عقيل الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 1218 - 2005 / 6 / 4 - 12:13
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
- حركة الضباط الأحرار- التكوين والتكتل الغائي:
1- الارهاصات التنظيمية الفردية 1941-1948:
بعد هزيمة حركة مايس 1941 التحررية.. أتفقت كتل الحكم على تبني استراتيجية جديدة تتمثل في الإبعاد الكلي للمؤسسة العسكرية من المشاركة في حل الخلافات الداخلية الأنوية فيما بينها ككتل حاكمة, وفي إبعادها ما أمكن من المشاركة في حل التناقضات بينهم كنخب سياسية وبين الجماهير الشعبية في انتفاضاتها, إلا في حالات الضرورة القصوى.
لقد رافق هذا التبني الجديد سياسة تقليص حجم الجيش العراقي ما أمكن, بعد تعذر حله النهائي, كما مر بنا. وبدأت, في مثل هذه الظروف وما قبلها, ارهاصات حراك سياسي تعبوي بين الضباط الشباب ومن الرتب الصغيرة, إتسم بالتكتلية العفوية والسرية, وحاولت, باندفاع الشباب العاطفي وتسرعه وقلة خبرته العملية والسياسية, تكوين تنظيمات حلقية مبنية على الأمنية والشخصية الكرازمية, للمساهمة في تغيير القرارات المركزية للدولة أوعلى الأقل التأثير فيها.. وفي حالات قليلة جداً كانت تستهدف إسقاط النظام السياسي برمته وإن لم يستهدف تغيرات جذرية في العلاقات الاجتصادية.
من الضروري التنبيه إلى وجوبية وضع الإرهاصات أعلاه, وغيرها من الادعاءات التي سنتطرق إليها, في سياقها العام, ضمن جوهر وأراسيات خارطة الصراع السياسي الحاد الذي ساد العقدين الأولين من تأسيس الدولة والتي كانت تعبر عن طموحات الكتلة الوطنية المعارضة وجيل الثلاثينيات من الشباب على وجه الخصوص, من المتشبعين بالفكرة الوطنية والتخلص من الاستعمار البريطاني والطامحين إلى تغيير الاوضاع الاجتصادية والسياسية, نتيجة فشل كل حكومات المرحلة في التحسين المحسوس لهذه الاوضاع.. بالإضافة إلى كون هذه الفكرة قد تقبلتها (بعض) القوى السياسية الوطنية المعارضة, نتيجة سيطرة وتلاعب النخبة الحاكمة بالألية البرلمانية والتأثيرعلى نتائجها مسبقاً, بحيث يتم انتخاب النواب حسب مزاج وأقتراح مثلث الحكم وخاصةً رأس السلطة التنفيذية (رئيس الوزراء).
ضمن هذه الظروف تفشى سؤال مركزي بين الضباط الشباب يتمحور حول ماهيات مصير المستقبل اللاحق للعراق كوحدة جغرافية وتكوين اجتماعي متعدد الألوان؟ وعن مصائر علاقاته مع الدول العربية المشرقية على وجه الخصوص؟ وعن الابعاد الاجتماعية للفقر والتخلف؟ والارتباط ببريطانية ؟؟.
كان رد الفعل العملي لهذا التساؤل هو اتساع حركة المعارضة السياسية في المجتمع للتوجهات الاستراتيجية للنخبة الحاكمة وبدء الضباط في التفكير في (دورهم التاريخي) لقيادة المجتمع أو على الأقل إستشارتهم في القرارات المركزية. فير هذا التمط من التفكير عن ذاته في تكوين التنظيمات العسكرية وتبني الانقلابية لأجل الإطاحة بالنظام الملكي, أو التفكير الجاد بذلك على الأقل, خاصةً بعد فشل حركة مايس 1941 وإعدام الحياة لقادتها ومحاولة إلغاء الجيش.
لم تتوفر الكثير من المعلومات عن مثل هذه التكتلات الفردية, وما هي الأهداف التي إلتزموا؟ ومدى درجة الإلتزام والانسجام في ما كانوا يطرحون وما يجتمعون حوله؟ بها إلا النزر اليسير والمتناثرة في مذكرات بعض المساهمين فيها, سنستعرض ما استطعنا الوقوف عليه.. مع الإشارة إلى ضرورة الاحتراس في تبني الكامل لمثل هذه الاطروحات وبما جاء في مضامينها, نظراً للدوافع الذاتية والنفسية التي كمنت وراء سردها.. وما انتاب الكثير منها من المبالغة وعدم الدقة بل حتى التناقض مع بعضها الأخر.
من هذه التكتلات:
- ما اشار إليه الضابط الشاب عبد الكريم قاسم, الذي أعلن في خطاب له بتاريخ 25/7/1958, إلى أنه " منذ تخرجي من الكلية لاحظت أن الأوضاع تسير من سيء إلى أسوء وصممت من ذلك التاريخ على قلب هذه الأوضاع رأساً على عقب ". ولذا أخذ يهيء نفسه إلى القيام بهذا الدور وبدء يجمع المريدين حوله من صغار الضباط ومن طلبة الكلية العسكرية, ويقوّم ذاته المهنية والسياسية. ويعبر قول الزعيم قاسم أعلاه عن الطموح الذاتي للإنسان, عسكرياً كان أم مدنياً, وخاصة اولئك الذين يرون في أنفسهم أصحاب رسالة أو/و لهم (دور تاريخي) أنطاته الحياة بهم. لكن لم نستطع العثور على ما يدلل على وجود مثل هذا التنظيم في تلك المرحلة من حياة قاسم.. سوى المشاركة الوجدانية.. وبدأ في التفكير الجدي في تكوين مثل هذه التكتلات منذ أن تعين معلماً في الكلية عام 1938, حيث يشير اللواء مدحت عبد الله إلى أننا " وجدناه ضابطاً ذا همة ونشاط كبيرين وجدياً وبشوشاً بعين الوقت, وكان يحرص على تدريبنا وتدريسنا ويحثنا على المزيد من الجهد في التدريب والدراسة, وقد تميز عن غيره من آمري فصائل الدورة بمحاضراته المتواصله منتهزاً كل فرصة ليلقي علينا كلمة حماسية مطولة يحثنا فيها على التمسك بالروح الوطنية, طالباً منا أن نكون ضباطاً مخلصين مسلحين بالإيمان والعلم والروح الوطنية, وأن نسعى لتقوية الجيش بعد تخرجنا وإنقاذ الوطن من الاستعمار والتبعية وإستعادة مجدنا الزاهر ".
أعتقد جازماً من قراءتي لسيرة قاسم أن هنالك رابطة جدلية بين هذه المواضيع التي كان يطرحها على طلابه وبين نواياه الخاصة بتكوين التكتل الذي يأخذ على عاتقه إحداث التغيير المخطط له من قبله وهذا ديدنه في العمل السياسي المنظم والدعاية له, إذ كانت سرية العمل سمته الأرأسية, وغالباً ما كان يردد يجب أن لا تعرف اليد اليمنى بما في يدي اليسرى.. لأنه كان" مزيجاً من الجندي والراهب: فهو رجل عزم وكتمان لا تنفذ العيون إلى قرارة نفسه, بقرر الأمر ويسره في صدره حتى ينفذه في يوم من الأيام, لا يرجع عنه ولا يغيره... وكان في السنة الأخيرة التي سبقت الثورة يلتقي بمصطفى علي حين يأتي إلى بغداد فيقول له: أريد أن أتحدث معك في شؤون خطيرة, وحين يبدي له إستعداده, يقول عبد الكريم قاسم: ليس الآن, سوف نتحدث في فرصة قادمة, وتكرر ذلك القول وتكرر ذات الإرجاء حتى أعلنت ثورة 14 تموز ", وهذا سلوكه في عمله السياسي منذ اواسط الثلاثينيات.
- كما تمثلت الاجوبة العملية لمثل هذه الاستفهامات والأفكار في التنظيمات التي شكلها بعض صغار الضباط.. منهم على سبيل المثال, لا الحصر, الخلية التي كانت تضم (4) ضباط هم: عبد السلام عارف وسليم الفخري والمهندس عبد العزيز الامام ومحمد سعيد حسين. فقد ركز الكاتب أحمد فوزي على عارف دون غيره فيقول عنه: "رأى نفسه مع عشرة من زملائه, التقوا معه في وحدة الشعور والهدف, يجتمعون في ظلام الليل في ركن بعيد من المعسكر الذين يضمهم ويقسمون اليمين على تحرير العراق من الاستعمار وعملائه وأطلقوا على جماعتهم اسم (العشرة المبشرة) ولم يضعوا لانفسهم خطة أو ترتيباً للعمل, بل تركوا الأمر للظروف والزمن .
أما ما ذكره الصحفي المصري منير علي, مدوِن ما أطلق عليه, مذكرات عبد السلام عارف, فقد ذكر بأسلوب المبالغة ومديح الذات الفردية المشبعة بالتضخيم الأنوية وبلغة لا تنسجم والماهيات الحقيقية لعارف نفسه ونسق أفكاره.. كتب يقول:
"وفعلا تم تشكيل المنظمة السرية وقمنا بوضع أهداف المنظمة وتتلخص في:-
- تخليص البلاد من حكم الطغاة..
- إزالة القواعد البريطانية..
- تطهير البلاد من الاذناب وعملاء الاستعمار..
- اعطاء الفرصة للشعب ليحكم نفسه بنفسه..
وبدأنا نصدر المنشورات.. وكان توزيعها يتم ليلا وفي سرية تامة على أماكن تجمع الضباط.. وعن طريق البريد... ".
وبعد توثق علاقته بعبد الكريم قاسم منذ عام 1942, والتي استمرت ما يقارب السنتين, فقد أسس بعض الضباط أحدهم عارف في البصرة خلية صغيرة اكتشفت عام 1944, عقب نقل قاسم إلى جلولاء.. بعذا الصدد يقول عارف : " وعقب نقل قاسم.. فوجئت باحالتي إلى المحاكمة وكانت محاكمتي على يد اللواء الركن بهاء الدين نوري.. وكانت المحاكمة تدور حول اتهامي بالاشتراك في منظمة سرية لقلب تظام الحكم... وكانت النتيجة أن نقلت من البصرة بعد أن قضيت بها عامين إلى منطقة الناصرية كعقاب لي بعد أن فشلوا في الامساك بدليل واحد ضدي ". لكن كاتب مذكرات عبد السلام لم يتطرق بالتفصيل إلى طبيعة هذه المنظمة ومن هم أعضاءها وكيف اكتشفت.. وهذا ما سلط عليه الضوء لاحقا الضابط سليم الفخري في منتصف التسعينات.
- كشف الضابط والسياسي سليم الفخري في محاضرة له في لندن قبيل وفاته بفترة قصيرة, بعبارات عامة إلى عديد من النشاطات السياسية داخل المؤسسة العسكرية بعد إندحار حركة مايس , تبلورت لاحقاً في أشكال تنظيمية صغيرة متفرقة, غالباً ما تنحل بعد خمود سبب تكوينها أو نقل أو تشتت بعض أعضاءها.. منها مثلاً التنظيم الذي أشار إليه عارف, وأكده الفخري بالقول:
"... تعرفت على عبد السلام عارف عام 1942 في البصرة, وخلال وجودي جاءنا الضابط المهندس عبد العزيز الامام وأخبرنا بوجود تنظيم في بغداد لمقاومة الإحتلال البريطاني وبصدور نشرة حول ذلك ودعانا إلى توزيع النشرة ولم نكن نعرف من هم قادة التنظيم ولا أهدافه ولا محتوى النشرة. ولكننا وافقنا, ولما وصلت النشرة قمنا بتوزيعها, عبد السلام وأنا وضابط أخر أسمه محمد سعيد حسين, لا أعرف أين هو الآن. وأحدث التوزيع ضجة في البصرة. ولكن التنظيم انكشف في بغداد وألقت السلطات القبض على منظمهِ وهو فلسطيني وأسمه ممدوح السخن وأبعدته إلى خارج العراق ". وقد سبق للفخري أن أشار إلى هذا المضمون العام عند شهادته في المحكمة العسكرية العليا الخاصة اثناء محاكمة عارف في أواخر عام 1958 كما وردت في وثائق المحكمة العسكرية العليا الخاصة.
- ويشير العقيد محسن الرفيعي, مدير الاستخبارات العسكرية الأسبق إلى تنظيم أخر له ارتباط بالتنظيم السابق الذكر كما يبدو, لأن المنظم المسؤول هو ذاته لكليهما وهو ذو توجه قومي يمت بصلة إلى مجموعة حزب الاستقلال. يقول: "عندما كنا طلاباً في الكلية العسكرية كان هناك تنظيم يقوده الاساتذة الفلسطينيون. منهم ممدوح السخن وكان استاذاً في الثانوية العسكرية ومسؤولاً عن تنظيم بعض الطلاب من الثانوية العسكرية أو من الكلية العسكرية وأذكر من هؤلاء الطلاب ماجد محمد أمين وشكيب الفضلي وعارف عبد الرزاق وكامل حسون الجنابي ومعهم من جامعة بغداد عبد الرحمن الرحيم وهو طالب في كلية الهندسة وعبد الكريم كنة طالب في كلية الحقوق وغانم إسماعيل طالب في الثانوية العسكرية وسعيد حمو طالب في الثانوية العسكرية ايضاً وكنا نجتمع بين فترة وأخرى في منزل الاستاذ أكرم زعتير ومعنا المسؤول التنظيمي ممدوح السخن, وكان إلى جانب هذا التنظيم المختلط من طلاب المدرسة العسكرية والمدنيين هناك تنظيم للضباط بينهم عبد السلام عارف وقد جرى حفل تعارف بين تنظيمنا وتنظيم الضباط... وبعد فترة علمت سلطات النظام بحكاية هذا التنظيم عن طريق عنصر مدسوس معنا فشنت حملة اعتقالات واحالة على التقاعد وشملني النقل خارج العاصمة, حيث نقلت إلى الديوانية بينما نفي ممدوح السخن إلى راوندوز... ".
- كما أشار العميد الركن جاسم العزاوي في مذكراته بالقول أنه: " أخذ شعور هؤلاء الضباط الوطنيين يتبلور تدريجيا ووعيهم يتضح شيئاً فشيئاً إلى أن انتهوا إلى التكتل المنظم. كان ذلك في بداية عام 1938, الذي أسسوا فيه تنظيماً عسكرياً ووضعوا له ميثاقاً واضح الأهداف وبدأوا يتحركون بسرية وحذر تامين لبناء قاعدة لهم من الضباط الشباب صغار الرتب, وتشاء المصادفات أن تكون دورة الضباط السابعة عشر قد إلتحقت بالكلية العسكرية بتأريخ 19/2/ 1938 وأستمرت فيها حتى تخرجها في 7/5/1939.
كان من بين تلامذتها المرحوم رفعت الحاج سري... وبعض الأسماء التي ترد في ذهني عفوياً, وعلى سبيل المثال وليس الحصر وهم: العقيد وصفي طاهر والعقيد فاضل عباس المهداوي و العقيد نعمان ماهر الكنعاني والعقيد عبد الكريم الجدة والعقيد الركن عبد السلام عارف والعقيد شكيب الفضلي والعقيد خالد مصطفى الشارود والعقيد الركن فريد ضياء محمود والعقيد عبد اللطيف الدراجي والعقيد عبد المجيد جليل والمهيب احمد حسن البكر والعقيد الركن إسماعيل العارف وربما هناك اسماء أخرى لا أتذكرها... استمر التنظيم كما يبدو من سير الأحداث وتنامى وانضم إليه سياسيون مدنيون حتى توج بالحزب القومي السري (حرس الوحدة) ووضع له دستور مأخوذ من نسخة المرحوم كامل شبيب ".
أنتهى هذا التنظيم الهش بعد فشل حركة مايس. لكن بعض أعضاءه الذين لم تنكشف أسماءهم استمروا في العمل السري اللاحق في المؤسسة العسكرية كما اوضحت لاحقاً حركة الضباط الأحرار, حيث كانوا ضمن أعضاءها جل الأسماء المذكورة أعلاه, وبعضهم لعبوا دوراً كبيراً في التغيير اللاحق وتأسيس الجمهورية.
ويلاحظ أن الشعور الوطني/القومي هو الجامع المشترك لهم, والذي لم يكن يمتلك سمات عصبوية آنذاك على الأقل. كما كان يمثل أتجاهات سياسية مختلفة وأغلبهم من عوائل الفئات الوسطى على تعدد مستويات دخولها ومن المدن الكبيرة والصغيرة على السواء. ويمثلون موجة جديدة من الشباب خريجي الدراسة الثانوية التي افرزت الكوادر الأكثر تسيساً في المؤسسة العسكرية.
- هذا المزيج من الاتجاهات الفكرية نجد صداه في تكتل أخر تشكل لاحقا "... حيث اقتنع عدد من الضباط الصغار سنة 1948 إلى حماية انفسهم بتشكيل تنظيم تعاوني وذلك بتقديم جزء ضئيل من راتبهم تجمع عند أحدهم يستفاد منها عند إلقاء القبض على أحدهم لتصرف على عائلته وكان المنظم لهذه الفكرة هو طه الشيخ أحمد اما الضباط فهم: طه الشيخ أحمد, رفعت الحاج سري, جلال الأوقاتي, ماجد محمد أمين, سليم الفخري,غضبان السعد, إسماعيل العارف, خليل إبراهيم حسين, صبيح علي غالب, محمد خليل, فريد ضياء محمود. ولم تؤدِّ هذه الفكرة إلى خطوة عملية ولم تتطور إلى تنظيم سياسي داخل الجيش " لأنهم, حسب قناعتنا, ذوي توجهات فكرية وحزبية متباينة والتي تصدم, بالضرورة, بالزمالة المهنية وبطبيعة مضمون التغيير الجذري المرغوب.
- في الوقت نفسه يشير إسماعيل العارف في مذكراته إلى شكل(جنيني) أخر من تنظيمات الضباط الصغار المتاثرين بالأجواء السياسية التي شهدها الواقع العراقي وبالرغبة الشخصية الطامحة للعب دورهم المهم في بلورة التشكيلة الاجتماعية الجديدة.. وقد " لعبت الدعاية النازية دوراً مهماً في إذكاء الروح الوطنية بين الضباط. فبدأت تدور بينهم همسات عن تشكيل جمعيات سرية ضد النظام القائم وبخاصةً عندما تزايد أثر الجيش في التغيرات السياسية التي حدثت بعد إنقلاب بكر صدقي... قررنا مع بعض الأصدقاء من الضباط الذين تخرجوا معي تشكيل جمعية سرية تدين بالأفكار القومية المتطرفة وتستهدف القيام بأعمال عنفية ضد النظام القائم. وكان من أعضاءها الملازم محمد عبد اللطيف والملازم عبد المجيد رشيد والملازم مدحت عبد الله, وأصدرنا منشورين سريين مكتوبين باليد... ولكن نشاط هذه الجمعية أضمحل بسبب نقل بعض أعضاءها إلى معسكرات نائية خارج بغداد.. وقد أدت سرعة تطور الأحداث السياسية... إلى إمتصاص نشاطها وإنفراط عقدها... ".
- وتأسس تنظيم أخر بعد فشل حركة مايس " فشكلنا أول جمعية سرية أنا والملازم فريد ضياء محمود والملازم طه الشيخ أحمد, تهدف إلى نشر الثقافة السياسية والاجتماعية بين الضباط الشباب...فلاقت الحركة إقبالاً منقطع النظير, وقد أنضم إليها عدد غير قليل من الضباط.. وبدأنا في الوقت ذاته بنشر الثقافة والتوعية بين ضباط الصف فأنتشرت الدعوة بين وحدات الجيش... " بعدها إنكشف أمرالتنظيم نتيجة وشاية أحد الضباط.
- ويشير العقيد الركن صبيح علي غالب في مذكراته إلى نشاطه السياسي بالقول: " شكل أول جمعية سرية من تلاميذ الكلية العسكرية خلال حركة مايس سنة 1941 للدفاع عن الوطن. وبعد فشل حركات مايس أفشى سر الجمعية أحد التلاميذ إلى قيادة الجيش وجرى كبس كافة تلاميذ الكلية العسكرية من قبل رئيس أركان الجيش اللواء إسماعيل نامق ومدير الاستخبارات العسكرية وطرد طالبان من الكلية نتيجة ذلك ", من دون أت يذكر إسميهما.
في الوقت ذاته يشير أحد الطلاب المطرودين إلى ذات الحادث بشيء من التفصيل وإن أختلفت روايته في ورود الأسماء, نوردها كما رواها بالقول: " دخلت الاعدادية العسكرية. وأخذنا ننظم أول تنظيم عسكري داخل الجيش العراقي وهو تنظيم 40-1941 وكنا خمسة هم- عيسى الشاوي- عارف عبد الرزاق الكبيسي- ثابت حبيب العاني- عطشان ضيول الازيرجاوي- وكامل المنتفجي. وكان كل واحد منا يقود خمسة أعضاء وأصبح لدينا بحدود (50) عضواً. بعد دخولنا الكلية العسكرية أصبحوا بحدود(150) عضواً. كنا نتثقف ونتداول الاشعار الوطنية للرصافي وعلي الشرقي وغيرهم. وفي حركة مايس1941 نشطنا بشكل واسع وكان لكل منا ارتباطه بالجهة القريبة منه, فمثلاً عيسى الشاوي ارتبط بيونس السبعاوي( من القادة القوميين- ع.ن), وثابت حبيب ارتبط بسالم عبيد النعمان (قائد شيوعي آنذاك-ع.ن) وكذلك الآخرون كانت لهم صلاتهم الخاصة وكان الشيء الذي يجمعنا هو العداء للإنكليز وحب الوطن.
لقد حدث تطور هام في حياتي السياسية حين فاجأنا رئيس الوزراء نوري السعيد لزيارته, بصحبة رئيس أركان الجيش اللواء الركن بهاء الدين نوري ومدير الاستخبارات العسكرية العقيد فاضل الطيار. وعلى الفور بدأوا بالتفتيش وعثر في حينه معي على دفتر يتضمن أشعار الرصافي وقد اتفقنا قبل العثور على الدفتر أن ندعي أن الدفتر يرجع إلى كامل المنتفجي. والسبب هو أن خاله كان وزير الاقتصاد في حكومة نوري السعيد, مما يجعل خاله يتدخل في حالة توقيفنا, وفعلاً تم توقيفي أنا وكامل فتدخل الوزير وأطلق سراحنا, ولكن جرى طردي من الكلية بينما بقى كامل رغم إعترافه بان الدفتر يعود له ".
- كما ظهر تكتلان ذو طبيعة حزبية بحتة, إذ " في أواسط الأربعينيات تمكنت رابطة الشيوعيين العراقيين بقيادة داوود الصائغ المنشق عن ح. ش. ع بقيادة الرفيق فهد, من تكوين منظمة عسكرية برئاسة لجنة من الضباط هم: (الرئيس الركن سليم الفخري, الرئيس الركن غضبان السعد, الرئيس عبد القادر الله ويردي, الملازم حسين خضر الدوري, الملازم عايد كاطع العوادي والملازم صالح الدريعي) ومقرهم في الموصل.
وهناك تنظيم عسكري يشرف عليه الرفيق فهد ومسؤوله الملازم عبد العزيز عبد الهادي الذي التحق بالحزب الشيوعي عام 1941, يتكون من خلايا الجنود وضباط الصف ".
هذان التكتلان أستمرا بالعمل السري رغم طرد بعض منظميه من الضباط الصغار وضباط الصف من الخدمة العسكرية. وكان يتأثر وضعهما التنظيمي في الجيش بالجو السياسي العام من جهة, وبتوحد منظمات الحزب المنشقة من جهة ثانية, ومن جهة ثالثة بنظرة الحزب الخاصة للعمل في الجيش والتي كانت تتغير من فترة لآخرى, إذ ركز من منظور طبقي ضيق على المراتب والجنود بصورة خاصة. لكنه غير هذه السياسة بعد وثبة كانون 1948عندما اعتقد الحزب بأن الضباط الذين هم من اصول طبقية دنيا ووسطى يمكن كسبهم إلى التنظيم.
وقد تعرضت كل الكتل الشيوعية للملاحقة الشرسة من قبل القوى الامنية التي أضعفتها وقللت من حركتها, لكنها لم تستطع القضاء عليها.. بدليل اعاد تنظيم ذاته الموحدة في الخمسنيات وشكلت تنظيمها الخاص (اللجنة الوطنية لاتحاد الجنود وضباط الصف والضباط).
وتأسيساً على ما ذكر فإن الارهاصات الأولى للتنظيمات السياسية في الجيش تميزت ب:
- أنها غير مترابطة مركزياً ولم تتسم في مرحلتها الأولى بالاستمرارية, ولم تخلق هذه التنظيمات فردا أو كتلة مركزية تجمع هذا التشظي أو تدور في رحاها على الأقل ولهذا ككل حلية كانت تعتفد أنها أول خلية سرية تتكون في المرسسة العسكرية؛
- فيها الشيء الكثير من تضخيم الذات رغم صغر حجمها؛
- ذات سمة عفوية وردود فعل انفعالية لشبان في أول مدارك الوعي السياسي [ فالعاصفة التي يثيرونها ليست بالعمق الذي يدعونه] وفيها الكثير من الغطاء الدعائي لم يمتلكوا رؤية سياسية واضحة تستطيع الإجابة على القضايا المطروحة, ما بالك المستعصية؛
- مفعمة بعواطف وحماس الشباب, الذين لم يتجاوز أعمار أغلبهم عن 18-20 سنة ومن المتأثرين بقيم القوة والرجولة؛
- أغلبهم ينتمون إلى ذات الفئات الاجتماعية الوسطى وتحديداً من الطبقة المتوسطة الدنيا ومن اسر حضرية حرفية أو صعار التجار والملاك ؛ مما أكسبهم صفات هذه الفئات المتسمة بالقلق والتذبذب.. فكانوا ينقلون ولاءاتهم من جماعة إلىأخرى ومن حزب لأخر؛
- لم ترتقي هذه التنظيمات بذاتها إلى كونها ظاهرة اجتماعية لغياب البعد الذاتي والضرورة الموضوعية وظروفها.. لذا مثلوا الارهاصات الأولى لظاهرة برزت بعد أكثر من عقد من الزمن.. كانت الاجراءات التي قامت بها قوى الاحتلال الثاني وخب الحكم بمثابة الكابح لمثل هذه الصيرورات الاجتماعية, لانهم تنبهوا إلى خطورة موقع المؤسسة العسكرية بعد إنهزام دور مؤسسة العشيرة في التأثير على التوازنات السياسية والاجتماعية.
وبناءًً على ذلك فقد مهدت هذه التنظيمات وما رافقها من ظروف داخلية وعربية ودولية, على بروز وبلورة وعي نوعي جديد أفصح عن مكوناته ما يمكن أن نطلق عليه اسم :
[ ظاهرة الضباط الأحرار], وهذا ما سندرسه في المبحث التالي.
#عقيل_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟