|
القيادة الوطنية الجنبلاطية والنظام الدكتاتوري السوري
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 1218 - 2005 / 6 / 4 - 12:09
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لا يكاد يخفى على اي محلل سياسي، وحتى اي مراقب او متابع عادي، ان العلاقة المتناقضة، بمختلف اشكالها وتداعياتها السلبية والايجابية، بين الزعيم الوطني اللبناني وليد جنبلاط وبين سوريا، هي مكوّن اساسي للعملية السياسية برمتها في لبنان، وللعلاقات السياسية اللبنانية ـ السورية بشكل خاص، والعلاقات السياسية اللبنانية ـ العربية والسورية ـ العربية بشكل عام. وقد تبدى الطابع المتناقض لهذه العلاقة ـ اول ما تبدى ـ في الموقف المهادن، فالمتحالف، حيال سوريا، من قبل وليد جنبلاط، بعد اغتيال والده الشهيد الكبير "المعلم" كمال جنبلاط، على يد "شراذم البعث" كما قال وليد جنبلاط نفسه مؤخرا، وبعد صمت طويل. إذ جاء هذا الموقف الممالئ، فالمؤيد، لدمشق، على عكس ما كان يتوقعه في حينه الكثيرون، وخاصة في صفوف الطائفة العربية الدرزية الكريمة. وتبدى ذلك الطابع المتناقض، من ثم، في "التقلبات" الظاهرية لوليد جنبلاط في علاقته "التحالفية" مع سوريا، وصولا الى المرحلة الاخيرة، حيث تحول جنبلاط من موقع حليف رئيسي لسوريا في لبنان، الى موقع زعيم المعارضة اللبنانية، التي طالبت بالانسحاب الفوري السوري، والتي ضمت في صفوفها بعض ألد اعداء "الوجود" السوري في لبنان، الذين كانوا في ما مضى علنا، ولا يزالون ضمنا، ألد اعداء الخط الوطني الراسخ للقيادة الجنبلاطية ذاتها. ومن ضمن هذا السياق، يؤخذ على وليد جنبلاط اطلاق بعض العبارات المتسرعة، او "زلات اللسان"، كما سماها البعض وكما اعترف هو نفسه، التي كانت تبدو لاحقا اشبه شيء، اما بـ"قنبلة دخانية" يطلقها جنبلاط كي تلفت النظر الى جهة، لتغطي تحوله الى جهة اخرى؛ او بـ"قشرة موز" يرميها جنبلاط هنا او هناك بهدف "تزحيط" بعض الاطراف الى اتخاذ مواقف معينة، يعود هو نفسه فيما بعد (او لا يعود) للتخلي عنها او وضع مسافة بينه وبينها. وقد ذهب بعضهم الى ان يتخذوا من ذلك "دليلا" على "لاجدية" و"لاجدارة" القيادة الجنبلاطية. وحسب تعبير بشير الجميل فيما مضى "ان وليد جنبلاط "يتولدن"، والوقت ليس وقت "ولدنة"!"، وقد قال ذلك بعد اجتماع الرجلين، برعاية المندوب الاميركي فيليب حبيب (اللبناني "الاصل!")، الذي كان يسعى جاهدا لـ"تسويق" انتخاب "رئيس الجمهورية" بشير الجميل، الذي ـ بدوره ـ ساوم وليد جنبلاط للحصول على تأييد "رئاسته" للجمهورية اللبنانية، مقابل منح وليد جنبلاط (كما كان كمال جنبلاط في السابق) مركز "رجل العهد القوي"، وذلك طبعا في حمى الدبابات الاسرائيلية والنيوجرسي الاميركية. ولكن وليد جنبلاط رفض بحزم ارتداء هذا القميص القذر والانخراط في اللعبة الاميركية ـ الاسرائيلية، التي كان حزب الكتائب منخرطا فيها حتى النخاع الشوكي؛ وقد قطع جنبلاط حينها الاجتماع، وامام ذهول ذلك الفيليب حبيب و"بشيره"، وعلى مرأى من قوات الاحتلال الاميركية والاسرائيلية، ركب سيارته واتجه ليس الى قصر المختارة، ولا الى اي مكان آخر سواه، بل تحديدا الى... دمشق. هذا الموقف، المناقض 180 درجة لحالة الامر الواقع "الاسرائيلية" التي كان يراد فرضها على لبنان حينذاك، لم يتوان بشير الجميل عن وصفه بأنه "ولدنة". ولكن بعد ايام معدودة من ذلك اللقاء الدرامي الفاشل، فإن "مشروع رئيس الجمهورية" بشير الجميل خرج شخصيا ونهائيا من الساحة، ودخل في التاريخ الاسود الطويل لحزب الكتائب العميل. وتأكد بدماء "البشير" التي لطخت تراب الـ10452 كلم2، ان المسألة لم تكن ابدا مسألة "ولدنة" من قبل الزعيم الوطني وليد جنبلاط، بل مسألة "شب واستحلى!" من قبل "رئيس العصابة" الطائفية الموالية لاسرائيل بشير الجميل، الذي أرادوا فرضه على الشعب اللبناني كرئيس للجمهورية. اهداف الحملة على وليد جنبلاط ومن المهم لأي تحليل لطبيعة القيادة الجنبلاطية التوقف اولا لازالة التباس اساسي يتعلق بالجانب الوراثي التقليدي، العشائري ـ الطائفي، لتلك القيادة. لا شك ان البيت الجنبلاطي هو في الاصل بيت زعامة اقطاعية ـ سياسية ـ طائفية تقليدية. وبحكم الوراثة السلالية، فإن وليد جنبلاط هو وريث هذه الزعامة. واخصامه يستغلون هذه الصفة له، ويعتبرونها "ممسكا" عليه، وهم يستعملون هذا "الممسك" ليس للطعن بالطائفية ـ العشائرية بحد ذاتها، ذلك ان هؤلاء الاخصام انفسهم، وعلى رأسهم النظام الدكتاتوري السوري وصنائعه من زبانية الاجهزة الامنية ـ مشروع الدكتاتورية الفاشل في لبنان، انما يتعاملون بـ"قابلية" قد "يحسدون عليها" مع مختلف انماط القيادات والزعامات العشائرية والطائفية الاخرى، خصوصا التي تسير في ركابهم. وهم كانوا يتمنون، بل ويعملون، لأن ينحصر وليد جنبلاط ضمن النمط القيادي الطائفي ـ العشائري. ويكاد يرى حتى بالعين المجردة ان الهدف الاول والاخير لجميع الحملات والمآخذ على وليد جنبلاط ليس هو الطعن بقيادته الطائفية ـ العشائرية، بل على وجه التحديد الطعن بالدور الوطني للقيادة الجنبلاطية. واذا تجاوزنا، ولو من باب الجدل المنطقي، نظرة الاستخفاف بمواقف وليد جنبلاط، فلا يسعنا الا ان ننظر، بدون اي ظل لاي استخفاف، الى الصورة العامة للازمة العاصفة الاخيرة، التي سبقت ورافقت واعقبت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، ونتفكر في ما نتج عنها ـ حتى الان على الاقل، وهو اول الغيث ـ من تحقيق معجزة ازاحة قوات واجهزة الدكتاتورية السورية عن كاهل الشعب اللبناني وعن صدر كل مواطن لبناني، في ظروف محلية واقليمية ودولية بالغة التعقيد. فلقد تم تحقيق هذه العملية ـ المعجزة، بمواجهة نظام دكتاتوري مشبوه، مكيافيلي، ديماغوجي وجزار، كالنظام السوري. لقد سلم هذا النظام الجولان في 1967 بدون قتال؛ ولكنه لم يتورع عن ان يرينا كل انواع "البطولات" في تحويل سوريا العربية الى معسكر اعتقال هتلري ـ ستاليني رهيب، والتعامل مع الشعب العربي السوري المظلوم كشعب محتل وكقطيع من "الدواجن البشرية"، المحروم من كل الحقوق الانسانية، والذي ترتكب بحقه جرائم كبرى ضد الانسانية مثل مجزرة "تأديب" مدينة حماه ومجزرة سجن تدمر الخ. وبالرغم من كل ادعاءاته القومجية الكاذبة، فإن هذا النظام نفسه لم يتورع، في 1976، عن عقد "صفقة دولية" "سرية" مكشوفة مع اميركا، من اجل الدخول الى لبنان وتقاسمه مع اسرائيل، مقابل "تأديب" وتفكيك وإخضاع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، واستباحة دماء واذلال وسحق ارادة الشعب اللبناني والجماهير الفلسطينية في لبنان. وقد دشن زبانية الدكتاتورية السورية دخولهم الى لبنان في الـ76 بقصف وتدمير مخيم تل الزعتر الفلسطيني وتسليم جماهيره المغدورة من نساء واطفال وشيوخ، لوحوش الكتائب والقوات اللبنانية. ثم كرروا الشيء نفسه في الاحياء الوطنية والاسلامية اللبنانية (النبعة وبرج حمود والمسلخ والكرنتينا وحاجين وشرشبوك وخليل البدوي وغيرها)، ثم قتلوا كمال جنبلاط، وتواطأوا لازاحة الامام موسى الصدر، لحساب اميركا واسرائيل و"الطابور الخامس" المسيحي(!!) اللبناني، وكان لهم اصبع في مجزرة صبرا وشاتيلا (على الاقل في تأمين الحماية السياسية والامنية للجزار العميل ايلي حبيقة وعصابته التي نفذت المجزرة. وحينما اراد حبيقة، بعد 22 سنة، ان يتكلم عن المجزرة ويشهد ضد شارون في المحكمة البلجيكية، قتل على الفور، مما يشي بوجود "خط تعاون" مفتوح اسرائيلي ـ "سوري!")، وهم الذين نظموا تصفية المقاومة الوطنية اللبنانية وتقنينها فقط ضمن الاطار الطائفي الشيعي، بهدف اضعافها دوليا، وتسهيل "سلخ جلد الدب" وبيعه عند الطلب، ثم نظموا حروب المخيمات واوقعوا بين الفلسطينيين والشيعة، تمهيدا لضرب الاثنين كل في وقته. وطوال حوالى ثلاثين سنة، مرغوا العروبة والاخاء العربي في رغام قومجيتهم الكاذبة، بتحويل لبنان الجريح الى "مغارة علي بابا والاربعين حرامي". ولم يكن مثل هذا النظام ليتورع ـ وهو يعرض خدماته باستمرار ـ لعقد "صفقة" مماثلة جديدة (بدأت روائحها "التطبيعية" تفوح مع "استيراد" تفاح الجولان المحتل) مع اميركا واسرائيل وتركيا، ضد المقاومة الفلسطينية، وضد المقاومة العراقية الشريفة، وضد "سلاح المخيمات" و"سلاح المقاومة" و"حزب الله" وكافة القوى الوطنية والدمقراطية في لبنان. وكانت محاولة اغتيال الشخصية الوطنية البارزة مروان حمادة، ثم اغتيال الرئيس الحريري اول "دفعة عربون على الحساب" قدمها النظام السوري وزبانيته "اللبنانيون" للدوائر الاميركية والصهيونية. ولكن مثل هذه "الصفقة" كتب لها الفشل، حتى الان، بسبب الرد العارم غير المتوقع من قبل الجماهير الشعبية اللبنانية ولا سيما القوى الوطنية والدمقراطية الحقيقية الواعية، وعلى رأسها الزعيم الوطني وليد جنبلاط. الثوابت المبدئية للقيادة الجنبلاطية واذا تجردنا عن بعض الهوامش، والقينا جانبا، وبما "يليق" من الازدراء، "ولدنات" ورخص ومشبوهية مواقف الاستخفاف، ولا سيما مواقف التجريح، بالقيادة الوطنية الجنبلاطية، فإننا نرى ما يلي: لقد كان من الصعب حتى الان، في الساحتين اللبنانية والعربية معا، ان يملأ احد، وليد جنبلاط او غيره، الفراغ الكبير، الفكري والمناقبي والوجداني، الذي خلفه المعلم الشهيد كمال جنبلاط. وهذه مسألة متروكة للتاريخ. ولكن على المستوى السياسي ـ النضالي الجاري، وبالرغم من غياب كمال جنبلاط الشخص، فإن الوقائع تثبت، اكثر فأكثر، ان وليد جنبلاط قد حفظ الامانة، وتابع المسيرة. وبالرغم من الاخطاء غير الاساسية المرافقة لأي عمل سياسي، فهو يتقدم بخطى راسخة على طريق استعادة وتطوير الدور الوطني المميز للقيادة الجنبلاطية. والآن بالاخص، في المنعطف الخطير الذي يمر به لبنان، يبدو بوضوح ان قيادة وليد جنبلاط هي استمرار للدور الوطني للقيادة الجنبلاطية. ومسلكه السياسي اليوم يؤكد المحافظة على "الثوابت المبدئية" لتلك القيادة، التي ارسى اسسها كمال جنبلاط، والتي تتميز بالصفات الرئيسية التالية: ـ الالتزام الوطني اللبناني، والقومي العربي، العلماني والدمقراطي والتقدمي، الثابت والصادق. ـ الفهم العميق، والتعامل المسؤول، حيال تعقيدات التركيبة اللبنانية خاصة، والاوضاع العربية والدولية عامة. ـ مواجهة الانحرافات والسلبيات والارتكابات الطائفية، ولا سيما فيما يتعلق بالمسألة الوطنية والقومية، وذلك من ضمن العمل الصبور والدؤوب لتطوير البنى العشائرية والطائفية الموروثة الى مستوى القضية الوطنية اللبنانية، وانطلاقا منها الى مستوى القضية القومية العربية. ـ الحكمة والتروي وروح المسؤولية القيادية، على المستوى "الطائفي" والحزبي والوطني والقومي. ـ المرونة والحنكة السياسية وقدرة الامساك بدفة السفينة ومنعها من الغرق، وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، ضمن الانواء والامواج المتلاطمة. الولادة الجديدة للبنان طوال الثلاثين سنة الماضية واجه لبنان كارثة وطنية مريرة تميزت بثلاثة وجوه مركبة هي: الحرب الاهلية، و"الوجود" الدكتاتوري السوري، والاحتلال الاسرائيلي. وقد اوردناها متسلسلة ليس من حيث "الاهمية" والخطورة، بل من حيث التتابع الزمني، كما فرضت فرضا على الشعب اللبناني. وكان الهدف الأبعد للمؤامرة الدولية التي تعرض لها لبنان هو تمزيق النسيج الاهلي للشعب اللبناني والقضاء على هويته الوطنية اللبنانية العربية، توصلا الى التحكم بالجغرافية اللبنانية واعادة "رسمها" من جديد ضمن الخطوط العريضة لـ"سايكس ـ بيكو". وفي هذه المرحلة المأساوية من التاريخ اللبناني والعربي استطاعت القوى الوطنية اللبنانية، العلمانية والاسلامية، ان تواجه ببسالة حيثيات المؤامرة، بوجوهها الثلاثة، وان تصمد، واخيرا ان "تقلب السحر على الساحر" وتحقق ثلاثة انتصارات كبرى، بالرغم من كل التردي الفظيع للاوضاع العربية. وهذه الانتصارات هي: 1 ـ الانتصار الحاسم، في معركة الجبل غداة الاجتياح الاسرائيلي، على "الطابور الخامس" اللبناني، الذي عمل بقضه وقضيضه لتوريط الطوائف المسيحية، ولا سيما الموارنة، في احابيل السياسة الاميركية ـ الصهيونية، بهدف تحويل لبنان الى "محمية اسرائيلية". وانه لمن سخرية القدر، ولكنه ذو دلالة كبرى في الوقت نفسه، ان نستمع الان الى السيدة ستريدا جعجع بالذات (زوجة قائد "القوات اللبنانية" العميل الاسرائيلي "السابق!" الدكتور سمير جعجع، الذي زج به في السجن لأنه، في تخليه او عدم تخليه عن العمالة لاسرائيل، رفض ان "يدوبل" وان يتحول الى "عميل سوري"، او "صبي اجير" عند غازي كنعان ورستم غزاله، كما فعل المرحوم ايلي حبيقة وغيره من "العملاء الاسرائيليين" "السابقين" جنبا الى جنب بعض "الوطنيين" اللبنانيين) ـ فنسمعها تقول باسم "القوات اللبنانية" وباسم زوجها "إن لبنان سيكون آخر دولة عربية توقع اتفاق سلام مع اسرائيل". (فسبحان الذي يغير ولا يتغير!). ونستطيع ان ندرك الاهمية الكبرى لهذا الانجاز التاريخي، بالمقارنة بينه وبين الدور المخزي للقيادة العشائرية البارزانية ـ الطالبانية في العراق، التي عملت وتعمل المستحيل لتحويل "البشمركه" الكردية من قوة وطنية ودمقراطية (سابقا) الى طابور خامس اميركي ـ اسرائيلي وقوات احتياطية للاحتلال في العراق، تماما كما كان "جيش لبنان الجنوبي" يضطلع بدور كلب حراسة في خدمة الاحتلال الاسرائيلي، وذلك ضد المصلحة الوطنية العامة، العراقية، وضد المصلحة القومية العليا، العربية والكردية والتركمانية معا. وبالهزيمة العسكرية والسياسية للطابور الخامس اللبناني، فقد الاحتلال الاسرائيلي مصدر قوته المحلية ومبرر الوجود الداخلي الرئيسي له في لبنان. واصبحت المقاومة الوطنية والاسلامية تقف على ارض صلبة من "الوفاق الوطني"، لم تكن تتوفر لها قبل ذلك. 2 ـ الانتصار التاريخي على الاحتلال الاسرائيلي، على يد المقاومة الوطنية والاسلامية. لقد كان النظام الدكتاتوري السوري يتعامل مع المقاومة اللبنانية كورقة ضغط في المساومات و"البازارات" السياسية المخجلة بينه وبين اميركا واسرائيل، على حساب القضية القومية عامة، والقضية الوطنية الفلسطينية واللبنانية والسورية خاصة. وكل "الدعم" ـ خاصة اللفظي ـ من قبل النظام الدكتاتوري السوري للمقاومة، لم يكن يعلو عن هذا السقف. ولو كان النظام السوري يؤيد المقاومة حقا، فلماذا يمنع المقاومة في الجولان المحتل، و"الاقربون اولى بالمعروف!". ولكن حسابات هذا النظام المشبوه اخطأت مرتين في التعامل والاستغلال الانتهازي للمقاومة الوطنية والاسلامية اللبنانية، وبالنتيجة فجع بظاهرتين لم يكن يحسب لهما حسابا: الاولى ـ لقد استخدم النظام الدكتاتوري السوري كل اشكال الضغط المباشرة وغير المباشرة لمحاصرة وخنق "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية"، التي كانت تقوم على اكتاف الاحزاب اليسارية والتقدمية العلمانية، بعد ان فشل في تحويلها الى ألعوبة في يده. ولكن المقاومة الاسلامية التي حلت محلها وتابعت قضيتها رفضت ايضا ان تكون العوبة بيد ضباط المخابرات السورية و"شبت عن الطوق" الذي كان مضروبا حولها، وتحولت الى قوة سياسية ـ عسكرية فاعلة على الساحة، وذات وزن اقليمي، واصبحت مسألة تحجيمها وخنقها، و"بيع جلدها" للاميركيين والاسرائيليين، اكبر بكثير من امكانيات هذا النظام المشبوه. والثانية ـ ان اسرائيل نفسها "خذلت بضعفها" النظام الدكتاتوري السوري، واضطرت للانسحاب من لبنان، حينما وجدت ان تكاليف احتلال الارض اللبنانية هي غير ما تعودته في الجولان المحتل، وهي تكاليف اكبر بكثير من ان يستطيع كيانها الهش ان يتحمله. وكانت فجيعة النظام الدكتاتوري السوري بالانسحاب الاسرائيلي اكبر من فجيعة اسرائيل نفسها، لانه، بعد زوال الاحتلال الاسرائيلي في ايار 2000 (باستثناء مزارع شبعا، التي كانت متبـّعة بطريقة شوفينية ـ قطرية للدولة السورية، والتي يعمل لبنان الان لاستردادها، من النظام السوري ومن اسرائيل معا، بالدبلوماسبة والمقاومة معا) فقد النظام الدكتاتوري السوري ورقة ضغطه بالمقاومة "اللبنانية"، ومن ثم فقد "الاساس الدولي" لصفقة "التقاسم الاسرائيلي ـ الدكتاتوري السوري" للبنان، التي كان يعبر عنها بلعبة تبرير وجوده في لبنان بوجود الاحتلال الاسرئيلي. ومنذ تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي، فقد النظام الدكتاتوري السوري ورقة المتاجرة بالمقاومة اللبنانية، وبدأ العد العكسي لايام "وجوده" ووجود "خفافيش الظلام" و"زعران" و"حرامية" رستم غزاله في لبنان. 3 ـ الطرد المشين للدكتاتورية السورية من لبنان، بما يليق بها من "حفاوة"، وبداية الانتصار على مشروع البنية الدكتاتورية اللبنانية التي عمل النظام الدكتاتوري السوري على تركيبها، كي يتم "عوربة" لبنان على صورة ومثال النظام الدكتاتوري السوري وغيره من الانظمة الدكتاتورية العربية. وقد دفع لبنان مقدما ثمنا غاليا لهذا الانتصار، بدءا من اغتيال شهيد لبنان والعرب كمال جنبلاط، وانتهاء باغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، مرورا بتضحيات جسيمة لا تعد ولا تحصى. وهذا الانتصار هو ركن اساسي لتحرير سوريا نفسها من الدكتاتورية، ومن ثم فهو نموذج يحتذى ومنطلق لجميع الدول العربية الاخرى للاصلاح الدمقراطي والتحرر من الانظمة الدكتاتورية، جنبا الى جنب التحرر الوطني والقومي ضد اسرائيل والصهيونية والامبريالية الاميركية. وما ينبغي التأكيد عليه بالخط العريض هو: ان هذه الانتصارات التاريخية الثلاثة تتقاطع عند القيادة الوطنية الجنبلاطية. وهي لم تكن لتتحقق لولا هذه القيادة الوطنية الصادقة، والناضجة، والتي اكتوت حتى الاعماق بنار التجربة المريرة التي مر بها لبنان. ضرورة لا يمكن تجاوزها ولهذا، ولأجل فهم مجريات الاحداث الهامة، الحالية والقادمة، ليس فقط على الساحة اللبنانية، بل وعلى الساحتين السورية والفلسطينية، والساحة العربية بمجملها، يصبح من الضروري اكثر فأكثر، بالنسبة لأي وطني وتقدمي عربي، محاولة فهم الاوضاع اللبنانية بشكل عام، وفي الوقت نفسه محاولة فهم، بشكل خاص، طبيعة القيادة الجنبلاطية ودورها "الوطني اللبناني" و"القومي العربي". وفي هذا السياق، ونظرا للاهمية الخاصة للعلاقات اللبنانية ـ السورية، ولكون العلاقة مع الدولة السورية هي المدى القومي الاول للبنان، تأتي في المرتبة الاولى من الاهمية محاولة سبر العلاقة بين القيادة الجنبلاطية والدولة السورية، في بعديها التاريخي والراهن معا. واول ما يجب التأكيد عليه على هذا الصعيد هو النظر الى القيادة الجنبلاطية لا كما يحلو للبعض ان يصورها، كإرث فردي موضوع في تصرف شخصي و"مزاجي" لوليد جنبلاط، بل النظر اليها كما هي فعلا، وكما تأكد من خلال الوقائع، اي بوصفها استمرارا للقيادة السياسية الوطنية لكمال جنبلاط، وكمؤسسة قيادية شعبية ذات ثوابت وطنية، عروبية، دمقراطية وتقدمية، كما أشرنا فيما سبق، هي الثوابت التي ارساها المعلم الشهيد كمال جنبلاط. وهذا يعني ان القيادة الجنبلاطية (كمؤسسة سياسية وطنية، لبنانية وعربية، لم يعد بالامكان تجاوزها، من قبل اي طرف لبناني وعربي ودولي) ترتبط باسم الشهيد كمال جنبلاط. وان دراسة القيادة الجنبلاطية يجب ان تبدأ بدراسة الاسس التي ارساها المعلم كمال جنبلاط لتلك القيادة. وهذا ما يقتضي الاجابة على ثلاثة اسئلة: ـ ما هي القيادة الجنبلاطية، او بكلمات ادق: ما هو الجديد الذي قدمته الجنبلاطية على الساحة الوطنية، اللبنانية والعربية؟ ـ لماذا اغتيل كمال جنبلاط؟ ـ ما هو الدور الراهن للقيادة الجنبلاطية الحالية، وأفقها؟
المسألة الاولى: ما قدمته الزعامة "الطائفية" الجنبلاطية لمقاربة هذه المسألة لا بد من ايراد الملاحظات التالية: 1 ـ ان الاصل الكردي (السني) لعائلة جنبلاط يلعب، في رأينا، دورا استثنائيا في تشكيل المميزات الخاصة للقيادة الجنبلاطية. وذلك ليس لأن الاصل الكردي يعطي اي ميزات ذات منشأ عنصري. بل ان مميزات القيادة الجنبلاطية تنشأ عن حوافز وتداعيات عملية تحول وانتماء تلك العائلة الامارية الكردية السنية القديمة الى العائلة الروحية الدرزية، ومن ثم الى الشعب اللبناني والثقافة فالقومية العربية. وهذا ما سنتناوله في الاسطر اللاحقة. 2 ـ المكانة "الدرزية" الخاصة للعائلة الجنبلاطية: ان الجد الاعلى الذي تنتسب اليه هذه العائلة الكريمة هو الامير علي باشا جانبولاد (= القلب الشجاع، او القلب الحديد) الذي كان والي حلب للعثمانيين في مطلع القرن السادس عشر، وثار عليهم، وتحالف مع الامير فخرالدين المعني الثاني امير جبل لبنان، واعدم في 1511، وقد لجأ حفيده جانبولاط بن سعيد الى جبل لبنان في 1530 واسس العائلة الجنبلاطية الدرزية. وعلي باشا جانبولاد كان كرديا سنيا. وان باب "الدعوة" الدرزية كان قد اقفل قبل لجوء حفيده الى جبل لبنان بمئات السنين. وهناك احتمالان لمسألة الانتماء الدرزي للعائلة الجنبلاطية: ـ اما ان هذه العائلة الثائرة كانت درزية المعتقد، سرا، منذ ما قبل اقفال باب "الدعوة". ـ واما ان القيادة الدينية الدرزية المعنية قد سمحت بدخول الجنبلاطيين الى العائلة الروحية الدرزية، لاعتبارات تدخل في صلاحيات تلك القيادة؟ وفي كلا الاحتمالين، فإن "درزية" العائلة الجنبلاطية تكتسب مكانة تقدير خاصة في صفوف الطائفة الدرزية الكريمة. 3 ـ التقصير التاريخي لليسار: ان البنى العشائرية والطائفية، التي بنيت عليها جميع الكيانات القطرية العربية ومنها لبنان (كيانات سايكس ـ بيكو) هي موروث "تاريخي" مفوَّت، من جهة، ولكنه واقعي وماثل لا يمكن تناسي وجوده او تجاوزه بخفة ولاعقلانية، من جهة ثانية. والقوى اليسارية والتقدمية اللبنانية والعربية، قد عارضت بشدة ولا تزال التقسيم الاستعماري الذي ارست أسسه "سايكس ـ بيكو". ولكنها، ولا سيما في المرحلة التي سبقت الحرب اللبنانية، لم تعط الاهتمام الكافي للموروث "التاريحي" الخاص الذي استغله وقام عليه التقسيم الاستعماري، ولم يكن لينجح ويستمر بدونه. وها ان التجارب المريرة في السودان وغيره من البلدان العربية، وخصوصا في العراق الذبيح، بالاضافة الى "التجربة اللبنانية"، تثبت انه ليس بالامكان تجاوز هذا المعطى التاريخي "المفوَّت!"، بل ينبغي مواجهته والتصدي له، وجها لوجه، بواقعية وعقلانية وشجاعة معنوية. وفي السابق، وبالتحديد عشية واثناء الحرب اللبنانية، تراوحت التحليلات والمواقف التقدمية واليسارية من ظاهرة العشائرية والطائفية في لبنان بين موقفين رئيسيين: الاول ـ النظر اليها كمرض اجتماعي، او كمظهر من مظاهر التخلف الثقافي والفكري، التي يجب الرد عليها بالتثقيف الجديد، العلمي ـ الدمقراطي ـ العلماني ـ التحديثي، للجماهير، على اختلاف انتماءاتها الدينية والمذهبية والعشائرية. والثاني ـ كمظهر من مظاهر الانقسام الطبقي، الموروث من زمن الاقطاعية. ومن هنا رواج مفهوم "الاقطاع السياسي"، الذي قـُصدت به الزعامات التوارثية التقليدية، المستندة الى التقسيم الطائفي ـ العشائري، الذي يقوم عليه الكيان والنظام اللبناني. وطبعا ان هذا المفهوم كان يشمل ميكانيكيا القيادة الجنبلاطية ايضا، بصفتها الطائفية ـ العشائرية قبل كمال جنبلاط، او التي ورثها كمال جنبلاط. وفي هذا الصدد نشير هنا الى ان "منظمة العمل الشيوعي" كانت قد طورت هذا المفهوم الطبقي العام الى مفهوم طبقاوي ميكانيكي لظاهرة العشائرية والطائفية، فطرحت، عشية الحرب اللبنانية، مفهوم "الطائفة ـ الطبقة" عن المسيحيين الموارنة في لبنان، استنادا الى الامتيازات السياسية والادارية التي كانت تتمتع بها الطائفية المارونية ضمن النظام الطائفي اللبناني. وقد اثبتت، بالاخص، التجارب المرة للحرب اللبنانية ان هذين الموقفين، او المفهومين، يقصرّان عن التعريف الصحيح او الاحاطة او الفهم الحقيقي للظاهرة الطائفية ـ العشائرية، لاسباب عديدة اهمها: أ ـ الطائفية "المتنورة": ان العصبية الطائفية ـ العشائرية لا تتطابق ميكانيكيا مع التخلف الفكري والثقافي والعلمي. بل ربما نجد العكس، ان هذه العصبية تشمل كذلك الانتلجنتسيا والمتعلمين، واحيانا كثيرة اكثرهم "ليبيرالية" و"انفتاحا" و"عصرية" و"دمقراطية"، اكثر مما تشمل ابناء الشعب = ابناء الطائفة البسطاء. ب ـ السطحية الطبقاوية: ان المفهوم الطائفي ـ الطبقاوي لا يخرج عن نطاق اللفظية المجوفة التي ليس لها اي مدلول سياسي ـ طبقي حقيقي. فاذا كان "الموارنة"، مثلا، طائفة سائدة (اقطاعية او بورجوازية(!) مثلا، مما لا يمت الى الواقع بصلة)، فهل ان "السنة" هم طائفة ـ طبقة مسودة (بروليتاريا(!) مثلا)، وهل ان "الشيعة" هم طائفة ـ طبقة ثالثة (فلاحون صغار مستقلون(!) مثلا)، وهل ان الدروز والارثوذكس والكاثوليك الخ. هم طائفة ـ طبقة رابعة (حرفيون وباعة متجولون(!) مثلا)؟. ولا ندري بهذا المنطق الطبقاوي اين تأتي "طبقة" العلويين والكلدان والسريان والبروتستانت والمعمدانيين الخ.؟ ج ـ شمولية التقسيم الطبقي: اذا كان من الصحيح وجود تفاوت في الوضع الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الثقافي ـ السياسي، لكل طائفة ككل، بالقياس الى الطوائف الاخرى، تبعا لمكانة كل منها في النظام السياسي الطائفي الموروث تاريخيا، فإن من الصحيح ايضا ان كل طائفة بعينها كان ولا يزال يشملها الانقسام الطبقي، سواء بآليات الانقسام في المرحلة الاقطاعية، اوبآليات الانقسام في مرحلة الاستعمار المباشر، او في المرحلة "الاستقلالية"، مرحلة الرأسمالية التابعة الحالية. 4 ـ الدور الخاص لليسارية الجنبلاطية: واذا كانت السمة المميزة للقيادات اليسارية والتقدمية اللبنانية (غير الجنبلاطية) هي كونها "متجاوزة"،"خارجة"، أو معادية، مسبقا او ماقبليا (apriori)، لـ"طائفيتها ـ عشائريتها" الخاصة، فالامر يختلف تماما بالنسبة للقيادة الجنبلاطية، التي أتت "من داخل" و"في سياق عمل" بنية طائفية ـ عشائرية معينة، هي البنية الدرزية، وبالتالي من ضمن التركيبة الطائفية اللبنانية، منظورا اليها بشكل عام. وتتلخص تجربة القيادة الجنبلاطية، على هذا الصعيد، في المحاولة التاريخية الفريدة للارتفاع بالبنية الطائفية ـ العشائرية ذاتها الى مستوى ارقى: مستوى "التجاوز الذاتي" للطائفية ـ العشائرية لا من قبل افراد، بل من قبل البنية الطائفية ـ العشائرية ذاتها، نحو الافق الارحب: الاجتماعي العام ـ الوطني ـ القومي. وقد ارتكزت هذه التجربة الجنبلاطية الى واقع ملموس هو ان الطائفية ـ العشائرية بذاتها، كبنية اجتماعية بحد ذاتها، تمتاز بالميزتين التاليتين: اولا، انها كبنية تختلف عن الوطنية والقومية، ولكنها بذاتها ليست او لا تكون، مسبقا او ماقبليا (apriori)، معادية للوطنية والقومية. بل هي، اذا اتيحت لها الظروف الذاتية والموضوعية المناسبة، قد تعبر عن نفسها وتتجلى افضل ما تتجلى بالوطنية والقومية. وثانيا: ان سلبيات الطائفية ـ العشائرية، في الحالة "الوطنية" و"الشعبية" المناضلة، تتضاءل الى الحدود الدنيا، وتكاد تختفي، في ظروف النضال ضد الاستعمار والانظمة الاستبدادية والدكتاتورية. ولكن تلك السلبيات تظهر اكثر ما تظهر، وتتفاقم، وتتفاعل، مع وجود سلبيات السلطة، ومع الصراع لتقاسم مغانم السلطة. وهي قد تصل الى حدود الخيانة الوطنية والارتداد القومي، من خلال الصراع على السلطة على وجه التحديد. وهذه النقطة الاخيرة (اي ارتباط "ايجابيات" الطائفية ـ العشائرية بالنضال الوطني والدمقراطي، وارتباط سلبياتها بسلبيات السلطة والصراع على السلطة) كانت بمثابة "كلمة السر" او "المفتاح السحري" الذي امسك به منذ البداية كمال جنبلاط ـ الشاب، المثقف، العفيف، الزاهد، الذي ـ ومنذ بداية حياته السياسية ـ وضع مسافة بينه وبين مغريات اي سلطة طائفية ـ عشائرية، او سياسية، او مالية الخ، وهذا هو "سر" قوته كمناضل، او كرجل سياسة مبدئي (لا تاجر سياسة politician ) لا تستهويه السلطة ولا يستدرج بمغرياتها، رجل قدم نموذجا جديدا لرجل السياسة، في لبنان وغير لبنان. 5 ـ الزعامة "الطائفية" الوطنية: ان وليد جنبلاط، وقبله كمال جنبلاط، لم يكن اي منهما ليتحرج من درزيته، وبالتحديد زعامته الدرزية. بل على العكس فإن الزعامة "الدرزية" كانت ولا تزال مرتكزا، وقاعدة انطلاق اولية، وخط دفاع اخيرا للقيادة الجنبلاطية. ولكن، ومع الاحتفاظ بالزعامة الدرزية، فإن القيادة الجنبلاطية، وفي الجانب السياسي ـ النضالي حصرا، قد تكرست بوصفها ظاهرة وطنية، لبنانية وعربية، اوسع بكثير من زعامة طائفية معينة، او زعامة طائفة معينة. وهنا نجد ان الجنبلاطية قد نجحت في تأكيد امكانية وضع الطائفية ـ العشائرية في خدمة القضية الوطنية والقومية، وقضية التحرر الوطني، القومي والاجتماعي، وليس العكس. ولتوضيح فكرتنا نسمح لانفسنا باعطاء مثالين آخرين (غير جنبلاطيين) عن هذه "الامكانية": الاول، مثال تاريخي، ويتعلق بالدور الذي اضطلع به زعيم الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الاطرش رحمه الله: ان هذا الزعيم الوطني السوري والعربي الكبير، كان بالاساس زعيما طائفيا ـ عشائريا، درزيا. ولكن ليس هناك اي تناقض بين زعامته الدرزية وقيادته للثورة السورية الكبرى، بل على العكس ان زعامته الدرزية كانت مرتكزا ومنطلقا لزعامته للثورة السورية. ان الصفات الشخصية لسلطان باشا الاطرش، كقائد ذي حس ووعي وطنيين وشخصية محترمة، نظيف الكف، شجاع ونبيل، كانت ستبقى هي ذاتها سواء كان زعيما درزيا ام لا، زعيما للثورة ام لا. وقد مكنته تلك الصفات الشخصية ان يكتسب الاحترام والتقدير في زعامته الدرزية وفي قيادته للثورة. ولكنه، مع كل صفاته الشخصية، لو لم يكن زعيما درزيا لما كان بامكانه الاضطلاع بالدور الذي اضطلع به في اشعال وقيادة الثورة السورية الكبرى. ولو كان سلطان الاطرش زعيما درزيا تقليديا، دون ام نكون له الصفات الشخصية والوطنية الايجابية، لما اصبح زعيما ببثورة. وفي الوقت نفسه لو كان شابا درزيا عاديا، مثقفا وطنيا وثوريا مخلصا وواعيا ومتفانيا، لما كان بامكانه ايضا الاضطلاع بالدور الثوري التاريخي الذي اضطلع به، الا بأن يتوفر له الشرطان التاليان: اما بأن يستقطب معه زعيما كسلطان باشا الاطرش، يستطيع تحريك كتلة بشرية كبيرة تضطلع بدور الصخرة التي ستقوم عليها الثورة؛ او ان يعمل لسنوات لتشكيل حزب سياسي وطني كبير يمكنه الاضطلاع بالتعبئة الجماهيرية الضرورية لاجل القيام بالثورة. من هنا نجد انه، مع ضرورة توفر الصفات الايجابية الفردية والشخصية، فإن المأثرة التاريخية لسلطان باشا الاطرش هي ليس في انه اتخذ موقفا وطنيا فرديا، قد يضحي فيه بحياته بمنتهى الصدق والاخلاص والتفاني، بل في انه ـ من خلال زعامته التقليدية "الموروثة" ـ استطاع "استخدام" و"تسخير" تلك الزعامة الطائفية ـ العشائرية، لتعبئة و"تجنيد" حامولته الطائفية، ليس في نزاعات طائفية واعمال شغب وصراع على مغانم السلطة، تحت "نظر" وطبعا برضا السلطة والمحتل الاجنبي، بل على وجه التحديد في ثورة وطنية كبرى ضد المحتل الاجنبي، لمصلحة تحرير واستقلال الشعب السوري بأسره والامة العربية بأسرها، من كل المذاهب والطوائف. وبكلمات اخرى، فإن سلطان باشا الاطرش قد ارتفع بأداء البنية الطائفية المعينة، هنا الدرزية، الى المستوى الوطني والقومي العام، من ضمن التركيبة الفكرية والتقاليدية والدينية لهذه البنية ذاتها، وليس ضدها. وان الذين قد يعتبرون "الزعامة الدرزية" مأخذا على سلطان باشا الاطرش، لا يعبرون فقط عن جهل بالحقائق والضرورات التاريخية، بل ويحشرون انفسهم، من حيث يريدون او لا يريدون، في صفوف السياسيين الاستعماريين والايديولوجيين المبشرين بـ"الدمقراطية" و"العصرنة" الاستعماريتين، الذين كانوا يطعنون بالزعامة الوطنية والعربية لسلطان باشا الاطرش، من خلال الطعن بزعامته الطائفية ـ العشائرية الدرزية (وليسمح لي القارئ هنا ان اذكر ان بعض سكان حوران او"جبل الدروز" من المواطنين السوريين المسيحيين، البسطاء والمضللين، كانوا يعتبرون "الثورة السورية" بزعامة سلطان الاطرش "حركة درزية" معادية للمسيحيين (نظرا لـ"مسيحية!" المستعمرين الفرنسيين)، وان قسما من هؤلاء قد عمدوا، بعد جلاء الفرنسيين وحصول سوريا على الاستقلال في 1946، الى النزوح الى لبنان وتحمل السكن، اول ما سكنوا، في الخيام على اطراف بعض الاحياء المسيحية في بيروت، وذلك لخوفهم الوهمي من تحرك الدروز للانتقام من المسيحيين بعد جلاء المحتلين الفرنسيين، الذين كانوا في الحقيقة "لادينيين" ومعادين للكنيسة، ولكنهم لم يكونوا يخجلون طبعا من المتاجرة بالشعار الكاذب، شعار "حماية المسيحيين"، كما فعل النظام الدكتاتوري السوري بعد ربع قرن حينما دخل لبنان). ولكن اي تفسير قسري وتضليلي لا يغير الواقع التاريخي، واقع ان قيادة الثورة السورية الكبرى، كمفهوم سياسي وكممارسة نضالية، هي اكبر واوسع واشمل من الزعامة ومن البنية الطائفية ـ العشائرية (الدرزية)، التي انطلق منها سلطان باشا الاطرش. ان "تجربة" هذا الزعيم الوطني السوري والعربي الكبير اثبتت حقيقة تاريخية، هي إمكانية تطوير زعامة طائفية ـ عشائرية، من خلال واقعها الطائفي ـ العشائري ذاته، للاضطلاع بدور سياسي، تحريري، وطني وقومي عام. ومن المعلوم ان سلطان باشا الاطرش قد احتفظ، حتى وفاته سنة 1982، بمكانة مميزة في التاريخ السوري، ولدى الشعب السوري والامة العربية بأسرها. ولكن، وخلافا للقيادة الجنبلاطية، فإن الظروف الذاتية لسلطان باشا الاطرش لم تكن تسمح له بتحويل تلك المكانة الى مؤسسة قيادية، فاعلة باستمرار في الحياة السياسية السورية. وهو لو فعل، فإن كل تاريخ سوريا العربية كان من شأنه ان يمارس ويكتب بطريقة اخرى تماما، وعلى الاقل لم يكن ليـُسمح لبعض الجنرالات الفاشلين (الانهزاميين ـ الفاسدين ـ الجزارين ـ الساديين ـ البعيدين عن السوية الانسانية) ان يغطوا عجزهم حيال الاعداء بتقمص شخصية احمد باشا الجزار لتحويل سوريا العربية الى سجن كبير و"مزرعة عائلية"، وللاستبداد بأبناء الشعب العربي السوري وحجز حرياتهم وتمريغ كراماتهم والنيل من اعراضهم ونهب ارزاقهم والولوغ في دمائهم. والمثال الثاني هو مثال راهن، ويتعلق بـ"حزب الله" اللبناني: لا يختلف اثنان ان "حزب الله"، الذي انبثقت عنه "المقاومة الاسلامية" البطلة في لبنان، هو ـ بدءا من اسمه ذاته ـ حزب ديني صريح، يستمد فكره من الفكر الديني ـ السياسي الشيعي، ويتأطر بشريا ضمن الطائفة اللبنانية الشيعية الكريمة، في الظروف التي تعيشها الطائفة في الكيان اللبناني، وضمن الاطار الاقليمي والدولي الشعي خاصة، والاسلامي عامة. اي أنه، كفكر وكجماعة بشرية، هو حزب ديني ـ مذهبي، بدون اي لبس او تلبيس، وبدون اي ادعاء مغاير كاذب. ومن ضمن هذا السياق لا ينكر "حزب الله" علاقته الوثيقة بقيادة الجمهورية الاسلامية الايرانية. وفي بداية نشوئه في مطلع الثمانينات، وبفعل تكوينه "الشيعي"، وتحت تأثير الظروف المعقدة للحرب الاهلية في لبنان، من جهة، وتحت تأثير الصراعات بين القيادة البيروقراطية السوفياتية السابقة، وبين الاسلاميين، ولا سيما اثناء التدخل الكارثي للسوفيات في افغانستان، من جهة ثانية، وبفعل التأثيرات المخابراتية السورية التي كانت تعمل لتخريب لبنان من الداخل، من جهة ثالثة، انزلق "حزب الله" الى بعض النزاعات ضد الشيوعيين اللبنانيين، بما في ذلك ضد المناضلين الذين كانت تقوم على كواهلهم "المقاومة الوطنية اللبنانية" الباسلة ضد الاحتلال الاسرائيلي، وقد اتهمه البعض في حينه باغتيال رجال فكر بارزين من امثال الشهداء حسين مروة وحسن حمدان (مهدي عامل) وسهيل الطويلة، وكذلك بعملية خطف الدبلوماسيين السوفيات الاربعة في بيروت، الذين تم قتل احدهم قبل تحرير الثلاثة الاخرين. ولكن حينما رفض "الحزب" الانجرار الى "حرب المخيمات" الشيعية ـ الفلسطينية التي نظمتها المخابرات السورية بهدف "قومي نبيل!" هو "تحرير الجولان!" (ولبنان!) من الاحتلال الفلسطيني(!!)، تم تزليقه، اي "حزب الله"، الى النزاع المسلح ضد حركة "امل"، الشيعية ايضا، على قاعدة سياسة "فرق تسد" و"ضرب الجميع بالجميع" التي اتبعتها الاجهزة المشبوهة للنظام الدكتاتوري السوري في لبنان. ولكن التجربة التاريخية تثبت ان "حزب الله" توفرت له القيادة الحكيمة والكوادر المجربة والصادقة التي مكنته، قبل فوات الاوان: اولا ـ ان يستوعب تماما محاذير الانزلاقات السلبية التي دفع او استدرج اليها في بداية نشوئه. ثانيا ـ ان يتفهم تعقيدات التركيبة اللبنانية، وان يتكيف ويشق طريقه ضمن هذه التعقيدات، دون التخلي عن قناعاته الاساسية ودوره الكفاحي. ثالثا ـ ان يدرك تماما أولوية مواجهة الاحتلال الاسرائيلي والمؤامرات الاميركية على لبنان والامة العربية، وان يتمسك بيد من حديد بهذه الضرورة الاولية، الوطنية والقومية العليا. ولا شك ان العقيدة والمبادئ الدينية الواعية، المخلصة والشريفة، لعبت دورها الكبير في تحصين "حزب الله" حيال الاخطاء والانحرافات والانزلاقات، وفي تحديد الوعي والسلوك الوطني الصادق لديه، وهو ما طبع كل مسيرته منذ تأسيس "المقاومة الاسلامية" البطلة. وهذا ما ساعد "الحزب" على ان يبتعد في الوقت المناسب عن مزالق النزاعات الداخلية، الطائفية ـ العشائرية اساسا، وان يركز على تطوير المقاومة الوطنية (الاسلامية) للاحتلال الاسرائيلي، وان "يعض على الجرح" و"يتحمل" و"يحتوي" كل "وساخات" و"حفر" و"مطبات" المخابرات السورية وزبانيتها، لاجل الغاية الوطنية والقومية العليا. وبفضل هذا النهج الوطني الصادق، المتفاني والمخلص، الحكيم والشجاع، تمكن "حزب الله" من تحقيق الانتصار على الاحتلال الاسرائيلي، وحيازة ثقة الاغلبية الساحقة من الجماهير اللبنانية، بمن فيها من كان يعتبره عدوا "دينيا" او "طائفيا" او "سياسيا". وقد تحولت "المقاومة الاسلامية" اليوم ليس فقط الى عامل الردع الرئيسي والضمان الرئيسي تجاه خطر العدوان الاسرائيلي، بل والى احد اكبر الضمانات لما يسمى "السلم الاهلي" في لبنان. ويكفي ان نذكر ان "حزب الله" هو الذي حمى المواطنين المسيحيين، في المناطق التي انسحبت منها قوات الاحتلال الاسرائيلي، من ان يصبحوا ضحية لحالة من الفوضى والفلتان الامني، تحت تأثير الشحن الطائفي الذي خلفته ظروف الاحتلال والحرب الاهلية. واذا اجرينا مقارنة، مهما كانت متعجلة وسطحية، بين تجربة "حزب الله" في لبنان، وتجربة بعض الفصائل الدينية المتعصبة في العراق، التي لا تميز بين برج دبابة اميركية وبرج كنيسة او مئذنة مسجد لطائفة اسلامية "اخرى"، لادركنا الاهمية الكبرى لـ"النموذج" الديني ـ الوطني والقومي، الذي يقدمه "حزب الله"، ليس فقط على الساحة اللبنانية، بل وعلى مدى الساحة العربية والاسلامية بأسرها. واذا كان "الحزب" قد اتخذ موقفا متميزا عن موقف "المعارضة" اللبنانية بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بهدف عدم الانجرار (ولا سيما عبر بعض الاطراف ذات التاريخ المشبوه في "المعارضة") الى المؤامرات الاميركية التي تضع في رأس مهماتها نزع سلاح المقاومة في لبنان، فهو في الوقت نفسه، إذ دافع عن مبدأ العلاقات التاريخية الاخوية اللبنانية ـ السورية، لم يكن من الممكن ان ينحدر الى مستوى الدفاع عن ارتكابات الاجهزة السورية وزبانيتها (الشريك "السري" للاميركيين)، وان يخرج عن الاجماع الوطني بضرورة الكشف عن القتلة والمتواطئين المباشرين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري. ولذلك فهو قد تعمد الوقوف جانبا وترك النظام الدكتاتوري السوري "يقلع شوكه بيده" ويسحب "بسلام" ادواته الاجرامية ومخابراته القذرة من لبنان. وكان موقفه "العملي" هذا خطوة حاسمة نحو اللقاء الاساسي مع القوى الوطنية الشريفة في "المعارضة"، وعلى رأسها الزعيم الوطني وليد جنبلاط. بهذا الاداء الوطني الرفيع اكد "حزب الله" حقيقة تاريخية (لا يمكن الا للسخفاء والمسطحين المرور عليها مرور الكرام او اللئام) وهي امكانية الاستناد الى بنية طائفية ـ عشائرية تقليدية ليس فقط للاضطلاع بدور وطني عام، بل كذلك لبناء مؤسسة سياسية دينية ـ وطنية تضطلع بامتياز بدور وطني شامل، واع وصادق. 6 ـ مأثرة كمال جنبلاط: وهذه الحقيقة، التي كرستها تجربة و"نموذج" "حزب الله"، كان كمال جنبلاط قد اكتشفها قبل عشرات السنين من نشوء "الحزب"، وعمل على تجسيدها بشكل ارقى، وهي الارتكاز الى البنية الطائفية ـ العشائرية ذاتها، من اجل العمل لخلق مؤسسة وطنية جامعة، تتجاوز هذه البنية، من خلال مقوماتها ذاتها. ولكن خصوصية وعملاقية كمال جنبلاط تتمثل في انه، وبالاستناد الى زعامته الطائفية ـ العشائرية، الدرزية، جرّد المؤسسة الوطنية التي أنشاها من خصوصية ومحدودية الاطار الفئوي، هنا الدرزي، الضيق. اي انه ركز على الدور الوطني الجامع، التي قدرت البنية الطائفية ـ العشائرية المعينة على الارتفاع الى مستواه كأداء، ليرفعها الى مستواه ايضا كأداة، اي كمؤسسة. من هنا، ودون التخلي عن "درزيته"، خطا كمال جنبلاط خطوته الحاسمة نحو تأسيس مؤسسة وطنية لادينية، علمانية، "تكمل" و"لا تنقض" البنية الدينية ـ الوطنية التي انطلق منها، تمثلت اولا بتأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي، ومن ثم بتأسيس وتزعم الاطار الوطني التعددي الاوسع الذي كانت تمثله الحركة الوطنية اللبنانية، والتي كانت تضم مختلف الاحزاب والتيارات والشخصيات الوطنية والقومية، الدمقراطية والتقدمية، العلمانية، من مختلف الطوائف والمذاهب. 7 ـ الارتقاء الطائفي: ان البنية الطائفية ـ العشائرية الدرزية هي جزء من التركيبة الطائفية التي يقوم عليها الكيان (السايكس بيكوي) للبنان. وفي سعيه لتطوير هذه البنية الى مؤسسة وطنية، فإن كمال جنبلاط قد استفاد بطبيعة الحال من المكانة "الدرزية" الخاصة لعائلته، وعمل على تجاوز التقسيم العصبوي (جنبلاطي ـ يزبكي)، وعلى استقطاب النخبة المثقفة والقاعدة الشعبية اليزبكية، مثلما الجنبلاطية، الى جانب اطروحاته الرسالية، النضالية والعلمانية. وجاء وقت اصبحت فيه كلمة "جنبلاطي"، بل و"درزي"، تعني "اشتراكي"، وان كانت كلمة "اشتراكي" تعني اكثر من جنبلاطي، واكثر من درزي. 8 ـ جنبلاط والقومجية: ان نجاح كمال جنبلاط الشاب في مواكبة تطوير البنية الطائفية ـ العشائرية الدرزية والارتقاء بها الى مستوى الدور الوطني، فالمؤسسة الوطنية، انما يعود الى تضافر عاملين: الاول ـ الاستعداد الموضوعي لتلك البنية ذاتها للارتفاع الى مستوى مثل هذا الدور، فالمؤسسة. والثاني ـ توفر العامل الذاتي المتمثل بالاهلية والقناعة والدور الشخصي لكمال جنبلاط. وهو ما نتوقف عنده هنا: لقد تميز كمال جنبلاط الشاب بالمناقبية العالية والوجدانية العميقة والشفافية والثقافة الواسعة، مما جعله "يتشرب" و"يتقمص" روح الفكرة التوحيدية التجديدية الدرزية. وانطلاقا من هذه "الروح"، فإن كمال جنبلاط، حينما درس في مدرسة عينطورة المسيحية، ثم في فرنسا "المسيحية!" ايضا، قام على مصادقة الشباب المثقف المسيحي، وانكب على دراسة الفكر المسيحي، الديني والعلماني والاشتراكي (ولا سيما ابحاث المفكر الكاثوليكي الكبير المجدد تيـّار دو شاردان (1881 ـ 1955) )، الى درجة خلق معها الانطباع بأنه قد يعتنق المسيحية. ولكن كمال جنبلاط صعـّد "الروح" الدرزية ليس لاجل إلحاقها او استبدالها بالمسيحية، اي ببنية طائفية اخرى، بل صعـّدها الى المستوى الارفع الجامع: مستوى الوطنية والقومية والانسانية. من ضمن هذا السياق، كان من الطبيعي من قبل انسان مثقف ثاقب البصيرة، ككمال جنبلاط، ان يواكب الفكر النهضوي القومي، الذي قام ـ بالاخص ـ على كواهل الشعراء والادباء والمفكرين الاصلاحيين والثوريين المسيحيي المنشأ (البستاني، القروي، جبران، الريحاني، نعيمة، الشميل، خياطة وغيرهم كثير كثير)، وان يكون قريبا من الحركات والتيارات والاحزاب القومية والتقدمية، التي اضطلع المثقفون المسيحيون بدور مميز في تأسيسها ونشر تعاليمها. ونشير بالاخص الى اقتراب كمال جنبلاط، مع بدايات انخراطه في الحياة السياسية، من "الحزب السوري القومي الاجتماعي" بزعامة المفكر والمصلح القومي والاجتماعي العملاق الشهيد انطون سعادة، وهو القائل "الحياة وقفة عز!". وكان انطون سعادة من ألد اعداء العشائرية والطائفية، ووقف ضد النزعة الانعزالية الكيانية اللبنانية، التي كانت تدعو الى "القومية اللبنانية"، ودعا الى "الامة السورية" و"القومية السورية" (ومن هنا جاءت تسمية حزبه "الحزب السوري القومي الاجتماعي") و"سوريا الطبيعية"، التي تشمل (من الدول العربية الحالية) سوريا ولبنان وفلسطين والاردن وقسما من العراق، وهو ما يكنى عنه بتسمية "الهلال الخصيب" ونجمته جزيرة قبرص. وكان يقول برابطة لامم وشعوب عربية، الامة السورية هي احداها. وباعتبار ان سوريا ـ الدولة تمثل الجزء الاساسي من "سوريا الطبيعية"، فقد نشأت لدى انطون سعادة قناعة اولية، تبين لاحقا وهميتها، بأن سوريا ـ الدولة، ايا كانت السلطة فيها، يمكن ان تتعاطف مع دعوته وان تؤيد نضال حزبه لاجل توحيد "سوريا الطبيعية" في دولة واحدة، جسمها الاساسي سوريا ـ الدولة الحالية. ومن هنا انه حينما فشلت حركة الانتفاضة التي قام بها الحزب القومي السوري في لبنان في 1949، عمد انطون سعادة للجوء الى الدولة السورية، واثقا انه سيجد لديها الحماية. ولا شك ان انتشار ابناء الطائفة الدرزية في لبنان وسوريا وفلسطين لعب دورا خاصا، اولا، في انتشار نفوذ وتنظيمات الحزب القومي السوري بين الدروز، وثانيا، في اقتراب كمال جنبلاط شخصيا من الحزب. ولكن الدولة السورية (نظام الدكتاتور حسني الزعيم حينذاك) لم تتورع عن خذلان انطون سعادة والغدر به بكل خسة وجبن، وتسليمه الى خشبة الاعدام في لبنان، لمصلحة "الانعزاليين" و"الكيانيين" و"الطائفيين المسيحيين" اللبنانيين، وطبعا لمصلحة الاستعماريين مهندسي ورعاة كيانات (سايكس ـ بيكو). ولتبيان مدى فظاعة جريمة الدولة السورية، بتسليمها انطون سعادة للموت، لا بأس من المقارنة بين هذا الغدر، وبين رفض سلطان باشا الاطرش في حينه تسليم الثائرين الشيعيين اللبنانيين ادهم خنجر وصادق حمزة، اللذين التجآ الى جبل الدروز في سوريا سنة 1922 هربا من الفرنسيين، واصرار المستعمرين الفرنسيين على اعتقالهما، مما كان بمثابة الشرارة الاولى التي فجرت الثورة السورية الكبرى في 1925. ان عملية الغدر بالزعيم انطون سعادة اسقطت اي "وهم قومي" حول الدولة السورية الحالية. وقد دفع انطون سعادة حياته ثمنا لهذا الدرس القاسي لجميع "القوميين" الواعين (سواء بمعنى "القومية السورية"، او بمعنى "القومية العربية") في لبنان. ولا شك ان كمال جنبلاط قد اخذ العبرة اللازمة من ذلك الدرس. ولذلك فإن قناعاته القومية الراسخة (التي دفعته فيما بعد الى تطوير "الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية" التي اختير لرئاستها، كي تصبح "الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية") تحولت باكرا الى قناعات شعبية تراهن على الجماهير الشعبية العربية، وليس على انظمة الدول العربية، بما فيها الدولة السورية. وتشاء الاقدار القاسية ان تكرر الدولة السورية جريمتها، وان تضع، مرة اخرى، مصالحها الضيقة، كسلطة حاكمة، فوق المصلحة الوطنية والقومية الجامعة، وان تقوم اجهزتها او زبانيتها باغتيال القائد العربي الكبير المعلم كمال جنبلاط، الذي كان اكبر بكثير من ان يخدع بـ"القومجية" الكاذبة للدولة (السايكس بيكوية) السورية، او ان يستطيع احد ان يحوله الى بيدق في يد اي سلطة كانت، ولو كانت سلطة دولة "سوريا الاسد". بالاستناد الى النضالات التاريخية للشعب السوري البطل، كانت سوريا تسمى "قلب العروبة النابض"، وقد اعتاد الكثير من القوميين النظر الى الدولة السورية بوصفها قاعدة للحركة القومية. ولا شك ان القوى القومية في سوريا، سواء كانت في السلطة او خارجها، لها قسطها المرموق في دعم حركة التحرر العربية، ولا سيما في فلسطين ولبنان. ولكن بالمقابل فإن الدولة السورية (في مختلف العهود: الرجعية والتقدمية، "القومية" والدكتاتورية) ارتكبت الكثير من الجرائم بحق القوى الوطنية اللبنانية، انطلاقا من المصالح القطرية للنظام القائم فيها. ويكفي ان نذكر تسليم انطون سعادة للموت في 1949، ثم قتل فرج الله الحلو تحت التعذيب في 1959 على يد زبانية السفاح "الوحدوي" عبدالحميد السراج، ثم اغتيال كمال جنبلاط في 1977، كي نستنتج ان "الجمهورية العربية السورية" ليست سوى كيان سلطوي (سايكس بيكوي) مرتهن للاجنبي مثله مثل جميع كيانات سايكس بيكو الاخرى، وليست لا "عربية" ولا "سورية" (بالمعنى القومي) الا بالاسم الحرفي الذي يستخدم بعكس مدلوله اللفظي. وبالضد من الممارسة التسلطية القطرية للسلطة السورية، ومثله مثل انطون سعادة وفرج الله الحلو، فإن كمال جنبلاط دفع حياته ثمنا للتناقض الجذري بين "القومجية" التسلطية المشبوهة وبين الانفتاح القومي الحقيقي والالتزام بالقضية القومية الصادقة. 9 ـ المفهوم القومي الحضاري لجنبلاط: هناك مفهومان للقومية العربية والامة العربية: الاول ـ مفهوم عنصري ـ ديني ضيق يعتبر العرب هم فقط القبائل العربية في شبه الجزيرة العربية التي وحّـدها الاسلام، وان الحضور العربي خارج شبه الجزيرة ما هو سوى عملية تمدد وانتشار، تمت على دفعات من الهجرات، التي توجتها وكانت اكبرها الهجرة التي رافقت الفتح العربي الاسلامي. وهذا المفهوم الضيق يقف موقفا متزمتا من كل اضاءة على التاريخ الحضاري العريق لشعوب منطقة ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) وفينيقيا وسوريا الطبيعية ووادي النيل والامازيغ وشمالي افريقيا. وهذا الموقف يلوي عمليا عنق التاريخ، ويدوس المنابع والمصادر الرئيسية للتراث الحضاري العربي ـ الاسلامي، ويستفز مشاعر الاتنيات والشعوب المكونة تاريخيا للامة العربية الحديثة، ويبرر كل النزعات الانعزالية والانفصالية في شتى ارجاء الوطن العربي الكبير، واخيرا يصب، من حيث يدري او لا يدري، في طاحونة السياسة و"المفاهيم" الاستعمارية العالمية، التي لا تكاد تخرج عن تعريف الامة العربية والاسلام بمثل هذا "المفهوم" العنصري ـ الديني الضيق، الذي يخدمها لاجل تبرير الهجمة "الصليبية" على العرب والاسلام والعمل، بالاخص، لتفتيت وتمزيق الامة العربية، الركن الاساسي للاسلام ولجامعة الشعوب الاسلامية. والثاني ـ هو المفهوم الحضاري، الذي يرى ان الامة العربية هي مكوَّن تاريخي من جميع الاتنيات والقوميات والشعوب القديمة التي كانت تقطن ما نسميه اليوم "الوطن العربي الكبير" من اليمن جنوبا الى الاهواز وعربستان ايران شرقا الى لواء الاسكندرون السليب ("هاتاي" بالتركي) شمالا الى موريتانيا غربا. وقد اضطلع الاسلام، الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية، واللغة العربية التي كرسها وحفظها القرآن الكريم، بدور البوتقة الحضارية المنفتحة للتفاعل والتدامج الحضاري لهذه الاتنيات والقوميات والشعوب العريقة. وقد تمت هذه العملية، اساسا، ليس بالاكراه، بل بالتعايش الطويل، والتعامل والتعاون والتثاقف. وان مثال مسيحيي جبل لبنان هو مثال معبر تماما على هذا الصعيد. ويبدو ذلك في العمليتين التاليتين، المتناقضتين ظاهريا، المتكاملتين فعليا، لعلاقة المسيحيين اللبنانيين بالعروبة: الاولى ـ انهم، قبل الفتح، كانوا مضطهدين من قبل الامبراطورية البيزنطية ومعادين لها، وناضلوا وقدموا التضحيات ضدها (ومن الامثلة على ذلك: ان المذهب الذي اسسه القديس مار مارون (الاب الروحي للطائفة المارونية) قد نشأ اول ما نشأ في الاديرة السريانية في سوريا، وبنتيجة المذابح والاضطهادات البيزنطية، فر الموارنة من السهول السورية، وجعلوا مقرهم في جبال لبنان الحصينة. وفي ما خص المسيحيين الشرقيين الارثوذكس، فقد وقف الكثير منهم في حينه الى جانب اخوانهم العرب المسلمين ضد البيزنطيين الاجانب. وكرد فعل على هذا الموقف، وكتعبير عن عدم ثقة الاروام بالمسيحيين العرب، فقد منع ـ ولا يزال هذا المنع ساريا حتى اليوم ـ على الاساقفة المسيحيين الارثوذكس العرب ان يتولوا مركز البطريركية في القدس، حيث البطريرك هو دائما يوناني). وقد قاوم المسيحيون اللبنانيون الفتح العربي الاسلامي، ولم يدفعوا الجزية، وظلوا طوال تاريخهم يقاومون اي سلطة مستبدة، "اسلامية"، "عربية" وغير عربية. ويتكبدون التضحيات الجسام في هذه المقاومة. وقد حافظوا طوال الوقت، وطبعا حتى الان، على "الاستقلالية النسبية" وعلى العلاقات الدينية والثقافية مع اوروبا المسيحية. الثانية ـ ومع ذلك، بل وظاهريا على الضد من ذلك، فإننا شهود للعملية التاريخية الرائعة والمذهلة، ونعني بها عملية "التعرّب" الثقافي والحضاري للمسيحيين اللبنانيين، الذين لم "يتعربوا" فقط، بل انه ليس من "الصدفة" في شيء انهم هم على وجه التحديد اصبحوا ركنا حضاريا اساسيا لا يمكن تصور وجود الامة العربية بدونه. وفي ما يشبه ذلك، فان التنوخيين الدروز كانوا قبلا قبيلة عربية مسيحية من العراق تحولت الى المذهب الدرزي. والدروز عموما لم يكرهوا على التحول الى الدرزية، بل على العكس تماما، فهم في تاريخهم قد دفعوا ثمنا غاليا لتبنيهم الدعوة الدرزية. وان عائلة جنبلاط كانت في الاساس كردية ـ سنية كما اسلفنا. وقد تحولت في وقت ما الى المذهب الدرزي والى العروبة، طبعا بدون اي اكراه، حيث انها كانت ايضا عائلة امارة. ولا شك ان كمال جنبلاط كان يدرك تماما حقائق التاريخ الخاص بعائلته، وبالطائفة الدرزية، وبالمسيحيين اللبنانيين، وبالاتنيات التي تكوّن النسيج القومي العربي. وهذا ما جعل "المعلم" في طليعة الداعين الى المفهوم الحضاري، لا العنصري ـ الديني، للتكوين القومي للامة العربية. 10 ـ دمقراطية جنبلاط: ان فهم جنبلاط الحضاري لتحول عائلته الى الدرزية والعروبة، ولطبيعة نشوء الطائفة الدرزية القائمة على تقبل الدعوة والقناعة بها والتضحية في سبيلها، وللتكوين التعددي للشعب اللبناني، بما فيه المسيحيين، ودخولهم الحضاري في العروبة، ـ ان هذ الفهم جعل "المعلم" رائدا في الايمان بالدمقراطية وحرية المعتقد والعلمانية، الناشئة عن والآيلة الى التفاعل الحضاري الضروري. وبالاستناد الى هذه القناعات الاساسية، كان "المعلم" مدرسة في ممارسة الدمقراطية خارج السلطة وداخلها، وفي سعيه الدائم لاخضاع السلطة للعملية الدمقراطية. وهذا ما جعله يفترق افتراقا تاما عن جميع الممارسات السلطوية التسلطية، بما في ذلك عن الانظمة "العروبية" الدكتاتورية، التي تحالف معها سياسيا، وان يتحول الى ضمانة رئيسية للحرية والدمقراطية في لبنان. وللمثال، وبالرغم من تأييد كمال جنبلاط للناصرية، على اساس الطرح الوطني والقومي، وتعاونه مع سلطة "الوحدة السورية ـ المصرية" ولا سيما اثناء الانتفاضة الشعبية في لبنان سنة 1958 وبعدها، فحينما كان محمد حسنين هيكل وابواقه ينعقون بالبشارة السوداء حول "نهاية المعركة مع الامبريالية وبداية المعركة مع الشيوعية"، وحينما كان زبانية السفاح "الوحدوي" عبدالحميد السراج يمارسون ابشع صنوف التعذيب والقتل والاضطهاد ضد الشيوعيين وغيرهم من القوى الدمقراطية في سوريا، في هذا الوقت بالذات كان كمال جنبلاط يدافع عن الحريات الدمقراطية في سوريا و"الجمهورية العربية المتحدة"، ويوطد علاقاته مع الشيوعيين ومع الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، بالرغم من موقفه الناقد للانحرافات والممارسات اللاانسانية للستالينية. 11 ـ "الخط الثوري" التاريخي للجنبلاطية: ان تأسيس الحزب التقدمي الاشتراكي والنهج الوطني والقومي، الاصلاحي والدمقراطي، لكمال جنبلاط هو بدون شك مأثرة شخصية له. ويبدو للبعض ان هذه المأثرة تتعارض مع زعامته التقليدية الطائفية ـ العشائرية، ومع إرثه الاقطاعي ـ السياسي. وليس من شك ان المفكر كمال جنبلاط له اسهامه الشخصي الاساسي على صعيد بلورة الخط التحرري، الدمقراطي، التقدمي والاشتراكي، الذي ارتبط باسمه. ولكن في الوقت نفسه لا بد من التأكيد ان القيادة الوطنية الجنبلاطية هي امتداد وتجسيد لـ"خط ثوري"، يضرب في اعماق تاريخنا، ورثه كمال جنبلاط وعمل على "عصرنته" وتطويره من ضمن المعطيات التاريخية الراهنة. ونتوقف عند المحطات او المعالم الرئيسية التالية لهذا "الخط": أ ـ إن العائلة الاميرية المعنية التي حكمت جبل لبنان لقرون، هي عائلة معنية ايوبية، اي تعود بنسبها الى صلاح الدين الايوبي الذي حارب المحتلين الصليبيين وحرر القدس منهم. ويذكر التاريخ ان المحرر صلاح الدين الايوبي لم يكن عنصريا ومستبدا، بل انه ـ بعد تحرير القدس من "الصليبيين" الافرنجة ـ اعاد العهدة العمرية للمسيحيين الشرقيين، وحافظ عليهم وعلى ارزاقهم وكنائسهم وممارسة معتقداتهم. وبالقياس الى اصل العائلة المعنية، فإن العائلة الجنبلاطية ايضا هي في الاساس، اما ايوبية ايضا، واما تنتسب الى بعض القادة والامراء الاكراد الذين كانوا يقاتلون برفقة صلاح الدين الايوبي. وربما هذا ما يفسر بقاء العائلتين في رتبة الامارة والولاية حتى عهد العثمانيين، كما قد يفسر انتماءهما للدعوة الدرزية كاستمرار للروح الجهادية الرسالية، التي كانت عليها "قضية" صلاح الدين الايوبي، بالرغم من انتمائه المذهبي "الآخر". ب ـ ان الدخول في الدعوة، ومن ثم التمسك بالانتماء الى العائلة الروحية الدرزية كان، تاريخيا، احد اشكال النقمة والثورة على الانحراف "الديني" والفساد والاستبداد الذي رافق الحكم "الاسلامي"، ولا سيما في العهدين المملوكي والعثماني. وعليه، فإن دخول العائلتين الاماريتين اصلا، المعنية والجنبلاطية، في الدعوة الدرزية، وتلبننهما، وتعربهما، لم يكن تعبيرا عن الطمع بالسلطة والامارة، التي كانت في يد هاتين العائلتين، بل تعبيرا عن رؤية رسالية للمعتقد الديني، من جهة، ولاستخدام السلطة في سبيل هذه الرسالة، من جهة ثانية. وقد صارع الدروز، والعائلتان المعنية والجنبلاطية، ضد العهد المملوكي، كما ضد العهد العثماني، وذلك في انسجام تام، وليس في تضاد، مع خط الصراع التحريري الذي خاضه صلاح الدين والايوبيون ضد "الصليبيين". وتقول صفحات التاريخ ان الدروز كانوا يقاتلون في عداد قوات صلاح الدين. ومنذ ايام صلاح الدين قدم الدروز تضحيات جسام في هذا الصراع. وكذلك العائلتان المعنية والجنبلاطية. ومعلوم ان الامير فخرالدين المعني الاول الذي وقف "على الحياد" اثناء معركة مرج دابق في 1516 التي انتصر فيها العثمانيون على المماليك، وبالرغم من انه ذهب الى دمشق لاستقبال "الفاتح" السلطان سليم الاول، الذي ثبته في امارة لبنان، الا انه لم يكن موضع ثقة العثمانيين الذين عادوا فقتلوه، ثم قتلوا ابنه قرقماز، واخيرا قتلوا ابن الاخير الامير الكبير فخر الدين المعني الثاني. ج ـ في مطلع القرن السابع عشر، ثار والي حلب علي باشا جنبلاط على السلطة العثمانية، متحالفا مع اوروبا، ومع فخر الدين الثاني المعني. وقد فشلت حركته بعد ان خذلته اوروبا، واعدمه العثمانيون في 1611. ولجأ احفاده فيما بعد الى الامير فخر الدين المعني الثاني في جبل لبنان، حيث اشهروا درزيتهم. د ـ تابع فخرالدين المعني الثاني قضية علي باشا جنبلاط، وتحالف مع اوروبا ايضا، وحاول مد امارته الى سوريا وفلسطين واقامة دولة لبنانية كبيرة، مستقلة عن السلطنة العثمانية. ولكن اوروبا خذلته ايضا، ولم تكن قوته لوحدها كافية لمواجهة السلطنة العثمانية، التي تغلبت عليه في النهاية، وقبض عليه وسيق الى الاستانة حيث اعدم مع ابنائه الثلاثة الذين كانوا قد اعتقلوا معه. هـ ـ في عهد الامير بشير الثاني الكبير الشهابي، كان سيد المختارة بشير باشا جنبلاط مناوئا بشدة لبشير الثاني وللسلطة العثمانية، وقد قاتل ضده وضد والي عكا. وفي معركة سهل السمقانية (1825) بين قوات بشير جنبلاط وقوات بشير الشهابي المدعومة من والي عكا، كان في صفوف القوات العثمانية لوالي عكا وحدة يهودية، بقيادة المدعو باروخ، تعدادها حوالى 200 مقاتل. وقد اسر بشير جنبلاط من قبل والي دمشق، الذي سلمه الى والي عكا حيث جرى اعدامه شنقا على ابواب عكا. و ـ بحكم الارتباطات العائلية والدينية والقومية، امتدت ثورة 1925 بزعامة سلطان باشا الاطرش الى بعض المناطق اللبنانية، وبالاخص منطقة البقاع الغربي والعرقوب في جنوب لبنان. وقد استشهد المئات من ابناء منطقة راشيا الوادي في الهجوم على حامية قلعتها الحصينة والتصقت لحوم الكثير منهم بحجارة جدران القلعة. وكانت آخر منطقة (في سوريا ولبنان) استمرت فيها مقاومة الثوار ضد الفرنسيين هي منطقة العرقوب (شبعا وجوارها) نظرا لوعورة تضاريسها الطبيعية ولصلابة الثوار من اهالي المنطقة. ز ـ ان حياة كمال جنبلاط هي تجسيد حي لهذا "الخط الثوري" التاريخي، الذي يعود بجذوره الى مقاومة صلاح الدين الايوبي للصليبيين، ومقاومة الجماهير الشعبية والامراء ورجال الدين الدروز، للتسلط والاستبداد، منذ العهد المملوكي، حتى عصرنا الحاضر. ح ـ انطلاقا من هذا "الخط" بالذات، كان كمال جنبلاط يعتبر ان العدو الرئيسي هو المستعمر الاجنبي، وان الحلقة المركزية في الصراع هي ضد هذا العدو. وقد تبدت بوضوح هذه القناعة الاساسية لجنبلاط منذ "العهد الاستقلالي" الاول للرئيس الاسبق بشارة الخوري. فحينما استشرى الفساد والمحسوبية والمنافع الشخصية في ذلك العهد، واطلقت تسمية "المزرعة" على الدولة اللبنانية، وأطلق لقب "السلطان سليم" على سليم الخوري، شقيق الرئيس بشارة الخوري، وحينما قام الاخير بخرق الدستور والتجديد لنفسه، حينذاك تزعم كمال جنبلاط حركة المعارضة الشعبية والرسمية للعهد، وهو لم يكتف بتركيز النار على الفساد الداخلي، بل ربط هذا الفساد وخرق الدستور والتجديد بالارادة والمصالح الاجنبية، وكتب حينذاك مقالته الافتتاحية المشهورة في جريدة "الانباء" الناطقة بلسان الحزب التقدمي الاشتراكي، وكانت بعنوان "جاء بهم الاجنبي، فليذهب بهم الشعب". وقد اسفرت الانتفاضة الشعبية السلمية التي قادها كمال جنبلاط عن استقالة الرئيس بشارة الخوري، ووصول المعارضة الى السلطة، وانتخاب كميل شمعون رئيسا للجمهورية. وبالرغم من المكانة المميزة التي كان يشغلها كمال جنبلاط في عهد كميل شمعون، فحينما انحرف الاخير وسار في المخطط الغربي وادخل لبنان في مشروع "النقطة الرابعة" الاميركي، وسار مع "حلف بغداد"، انفصل عنه كمال جنبلاط وحاربه وقاد المعارضة الشعبية ضد عهده، وحال دون ضم لبنان الى "حلف بغداد". ط ـ وخلال الانتفاضة الشعبية ضد حكم كميل شمعون في 1958، جاء العديد من ابناء جبل الدروز في سوريا للقتال في صفوف المقاومة الشعبية بقيادة كمال جنبلاط، وذلك كـ"رد جميل" للبنانيين لمشاركتهم في ثورة 1925. وقد استشهد عدد من هؤلاء المتطوعين، ولا تزال جثامينهم الطاهرة في "مقبرة الشهداء" في بقعاتا ـ الشوف. وقد أتيح لي شخصيا التعرف في حينه الى بعض هؤلاء الشباب ومعايشتهم ومناقشتهم والتحقق من الدوافع الوطنية والقومية التي تحركهم، البعيدة كل البعد عن النعرة الطائفية والمطامع الشخصية والانحرافات الاجتماعية. بعد هذه السطور عن الجذور التاريخية للقيادة الوطنية الجنبلاطية، بـ"طائفيتها" ودمقراطيتها وحضاريتها وجماهيريتها وتقدميتها وعلمانيتها، ننتقل الى المسألة الثانية ومحاولة الاجابة عن السؤال المفصلي:
المسألة الثانية: لماذا اغتيل كمال جنبلاط؟ يكتسب الجواب على هذا السؤال اهمية تاريخية، واهمية آنية في وقت واحد، ذلك ان العوامل التي لعبت دورها في اغتيال كمال جنبلاط عام 1977، هي نفسها لعبت دورها في محاولة اغتيال وليد جنبلاط في عام 1983، وهي نفسها لا تزال قائمة وتلعب دورها في المواجهة بين القيادة الجنبلاطية وخصومها الداخليين والخارجيين، وبالتحديد "الشركة المساهمة" بين النظام الدكتاتوري السوري واسرائيل واميركا، والامتدادات اللبنانية، في السلطة و"المعارضة"، لهذه "الشركة". وهنا نقدم ملاحظة رئيسية وهي ان اغتيال كمال جنبلاط لم يكن اغتيالا سياسيا عاديا بالمعنى الطائفي او الحزبي او حتى الوطني، كأغتيال اي زعيم آخر او اي شخصية وطنية اخرى، بل ان الهدف الرئيسي لاغتياله كان يتمثل على وجه التحديد في محاولة اغتيال الدور الوطني اللبناني والقومي العربي العام للقيادة الجنبلاطية. ونعرض فيما يلي المقومات الاساسية التي "أوجبت" "التوافق" السوري ـ الاسرائيلي ـ الاميركي على عملية الاغتيال، التي نفذتها العناصر المخابراتية السورية، بالتنسيق مع جماعة "الطابور الخامس" المسيحي الموالي لاسرائيل: أ ـ بعد مجازر ايلول الاسود 1970 وسحق المخيمات الفلسطينية والمقاومة في الاردن، رفض النظام السوري استقبال عناصر المقاومة الفلسطينية المطرودة، فتم نقلهم ترانزيت عبر سوريا، وموضعتهم في لبنان الضعيف، "على امل" التخطيط لسحقهم لاحقا، على يد اسرائيل و"الطابور الخامس" المسيحي الكتائبي ـ الشمعوني، حتى ولو كلف ذلك تدمير لبنان. وفي هذه الاجواء الضاغطة، بدأ التحضير لاشعال الحرب اللبنانية، من جهة، ولاجتياح اسرائيلي للبنان، من جهة ثانية. ولكن الحركة الوطنية اللبنانية، بقيادة كمال جنبلاط، تصدت لمؤامرة سحق المقاومة الفلسطينية، وتأسست "الجبهة العربية المساندة للثورة الفلسطينية"، التي تزعمها كمال جنبلاط، وتحولت لاحقا الى "الجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية"، بمبادرة من جنبلاط نفسه. وفي هذه الاثناء كان النظام السوري يرمي آخر "سهامه القومية"، بمشاركة نظام السادات، في خوض حرب تشرين 1973 النظامية التي، بالرغم من بطولات وتضحيات الجندي العربي على الجبهتين المصرية والسورية، اثبتت الفشل الستراتيجي في تحرير الارض المحتلة بقوة الحرب النظامية. ولكن الوضع الناشئ عن حرب تشرين جعل النظام الدكتاتوري السوري مضطرا للعب على مختلف الحبال، والتقرب الظاهري المؤقت من قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في ذلك الحين، وفي الوقت ذاته بدء اقامة الاتصالات السرية وغير السرية مع رئيس الجمهورية اللبنانية حينذاك سليمان فرنجية، ومع حزب الكتائب، وترك مؤامرة دفن المقاومة الفلسطينية في لبنان تأخذ مجراها الطبيعي، "لبنانيا" و"عربيا" ودوليا! ولكن بفضل دور الحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط، فإن مؤامرة تحويل لبنان الى "مقبرة للمقاومة وللقضية الفلسطينية" فشلت فشلا ذريعا، بل وانقلب السحر على الساحر: إذ، بدلا عن ذلك، تحول لبنان في مطلع السبعينات الى "قاعدة ثورية" صلبة، اعلامية وسياسية وحتى عسكرية، ليس فقط للمقاومة الفلسطينية، بكل فصائلها وتياراتها السياسية، بل ولكل حركات المعارضة التقدمية والدمقراطية والتحررية في المنطقة. والمخابرات المعادية، الاميركية والاسرائيلية والتركية وغيرها، تعلم تماما ان لبنان اصبح حينذاك "مقرا" للحركات والمنظمات الثورية، مثل حركة الامام الخميني ومنظمتي "مجاهدي خلق" و"فدائيي خلق" و"الحزب الدمقراطي الكردستاني الايراني" و"الجبهة الشعبية لتحرير الاحواز" من ايران، و"حزب العمال الكردستاني" بزعامة عبدالله اوجلان من تركيا، و"الجيش السري الارمني"، وفصائل المعارضة الشيوعية والدمقراطية والكردية، العراقية والسعودية والخليجية والمغربية والمصرية والسودانية الخ الخ. وهذا ما جعل الدوائر الامبريالية الغربية واسرائيل والانظمة الرجعية والدكتاتورية العربية تستشيط غضبا وتقرر سحق القوى الوطنية اللبنانية بمختلف الطرق الممكنة. وبالرغم من العلاقات المميزة التي كانت للنظام السوري مع المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها في 1965، ومع الحركة الوطنية اللبنانية، فإن زاوية الاختلاف بينه ـ اي النظام السوري ـ وبين المقاومة الفلسطينية، من جهة، والحركة الوطنية اللبنانية بزعامة كمال جنبلاط، من جهة ثانية، بدأت تتسع، بسبب توقيع اتفاقات فصل القوات مع اسرائيل ومنع عمليات المقاومة في الاراضي السورية المحتلة، كما بسبب التجربة الدمقراطية للحركة الوطنية اللبنانية، بما يتعارض مع تجربة حكم الحزب الواحد وحالة الطوارئ والتسلط المخابراتي في سوريا. وهكذا انضم النظام الدكتاتوري السوري الى لائحة "المتضررين" من التجربة النضالية والدمقراطية للحركة الوطنية اللبنانية وتحالفها الوثيق مع المقاومة الفلسطينية. واصبح رأس "المعلم" مطلوبا بامتياز لكل الاطراف الداخلية والخارجية المعادية. وبقيت مسألة "التوافق" لاختيار الطرف "الانسب" لتنفيذ "حكم الاعدام" بكمال جنبلاط، كما نفذ فيما مضى "حكم الاعدام" بالزعيم انطون سعادة. ب ـ ان تجربة قيادة كمال جنبلاط هي النقيض المعاكس تماما(antipode) لـ"تجربة" قيادة النظام الدكتاتوري السوري. فكمال جنبلاط قد صعـَّد او تسامى (بالمعنى السياسي ـ الفلسفي (sublimate بالقيادة الطائفية ـ العشائرية (الدرزية) الى مستوى قيادة وطنية وقومية، دمقراطية؛ على عكس قيادة النظام الدكتاتوري السوري التي انحطت (degrade) بقيادة وطنية وقومية (حزب البعث العربي الاشتراكي) الى مستوى قيادة زمرة طائفية ـ عشائرية، استبدادية وفاسدة، رمزها النموذجي "بطل المجازر" والفساد "الدكتور" رفعت الاسد، الذي احيل عائليا الى "الاستيداع"، كاحتياط للنظام، والذي ـ وليس بدون صدفة ـ أخذ مؤخرا يتشدق، هو ايضا(!!)، بالكلام عن "الاصلاح والدمقراطية!!"، بلكنة اميركية طبعا، وأعلن استعداده للعودة الى سوريا من اجل "الانقاذ" (انقاذ من وماذا؟؟). وفي الوقت الذي كان فيه اعظم لقب تقدير حازه كمال جنبلاط هو اللقب "البسيط"، المأخوذ من الثقافة الشعبية، الشرقية والاغريقية القديمة، ونعني به لقب "المعلم"، فإن القيادة السورية لم تتورع عن منافسة العزة الالهية ذاتها لتغطية الوجه القبيح للدكتاتورية بكل ما يخطر ولا يخطر على البال من ألقاب العزة والخلود. واصبحت صور (ايقونات) وتماثيل (اصنام) العائلة "المقدسة" مزروعة غصبا واقتدارا في الساحات والحارات اكثر مما كان في دور العبادة في العهد الروماني نفسه، بهدف تأليه "القيصر" والتحاقر امامه. ولقد طوبت سوريا ذاتها بالاسم "الجاهلي" الغريب: "سوريا الاسد!"، الذي يعيدنا الى المرحلة البطريركية الاولى من تطور المجتمع البشري، قبل ان ينزل الانسان عن الشجرة ويخرج من الغابات. ونظرا للعلاقات الوشيجة، بكل المقاييس، بين لبنان وسوريا، فإنه كان من المحتم الا تستطيع هاتان التجربتان المتناقضتان، الوطنية الدمقراطية اللبنانية والسلطوية الدكتاتورية السورية، ان تتعايشا. وكان من المنطقي ان تتجه كل منهما لمحاصرة وتحطيم الاخرى، بالوسائل النابعة من طبيعة كل منهما، اي اما بالوسيلة النضالية، التحررية والدمقراطية، فيما يتعلق بالقيادة الجنبلاطية، واما بالوسيلة الدكتاتورية الاستبدادية، المرتكزة الى المهادنة والتفاهم مع العدو، فيما يتعلق بالقيادة السورية. ولقد ظن من ظن ان التخلص من كمال جنبلاط ـ الشخص يمكن ان يقضي على الدور التاريخي للنهج الجنبلاطي والمؤسسة الوطنية التي ارسى اسسها. ج ـ ان الحركة الوطنية في لبنان، بالمعنى الواسع للكلمة، كانت تنقسم الى جناحين كبيرين: 1 ـ اطار المجلس السياسي المركزي للحركة الوطنية اللبنانية، بزعامة كمال جنبلاط، الذي كان يضم الاحزاب والقوى والتيارات والشخصيات اليسارية والتقدمية، العلمانية. 2 ـ اطار الحركة الشعبية الواسعة، السياسية ـ الشيعية، التي اطلقها وقادها المفكر والقائد الديني والشعبي المجاهد الامام المغيب موسى الصدر، وحملت اسم "حركة المحرومين" = (افواج المقاومة اللبنانية = امل)، التي عرفت اختصارا باسم "حركة امل". فمن اجل دفن التجربة الوطنية الدمقراطية اللبنانية، والمقاومة الفلسطينية، كان لا بد من "قطع رأس" هذين الجناحين للحركة الوطنية اللبنانية، بمعناها الواسع. وهذا ما قد تم فعلا. إذ ان المؤامرة لم تكتف بإزاحة كمال جنبلاط فقط على يد الدكتاتورية السورية و"اصدقائها" اللبنانيين. بل جرى توزيع الادوار، بحيث كلف النظام الدكتاتوري الليبي بازاحة الامام موسى الصدر ايضا. واي تحليل بسيط يبين ان جريمة تغييب الامام الصدر لم يكن من الممكن ان تتم بدون الموافقة الضمنية للدكتاتورية السورية، التي كانت تتبجح بالامساك بزمام الساحة اللبنانية، امنيا وسياسيا. ويبدو ذلك بالاخص في الصمت المريب الذي قابلت به الدكتاتورية السورية جريمة التغييب. ولا بد ان نشير هنا ايضا الى الموقف الفاتر، من قبل الجمهورية الاسلامية الايرانية، من جريمة تغييب الامام الصدر. والسبب على الارجح هو الرغبة في عدم إحراج "الحليف الستراتيجي" السوري. د ـ بالرغم من الانزعاج الشديد للادارة الاميركية من الدور الوطني والقومي العام لكمال جنبلاط، فإنها كانت تدرك تماما انه سياسي اصلاحي معتدل، وانه "الرقم الصعب" في اي تسوية سيتم انتاجها داخليا. ولذلك كان من المستبعد ان تقوم الاجهزة الاميركية والاسرائيلية مباشرة باغتياله، لإدراكها ان ادنى احتمال لانفضاح العملية سينقلب سلبا عليها، وسيشجع جميع القوى والتيارات اليسارية والقومية والاسلامية شديدة التطرف ضد اميركا واسرائيل. وكان من الافضل، من وجهة نظر المصالح الاميركية والاسرائيلية، ان يتم اغتيال جنبلاط من ضمن "سيناريو محلي". هـ ـ ان عمليات الاغتيال الخارجية (الاسرائيلية مثلا، كعملية اغتيال القادة الفلسطينيين الثلاثة في بيروت في 1973) كانت دائما واضحة البصمات، ومن الصعب اخفاؤها. اما عمليات الاغتيال "الغامضة"، وبصرف النظر جدلا عن المركز الذي يكون قد اصدر قرار الاغتيال، فإنها على الدوام كانت من تنفيذ العناصر المحلية، وان كانت تأتمر بالخارج. وابواق الدكتاتورية السورية كانت، وربما لا زالت، تصر على ان اغتيال كمال جنبلاط هو من فعل اسرائيل وما اشبه. واذا كان هذا الادعاء صحيحا، فهو ينطبق عليه القول المأثور "من فمك ادينك يا اسرائيل!". ولنستعد قليلا سيناريو تنفيذ الاغتيال كما اوردته الصحف واقوال سكان المنطقة حينذاك: في رابعة النهار يكون كمال جنبلاط متوجها الى مدينة عاليه لحضور اجتماع للحركة الوطنية. يوقف سيارته حاجز طيار مجهول قرب بلدة ديردوريت الشوفية، علما ان المنطقة كلها كانت تعج بالحواجز الامنية السورية. ينزل السائق والمرافق للاستفسار، وفيما كمال جنبلاط جالس في المقعد الخلفي يتصفح جريدة بانتظار السماح للسيارة بالمرور، ينهمر الرصاص عليه وعلى مرافقيه بغزارة، يقتل كمال جنبلاط داخل سيارته. ويقتل مرافقاه خارجها. يفر الجناة بسيارة قيل لاحقا انها كانت مسروقة من بلدة بعقلين الشوفية، وتمر السيارة بالجناة على كل الحواجز السورية، من مسرح الجريمة في الشوف حتى بيروت، وتعبر جميع الحواجز المسلحة على خط التماس بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية، وتختفي في منطقة سن الفيل في ضاحية بيروت الشرقية. ـ هذا السيناريو يدل على ان عناصر التنفيذ كانت محلية و"من اهل البيت"، وهو يعني انه اذا كان الاغتيال عملية اسرائيلية، فإن العناصر المحلية التي نفذته وسهلت فرار السيارة وتسترت عليه، ولو كانت عناصر من الاجهزة السورية و"حلفائها"، هي امتداد للاجهزة الاسرائيلية. وبذلك يكون الاتهام الموجه للاجهزة الاسرائيلية هو اتهام موجه للاجهزة السورية ايضا. و ـ يبدو من القرائن التي سبقت الاغتيال، ان "مركز التخطيط" للاغتيال كان قد اتخذ قرارا اوليا بأن يقوم "الطابور الخامس" المسيحي بتنفيذ العملية. وكان المطلوب فقط توفير "المبرر". ضمن هذا السياق يدخل، في رأينا، انه قبل حوالى السنة من اغتيال كمال جنبلاط، جرى اول "استفزاز قاس" له، باغتيال شقيقته المرحومة السيدة ليندا جنبلاط، وهي آمنة في منزلها في محلة عين الرمانة (التي كانت تحت سيطرة الكتائب). وكان بقاؤها تعيش هناك مع عائلتها، ليس بدون موافقة كمال جنبلاط، بهدف تأكيد "لاطائفية" الاختلاف مع حزب الكتائب العميل وما كان يسمى "الجبهة اللبنانية" الموالية لاسرائيل. وكان الهدف الرئيسي من هذا الاغتيال الوحشي والخسيس احراج كمال جنبلاط لاخراجه، واستدراج ردود فعل "درزية" متهورة تخدم كمبرر لقيام "الطابور الخامس" اللبناني "المسيحي الدجال" بتنفيذ عملية اغتيال كمال جنبلاط. ولكن "المعلم" دفن هذه المؤامرة المرسومة، في مهدها، بالصبر والحكمة اللذين واجه بهما اغتيال شقيقته، الى درجة الموافقة على مقابلة السفاح بشير الجميل الذي جاء "لتعزيته"، من اجل وأد الفتنة وكسر اي ردة فعل متهورة على الاغتيال. ز ـ وهكذا، بعد فشل استفزاز كمال جنبلاط باغتيال شقيقته، لم يكن يوجد ـ ايضا من وجهة النظر الاميركية ذاتها ـ سبب او مبرر سياسي كاف، لتكليف جماعة "الطابور الخامس" المسيحي بالتفرد بعملية اغتيال جنبلاط. وهم لو اقدموا على ارتكاب هذه الجريمة، بدون "مبرر" مقبول، لانهارت اي "مصداقية مسيحية" لهم، ولانقلب السحر على الساحر فورا. ح ـ كان كمال جنبلاط، عشية اندلاع الحرب، قد اعلن البرنامج السياسي المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية. وبعد اندلاع الحرب اللبنانية، عرض هذا البرنامج الاصلاحي على الوسيط الاميركي دين براون ذاته، الذي اعلن امام جنبلاط موافقته التامة على البرنامج، وانه سيضغط على حلفائه من الاحزاب "المسيحية!" من اجل الحصول على موافقتها ايضا. ولكن براون الذي وافق على البرنامج المرحلي للاصلاح السياسي المطروح من قبل جنبلاط لم تكن موافقته اللفظية مجانية، بل طلب منه، بالمقابل، ان تتخلى الحركة الوطنية عن المقاومة الفلسطينية، وان تكتفي بالانصراف الى اصلاح النظام السياسي اللبناني. الا ان كمال جنبلاط رفض هذه الصفقة الخيانية، التي تطعن الشعب الفلسطيني في الظهر، وقال قولته الشهيرة "اذا طبقنا الاصلاح السياسي في لبنان، سيذكرنا التاريخ بسطر او سطرين، ولكن اذا تخلينا عن القضية الفلسطينية، فإن التاريخ سيلعننا". ط ـ ان اصلاحية كمال جنبلاط لم تكن طبعا لتشفع له عند اميركا، التي كانت تبحث عن اي طريقة كانت للخروج من المأزق الاميركي ـ الاسرائيلي في لبنان. اما موقفه القومي الصادق فكان يزيدها اصرارا على التخلص منه. من هنا ان براون توجه الى حلفائه "المسيحيين!" ليس لاقناعهم بالمشروع الاصلاحي لكمال جنبلاط، بل لاقناعهم بالقبول بـ"الدور" السوري في لبنان. وهم الذين كانوا طوال تاريخهم الاسود يملأون الدنيا صراخا ضد سوريا. وبدلا من ان يقوم ـ اي براون ـ بمناقشة اولئك "المسيحيين الدجالين" بموضوع البرنامج السياسي الاصلاحي لكمال جنبلاط واحتمالات التسوية، طرح عليهم الاقتراح الغريب، وهو: استعداد اميركا والغرب لتأمين البواخر اللازمة لنقل المسيحيين من لبنان(!!). اي ان براون وضع الاحزاب "المسيحية!"، بشكل مقصود، في اجواء كاذبة تماما، مفادها ان الوجود المسيحي في لبنان هو مهدد بالاقتلاع التام. وكان الهدف من هذا الطرح: 1 ـ تبرير عقد "صفقة" دخول النظام السوري الى لبنان، لضرب القوى الوطنية اللبنانية، بحجة "حماية المسيحيين"! 2 ـ الحصول على موافقة الاحزاب "المسيحية!" على تلك "الصفقة". ي ـ وبعد ان حصلت على "الضوء الاخضر" الاميركي، حاولت قيادة النظام السوري "إقناع" كمال جنبلاط بهذه "الصفقة"، باعتبار ان "المسيحيين!" انفسهم يطلبون الدخول السوري الى لبنان، وان هذه "فرصة تاريخية" للتقريب بين البلدين الشقيقين(!). والثمنالذي طلبته القيادة السورية من كمال جنبلاط هو: وقف هجوم القوات الوطنية من الجبل على قوات "الطابور الخامس" العميل، التي كانت تحاصر مخيم تل الزعتر، مما كان يعني ترك جماهير المخيم، ومن ثم النبعة وبرج حمود والكرنتينا والمسلخ تحت رحمة "القوات اللبنانية الكتائبية" العميلة، وإبقاء الوضع اللبناني على ما هو عليه من التفكك والنزاع، ومن ثم تحكيم "الطابور الخامس" اللبناني بالوضع اللبناني برمته. وطبعا فان كمال جنبلاط لم "يقتنع" بإعطاء سوريا العربية مثل هذا الدور الملتوي، الذي يشوه تماما وجهها العربي ولا يخدم سوى المخططات الاميركية ـ الاسرائيلية و"الطابور الخامس" اللبناني "المسيحي الدجال". وهكذا ازدادت شقة الخلاف بينه وبين النظام السوري. ودخلت القوات السورية الى لبنان بموجب "التفويض" الاميركي، وموافقة احزاب "الطابور الخامس" "المسيحي الدجال". وكانت اول "فاتورة" دفعها النظام السوري مقابل دخوله الى لبنان، المشاركة في اسقاط مخيم تل الزعتر، و"الجيوب" الاسلامية والوطنية في المناطق "المسيحية!" كالنبعة وبرج حمود الخ. وكانت "الفاتورة" الثانية التضحية بالزعيم الوطني والعربي الكبير كمال جنبلاط، تمهيدا للاطاحة بالحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية. و"الفاتورة" الثالثة هي التواطؤ مع الدكتاتور الليبي الذي، لسخرية التاريخ، كان يسمى "امين القومية العربية"، على ان يزاح من الساحة الزعيم الروحي والوطني الكبير الامام موسى الصدر، وذلك تسهيلا وتمهيدا للحرب الشيعية ـ الفلسطينية اللاحقة، التي كان من رابع المستحيلات ان تحدث بحضور الامام الصدر. وللتاريخ ان يكشف تفاصيل هذه الصفحة السوداء في تاريخ الدكتاتوريات العربية "الشقيقة"، المتجلببة زورا بالعروبة. ك ـ من خلال وقائع عملية الاغتيال والارتكابات والتداعيات التي رافقته، يبدو انه كان هناك مخطط محبوك لتوجيه ضربة قاضية للحركة الوطنية اللبنانية بشكل عام، وللطائفة الدرزية في الجبل بشكل خاص. ففور وقوع جريمة الاغتيال، عمدت بعض العناصر "المسيحية!" المشبوهة والمدسوسة الى قرع اجراس الكنائس "فرحا" في بعض القرى. وفي الوقت نفسه انطلقت بعض العناصر "الدرزية!" المشبوهة، وخاصة من "المقنـّعين"، تهاجم عشوائيا السكان المسيحيين الآمنين في بعض قرى الجبل، حيث قتل حوالى 300 شخص من الابرياء، وكان بعضهم جالسين مع عائلاتهم يتناولون الطعام مطمئنين، خالي النية وسليمي الطوية. وعلى ما يبدو ان "الخطة" كانت مرسومة على السيناريو التالي: يتم اغتيال كمال جنبلاط قرب بلدة مسيحية. تقرع الاجراس. تبدأ مذبحة "درزية!" ضد المسيحيين الآمنين. وتكون هذه المذبحة مبررا للقوات السورية لشن حملة عسكرية واسعة النطاق (على الطريقة "الحموية" فيما بعد) ضد الدروز الوطنيين في الجبل، وذلك بغطاء وموافقة دوليين كاملين. فاذا تم سحق الدروز في الجبل تفتح الطريق امام سيطرة "القوات اللبنانية" عليه، وبالتالي توجيه ضربة قاصمة للحركة الوطنية اللبنانية ودفن المقاومة الفلسطينية نهائيا في لبنان وغير لبنان. ل ـ وفي هذه اللحظات الاليمة والعصيبة كان الدور الوطني الحاسم والوقفة التاريخية للزعيم الوطني وليد جنبلاط. وينقسم هذا الدور الى شقين: 1 ـ انه لم يستسلم لاحزان الطعنة النجلاء التي تلقاها بفقدان اقرب الناس اليه، بل طفق يطوف شخصيا على القرى والمواقع الحزبية والعسكرية، محذرا من الانجرار الى الفتنة، ومهددا بمعاقبة كل من يتعرض للمواطنين المسيحيين الآمنين الذين لا ذنب ولا يد لهم في ما جرى. ولو ان وليد جنبلاط ترك الحبل على غاربه، لأخذت الفتنة مجراها، ولاكتملت حلقات المؤامرة، ولكان لبنان الوطني والعربي اصبح في خبر كان، انطلاقا من جريمة اغتيال كمال جنبلاط. 2 ـ انه، بحسه الوطني والقومي السليم، ادرك ان المؤامرة لن تقتصر على لبنان وحده، بل ان الحلقة الثانية من مؤامرة التفتيت الطائفي ستكون الساحة السورية ذاتها، بصرف النظر عن طبيعة النظام القائم فيها. وكان من الطبيعي ان يأبى وليد جنبلاط ان يكون دم كمال جنبلاط زيتا يصب على نار فتنة طائفية ضد الدروز، ومن ثم ضد الكيان الوطني ككل، في سوريا. ومثلما ان كمال جنبلاط "عض على الجرح" يوم مقتل شقيقته المرحومة ليندا جنبلاط، الى درجة "تقبل التعزية" من السفاح بشير الجميل، فإن وليد جنبلاط "عض على الجرح" ايضا، ولم ينزلق الى التحريض المتهور ضد سوريا، وابقى الخطوط مفتوحة بينه وبين النظام السوري، بل وقام بمقابلة رأس النظام، بهدف وأد الفتنة، وفسح للمجال امام قيادة ذلك النظام لاستدراك اخطائها في لبنان، التي تأتي على رأسها جريمة اغتيال كمال جنبلاط.
المسألة الثالثة: أ ـ الدور الراهن للقيادة الجنبلاطية بالرغم من كل ما يأخذه بعض المسطحين والمغرضين على وليد جنبلاط من اخطاء ثانوية وتكتيكية او ذبذبات سياسية عارضة، مقصودة من قبله او غير مقصودة، فإن كل من له عينان يمكنه ان يرى بوضوح الان ان وليد جنبلاط، وبالرغم من الحجم الديمغرافي المحدود للطائفة الدرزية، يمثل الآن "الحلقة المركزية" في العملية السياسية برمتها في لبنان، ومن ثم في التداعيات الاقليمية والدولية للمسألة اللبنانية. ويتجلى هذا الدور المركزي لجنبلاط في المظاهر، او العوامل، التالية: 1 ـ دوره المباشر النابع عن وزنه الخاص بصفته الزعيم الاول للطائفة العربية الدرزية الكريمة، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي الذي اسسه كمال جنبلاط، ورئيس كتلة "اللقاء الدمقراطي" النيابية. 2 ـ بالرغم من كل الضغوط الاميركية ـ الصهيونية، ضد المقاومة الاسلامية و"حزب الله"، فإن وليد جنبلاط يحرص على التمسك بشدة بالعلاقة الستراتيجية المركزية مع السيد حسن نصرالله و"حزب الله" واركان الطائفة اللبنانية الشيعية الكريمة. وهو في ذلك يمثل يجسد ويؤسس الاستمرار التاريخي للعلاقة الرحمية بين الحركة الوطنية اللبنانية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية التي قامت على اكتافها، وبين المقاومة الاسلامية لاسرائيل والاحتلال والعدوان الاسرائيلي. 3 ـ وفي الوقت ذاته يتمسك وليد جنبلاط بورقة العلاقة التحالفية المركزية مع البطريرك الماروني الجليل مار نصرالله بطرس صفير. ومن خلال هذه العلاقة بين جنبلاط والبطريرك يجري العمل على توجيه مختلف سفن الاطراف "المسيحية" المعارضة في اتجاه تنظيف لبنان من بقايا مخلفات واوساخ المفوض "السامي" جدا رستم غزالة، ولكن بما لا تشتهي الرياح الاميركية ـ الاسرائيلية، وبما لم يكن يشتهي، ولا يشتهي الى الان، بعض ربابنة تلك السفن انفسهم من القادة "المسيحيين الدجالين"، من امثال امين الجميل وميشال عون، الذين ليسوا ـ في احسن الحالات ـ سوى "صيادي فرص" سياسية، ولا يريدون سوى ازاحة وصاية الدكتاتورية السورية ("حامية المسيحيين الدجالين"، سابقا، والمنبوذة لاحقا) واستبدالها بالوصاية الاميركية ـ الاسرائيلية، او الوصاية الفرنسية، على لبنان. ولن نستغرب ان يعود بعض هؤلاء للعمل والترويج من جديد للوصاية السورية، بالتنسيق مع الدوائر الاميركية المعنية. 4 ـ واخيرا لا اخرا يتمسك وليد جنبلاط بالعلاقة الوثيقة مع عائلة الحريري وكتلة تيار "المستقبل" وقطاع رجال الاعمال والمعارضة السنية الوطنية المعتدلة. وهنا لا بد من التذكير انه بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ونزول المظاهرات المليونية التي نظمتها المعارضة، من جهة، و"حزب الله" من جهة ثانية، فإن وليد جنبلاط هو الذي اضطلع بدور الجسر الرابط بين "المعسكرين"، بالتمسك بضرورة انسحاب النظام الدكتاتوري السوري، وفي الوقت نفسه معارضة القرار 1559 لجهة نزع سلاح المقاومة الاسلامية والمخيمات الفلسطينية. ولا يستطيع سوى المغرض واعمى البصيرة الا يرى الان ان الوحدة الوطنية اللبنانية، بمواجهة الدكتاتورية السورية، كما بمواجهة الخطر الاسرائيلي والمخططات الاميركية، انما تمر عبر "الحلقة المركزية" التي تمثلها على وجه التحديد والحصر: القيادة الوطنية الجنبلاطية. ان تحقيق "معجزة" انسحاب الدكتاتورية السورية من لبنان، ليس عن طريق الاجتياح الاميركي كما جرى في العراق، بل عن طريق هبة شعبية لبنانية، وبطريقة "سلمية" و"دمقراطية" و"حضارية"، يشهد على: اولا ـ مستوى نضج الجماهير الشعبية اللبنانية، بمختلف انتماءاتها الدينية والمذهبية والحزبية والسياسية، وهي الجماهير التي اكتسبت تجارب غنية خلال معاناة الكارثة الوطنية الكبرى المركبة ذات الوجوه الثلاثة، البشعة والمترابطة، التي اكتوى لبنان بنارها طويلا، والتي اشرنا اليها آنفا وهي: الحرب الاهلية، و"الوجود" الدكتاتوري السوري، والاحتلال الاسرائيلي. وثانيا ـ أهلية وجدارة القيادة الوطنية الجنبلاطية، التي قادت لبنان، عبر كل تعقيدات الوضع اللبناني، الى مرفأ الخلاص الوطني من الدكتاتورية السورية، دون الوقوع في احابيل المؤامرات الاميركية ـ الاسرائيلية والارتماء في احضان الغزاة الاميركيين، كما فعلت ـ للاسف الشديد ـ بعض اطراف المعارضة "الدمقراطية"، "الكردية" و"اليسارية" و"الاسلامية" وغيرها، في العراق، الامر الذي دفع، وسيدفع، العراق الشقيق، والوطن العربي ككل، ثمنا باهظا جدا له، اكثر بكثير مما دفعه بمواجهة الدكتاتورية الصدامية البائدة. ومن اجل التقرب من فهم التطورات الجارية على الساحة اللبنانية، من المهم إلقاء نظرة على "خطة العمل" التي اتبعتها، وتتبعها القيادة الجنبلاطية، للوصول الى ما تم الوصول اليه حتى الان: أ ـ برهنت القيادة الجنبلاطية انها تدرك تماما ان "الثغرة" التي دخلت منها الدكتاتورية السورية الى لبنان، هي الحجة "التاريخية" البالية، التي اوجدها الاستعمار منذ مئات السنين، والتي تاجرت ولا تزال تتاجر بها اسرائيل، ونعني بها حجة "عقدة الخوف عند المسيحيين" و"حماية المسيحيين" (!!). ومن الملاحظ انه بعد الانسحاب السوري الاخير مباشرة، فإن الاصابع المشبوهة عمدت الى تنفيذ سلسلة من التفجيرات الاجرامية في المناطق المسيحية تحديدا. وهذا يدل ان "المايسترو" لا يزال هو ذاته، سواء كانت هويته اميركية او اسرائيلية، وهو لا يزال يلعب اللعبة القديمة ذاتها، ولكنه هذه المرة يلعب وهو مكشوف تماما، سواء كانت ادواته "سورية"، او "لبنانية" وبالاخص "مسيحية". وطوال فترة الوجود الدكتاتوري السوري في لبنان، فإن الحجة ـ اللازمة التي كانت ترددها جميع الابواق المستفيدة من هذا الوجود، هو ان استمراره هو ضرورة لحماية "السلم الاهلي" المهدد على الدوام في لبنان. ولسد هذه "الثغرة"، ونزع هذ الحجة التقليدية البالية، تحرك وليد جنبلاط، اولا، باتجاه اعادة الوحدة الوطنية الى الجبل، بعد ان كانت قد اصيبت بخلل كبير في اعقاب معركة الجبل في 83 ـ 1985، التي خططت لها واشعلتها اسرائيل مع "القوات اللبنانية" العميلة، والتي كان لها هدفان: ـ هدف اساسي ـ في حال الانتصار، هو: اقتلاع الدروز من الجبل وتشتيتهم، لضرب القاعدة الشعبية الاساسية للقيادة الوطنية الجنبلاطية، ـ وهدف بديل ـ في حال الهزيمة، هو: زعزعة اسس الوحدة الوطنية في الجبل، كنتيجة للانعكاسات السلبية على الجماهير المسيحية العادية التي تحملت تبعات تلك المعركة دون ان تكون مسؤولة عنها. وقد قام البطريرك الماروني الجليل مار نصرالله بطرس صفير بزيارته التاريخية الى مدينة دير القمر، في 2001، حيث التقى الزعيم الوطني وليد جنبلاط، في ما سمي "المصالحة الوطنية" الدرزية ـ المارونية والمسيحية في الجبل. وهنا علينا ان نفتح قوسين لنشير انه بطبيعة الحال ان البطريركية المارونية لم يكن لديها ميليشيا، ارسلتها للقتال في حرب الجبل او غيرها. كما انها لم تكن مؤيدة لتلك الحرب القذرة التي شنتها "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع، وهي ـ اي "القوات" ـ التي تتحمل مسؤوليتها ومسؤولية تبعاتها بالكامل. فلماذا يعقد وليد جنبلاط "المصالحة" مع البطريرك، اي مع الطرف الذي لم يكن بالواقع "طرفا" في حرب الجبل؟! ان هذه "النقلة" اذا صح التعبير هي من أهم الخطوات السياسية، التي ترقى الى مستوى الخطوة الستراتيجية التاريخية، التي قام بها جنبلاط، حيث انه بذلك قدم اسهاما كبيرا في عملية تدعيم وتكريس الزعامة المسيحية المعتدلة والمتوازنة للبطريكية المارونية. فمعلوم ان البطريركية كانت تاريخيا تنأى بنفسها عن انحرافات السلطة السياسية في مختلف عهود رؤساء الجمهوريات المسيحيين الموارنة. وقد تبدى ذلك بالاخص في عهد كميل شمعون، الذي سار في حينه في ركاب "حلف بغداد"، واراد تجديد رئاسته، مدعوما من الغرب الامبريالي، مما فجر الانتفاضة الشعبية في 1958. وقد وقف البطريرك الماروني حينذاك بولس المعوشي، رحمه الله، ضد سياسة شمعون، فأخذت ابواق الشماعنة والكتائب وغيرهم من "المسيحيين الدجالين" تسخر منه وتسميه "محمد المعوشي". ومنذ ذلك الحين بدأ "المسيحيون الدجالون" تطبيق خطة خبيثة مدروسة لاضعاف مركز البطريركية، وتشجيع الاتجاهات الطائفية المسيحية المتطرفة المرتبطة بالغرب الامبريالي واسرائيل. وقد تبدى ذلك ايضا في الحملة المشينة التي شنتها "القوات" على البطريرك خريش، سلف البطريرك نصرالله، واضطراره للاستقالة. واخيرا لا آخرا في الموقف العدائي لـ"الجنرال" ميشال عون من البطريرك صفير. وعلينا ان نعترف ان إضعاف الدور المعتدل والحكيم للبطريركية المارونية لعب دوره السلبي في ترك الحبل على الغارب لشتى اصناف المتطرفين والمغامرين والعملاء من "المسيحيين الدجالين"، وبالتالي في تفاقم الاوضاع اللبنانية، ولا سيما في ظروف الحرب الاهلية التي اندلعت في 1975. وانه لمما يلفت النظر ان البطريركية المارونية قد عارضت، على طريقتها، الاحتلال الاسرائيلي للبنان، ووقفت من البداية موقفا متحفظا، ثم معارضا، من الدخول السوري الى لبنان، في حين ان "المسيحيين الدجالين" ومنهم الذين يرفعون الان عقيرة اصواتهم ضد الوجود السوري، هم الذين سبق واستدعوا الدكتاتورية السورية الى لبنان، تماما كما استدعوا الاحتلال الاسرائيلي وساروا في ركابه وقاتلوا الى جانبه. وان تعزيز المكانة القيادية للبطريركية المارونية، وإن كان يبدو في الشكل، وللجهلة، ونترك جانبا ابواق المغرضين والمشبوهين، وكأنه تعزيز للطائفية، الا انه في الواقع تعزيز للخط المسيحي المعتدل، وتحجيم ومحاصرة للاتجاهات المتطرفة والمغامرة والعميلة لـ"المسيحيين الدجالين". وان تحقيق "المصالحة الوطنية" في الجبل على يد البطريرك الماروني هو امر ذو دلالة بالغة جدا سياسيا وتاريخيا، حيث تبدو البطريركية بوضوح بأنها جاءت لتصلح ما افسدته "القوات اللبنانية" خصوصا و"المسيحيون الدجالون" عموما. و"تحت جبة البطريرك" اصبح بالامكان الدخول في تحالفات سياسية محلية مرحلية، حتى مع الاحزاب والقوى "المسيحية!"، من امثال جماعة سمير جعجع، وجماعة بشير الجميل، وجماعة ميشال عون، الذين يدخلون مرغمين تلك التحالفات مع القوى الاسلامية والوطنية بقيادة وليد جنبلاط، على قاعدة معارضة الوجود الدكتاتوري السوري، مقابل "تبليعهم" المواقف المعارضة للاحتلال والعدوان الاسرائيلي ضد لبنان. ان تحقيق "المصالحة الوطنية" في الجبل لم يكن ممكنا بوجود الاحتلال الاسرائيلي، الذي كان سيعمل، ويدفع عملاءه ليعملوا، المستحيل لاجل افشال مثل هذه الخطوة. وبذلك فإن الانتصار الوطني والقومي التاريخي الذي تحقق في ايار 2000، بتحرير جنوب لبنان والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي الذي دام 22 سنة، كان شرطا مسبقا ومقدمة ضرورية لارغام "المسيحيين الدجالين" على طأطأة رؤوسهم وقبول "المصالحة الوطنية" في الجبل على اليد التي ارادوا في السابق عضها وكسرها، ونعني بها يد البطريركية المارونية. وبتحقيق "المصالحة الوطنية"، سد وليد جنبلاط "الثغرة" التي دخل منها الوجود الدكتاتوري السوري الى لبنان. فبدأ العد العكسي لهذا الوجود. ونرى هنا بوضوح الترابط العضوي بين الاحتلال الاسرائيلي والوجود الدكتاتوري السوري و"الطابور الخامس" اللبناني. ب ـ ان وحدة جبل لبنان (التي استعيدت بالمصالحة الوطنية التاريخية بين جنبلاط والبطريرك صفير) هي، جغرافيا وتاريخيا، سياسيا واقتصاديا، أمنيا وعسكريا، الاس الاساسي في استقرار ووحدة لبنان ككل، ومن ثم في الدور الاقليمي للبنان، ولا سيما العلاقات مع الشقيقة سوريا، من جهة، والمواجهة مع العدو الاسرائيلي، من جهة ثانية. ووليد جنبلاط هو الذي يمسك اليوم، وغدا، بهذه الورقة الجيوبوليتيكية الحاسمة. ج ـ في علاقته الممتازة مع الطائفة الشيعية اللبنانية الكريمة، ولا سيما مع "حزب الله"، ومن خلال ذلك مع ايران وجميع الدول والقوى المعارضة لسياسة الهيمنة الاميركية، يضمن وليد جنبلاط استمرار ضبط "المسيحيين الدجالين" تحت جبة البطريرك، و"عدم تشجيعهم" على الانجرار نحو اتفاق "17 ايار" جديد مع اسرائيل (امين الجميل لا يزال الى اليوم يدافع بكل وقاحة عن "اتفاق 17 ايار" القديم الذي فشل بفضل نضالات وتضحيات جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. وميشال عون يتبجح بأنه من صناع القرار 1559، وهو يهيئ نفسه ليكون "الطرف" اللبناني في "صفقة" جديدة للتفاهم الاميركي ـ السوري، كي يلعب دور "لحود" ثان، بعد ان احترقت ورقة لحود الاول، وربما يكون رأس وليد جنبلاط، او السيد حسن نصرالله، او البطريرك صفير، كبش الفداء وعربون مثل هذه "الصفقة"). د ـ وفي علاقته الممتازة مع البطريرك، ومن خلاله مع مختلف القوى المسيحية الداخلية، والدول والقوى الخارجية المعارضة للوجود السوري في لبنان، يضمن جنبلاط "تذكير" النظام السوري وزبانيته و"طابوره الخامس" وجميع المنتفعين من الوجود السوري السابق في لبنان بـ"محاذير" الانجرار في اي مخطط لتخريب لبنان لمصلحة الدكتاتورية السورية، من جهة، واميركا واسرائيل، من جهة ثانية. هـ ـ واخيرا لا آخرا، في علاقته الممتازة مع كتلة الحريري وتيار المستقبل والمعارضة الوطنية السنية المعتدلة، وعبرهم مع قطاع المال والاعمال، يضمن جنبلاط تحقيق: ـ التوازن الداخلي بين مختلف الكتل والجماعات السياسية والطائفية في لبنان. ـ الاستمرار في خطة التنمية الاقتصادية للبنان، واقامة التوازن بين استراتيجية المقاومة واستراتيجية التنمية، ولا سيما عن طريق مواجهة سلبيات سياسة "الانفتاح الاقتصادي" والفساد التي تتناقض على خط مستقيم مع استراتيجية المقاومة والصمود الوطني. ـ التوازن في العلاقات العربية والاقليمية والدولية للبنان.
ب ـ الأفق التاريخي للقيادة الجنبلاطية
اذا سمحنا لأنفسنا بتلخيص تعبيري، وبالاستناد الى النقاشات السياسية الستراتيجية ذاتها في لبنان، فان لبنان الوطني العربي كان ـ ولا يزال ـ يراوح بين مشروعين: ـ "المشروع السابق لكمال جنبلاط"، الذي كان يعني عمليا تحويل لبنان الى "قاعدة تحرير وتغيير" (ضد اسرائيل والانظمة الرجعية والدكتاتورية العربية)، اي ما يشبه "هانوي العرب". ـ و "المشروع السابق لرفيق الحريري" الذي كان يعني النهوض الاقتصادي الديناميكي بلبنان وتحويله الى ما يشبه "هونغ كونغ العرب". وطبعا ان اميركا، واسرائيل، ومعهما الانظمة الرجعية والدكتاتورية العربية، ومنها طبعا النظام الدكتاتوري السوري، لم يكن يرضيها، ولم يكن من صالحها، تحقيق اي من هذين "المشروعين". وقد تم قتل الرجلين ـ الرمزين، كتعبير عن معاداة كل من هذين المشروعين. والآن، يقف لبنان على مفترق تاريخي مصيري. والسؤال الكبير الكبير، لا يزال هو نفسه: ـ هل ستقف اميركا، واسرائيل، والانظمة الرجعية والدكتاتورية العربية، مكتوفة الايدي، وهي ترى احتمال ان يتطور "لبنان ما بعد المرحلة الاسرائيلية ـ السورية" باتجاه التحول الى: ـ رأس حربة ضد اسرائيل، او قاعدة ثورية تحررية عربية ـ اسلامية، او بالتعبير الرمزي "هانوي عربية"؟ ـ او الى قاعدة اقتصادية ـ مالية ديناميكية متطورة او بالتعبير الرمزي "هونغ كونغ عربية"، تزاحم الدور المالي الرئيسي الذي تريد اميركا ان تعطيه لاسرائيل في "الشرق الاوسط الكبير"؟ ـ او، اخيرا، الى مزيج من الاثنين، اي الى "واحة تحررية، دمقراطية، لاطائفية، لاعنصرية"، ترتكز الى التنمية الاقتصادية والبشرية والعدالة الاجتماعية، وتحميها جماهير منظمة واعية ومقاومة، تطلق العنان لحرب اعلامية ـ ثقافية ضد العنصرية والعدوانية الاسرائيلية، وضد التخلف والرجعية والدكتاتورية العربية، وضد سياسة الهيمنة الدولية الاميركية؟؟ اعتقد ان الجواب معروف سلفا: ـ ان "الجبهة المعادية للبنان" التي تضم بشكل رئيسي: اميركا واسرائيل والانظمة الدكتاتورية العربية، التي قتلت كمال جنبلاط، وقتلت رفيق الحريري، بالامس وقبل الامس، لا يمكنها لا اليوم ولا غدا ان ترضى للبنان لا بمشروع كمال جنبلاط ولا بمشروع رفيق الحريري، ولا بأي افق تطور يحمل اي ملامح من اي مشروع تحريري، تنموي، دمقراطي حقيقي. لقد عملت هذه "الجبهة"، بالتعاون مع "طابورها" او "طوابيرها الخامسة" داخل البلد، على تدمير لبنان واستنزافه طوال اكثر من ثلاثين سنة، دون ان يرف لها جفن. وسيكون من الخطأ الفادح الاعتقاد ان هذه "الجبهة" ستكون اكثر رحمة بلبنان والشعب اللبناني بعد اليوم. وان ما يجري في العراق الشقيق يعطي فكرة عما يمكن ان يعد للبنان، للقضاء على المشروع الوطني الدمقراطي، المقاوم، التحريري والتغييري، فيه. و"الحجج" (على طريقة حجج اسلحة الدمار الشامل وغيرها في العراق) هي جاهزة: من حجة سلاح "حزب الله"، الى حجة اوضاع المخيمات الفلسطينية، الى "الحطب الجاهز" على الدوام، لمختلف الفتن الطائفية والمذهبية والحزبية الخ. والذي فجر في السابق دور العبادة، وقتل المصلين الآمنين، كما قتل شخصيات معتدلة مثل المفتي حسن خالد والشيخ حليم تقي الدين والرئيس رينيه معوض والرئيس رفيق الحريري، لن يتورع عن ارتكاب اي جريمة مماثلة، لازاحة اطراف غير مرغوب فيها، كما ولتفجير الاوضاع اللبنانية من جديد. ولبنان اليوم هو مهدد بثلاثة انواع من المخاطر الكبرى: 1 ـ احتمالات التفجيرات الداخلية. 2 ـ خطر العدوان الاسرائيلي، بطريقة الاستنزاف، او الاجتياح، او توجيه الضربات القاسية. 3 ـ خطر العدوان الاميركي، على طريقة الحصار الاقتصادي والسياسي، والهجمات العسكرية بالشكل المباشر، او بغطاء دولي معين. والقوى الوطنية والدمقراطية اللبنانية، وعلى رأسها القيادة الوطنية الجنبلاطية تقف اليوم امام التحدي التاريخي لمواجهة هذه المخاطر. وأهم ما يتوجب القيام به هو رص صفوف القوى الوطنية والدمقراطية، وهو ما يرتب على القيادة الوطنية الجنبلاطية بشكل خاص مسؤوليات تاريخية كبيرة. ولمواجهة تحديات المرحلة القادمة، لبنانيا وعربيا، نجد انه من الضروري الخروج من دائرة "رد الفعل" لبنانيا، والانتقال الى تحويل لبنان الى قاعدة عربية واقليمية فاعلة، للتحرير والتغيير. ولهذه الغاية آن الاوان للقيام بالخطوات الستراتيجية التالية: 1 ـ تفعيل دور الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، والسعي الحثيث ليضم مختلف المناضلين والمثقفين التقدميين المستقلين (ولا سيما من غير ابناء الطائفة الدرزية)، كسمير فرنجية وسماح ادريس وامثالهما، والفعاليات التقدمية المستقلة مثل "حركة الشعب" بقيادة نجاح واكيم، و"رابطة الشغيلة" بقيادة زاهر الخطيب، و"المنبر الدمقراطي" بقيادة حبيب صادق، و"حركة اليسار الدمقراطي" بقيادة الياس عطاالله. واذا كانت احتمالات توحيد هذه الشخصيات والفعاليات ضمن اطار الحزب التقدمي الاشتراكي تدخل في خانة "ربما"، الا ان الهدف يستأهل، بل ويستوجب "المغامرة" اذا صح ان نسميها كذلك. فتعدد المنابر والقوى التقدمية واليسارية، فيه ما فيه من إغناء للتجربة الدمقراطية، الا ان الاوطان ليست مختبرات وحقول تجارب. ولذلك فإن الشرذمة، من زاوية نظر اخرى، لا تقوي اي طرف من الاطراف المعنية، وتمسخ التجربة الدمقراطية، وتضعف اليسار اللبناني خصوصا والحركة الوطنية اللبنانية والعربية عموما. والحزب التقدمي الاشتراكي، بالروحية التقدمية المنفتحة التي أسسه عليها كمال جنبلاط (الذي قال يوما لبعض "الماركسيين" الذي انتموا الى الحزب: "ادخلوا الحزب، و"مركسوه"!) يمكنه ان "يستوعب" جميع الآراء والمنابر والاتجاهات الصادقة، وأن يتحول الى بوتقة وطنية تقدمية شاملة. والقيادة الجنبلاطية ليست عائقا امام مثل هذه العملية التاريخية، بل هي عامل مساعد فيها. وبطبيعة الحال يجب هنا ايجاد الصيغة التنظيمية المناسبة للتوفيق بين القيادة الجنبلاطية والقيادة الفكرية والسياسية والعملانية للحزب التقدمي الاشتراكي الموحد العتيد، كأن يتم اختيار وليد جنبلاط كرئيس للحزب، الى جانب "مكتب سياسي" ومركز امين عام للحزب. او ان يتم الفصل بين الزعامة الجنبلاطية ورئاسة الحزب، مع ايجاد صيغة تنسيق عضوي بينهما، وفسح المجال لاحتمال وجود اختلاف في المواقف التكيتيكية لكل منهما. 2 ـ اعادة تأسيس الحركة الوطنية اللبنانية، التي كان يترأسها الشهيد كمال جنبلاط، وذلك على اسس جديدة، اهمها: ضم "حزب الله" الى صفوف الحركة، او ايجاد صيغة تنسيق عضوي معه. 3 ـ إضفاء الطابع الوطني العام، بنيويا، على "المقاومة"، وعدم اقتصارها على "المقاومة الاسلامية". وذلك: اولا ـ بايجاد ما يمكن تسميته "الجيش الشعبي اللبناني"، او "سرايا الدفاع الشعبي اللبناني" التي تتواجد على الارض وتعمل بالتنسيق الضمني مع "المقاومة" من جهة، ومع الجيش اللبناني، من جهة ثانية. ثانيا ـ بايجاد الاشكال التنظيمية الكفيلة بنزع الصفة الطائفية عن "المقاومة الاسلامية"، وتوسيع نطاقها لتشمل كافة الفصائل الوطنية المناضلة ضد اسرائيل وضد احتمالات العدوان الاميركي. على ان تؤخذ بالاعتبار تماما الجوانب الامنية، وقطع الطريق على الاختراقات المخابراتية الاسرائيلية والاجنبية، كما اللبنانية والعربية المشبوهة. 4 ـ اتخاذ القرار التاريخي الجريء بتعريب الحزب التقدمي الاشتراكي، اي توسيعه ليتجاوز الحدود اللبنانية، ويمتد اولا في سوريا وفلسطين المحتلة (اي بما فيها ما يسمى"اسرائيل"). ان ترجمة ضرورة قيام "العلاقات المميزة" بين الشعبين والبلدين الشقيقين سوريا ولبنان، لا يمكن ان تتحقق على ارض الواقع بوجود نظام دمقراطي في لبنان، ونظام دكتاتوري في سوريا، ولا بوجود حالة وطنية عامة يخضع لها النظام الكياني في لبنان، ونظام عميل مكشوف (على الطريقة العراقية) في سوريا، اذا نجح الاميركيون في قلب النظام السوري على طريقتهم. والوطنيون اللبنانيون، وعلى رأسهم القيادة الجنبلاطية، مدعوون لمساعدة الشعب السوري الشقيق في "الانتقال الوطني" من الدكتاتورية الى الدمقراطية، وفي تحريك جبهة المقاومة الوطنية، المدنية والمسلحة، ضد احتلال الجولان، وفي قطع الطريق على اسرائيل في اللعب بـ"الورقة الدرزية" و"ورقة الدمقراطية" في الاراضي المحتلة في 1948، كما وفي تطوير "الثورة الفلسطينية" بطريقة تخرجها من الدهليز المسدود الذي حشرتها فيه "ستراتيجية اوسلو" التي اودت بحياة ياسر عرفات نفسه. و"تعريب" الحزب التقدمي الاشتراكي، وامتداده التنظيمي والنضالي في سوريا وفلسطين المحتلة، هو خطوة حاسمة في هذا السبيل. والقيادة الوطنية الجنبلاطية هي مؤهلة اليوم، اكثر من اي وقت مضى، لاخذ المبادرة للقيام بهذه المبادرة التاريخية التي تجسد تماما رسالة "المعلم" كمال جنبلاط. XXX واخيرا يبقى ان نوجه كلمة صادقة الى البقية الباقية من البعثيين الشرفاء الذين يتحملون على مضض التجربة غير المشرفة للسلطة البعثية: لقد كان حزب البعث العربي الاشتراكي في بداية نشوئه يمثل احد الآمال الكبرى للجماهير العربية في النضال لاجل "الوحدة والحرية والاشتراكية". ولكن حزب البعث، كحزب بورجوازي صغير في مجتمع عالمثالثي متخلف تلعب فيه الابوية العشائرية والطائفية، والديماغوجيا الدينية والقومية، دورا كبيرا جدا، كان يحمل بامتياز كل ازدواجية والتناقضات الذاتية للبورجوازية الصغيرة، الناقمة على وضعها الدوني من جهة، والمتعطشة للسلطة وتوسيع حيازاتها الملكية وامتيازاتها الطبقية من جهة ثانية. وفي ظروف النضال من اجل التحرر والدمقراطية، قدم حزب البعث للجماهير "وجهه الحسن"، اي وجهه النضالي. ولكن مع اقترابه، فوصوله، للسلطة، قدم هذا الحزب، ولا سيما في العراق وسوريا، أسوأ النموذج العربي الاول للحزب البورجوازي الصغير، الديماغوجي، الفاسد، الدكتاتوري، العنصري والفاشي. ولكن هذا "النموذج" ليس فريدا. اذ ان بعض الاحزاب الاخرى، "القومية" او "الدينية"، "العربية" و"الكردية" وغيرها، ليست سوى نسخ ممسوخة، اقل او اكثر اهمية، عن حزب البعث. وفي الظروف المريرة التي مر بها لبنان في الثلاثين سنة واكثر الماضية، اتيحت لحزب البعث العربي الاشتراكي والسلطة البعثية في سوريا، فرصة تاريخية لتجاوز سلبياته في معمعان النضال التحرري والدمقراطي، ولتحقيق وحدة شعبية عربية حقيقية، ترتكز الى التلاحم الكفاحي الفلسطيني ـ اللبناني ـ السوري، لمواجهة العدوان الاسرائيلي وسياسة الهيمنة الدولية الاميركية ـ الصهيونية، وتكون منطلقا لـ"اعادة نظر" تاريخية في الاوضاع الشاذة المفروضة على المنطقة عامة، والامة العربية خاصة، منذ "سايكس ـ بيكو" و"وعد بلفور". ولكن "التجربة البعثية ـ السورية" في لبنان كانت على الضد من ذلك تماما، وهي قد صبت في الاتجاه المعاكس، اتجاه خدمة المؤامرات الدولية، الاميركية ـ الصهيونية، لمحاصرة وضرب وإضعاف الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية وزرع النفور والتفرقة بين الجماهير الشعبية اللبنانية والفلسطينية وبين الشعب السوري الشقيق ـ الضحية الاولى لهذه السياسة المنحرفة، الخطرة والمعادية، التي تتناقض على خط مستقيم مع المبادئ الاولية التي انطلق منها ودعا اليها حزب البعث العربي الاشتراكي. لقد كانت القيادة التسلطية البعثية في العراق وسوريا تحاول تقليد النموذج الستاليني، وتحاول اكثر "تبرير" نفسها و"تبرير" وجودها بهذا التقليد. ولكن الواقع ان هذه القيادة البعثية ابتعدت كثيرا عن الستالينية ذاتها، وقدمت لنا نسخة ممسوخة جدا و"مشرشحة" عن الستالينية، واقتربت اكثر من الهتلريات الاقزامية، المضحكة ـ المبكية، في العالم الثالث. ولهذا فهي قد وضعت الحزب، والبلاد، والامة العربية باسرها، امام مأزق تاريخي. ولم يعد امام هذه القيادة سوى ان تنتهي انتحارا على طريقة هتلر، او عزلة واختناقا على طريقة بول بوت، او ـ وهذا اسوأ الاحتمالات ـ خيانة حزبية، وطنية وقومية، على الطريقة اليلتسينية/الغورباتشوفية. والآن، بمناسبة انعقاد المؤتمر الجديد لحزب البعث العربي الاشتراكي، يطرح السؤال التاريخي: هل هناك مخرج آخر، يمكن تقديمه من داخل حزب البعث، يكون وفيا للآمال التي عقدت على هذا الحزب عند تكوينه؟ ايا كان الجواب، من الضروري بالنسبة للمناضلين الشرفاء الذين لا يزالون في صفوف او حول هذا الحزب، القيام بكل ما هو ممكن لدفع الحزب لاجراء عملية نقد ذاتي ومحاكمة تاريخية للانحرافات والجرائم التي ارتكبت باسم الحزب، والتي استخدمت فيها النزعة الطائفية لدى قطاع معين من الشباب والجماهير العلوية غير الواعية. والهدف من ذلك ليس الشماتة والانتقام الشخصي، لأن اي شيء لن يعيد الى الحياة كمال جنبلاط وغيره الكثير الكثير من ضحايا "شراذم البعث"، ولأن كل المجرمين والفاسدين الذين ارتكبوا هذه الجرائم والموبقات، مهما علت رؤوسهم، لا يساوون قلامة ظفر في قدم اي شهيد. بل ان الهدف من النقد الذاتي والمحاكمة التاريخية، المحتملين، هو: اولا ـ محاولة ترميم العلاقة الاخوية والكفاحية مع الحركة الوطنية اللبنانية بشكل عام، ومع القيادة الوطنية الجنبلاطية بشكل خاص. ثانيا ـ تبييض صفحة الطائفة العلوية الكريمة، ذات التاريخ المجيد في الكفاح ضد الظلم والاستبداد، وتبرئتها من الجرائم التي ارتكبتها زمر فاسدة ومتعطشة للسلطة، باسم "البعث" والطائفة العلوية. ثالثا ـ "المصالحة مع النفس"، واعادة الاعتبار للتاريخ النضالي السابق لحزب البعث، ولشهدائه الشرفاء امثال عدنان المالكي من سوريا وجلال كعوش من فلسطين وامين السعد (الاخضر العربي) من لبنان، وغيرهم كثير، من اجل ان يعود حزب البعث العربي الاشتراكي للاضطلاع بدوره كأحد الاحزاب الوطنية والتقدمية المناضلة، اذا كان لا يزال بالامكان ان "تحيى العظام وهي رميم". - - - - - - - - - - ـ ـ * كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القضية الارمنية
-
سوريا الى أين؟
-
سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
-
سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق
-
وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟
-
جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
-
المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد
...
-
المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
-
من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
-
الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن
...
-
العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
-
أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا
...
-
مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|