كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1219 - 2005 / 6 / 5 - 15:04
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
كاظم حبيب
هل سنتمكن من لجم الطائفية ومنعها من المرور؟ إنه التحدي الكبير لشعبنا
سقط النظام الدكتاتوري الشوفيني في العراق وانزاحت عن عقول وأفئد وألسنة العراقيات والعراقيين تلك الهيمنة الشوفينية والعنصرية والاستبداد الشرس الذي سلطه النظام الصدامي لثلاثة عقود ونيف. إلا أن الضيم الذي لحق بالعراقيات والعراقيين خلال العقود المنصرمة والسياسات السيئة التي مارستها وما تزال تمارسها قوات الاحتلال حتى الآن وسكوت القوى الديمقراطية العراقية على تسلل الأخطبوط الطائفي إلى الحياة السياسية العراقية أو حتى تفاعلها السلبي والمشين مع الطائفية, ومن ثم تبعثر صفوف القوى الديمقراطية, سمح لهذه الطائفية المقيتة أن ترفع رأسها وتفرض هيمنتها على الشارع والمؤسسات الحكومية وعلى المجتمع بصيغ مختلفة ولكن بصرامة مذلة.
إن المخاطر التي تواجه العراق في المرحلة الراهنمة تنبعث حالياً من سيطرة قوى الإسلام السياسي الطائفية (الشيعية) على الحكم وعلى الشارع من خلال مليشياتها المختلفة المتطرفة وتلك التي تسمى معتدلة من جهة, والمليشيات التابعة لقوى الإسلام السياسي الطائفية (السنية) المتعاونة مع قوى الإرهاب التي تعيث في البلاد فسادا من جهة ثانية. ومخاطر الطائفية تكمن في تدميرها التدريجي, ولكن المتسارع حالياً, للنسيج الوطني العراقي, لروح المواطنة العراقية وروح الاعتراف بالآخر والتسامح والمحبة. إنها الجرثومة السرطانية الخبيثة والعدائية التي في مقدورها نشر المرض بسرعة في الجسم العراقي, وتدفع بالصراعات والنزاعات المسلحة في المجتمع نحو الأمام وتساهم بقوة في تدمير المجتمع والدولة العراقية في آن واحد.
إن هذا الوضع المشوه الجديد, الذي تسعى قوى الأحزاب الإسلامية السياسية إلى تكريسه في الساحة السياسية العراقية, لا يجوز له أن يمر ولا يمكن السكوت عنه, فهو الذي سيحيل الحياة العراقية إلى بؤس فكري وفاقة ذهنية حقيقية وعزلة مريرة, وإلى جدب أشد قساوة وظلامية من فترة صدام حسين. وقوى الإرهاب الطائفي التي تعيث اليوم في البصرة الفيحاء فساداً وخنقاً للإلأنفاس, تقدم النموذج الذي يمكن أن يصبح عليه العراق, والذي يفترض أن نرفض مروره ونلجم تحركه المدمر.
إن الطائفية المقيتة لا صلة لها بالإيمان الحقيقي بالمذاهب المتنوعة في الإسلام, إذ أن أتباع المذاهب المختلفة في الإسلام يبتعدون عن تحويل مذاهبهم الإسلامية إلى أدوات للصراعات السياسية والتمييز الديني والطائفي اللعينين.
أسمحوا لي أن أدعو جميع العراقيات والعراقيين, عرباً وكرداً وتركماناً وكلداناًَ وآشوريين, مسملين من مختلف المذاهب, ومسيحيين ويهود وصابئة مندائيين وأيزيديين وشبكيين وكاكائيين ...الخ, إلى رفع صوت الاحتجاج ضد ما يجري في العراق من صراعات طائفية وإلى رفض هذا التدهور الجديد في الساحة السياسية العراقية.
أدعو جميع العراقيات والعراقيين إلى التوقيع على نداء المثقفين العراقيين لوقف حالة السقوط ف في مستنقع الطائفية المقيتة.
إن الدعوة موجهة إلى كل المواطنات والمواطنين في الدول العربية, وإلى كل الناس الخيرين في منطقة الشرق الأوسط والعالم, من أجل الوقوف إلى جانب القوى الديمقراطية العراقية, إلى جانب المثقفات والمثقفين في رفضهم للطائفية وحرصهم على عدم السقوط في مستنقعها النتن. الشعب العراق وحدة سيكون الضحية الأولى والأخيرة للصراعات الطائفية الجارية حالياً على قدم وساق.
يا نساء ورجال الشعب العراقي من عرب وكرد ومن قوميات أخرى ارفضوا التعامل على أساس طائفي, تصدوا للطائفية وأمنعوا مرورها وهيمنتها على الدولة والمجتمع. تصدوا لمن يحاول تكريس ذلك في الدستور العراقي وفي القوانين العراقية والمحاصصة المذلة التي تحالوة القوى الطائفية فرضها على الدولة ومؤسساتها والمجتمع.
وكما انتصر الشعب على الشوفينية والاستبداد والكراهية القومية, سينتصر الشعب أيضاً على الطائفية والاستبداد الجديد القادم باسم الاسلام السياسي والمذهبي الطائفي, وسيقيم هذا الشعب جمهوريته الديمقراطية الفيدرالية المدنية الحديثة. ولكن لن يتم ذلك إلا بالعمل والنضال الدءوب ووحدة القوى الوطنية الديمقراطية بمختلف أطيافها. في هذه الحالة فقط سيتمكن الشعب من تجاوز أهداف الطائفيين الأشرار في بلادنا.
*********************************
الاستبداد والقسوة في العراق
كاظم حبيب
إصدار جديد
اسم الكتاب: الاستبداد والقسوة في العراق
اسم الكاتب: كاظم حبيب
دغر النشر: مؤسسة حمدي للطباعة والنشر
مكان الصدور: السليمانية/ اتحادية كردستان / العراق
سنة الأصدار : منتصف عام 2005
صدر عن مؤسسة حمدي للطباعة والنشر وأصبح في أسواق العراق كتاب جديد بعنون "الاستبداد والقسوة في العراق" للكاتب العراقي كاظم حبيب. والمؤسسة تصدر إلى جانب الكتب مجلة شهرية سياسية وثقافية عامة باللغة العربية.
والكتاب محاولة من جانب الكاتب لفهم الأساس المادي لظاهرتي الاستبداد والقسوة في العراق. ومدخل الكتاب يكشف عن المضامين الساسية لهذا الكتاب. ولهذا يفضل نشر نشر المدخل للتعريف السريع والكثيف بالكتاب.
قال الحجاج بن يوسف الثقفي في العراق وبشأن العراقيين ما يلي:
"... إني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها... وإني لصاحبها...".
وقال صدام حسين في العراق وبشأن العراقيين ما يلي:
" كل واحد يقف ضد الثورة, سواء أكان واحداً أم ألف أم ألفين أم ثلاثة ألاف أم عشرة ألاف أقطع رؤوسهم بدون أن ترتجف شعرة واحدة في بدني أو أحس رجفة في قلبي ..." .
تشير كثرة من الدراسات التي تبحث في شؤون العراق الحديث, كما يتناقل بنات وأبناء الشعب العراقي في الداخل والخارج, إضافة إلى ترديد كثرة من الأوساط في البلدان العربية والدول المجاورة وعلى الصعيد الدولي, أحكاماً مسبقة وقاطعةً وكأنها حقائق ثابتة وحالة لا يمكن الخلاص منها ولا يراد أو ينفع الحوار بشأنها, وهي تؤكد الموضوعة التالية:
يتميز الشعب العراقي عموماً بالقسوة والشراسة والتطرف والعنف في التعامل في ما بينه ومع الآخرين. وأن هذه الميزة ثابتة لديه منذ القدم, وهي التي تنتج الاستبداد من جانب الدولة إزاء المجتمع. وهذه الخصائص تزال قائمة وتتجلى في أفعال الفرد والمجتمع إزاء الأحداث التي يمر بها وردود فعله نحوها وطريقة تعامله معها. وهي تتجلى لا في الممارسة اليومية فحسب, بل وفي التشريعات التي عرفها العراق القديم حتى يومنا هذا, وخاصة تلك القوانين العقابية التي تنص على أحكام وعقوبات قاسية جداً بحق المخالف أو الجاني لا تتناسب مع طبيعة تلك المخالفة أو الجناية التي ارتكبها الفرد. وتدخل ضمن تلك العقوبات مختلف الإهانات والإساءات أو أشكال التعذيب الجسدي والنفسي وأساليب القتل والتمثيل بالقتيل واضطهاد أفراد عائلته. وتشير أيضاً إلى جرائم القتل التي ارتكبت على مدى تاريخ العراق القديم والإسلامي والحديث, ومنها المذابح التي نظمها القادة العسكريون أثناء الفتح الإسلامي الأول ومن ثم الأمويون والعباسيون والمغول والدويلات التي نشأت بعد المغول حتى الاحتلال العثماني للعراق, ثم العثمانيون والفرس والمماليك وقوات الاحتلال البريطانية والحكم الملكي والحكم الجمهوري, بما فيها وقائع سحل بعض المسؤولين التي حصلت في بغداد في أعقاب ثورة تموز عام 1958, أو أحداث الموصل وكركوك, إضافة إلى ما جرى ويجري في العراق منذ عدة عقود من اعتقال وسجن وتعذيب وتهجير قسري وقتل وتذبيح للسكان الأبرياء في كردستان العراق, وبشكل خاص مذابح عمليات الأنفال واستخدام الأسلحة الكيميائية في حلب?ة, أو عمليات الإعدام الواسعة والجماعية لقوى المعارضة العراقية من مختلف التيارات الفكرية والسياسية في السجون والمعتقلات العراقية خلال السنوات التي أعقبت انقلاب شباط/فبراير عام 1963 حتى سقوط النظام الاستبدادي, أو القتل الواسع النطاق الذي قامت به أجهزة الحكم الأمنية والقوات الخاصة ضد المنتفضين في الوسط والجنوب وفي كردستان العراق في ربيع عام 1991, وإجبار مئات ألآلاف من المواطنين الكرد على المسيرة المليونية إلى تركيا وإيران هروباً من بطش النظام الصدّامي ودمويته, أو ملاحقة عشرات ألاف الهاربين بعد الانتفاضة من الوسط والجنوب إلى السعودية, أو جرى في أعقاب سقوط النظام وبروز مجموعات إرهابية همها إثارة الفوضى وعدم الاستقرار وقتل الأبرياء أو إشعال الحرائق والتخريب وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك جرائم القتل والتعذيب أثناء عمليات التطهير العنصري ضد الكرد الفيلية وعرب وسط وجنوب العراق, باعتبارهم من أصل إيراني أو تبعية إيرانية. كما تشير هذه الموضوعة إلى واقع أن القسم الأعظم من ملوك وحكام وادي الرافدين قد قتلوا بصيغ شتى, ونادراً من مات منهم موتاً طبيعياً.
لا شك في أن هذه الموضوعة تتضمن بعض الحقيقة. إذ أنها تستعرض وقائع تاريخية ثابتة جرت في العراق ولا خلاف عليها. وهي بطبيعة الحال تعبر عن ممارسات تتسم بالقسوة البالغة والعنف المتطرف لا يمكن ولا يجوز نكرانها. ومثل هذه الممارسات انطلقت من مواقع الحكام, سواء أكانوا خلفاء أم ولاة أم حكاماً وملوكاً ورؤساء جمهوريات أم قادة عسكريين, أم رؤساء قبائل وعشائر أم قوات احتلال أجنبية, لا يجوز نكرانها. ولكن هذه الموضوعة تتضمن في الوقت نفسه أحكاماً قاطعةً موجهة إزاء شعب بأكمله لا يمكن قبولها كما هي, بل يفترض مناقشتها والتحري عن العوامل الكامنة وراء ظهورها أو الأسباب المحركة أو الدافعة لها. وتشير الكثير من الوقائع الحياتية إلى أن الغالبية العظمى من الذكور في العراق أصبحت تؤمن بهذه الأحكام وكأنها حقيقة ثابتة وترددها دون انقطاع وتنعكس في كتاباتها ونقاشاتها, سواء تم ذلك عن وعي أم دون وعي منها بما تنطوي عليه هذه الأحكام وما تحمله من مضامين وعواقب. وهي تحرم المجتمع من التحري عن الأسباب من جهة, وسبل معالجتها من جهة أخرى, إذ أن البعض الكثير لا يعتقد بإمكانية معالجة هذه الظاهرة أصلاً, باعتبارها جزءً من طبع العراقيين الثابت. ويبدو أن هذا البعض الكثير يقرر سلفاً, أو يعطي الانطباع على الأقل, وكأن العراقيين, نساء ورجالا, حالما يولدون يحملون معهم "وراثياً" جينات القسوة والشراسة والتطرف والعنف والسادية, وأنهم بسبب ذلك غير قادرين على الخلاص منها واستبدالها بجينات الرحمة والهدوء والاعتدال والدفء وعدم التطرف في التعامل في ما بينهم أو مع الآخرين. فهو بهذا المعنى قدر العراقيين الحتمي الذي لا فكاك ولا خلاص منه.
ليس سهلاً خوض الحوار بهذا الصدد مع هذا البعض الذي تكرست عنده قناعات بفحوى هذه الموضوعة, إذ أن إزاحة الأحكام المسبقة لدى من يطلق عليهم ب "الستيريو توب" صعبة للغاية ولكنها مع ذلك غير مستحيلة. فالوقائع الجارية في العراق, ورغم سقوط النظام, ما تزال غير مساعدة على خوض حوار عميق وشامل وموضوعي حول هذه الأفكار ومحاولة التحري عن الأساس المادي للظواهر الثابتة منذ قرون كثيرة حتى الآن في السلوك العام لسكان العراق. فالنظام العراقي مارس الاستبداد والإرهاب والعنف والقسوة, كما دفع بالناس عنوة إلى ممارسته أيضاً لمواجهة قمعه المتواصل منذ ما يقرب من ثلاثة عقود ونصف, أي حتى سقوطه في التاسع من نيسان/أبريل عام 2003.
ولكن العراق, وكما أرى, بحاجة ماسة ودون أدنى ريب إلى خوض نقاش علمي وجاد ومتواصل حول هذا الواقع الثابت أو المظاهر الفعلية للقسوة والقمع والعنف في السلوك العام في حياتنا نحن بنات وأبناء العراق, إذ بدون ذلك يصعب علينا التخلص من هذه الظواهر ومن الأساس المادي الذي نمت فيه وتطورت عليه, وأصبحت وكأنها جزءاً من السلوكية والشخصية العراقية. كما يمكن أن يشارك إلى جانب الباحثين العراقيين في إنجاز أبحاث متخصصة علماء في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ والطب من بلدان عربية وغير عربية لمساعدتنا في فهم هذه الظواهر ومعالجتها. وتتوفر اليوم, وبعد سقوط النظام الدكتاتوري, فرصة فريدة لإجراء دراسات علمية تطبيقية حول إشكاليات القسوة والعنف والاستبداد في العراق من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية, إضافة إلى الجوانب الفكرية والنفسية والعصبية, والتعاون مع مؤسسات البحث في العديد من الدول المتقدمة في مثل هذه البحوث للتعرف الدقيق على العوامل الكامنة وراء هذه الظواهر وسبل التعامل معها ومعالجتها. وكما هو معروف فقد أجبر النظام الآلاف من العلماء والباحثين من مختلف الاختصاصات على الهجرة إلى مختلف بلدان العالم ونسبة مهمة من هؤلاء العلماء والباحثين تعمل في مجالات ذات أهمية فائقة للمجتمع العراقي, وخاصة في مجالات علم الاجتماع وعلم النفس وعلم النفس الاجتماعي ومختلف الفروع الطبية وخاصة في مجال الأعصاب. وهي على بينة جيدة بمعاناة الشعب العراقي خلال العقود المنصرمة, وتملك القدرة العلمية على دراسة ومناقشة هذه المشكلة المعقدة بأبعادها ومستوياتها المختلفة. وما نحتاجه في عراق اليوم هو التخلص من الإرهابيين والعمليات الإرهابية المستشرية حالياً في البلاد وتحقيق استتباب الأمن والاستقرار السياسي والإحساس بالمسؤولية إزاء الشعب العراقي والموضوعية والصراحة والجرأة في البحث والاستناد إلى الدراسات العلمية, بما فيها الدراسات الانثربولوجية, وإلى الوقائع الفعلية لمعرفة سلوك الإنسان العراقي منذ بدايات وجوده على أرض الرافدين, أو ما هو متوفر عنه من معلومات ومعارف حتى الآن في ضوء نتائج التنقيبات الجارية منذ عقود طويلة. إنها مهمة كبيرة ويأمل الإنسان أن يشارك المزيد من الباحثين, سواء أكانوا من العراقيين أم من غيرهم, وسواء تم ذلك بصورة فردية أم عبر فرق بحثية, للوصول إلى ما يساعد على تقليص وإزالة تلك الظواهر السلبية المكتسبة التي ما نزال نجدها في سلوكنا اليومي نحن العراقيين, أو بتعبير أدق, في سلوك الغالبية العظمى من الشعب العراقي, وخاصة الرجال منهم, سواء كنا في داخل الوطن أم خارجه. إنها مسؤولية الجميع, وخاصة القادرين منهم على البحث العلمي, وكذلك الأحزاب والقوى السياسية والتنظيمات الاجتماعية والمهنية ومعاهد البحث العلمي التطبيقي. وأهمية هذه الدراسة لا تقتصر على المرحلة الحاضرة التي نمر بها اليوم, على أهميتها وتعقيداتها وحساسيتها فحسب, بل لصالح مستقبل أجيال العراقيات والعراقيين القادمة التي يفترض أن تتخلص تدريجاً من جملة الظواهر التي نتحدث عنها ونبحث فيها.
في كتابي الموسوم "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة", الذي أصدرته في عام 1995, أشرت فيه بوضوح إلى أن في تربية وسلوكية كل إنسان (رجل) عراقي شيء من شخصية وسلوك واستبداد صدام حسين", وهو ما نكتشفه اليوم أيضاً حتى بعد غياب الدكتاتور. وهذه الحقيقة لا تعني بأي حال أن لنا جينات مشتركة, وبالتالي, فنحن نشترك جميعاً في امتلاكنا لجينات الاستبداد والقسوة والعنف والقمع في بنيتنا البيولوجية, بل يعني تماماً أن تربيتنا الذكورية على مدى قرون وقرون كانت وما تزال تسير على نمط واحد في البيوت والمدارس والأسواق والجوامع والكنائس والصوامع والمجتمع وفي العلاقة بين الإنسان والدولة, ثم عمقت ونقلت ثقافة الاستبداد والعنف والقسوة من جيل إلى آخر. نورد هنا بعض الأمثلة: أم تحاول تنويم طفلها فتسمعه ما يليدلللول ...دلللول
يا الولد يا ابني
عدوك عليل وساكن ال?ول
دلللول .... دلللول
نام .. يا الولد يا أبني!
إنها لا تنطلق من وجود الأصدقاء والأحبة الذي يحيطون به, بل من وجود عدو بعيد يتربص له يعيش في البراري البعيدة وعليه أن لا يخشاه لأنه عليل.
أو دعنا نتابع أغنية وضعها علماء النفس, كما يقول الكاتب خالد الخرجي, لأطفال المرحلة الابتدائية. والأغنية تقول ما يلي:
عندي دي? هالكبرة
?ام ينكر عالطبلة
جبت الموس وذبحته
قدمته لماما وبابا
بابا انطاني هدية
رشاشة وبندقية
حتى أصير .. جندي كبير
أدخل في جيش التحرير
جيش التحرير علمنا
كيف نخدم وطنّا
تي تي تا – تي تي تا!
ومنه يبدو بوضوح بأن السيد الخزرجي يعتبر هذه الطريقة هي الأسلم في تربية الأطفال. تربيتهم على ذبح الديك بالشفرة أو الحصول على هدية رشاشة وبنقية ليعلمه على القسوة والعنف والقتل, بدلاً من أن يقدم الأب لابنه هدية جميلة تعبر عن الحب والعاطفة الأبوية والزهور والرياحين ...
ويشير بعض الكتاب, وهم كما يبدو لي على حق, إلى أن أساليب الاستبداد والعنف والقسوة لم تمارس خلال الفترات المنصرمة من قبل السلطة وحدها, بل مارستها الجماعات والكتل والقوى السياسية المختلفة إزاء بعضها الآخر, والتي أدت إلى سقوط الكثير من الضحايا وإلى تفاقم العلاقات الثأرية التي تسير على نهج العين بالعين والسن بالسن, وإلى نشوء علاقات أقل ما يقال عنها أنها غير ودية بين مختلف تلك الفصائل السياسية في الحياة السياسية العراقية على امتداد الفترات المنصرمة, بما فيها في فترة الحكم الوطني الذي بدا في عام 1921.
وفي فترة الحكم الاستبدادي وقعت معارك شرسة بين فصائل الحركة الوطنية العراقية في كردستان العراق في عام 1983, ومنها على سبيل المثال لا الحصر بشت آشان الأولى والثانية, التي راح ضحيتها المئات من المناضلين الشجعان من مختلف الأطراف المشاركة في تلك النزاعات المسلحة.
ومن المهم في هذا الصدد أن نشير إلى أن تاريخ أوروبا هو الآخر مليء بمظاهر الاستبداد والعنف والقسوة في التعامل مع الأفراد والجماعات وفي شن الحروب الإقليمية المتبادلة في فترة الهيمنة الإقطاعية, أو السياسات التي مارستها في المستعمرات, وخاصة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وآسيا. وهنا يستطيع الإنسان أن يعيد إلى الذاكرة الحروب الصليبية ومظالم القرون الوسطى ودور الكنيسة المريع في هذا الشأن, أو نقل مئات الآلاف من السكان الأفارقة, نساء ورجالاً وأطفالاً, من قراهم ومدنهم إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية, أو التعامل الوحشي بين السكان ألأوروبيين في الولايات المتحدة واستراليا مع سكان البلاد الأصليين من الهنود الحمر أو سكان أصل البلاد الأسترالية أبوريجينز Aborigines.
ويفترض عند البحث في مثل هذه الإشكالية امتلاك الجرأة على طرح أسئلة على أنفسنا والتحري عن إجابات واقعية وموضوعية وصريحة لما جرى ويجري في العراق منذ ألاف السنين حتى الوقت الحاضر والتي تدخل ضمن أفعال الاستبداد والقسوة والقمع والعنف, بما في ذلك عمليات القتل الفردي والجماعي وتدمير حياة الإنسان وبيئته وحضارته ومقومات وجوده وتطوره, ثم التحري عن مستلزمات تغيير هذا الواقع لصالح الإنسان ذاته والمجتمع العراقي والمجتمعات المحيطة به. كما لا بد من تتبع الحضارات التي ساهم بها العراقيون على مرّ التاريخ, بما فيها فترات الانقطاع الحضاري والأسباب الكامنة وراء وقوعها. أي التعرف على أسباب تلك السلوكيات المتعارضة والتصرفات المتناقضة, تلك الازدواجية الملموسة في الشخصية العراقية التي تتجلى في حياة الناس اليومية: البناء والتدمير, الإنجاب والقتل, تعليم النطق والكلام والإسكات التعسفي أو حتى تخريس الإنسان, الحب الجارف والكراهية المتطرفة, الجبن والشجاعة, الخوف والجسارة, الحزن القاتل والفرح الهائج, التشاؤم المفرط والتفاؤل السرابي. كما لا بد من تتبع دور الدين منذ العهد السومري في تعزيز جملة من الاتجاهات في هذا الصدد. ومثل هذه الدراسات تحتاج إلى عناية خاصة وبحث متواصل وعدم التسرع في إصدار أحكام مضادة أو التسرع في رفض أحكام صادرة أصلاً بشأن طبيعة العراقيين وتكوينهم البيولوجي أو بنيتهم الاجتماعية والنفسية. أي أن علينا أن نضع كل ذلك على طاولة الفحص والتدقيق بروحية نقدية والرغبة الحقيقية في الوصول إلى معرفة واقعية للإنسان العراقي في تطوره عبر ألاف السنين. وعند دراسة هذه الظاهرة في المجتمع العراقي يفترض أن تبحث على أساس المقارنة مع الشعوب المجاورة ومع شعوب أخرى في العالم لمعرفة ما إذا كانت تعاني من ذات الظاهرة وأسبابها, أو وجود تمايز معها على أن تؤخذ طبيعة المرحلة التي يمر بها كل شعب ومستوى تطوره الحضاري وعلاقات الإنتاج السائدة فيه ومستوى تطور وعيه الاجتماعي بنظر الاعتبار. ولا يمكن للدراسات الفردية أن تطرح المشكلة بكل أبعادها, في حين تتوفر للمعاهد العلمية إمكانية تشكيل فرق دراسية متعددة الاختصاصات للتعمق والتوسع في دراسة المشكلة بمختلف جوانبها. ويأمل الإنسان أن تكون المحاولات الفردية, التي تنوعت وتعددت في الآونة الأخيرة, بداية محركة صوب حوارات جديدة ودراسات علمية لفرق بحثية لاحقة من قبل معاهد علمية متخصصة.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟