا ], في حين إن مضمونها كان ينبئ عن قوة تغييرية كامنة ولم تُكتشف ماهيتها ولا غائيتها ولا مكوناته للنخبة السياسية إلا لماماً, ولم يعرقل سير الحركة من بلوغ المرام المخطط له.
كانت " قبضة صغيرة فقط من قادة المعارصة لديها فكرة عما يجري, أما بالنسبة للأخرين فقد بدا الجيش متبلداً فاقد الشعور سياسياً, وكان الرأي السائد هو أن ضباط الجيش قد أشتروا بالترفيعات الدسمة وهبات الأراضي والامتيازات الأخرى. وحتى نوري السعيد نفسه كان على إستعداد لأن يستبعد بسهولة إمكانية أي تهديد آت من ذلك الإتجاه. على الرغم من أنه إحتاط للأمر بالتأكيد من إبقاء الوحدات القوية خارج بغداد ومن دون ذخيرة لأسلحتها. وبدا لحلفاؤه لا يقلون ثقة عنه.
وقبل أسابيع قليلة من ثورة تموز/يوليو قال دبلوماسي غربي يحتل منصباً حساساً لمؤلف هذا الكتاب: إن الضباط يقبضون هنا رواتب أفضل بكثير من أمثالهم في إيران وتركيا. ويبقى ولي العهد على أتصال جيد معهم, وفي يوم الجيش(6 كانون الثاني- ع.ن) أعطاهم أرضاً من أملاكه الخاصة لبناء بيوت لهم, وتابع الدبلوماسي قائلاً: هناك بعض الوطنية في صفوف الضباط الصغار. ولكن ليس هناك تذمر حقيقي. ولم تتسلسل إليهم الأحزاب السياسية بقوة, ولا هناك بينهم أية زمرة كما في جيش فاروق...وأنتهى إلى القول لا شيء هنا يشبه مصر ".
إما في الواقع, فإن المشاعر القوية التي كانت تجيش في أعماق الناس كانت تجيش أيضاً في أعماق الجيش. وبالتالي أصبح الضباط المسيسون على قناعة تامة بوجود تناقض تناحري غير قابلة للتسوية والمساومة بين النظام الملكي وأحتياجات العراق وتطوره اللاحق. وقد أدرك السعيد, المأسور بسحر السلطة, ذلك بنفسه و " كان يرمي إلى كسب بعض كبار الضباط بإسناد مناصب مهمة إليهم, كما أنشأ مع بعضهم الأخر علائق وثيقة حتى يشعرهم بالاطمئنان إلى مراكزهم وبالتالي كي يعزز في نفوسهم ولاءهم للملك و البلاد, إلا أن سياسته الخارجية رغم إجماع الضباط الكبار كلهم تقريباً على تأييدها, لقيت معارضة شديدة من الضباط الشباب الذين تأثروا عقائدياً بزعماء مندنيين. لقد كان نوري بدرك مجى الإستياء المنتشر في صفوف الضباط الشباب من السياسة المتبعة نحو الغرب... ".
وهكذا تجلت الظاهرة الجديدة التي كانت تتفاعل داخلياً مع الظواهر الأخرى, لترسم وتؤرخ لواقع العراق المسنقبلي.. ألا وهي : حركة الضباط الأحرار
3.5- النواتات الأولى لحركة الضباط الأحرار:
توضح تاريخية حركة الضباط الأحرار إلى أن هنالك:
- تباينات عميقة حول تأريخية النشوء وأولوية التأسيس؛
- طبيعة التوجه الفلسفي ومكوناته الفكرية؛
- حول بلورة التنظيم وبداية العمل.
لقد كثرت الادبيات التي تشير إلى هذا التوجه دون غيره, إلى شخوص دون سواهم. وتشير الكثير من الدلائل إلى أن الشكل الجنيني الأول للتنظيم الغائي وليس الظرفي في هذه المرحلة, قد تكون أثناء حرب فلسطين وفيها بالذات, كفكرة ودافع. ويمكننا القول, بالاستناد إلى ما أورده العميد خليل إبراهيم حسين, بصورة مكثفة إلى أن هذا الشكل الجنيني قد تكون عندما:
" فاتح المرحوم رفعت العقيد الركن نجيب الربيعي آمر جحفل اللواء بالفكرة فأيد
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟