كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1218 - 2005 / 6 / 4 - 12:16
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
الحلقة الخامسة
من أجل دستور يضمن تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية في العراق!
لم تكن معاناة غالبية الشعب العراقي مقتصرة على الجانب السياسي وسيادة الدولة الاستبدادية والأمنية القمعية والقتل بسبب الانتماء القومي أو الفكري أو السياسي الحزبي أو حتى الديني والمذهبي فحسب, بل وبسبب الأوضاع الاقتصادية والسياسات الخرقاء المعادية لمصالح الشعب التي مارسها النظام البعثي الصدامي طيلة العقود الثلاثة ونيف الأخيرة, وكذلك المصاعب المعيشية غير القليلة التي واجهها الشعب في العهد الملكي.
لم تكن السياسة الاقتصادية والاجتماعية التي مارسها نظام البعث ترتبط بالجانب الفكري المتخلف والبائس والعقول العفنة التي كانت تسير النظام فحسب, بل وبسبب اعتماد النظام على قوى انتهازية ونهابة وجدت في خدمة النظام مجالاً للسرقة والنهب والاغتناء وضمان المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة. ويمكن لكل باحث علمي في الشؤون الاقتصادية في العراق أو الإنسان الاعتيادي العامل في السوق أن يقدم مئات بل والآف الأمثلة التي تدلل على هذا الاتهام, سواء أكان ذلك في مجال السياسة النفطية أم سياسة التنمية الانفجارية أم في الزراعة والصناعة ومختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية أم في الحروب والديون المتراكمة أم في تهريب أموال الدولة غلى الخارج أم في كابونات النفط المدفوعة والرشوات التي قدمت لعدد كبير من الناس في الدول العربية والأجنبية.
كان النظام الدكتاتوري يسعى إلى بناء الرأسمالية في العراق, ولكنه كان بعيداً عن وعي الرأسمالية ومستلزمات بنائها, وكان في الواقع يرقص على حبلين من طينة واحدة, أي بين مفهومي الرأسمالية والاشتراكية الوطنية الهتلرية (التي سميت عربية) في بلادنا وبلاد العرب, وكلا المفهومين كان ضبابياً بالنسبة للنخبة الحاكمة.
نحن الآن أمام مرحلة جديدة يراد لها أن تبدأ ببناء جديد على مختلف المستويات والمجالات. وأول تلك الخطوات يفترض فيها أن تتجسد تشريعاً في الدستور العراقي الجديد. ومن هنا تنشأ الحاجة إلى معالجة جملة من الموضوعات ذات الأهمية الفائقة لمستقبل العراق, ومنها القضية الاقتصادية التي تمس حياة ومستقبل القوميات المختلفة في العراق.
يعيش العراق حالياً في ظل علاقات إنتاجية شبه إقطاعية, بعد أن عجزت قوانين الإصلاح الزراعي عن تحقيق المنشود منها في تصفية تلك العلاقات وتغيير واقع الريف. وهي متشابكة مع العلاقات العشائرية التي هي الأخرى تقف حجر عثرة في طريق التمدن وتغيير البنية الاقتصادية والاجتماعية. لقد بدأ العراق منذ ما يقرب من سبعة عقود بعملية تصنيع كانت بطيئة جداً ومحاولة خجولة لإدخال العلاقات الرأسمالية في الاقتصاد العراقي. وها نحن اليوم نقف بين مدينتي (لا ونعم), بين علاقات شبه إقطاعية في الريف وانعكاساتها السلبية الحادة على حياة وعلاقات وأجواء المدينة, وبين علاقات رأسمالية ما تزال تحبو على أرض غير معبدة وتواجه المصاعب الجدية ونقص كبير في البنية التحتية الضرورية لنمو الرأسمالية في الاقتصاد العراقي, وخاصة نمو القطاع الخاص.
لا يقف المجتمع العراقي في المرحلة الراهنة أمام مهمات اشتراكية, بل يقف بوضوح أمام مهمة إزالة بقايا العلاقات الإنتاجية شبه الإقطاعية في الريف وإزالة آثارها عن المدينة من جهة وتطوير العلاقات الإنتاجية الرأسمالية وتأمين التراكم الرأسمالي الضروري لهذه العملية من جهة آخرى, في آن واحد.
إلا أن هذا التحول المنشود يفترض أن يقترن برؤية عقلانية لمصالح المجتمع والغالبية العظمى من السكان التي عانت الأمرين في العقود المنصرمة والتي يفترض أن تؤخذ بنظر الاعتبار في البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الراهن والقادم في البلاد. لهذا لا بد لمن يفكر في إقامة اقتصاد حر في البلاد, أن يفكر بالعدالة الاجتماعية بالحدود التي تساهم في تعبئة الموارد والطاقات البشرية وتخلق الإنسجام النسبي والسلم الاجتماعي في المجتمع للتعجيل في عملية التنمية, إذ بدون ذلك يستحيل علينا التقدم بالطريق المنشود صوب بناء اقتصاد متقدم وبنية اجتماعية جديدة وفعالة. ويمكن أن تتوفر العدالة الاجتماعية النسبية في ما يطلق عليه بالاقتصاد الحر الاجتماعي, إنها الصيغة المعقولة والمقبولة لبلادنا في الفترة القادمة التي ربما تستوجب منا عقدين من السنين. إن من المهم بمكان أن يحصل نوع من التوزان المناسب في توزيع الدخل القومي بين الحصة التي توجه للأجور والرواتب والمدخولات الشخصية الناجمة عن العمل وبين الحصة التي تذهب كأرباح لأصحاب رؤوس الأموال وأباب العمل أولاً وبين تلك الحصة التي تستهلك من قبل المجموعة الأخيرة وتلك التي تذهب لأغراض الاستثمار أو أعادة تزظيف الرباح في العملية الاقتصادية الإنتاجية. كم لا بد من تأمين تطور عقلاني في إعادة توزيع الدخل القومي, الضرائب وغيرها, أي حصة الاستهلاك الاجتماعي بين القطاعات الخدمية المختلفة وعلى المناطق المختلفة وبين طبقات وفئات المجتمع. إنها عملية ليست سهلة ولكنها ضرورية لضمان التطور الفعال والمعجل في العراق.
عراق اليوم يعاني من:
• بطالة واسعة جداً مكشوفة ومقنعة, وخاصة بين النساء.
• ضعف معدل حصة الفرد الواحد السنوية من الدخل القومي المنتج, وتزداد اللوحة بؤساً عندما يجري الحديث عن معدل حصة الفرد الواحد من الدخل القومي بدون النفط الخام.
• سوء توزيع واستخدام وإعادة توزيع الدخل القومي في السابق وفي الوقت الحاضر أيضاً.
• تنامي الفجوة بين الأغنياء والفقراء في المجتمع لصالح الأغنياء, وبالتالي تنامي الاحتقان والتوتر المعيشي للغالبية العظمى من السكان.
• البنية المتخلفة والمشوهة للاقتصاد العرقي الإنتاجي وكذلك التدهور والتخلف الحاصل في بنية الخدمات الاجتماعية, وما يرتبط بها وينتج عنها من بنية مشوهة للمجتمع من الناحية الطبقية والفئات الاجتماعية.
• ضعف نشاط المؤسسات الإنتاجية الصناعية وتخلف إنتاجية العمل للفرد الواحد وكذلك ضعف الإنتاج الزراعي وقلة معدل غلة الدونم الواحد من المحاصيل الزراعية, وقلة الاهتمام به وبالأرض والريف عموماً.
• التشوه في البنية الاقتصادية الإقليمية للعراق والتي تتجلى في سوء توزيع المنشئات الصناعية على المناطق والمحافظات المختلفة, وفي مجال التشغيل والبطالة, غضافة إلى التباين الشديد في مستويات الدخل والقوة الشرائية للسكان في تلك المناطق والمحافظات.
• الفساد الوظيفي العام, المالي والإدراي, الذي يسود البلاد بحيث أصبح الاتهام يوجه إلى جمهرة كبيرة من موظفي الدولة ومن المحيطين بها والعاملين في مجال الاقتصاد الوطني والعلاقات الاقتصادية الدولية والمقاولين و ... الخ, وهي حالة كارثية لا بد من التصدي لها, إذ أنها تساهم مساهمة كبيرة في هدر الموارد الاقتصادية وفي الإساءة للعملية الاقتصادية وللمجتمع, وتضعف ثقة الناس بالدولة ومؤسساتها والعاملين فيها.
• ولا شك في أن التنمية الاقتصادية, التي تتطلب بحثاً علمياً وخريجين يساهمون في هذه العملية من حيث طبيعة الفروع الدراسية والمستوى المنشود لدى الخريجين, تعاني اليوم من نقص شديد في الجانب الكمي والنوعي. ويزيد في الطين بلة هروب المزيد من حملة الشهادات العالية والفنية والمهنية إلى خارج العراق بسب الأوضاع الاستبدادية التي سادت العراق خلال العقود المنصرمة, وبسبب الإرهاب الدموي الجاري حالياًً.
إن هذا كله وغيره يتطلب التغيير. ويتطلب السير الحثيث لوضع دستور يتضمن الأساسيات أو المسائل المبدئية لكي توضع فيما بعد في قوانين ونظم إدارية تنظم الحياة والعلاقات الاقتصادية في البلاد. ومن هنا يتطلب, كما أرى, تأكيد الدستور الجديد على المسائل التالية:
أولاً: الأخذ بمبدأ اقتصاد السوق الحر الاجتماعي الذي يضمن وينظم بصورة مناسبة بين الاستغلال الرأسمالي والعدالة الاجتماعية, أي أن يؤمن مستلزمات حماية المنتجين والمستهلكين من سعي الرأسماليين إلى تشديد الاستغلال عبر قوانين تصدرها الدولة وتضمن بموجبها حقوق العمال زالزراع والموظفين والمستخدمين العاملين في الإنتاج وفي قطاع الخدمات وتأمين ضمانهم الاجتماعي والصحي وإجازاتهم السنوية ومستويات أجورهم وتكريس مبدأ حل النزاعات التي تحصل مع أصحاب رؤوس الأموال بصورة سلمية وعبر لجان مشتركة حيادية أو قضاء العمل, ومشاركة المنتجين من عمال ومستخدمين وموظفين في الرقابة على ظروف العمل والإنتاج والخدمات.
ثانياً: مشاركة القطاع الخاص والقطاع المختلط وقطاع الدولة في عملية تنمية الاقتصاد العراقي وضمان تطوره وتغيير بنيته وإزالة التشوه فيه وفق إمكانيات هذه القطاعات وتطورها اللاحق. ويفترض أن يقتصر مجالا قطاع الدولة على تلك الفروع الاقتصادية التي تمس مصالح الناس بصورة مباشرة وتلك التي يعجز عنها القطاعين الخاص والمختلط. على أن تعمل منشآت قطاع الدولة وفق المعايير الاقتصادية المعروفة.
ثالثاً: بقاء النفط الخام والثروات الخامية ملكاً للدولة والمجتمع بغض النظر عن الأساليب التي تمارس والأسس التي تتبع لاستثمارها لصالح الاقتصاد والمجتمع.
رابعاً: حق الإنسان, سواء أكان رجلاً أم امرأة, في الحصول على عمل ينسجم وإمكانياته وكفاءاته وضمان حياة كريمة ومستقرة تساعد على تطوره ونمو قدراته.
خامساً إقرار مبدأ توزيع الدخل القومي على أساس النفوس في فيدرالية كردستان وبقية أنحاء العراق والمحافظات لضمان العدالة في التوزيع والاستخدام العقلاني لها, إضافة إلى بذل الجهود المركزية لإزالة التخلف والتباين الشديد في مستويات التطور في المحافظات المختلفة.
سادساً: ممارسة أسلوب البرمجة العامة التي تضمن للدولة والمجتمع التطور العام بالاتجاهات السليمة والمؤشرات الأساسية دون تدخل الدولة بتفاصل ذلك, وبشكل خاص الأخذ بمبدأ البرمجة في مجالات التشغيل والاستثمارات والتوزيع الإقليمي والقطاعي للاستثمارات الصناعية والزراعية والخدمية من جهة, والأخذ بمبدأ اللامركزية في الأقاليم (الفيدرالية وبقية المناطق) والمحافظات من جهة ثانية.
سابعاً: القبول بمبدأ دخول رؤوس الأموال العربية والأجنبية للتوظيف في العراق وتنظيم هذا النشاط بما يساعد على تعجيل عملية التنمية وعلى تطوير المناطق المتخلفة من العراق.
ثامناً: إقامة العلاقات الاقتصادية الدولية وفق أسس التعاون والمنفعة والاحترام المتبادلين مع جميع دول العالم, والتحري عن إمكانيات التنسيق والتكامل الاقتصادي مع الدول العربية والمجاورة وعلى صعيد الشرق الأوسط.
تاسعاً: إيلاء اهتمام خاص بالسياحة الأثرية والدينية والاستجمامية في العراق لما لها من أهمية في تعزيز العلاقات مع الشعوب الأخرى وزيادة المعارف والاطلاع على العراق, إضافة إلى دورها في إغناء الثورة الوطنية.
عاشراً: إقرار نظام سليم وفعال لجباية الضرائب تصاعدياً على اساس الدخل السنوي للفرد وتقليص مستوى الضرائب غير المباشرة على السلع والخدمات العامة, في إطار سياسة مالية ونقدية سليمة تكون الأداة الفعالة لتنفيذ السياسة الاقتصادية.
أحد عشر: وضع التعليم في خدمة تنمية ثقافة المجتمع وتطور مستواه العلمي والفني والأدبي ووعيه العام وفي خدمة عملية التنمية الشاملة, أي ربط التنمية البشرية بالتنمية الاقتصادية والثقافية للمجتمع.
أثنا عشر: الاهتمام بإدخال التقنيات الحديثة للعملية الاقتصادية الإنتاجية والخدمية في العراق والاهتمام بنظم الاتصالات الحديثة, باعتبارها القاعدة الجديدة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي على الصعيد الدولي. ولا شك في أن العراق لا يمكن أن ينعزل عن عملية العولمة الجارية دولياً, ولهذا لا بد من ولوجها من خلال التعرف الكامل عليها وتبين إمكانيات الاستفادة منها وتجنب السلبيات التي تلحق الاقتصادات النامية بسبب المنافسة الدولية الحادة الجارية في إطكار العولمة الرأسمالية الجارية. إن إيجابيات وسلبيات العولمة الجارية متشابكة, ومع ذلك لا يمكن الانعزال عنها, ولكن يمكن تأمين مستلزمات الاستفادة منها وتقليص الأضرار بسبب سياسات الدول الكبرى العولمية. ويمكن تقليص أثارها السلبية, إذا ما تحقق التعاون والتنسيق مع البلدان العربية وبلدان الشرق الأوسط بشكل عام.
هذه بعض الأسس التي يمكن تطويرها وإغنائها عبر النقاش والحوار بين المختصين والعاملين في الحقل الاقتصادي وعلى صعيد المجتمع.
برلين في 2/6/2005 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟