أخبار الشرق - 12 تشرين الثاني 2002
تتصاعد على نحو خطير الهجمات على المثقفين السوريين، وتتعدد جهاتها، كما تتنوع منابرها في سياق، يبدو وكأنه محاولة متناغمة لدفع المثقفين السوريين للخروج من واجهة الحدث السوري بما حملوه وطرحوه في العامين الأخيرين من آراء ومواقف، تمهيداً لإعادتهم إلى الظل والانكفاء نحو ذاتهم الداخلية على غرار ما كانت عليه حال الأكثرية منهم على مدار العقود الماضية، وقد غاب فيها المثقفون بصفتهم تجمعاً، أو جماعة عن ميدان الاشتغال بالشأن العام، وهو أمر حافظ على الاهتمام به أفراد من المثقفين بسويات محددة وظروف خاصة.
وعود إلى بدء، فإن الهجمات على المثقفين السوريين، تزامنت مع تحركاتهم الأولى باتجاه أخذ دورهم في الحياة العامة السورية بصفة مستقلة عن المؤسسات والأجهزة الرسمية، وهو سلوك بدأ يطفو على السطح مع صدور "بيان الـ 99" في العام قبل الماضي والذي حدد فيه المثقفون السوريون، تصوراتهم حول المطلوب القيام به من النهوض بسورية وتصفية ترسبات المرحلة الماضية، وهو أمر تكرر لاحقاً في البيان الثاني الذي أصدره المثقفون لاحقاً والمعروف بـ "بيان الألف".
وبطبيعة الحال فقد تجاوز نشاط المثقفين السوريين حدود النداءات والمطالب المتضمنة في البيانين السابقين باتجاه التحرك للمشاركة العملية باتجاه إعادة تنشيط الحياة السورية العامة، فتم تأسيس العديد من التكوينات الثقافية والاجتماعية التي لها طابع سياسي من مستوى ما، كما في حالة لجان إحياء المجتمع المدني، واللجنة الوطنية لمقاطعة البضائع والمصالح الأمريكية في سورية، وجمعية حقوق الإنسان، ولجنة العمل الوطني لنصرة فلسطين، والمنتديات التي تأسست في دمشق وعدد من المحافظات مثل منتدى الأتاسي، ومنتدى الحوار الوطني، ومنتدى الشباب في دمشق، وقد أصدرت معظم هذه التكوينات وثائق وأوراق، لعل الاهم والاكثر شمولية في معالجة الشأن العام السوري أوراق أصدرتها لجان احياء المجتمع المدني، ومنها "الوثيقة الاساسية" في كانون الثاني 2001، ثم "نحو عقد اجتماعي" في نيسان 2001، و"بلاغ الى الرأي العام" في كانون الثاني 2002.
وتصاحب مع هذا التوسع في دور المثقفين السوريين نشاط آخر مزدوج، بعضه إعلامي، وبعضه الآخر ثقافي معرفي، لا يخلو من طبيعة سجالية، وفي الحالتين كانت وسائل الإعلام العربية بما فيها من فضائيات ومحطات أرضية وإذاعية وصحف ومجلات ميداناً لهذا النشاط الذي لم تكن وسائل الإعلام السورية غائبة عنه بصورة مطلقة، حيث عرضت في وسائل الاعلام وجهات نظر، وجرت مناقشات بين المثقفين، ارتقى بعضها إلى مستوى الحوار المطلوب، وكان بعضها أقل من المستوى المطلوب، لكنه كان بين تعبيرات الخروج من حدود عزلة المثقف السوري، وانخراطه في متابعة الشأن العام.
وإذا كانت الهجمات على المثقفين السوريين، اتخذت في تلك الآونة طابعاً ليناً ومحدوداً بفعل التساهل الذي ميّز سياسات السلطة إزاء تحركات المثقفين ونشاطاتهم، فقد حدث تغيير مهم مع الكلمة التي ألقاها نائب الرئيس عبد الحليم خدام على مدرج جامعة دمشق خريف عام 2001، حيث رسم ملامح لسياسة هجوم رسمي على المثقفين، ما لبثت، أن تُرجمت في اتجاهين، أولهما التضييق على نشاطات المثقفين في المنتديات وصولاً إلى توقف نشاط أغلبها، ثم شن حملة الاعتقالات المعروفة، التي طالت عشرة من المثقفين والمشتغلين بالشأن العام، وهي القضية التي انتهت بصدور أحكام بالسجن عليهم تتراوح ما بين عشر سنوات في حالة د. عارف دليلة وعامين ونصف لرياض الترك.
وترافق مع تلك السياسة الرسمية، هجمات أخرى على المثقفين شنتها أجهزة وشخصيات ترتبط بها، تناولت في بعض الأحيان أشخاصاً من المثقفين، أُثيرت حول بعضهم قصصاً شخصية تتصل هدفها تشويه صورتهم والحط من قدرهم ونزاهتهم ومواقفهم الوطنية المعروفة، بل إن الأمر وصل أحياناً إلى درجة اتهام البعض بالعمالة والارتباط بالخارج، وأخرى تناولت أطروحاتهم بهدف تشويهها، وتحوير معانيها بقصد الإساءة إلى دعاتها، وغالباً تم التركيز في هذا المجال على اطروحات لجان إحياء المدني وشخصيات فاعلة فيها.
وليس ثمة حاجة لإيراد أسماء وحكايا وتفاصيل، تتصل بالسياق السابق، لان الكثير من تلك الحيثيات، لا يستحق الرد، وقد فعل حسناً المثقفون السوريون، عندما تجنبوا - حيث وصلت الأصوات إلى آذانهم - الرد على ما قيل، متجنبين مهاترات تستنزف قدراتهم، وتدفع النقاش في شئون عامة إلى مستويات لا تليق بها وبهم.
غير أن الآونة الأخيرة، شهدت تحولات خطيرة في الهجوم على المثقفين السوريين من حيث اتساعها لتشمل ليس فقط نشطاء لجان إحياء المجتمع المدني، بل أسماء لا تتصل باللجان مثل الكاتب محمد جمال باروت، والباحث الإسلامي د. محمد شحرور. وفي حالة محمد جمال باروت، روجت جريدة "المحرر العربي" في عددها (31 تموز - 5 أيلول 2002) نبأ حضوره مؤتمر لندن الذي نظمه الإخوان المسلمون وبعض رموز المعارضة السورية في الخارج، واستغلت ذلك الربط المختلق لإطلاق صفات عليه هدفها تشويه ما هو معروف عنه من مواقف وآراء من جهة، واستعداء الاجهزة الامنية عليه من جهة ثانية. ويشبه هذا المسار، المسار الذي اتخذه هجوم عنيف على الكاتب والمفكر الإسلامي د. محمد شحرور في مقال ظهر في صحيفة أخبار الشرق (22/10/2002) وهي صحيفة تكاد تكون متخصصة في الشأن السوري، ومن أكثرها متابعة من جانب السوريين مقال بقلم الطاهر ابراهيم، وقد افترض كاتب المقال أنه كان على الجهات الأمنية منع شحرور من إلقاء محاضرة عن الإصلاح الديني في منتدى الأتاسي، وإحالته إلى المحاكمة، بسبب ما زعمه في أن المحاضرة انتقصت "من تعاليم الدين الإسلامي - بل من النبي محمد صلى الله عليه وسلم - ليس في أمور فرعية دُونت في كتب الفقه الإسلامي عن طريق اجتهاد الفقهاء، وإنما طال الانتقاص أحكاماً إسلامية وردت في القرآن الكريم والسنة المطهرة".
ويتشابه الهجوم على محمد شحرور مع هجوم شنه عضو مجلس الشعب السوري منذر موصللي على د. عبد الرزاق عيد إثر مقالة كتبها الأخير تعقيباً على الحكم الصادر بحق د. عارف دليلة، متهماً إياه بالتحريض على التدخل الأمريكي في سورية، وطالب موصللي في مقالته (النهار 23/8/2002) بإحالة عيد إلى المحاكمة بتهمة "الخيانة"، وقد استجر هذا الهجوم هجمة معاكسة من قبل د. عيد ولجان إحياء المجتمع المدني، قيل فيها شيء ربما كان عيد واللجان في غنى عن قولها.
وقد توسع إطار الهجوم على المثقفين السوريين مؤخراً في مقالات ثلاث، نُشرت اثنتان منها في "المحرر العربي" (18/10 و25/10/2002) كتبهما مهند دمشقي، اتهم فيهما لجان المجتمع المدني بالارتباط بالخارج وبالعلاقة مع تنظيمات المعارضة السورية في الخارج وبالإخوان المسلمين، وهي ادعاءات، لا تملك أي سند حقيقي، سوى تشويه صورة اللجان، واستعداء السلطات والأجهزة الأمنية على اللجان خصوصاً وعلى المثقفين عامة.
والغريب أن جريدة "صوت الشعب" التي يصدرها شق في الحزب الشيوعي السوري عضو في الجبهة الوطنية التقدمية بقيادة البعث، تتزعمه وصال فرحة بكداش أرملة خالد بكداش، انضمت إلى الحملة على لجان المجتمع المدني في مقال مطول كتبه يوسف الجندي معنون "الرأسمال المالي الطفيلي والمعارضة الفاشية في سورية" (صوت الشعب 12/10/2002) ربط فيه كاتبه نشاطات اللجان وأدبياتها الداعية إلى المصالحة الوطنية والنهوض بسورية ومن أجل تقدمها مع نشاط المعارضة في الخارج، وتحركات الصهيونية وسياسة الولايات المتحدة ضد سورية، ليصل إلى معادلة تقول "إن المعرضة العميلة" تندرج "في خدمة عدوة الشعوب الإمبريالية وبالأخص منها الأمريكية والصهيونية العالمية وإسرائيل النازية ..". وكان يمكن اعتبار المقال تحليلاً شخصياً، لولا أن ترويسة "صوت الشعب" تتضمن إشارة تصف الجريدة بأنها "لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري" ويرأس تحريرها عمار خالد بكداش.
خلاصة القول، إن الهجمات على المثقفين السوريين مستمرة، بل إنها تتصاعد بالهجوم على لجان إحياء المجتمع المدني التي يعمل تحت إطارها ويؤازرها كثير من المثقفين السوريين، والهدف من الهجمات، صريح وواضح، وهو وقف نشاط المثقفين وتدخلهم في الشأن العام سواء بالإشارة أو بالعمل، ودفعهم مجدداً للانكفاء الى الظل بعيداً عن الشأن العام، وبعيداً عن الاشتغال على مستقبل بلدهم ومواطنيهم.
وحيث أن أهدافاً كهذه، تتعارض مع المعلن الذي يتشارك فيه السوريون جميعاً في السعي تصفية إرث الصراعات والسير باتجاه الاصلاح والتطوير والتعاون لمواجهة التحديات القائمة والمستقبلية، فإن الاشتغال عليها في تصعيد الهجمات على المثقفين السوريين، يكشف عدم جدية أصحاب هذه الهجمات في إخراج سورية من اسار الماضي الى المستقبل، وربما يكشف معارضة بعض هؤلاء لهذا الخروج الذي يلحق الضرر بمصالحهم الضيقة.
__________
* كاتب سوري، عضو لجان إحياء المجتمع المدني في سورية - دمشق