|
من الذي يجب أن يكتب الدستور؟
حمزة الجواهري
الحوار المتمدن-العدد: 1217 - 2005 / 6 / 3 - 12:56
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لقد تجرع أفلاطون السم منتحرا لأنه لم يرض أحدا حين كتب جمهوريته، الدستور الديمقراطي الأول للبشرية، فالكل وضع منه مسافة من الجفاء بقدر خسارته كنتيجة لهذه الجمهورية الأفلاطونية، فلا أتوقع أن تكون ردود الفعل لما سنتوصل إليه من خلال هذا المقال، منصفة، بل ستكون عاصفة ومعادية وكارهة، لأن الجميع يعتبرون أن الحق معهم سواء كانوا في موقع القوة أو الضعف. ولا أتوقع أيضا أن يرضى الجميع عن الدستور فيما لو تمكنت اللجنة من الوصول إلى صيغة توافقية لشكله النهائي، وهكذا قررت أن أضع نفسي أمام المدفع، بل أمام جميع المدافع في الساحة السياسية العراقية، غير مبال، فالإمام علي عليه السلام يخاطب الحق معاتبا بما معناه، ""أيها الحق، كم خلقت لي من الأعداء"". لا التمثيل الحقيقي لمكونات الشعب العراقي، ولا المحاصصات مهما كانت عادلة في مستوى التمثيل، يحق لها أن تكتب الدستور، لأن مهما كانت اللجان المنبثقة عنها سوف تكون فيها أغلبية وأقلية، وليس لأغلبية الحق بسلب حقوق الأقلية، لذا، وببساطة، فمن يكتب الدستور لا يجب أن يمثل الأغلبية، ولا أن يكون ممثلا عن أي طيف من الأطياف مهما كبر أو صغر، لأن التمثيل النسبي صحيح بالنسبة للحكومة، ولكن هذه وثيقة حقوقية تنظم الحياة المدنية للناس، ولا يحق لمن يشكل الطيف الأوسع أن يستأثر بكتابتها وبالتالي بأكبر قدر من الحقوق، لأن ذلك سوف يتعارض مع روح الدستور، والذي ربما سيكون أول فقرة فيه هو ""أن الناس يتمتعون بحقوق متساوية أمام القانون"". فكيف سيكون الدستور عادلا فيما لو كتب بيد الجهة الأوسع نفوذا في المجتمع؟ لذا فليس للأغلبية الحق بكتابة الدستور الذي يناسبها على حساب الأقليات، حيث هكذا سوف لن تحصل الأقليات على حقوق متكافئة مع الأغلبية. لنأخذ مثلا، فلو أن أربعة أخوة، ثلاثة منهم أشقاء، والأخ الرابع من أمٍ أخرى، لا يجب أن يرث الأشقاء حصصا أكثر من الأخ الغير الشقيق، ولو ترك الأمر للأخوة الأشقاء بتقسيم التركة سيكون نصيب الأخ الغير الشقيق ربما لا شيء، وفي أحسن الأحوال، سوف لن يكون متساويا مع أخوته، ولكن لو ترك الأمر لقاضي عادل، فإن الجميع سوف يتمتعون بحصص متساوية، لأن حكم الأكثرية هو من وضع قانون التقسيم في الحالة الأولى، ومن وضع التقسيم في الحالة الثانية هو القاضي العادل. هذه هي الإشكالية الحقيقية في كتابة الدستور، من ناحية نجده عدلا أن تضع الأكثرية القانون، ولكن بالتأكيد سوف تكون النتيجة على حساب الأقلية، وهذا ليس عدلا. لنا في القرآن موعظة، حين أوصى النبي يعقوب، أبناءه خيرا بأخيهم وهو الصغير بعد أن قبل مسألة ذهابه معهم، نلاحظ هنا دور النبي الأب هو أن يوصي ويبلغ فقط، وحين ألقي يوسف في الجب من قبل أخوته غير الأشقاء بدعوى أن الذئب هو من أكله، لم تتخلى عنه الإرادة الأقوى فأنقذته، وهذه هي إرادة السماء، إرادة الله الذي انتصر إلى يوسف، إرادة الحق.......في القوانين الوضعية تسمى الدستور، في النهاية هي التي انتصرت، هكذا نرى، لو كان من يقرر الحق هو الجماعة الأقوى أو الأكثر، لكان الأمر قد انتهي بإلقاء يوسف عليه السلام في البئر. من هنا، وبكل اللغات، لا يجب أن يكون للاستحقاق الانتخابي أي دور مميز في مرحلة كتابة الدستور، هذا الأمر يسري على جميع الأطياف الأخرى المكونة للشعب العراقي سواء كانت قومية أم طائفية أم سياسية، لأن ما نريد هو ضمان حقوق متكافئة للجميع، والسلطة لا تعني مصادرة الحقوق، بل العكس هو الصحيح، أي ضمان الحقوق للجميع سواء كان الأمر يتعلق بالغد القريب أو البعيد. أضف إلى ذلك إن القانون لا يمثل أحد، ويحمي الجميع، وليس هناك صغير أو كبير أمام القانون، فالكل سواسية، ويجب أن يسري هذا المبدأ من التشريع وينتهي بالتطبيق، وذلك بتوفير الدعم للطرف الضعيف لكي يكون الجميع بذات القوة وقت الحكم والتطبيق للقانون وحسب القانون. لذا فإن الدستور يجب أن يُمكِنْ الأقلية لكي تكون متكافئة من حيث القوة مع الأكثرية عند التطبيق، وهذه الحقيقة يجب أن تكون دستورية، أي مضمونة بالدستور. لنأخذ مثلا آخر فلو كان الأمر يتعلق بالحقوق الدستورية للتركمان أو الصابئة مثلا، حتى لو كان لأي من هذين الطيفين ممثلين متكافئين من الناحية العددية مع الآخرين ضمن لجنة كتابة الدستور، ولو وضعت فقرة أو مادة دستورية تغمط حقوق أي من هذين الطيفين، فإن الفوز أكيد لمثل هذه الفقرة أو المادة، وهي كما نعرف تتعارض مع حقوق أي منهم، فهل هذا حق؟ الأمر يسري أيضا على الطيف الأوسع، مهما كان واسعا، فإن مجموع الأطياف الأخرى مجتمعين سيكون أكبر من حجمهم، وهذا هو الواقع العراقي تحديدا. نتوقع أن يكون هناك انحياز لأي من الذين يكتبون الدستور إلى الطيف الذي ينتمون إليه، حتى لو كان الشخص منتمي لأكثر من طيف في آن واحد، مثل هذا التنوع سوف لن يمنع هذا العضو في لجنة كتابة الدستور من عدم الانحياز لأي من الأطياف التي ينتمي إليها، أما لو كان مسيسا ويحمل مشروعا سياسيا لطيف معين، فإنه بالتأكيد سوف يكتب الدستور بما يضمن به مصلحة الطيف السياسي الذي ينتمي إليه مغلبا ذلك على الآخرين وحتى انتماءاته الأخرى. أن التركيبة الاجتماعية الحالية سوف تتغير مع التغيرات الموضوعية مستقبلا، وذلك بفعل الحركة على المستويات المختلفة في البنية الاجتماعية، سواء كانت اقتصادية أم سياسية، في حين أن الدستور ليس للغد القريب، ولكن للغد القريب والأبعد، لذا لا يمكن لأحد أن يدعي بأن التركيبة الحالية لهذه اللجنة سوف يمثل العراق في المستقبل. كما أسلفنا، إن المبدأ الذي اتبع بتشكيل اللجنة لم يكن سليما، من حيث البناء ومن حيث المسؤولية، فمن حيث البناء، قد بني على أساس مبدأ الاستحقاق الانتخابي، وهو صحيح بالنسبة لكل الهيئات في الدولة ما عدا اللجنة التي تكتب الدستور الدائم للبلاد، فإنه من حق الطيف الأوسع أن تكون الحكومة منه، وأن يكون عدد أعضاء هذا الطيف في البرلمان، وهو سلطة تشريعية، يتناسب مع حجم ذلك الطيف في المجتمع، وهو بالتأكيد سوف يضمن حقوق أبناء الطيف الذي ينتمي إليه، لكن السؤال المهم هو، من الذي سيضمن حقوق الأقليات على المستوى التشريعي في مراحل لاحقة؟ وحتى في هذه المرحلة؟ وفيما لو سلمنا بقبول مبدأ البناء لهذه اللجنة، يبقى هناك جانب آخر وهو جانب المسؤولية، وهي كتابة الدستور، فأني أرى هذه اللجنة غير مؤهلة من الناحية الفنية لأداء مهمة كهذه. لذا فإن كتابة الدستور يجب أن تكون على أيدي متخصصين في كتابة الدساتير ورجال قانون محايدين، سواء كانوا دوليين أم محليين، وهذا ليس حقا يؤخذ على أساس الاستحقاق الانتخابي، ولكن على أساس أن الحق لجميع في الوطن، وله قيِِِِمون يضمنون سلامة تطبيقه لمصلحة الجميع، وهذا هو دور اللجنة المكلفة بكتابة الدستور في البرلمان العراقي. أي إن مهمة اللجنة البرلمانية المسئولة عن كتابة الدستور هو ضمان المبادئ التي يكتب على أساسها الدستور وليس كتابته من الناحية الفنية، بهذا تكون اللجنة ذات صبغة استشارية ملزمة إلى حد بعيد وليست مسئولة عن وضع الصيغ القانونية السليمة لفقرات الدستور، هكذا يمكن أن نضع مسودة لهذا المشروع يمكن للشعب العراقي أن يصوت له من المرحلة الأولى دون أن يكون هناك فراغا دستوريا أو نلجأ لفترات تمديد للسلطة المؤقتة التي مهمتها إنجاز كتابة الدستور الدائم وانتخاب الحكومة القادمة على أسس كاملة الشرعية. هكذا يجب أولا تحديد الأسس التي يجب أن يضمنها الدستور لكي تكون هي الأساس الذي تعمل اللجنة البرلمانية على أساس منها، فهي الأداة التي سوف تكون بيد هذه اللجنة وليس القلم الذي يضع كلمات الدستور، فاللجنة بتركيبتها الحالية يجب أن توضع لها ضوابط مبنية على أساس من المبادئ الأساسية التي يتوجب مراقبتها والتي يجب أن تكون بعيدة عن التأثيرات السياسية التي تتعارض مع المبادئ الأساسية التي يجب أن يعتمدها الدستور، حيث هو الذي يجب أن يضمن خصوصيات المجتمع العراقي والمنظومة الأخلاقية والثقافية للمجتمع، وليس خصوصيات طيف عراقي معين، ويضمن تطويرها لمديات أوسع بالانفتاح على الثقافات، وليس الانغلاق في بوتقة الموروث بالرغم من احترامه وكونه الأساس في وضع صيغة الدستور الجديد، لذا لا يجب أن يكون لأي جهة كانت الحق بصياغة مستقبل العراق على مقاسها، فالوطن للجميع، والدين لله، والعرق يمتزج ويتبدل، والواقع الاجتماعي برمته يتبدل بحسب قوى خارجة عن إرادة الإنسان، ولا يمكن للإنسان أن يعيق حركة التاريخ.
#حمزة_الجواهري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعليقا على رسالة الركابي للصدر
-
محاولات ذبح حكومة الجعفري على أساس الهوية
-
من رأى منكم تلك المقاومة الشريفة؟
-
كل ما أرجوه أن لا يصدر الجلبي عفوا عن الملك
-
الأعداء الجدد للبعث سوف يقلبون المعادلة
-
بالرغم من أنهم كانوا، ومازالوا، الأوفى للوطن
-
الجعفري والمسيرة وسط حقول الألغام
-
حتى الشعلان تعَرَق خجلا من تصريحات النقيب
-
الهروب للأمام لم يعد مجديا
-
زيارة رامسفيلد تعيد الصراع للمربع الأول
-
سقوط النظام الدكتاتوري، هل هو احتلال أم تحرير؟
-
هل هي حقا محاصصة طائفية وقومية؟
-
النظرية العلاوية في السياسة
-
على ذمة المنجمين، غرة ربيع الأول آخر موعد لتشكيل الحكومة
-
حارث الضاري يضع البرنامج الأمني للمرحلة القادمة
-
أغلال الحرية والديمقراطية في العراق
-
هل ستمضي العملية السياسية كما أريد لها؟
-
كان على الجميع أن يتوقعوا تأخير تشكيل الحكومة
-
مازق الدكتور الجعفري بتشكيل الوزارة
-
الثورة اللبنانية بقيادة منظمات المجتمع المدني
المزيد.....
-
سفير الإمارات لدى أمريكا يُعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي:
...
-
أول تعليق من البيت الأبيض على مقتل الحاخام الإسرائيلي في الإ
...
-
حركة اجتماعية ألمانية تطالب كييف بتعويضات عن تفجير -السيل ال
...
-
-أكسيوس-: إسرائيل ولبنان على أعتاب اتفاق لوقف إطلاق النار
-
متى يصبح السعي إلى -الكمالية- خطرا على صحتنا؟!
-
الدولة الأمريكية العميقة في خطر!
-
الصعود النووي للصين
-
الإمارات تعلن القبض على متورطين بمقتل الحاخام الإسرائيلي تسف
...
-
-وال ستريت جورنال-: ترامب يبحث تعيين رجل أعمال في منصب نائب
...
-
تاس: خسائر قوات كييف في خاركوف بلغت 64.7 ألف فرد منذ مايو
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|