|
رسالة في الغربة والأغتراب لأبي حيان التوحيدي
أحمد الناصري
الحوار المتمدن-العدد: 1217 - 2005 / 6 / 3 - 13:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
هذه مقاطع ضافية من رسالة ( يا ) لإبي حيان التوحيدي ، من كتابه ( الإشارات الإلهية والأنفاس الروحانية ) الذي حققه وقدم له عبد الرحمن بدوي ، الطبعة الأولى 1981 ، وفيها يحلق التوحيدي مع لغة ومعاني الغربة والتغريب والأغتراب . ويمزق بعض سترها ، ويتجاوز المباشر فيها الى المغلق ، ويجعل المستعصي أكثر إستعصاءاً . في المقدمة الهامة التي كتبها بدوي تحت عنوان ( أديب وجودي في القرن الرابع عشر ) يدخل فيها مباشرة في مقارنة بين أبي حيان التوحيدي وافْرَنتس كافكا ، ويبدأ بمقولة لكافكا يقول فيها ( الكتابة ضربُ من الصلاة ) ، ثم يقيم مقارنات تفصيلية بين حياتهما الشخصية والنفسية والإجتماعية ، والظروف الخاصة التي مرا بها ، وتأثير هذه الأحوال على التكوين الخاص لكليهما ، ومن ثم التأثير الحاسم على الكتابة ، وتجربة الخلق والإبداع . والتوحيدي المتوفي في حوالي سنة 414 هجرية : 1023 م ، استطاع أن يستخدم اللغة في معالجات داخلية نفسية ، وأن يتلاعب بالمعنى والبناء كما يريد وبقدرة عالية ، أضفت جمالية خاصة في موضوع الكتابة ، عدا عن المعنى البيّن . والمقارنة التي عقدها بدوي بين التوحيدي وكافكا هامة جداً ، وهي مبحث جديد ، يؤكد عدد من القضايا ، من بينها أهمية وقدرة اللغة العربية ، على التحليق والخلق في فضاءات الإبداع المتنوع . وهناك محاولة جريئة أخرى قام بها أدونيس للمقاربة بين التصوف والسريالية ، بما تنطوي عليه هذه المحاولة من صعوبة ومجازفة معرفية ولغوية ، وهو يكشف أيضاً قدرة العربية على أن تكون لغة إبداع عالمي متفوق . الذي دعاني لمراجعة هذه الرسالة الآن ومن جديد ، والعمل على نشرمقاطع منها ، هو شعوري الساحق بتجدد الغربة والتغريب وتلاوينهما وأوجاعهما ، بعد إن كادت هذه السلسة المريرة والمستعصية أن تنقطع ، ولكن تطاير وتسرب هذا الأمل كما ينسرب الماء في رمل صحراوي مديد ، ومتعدد الطبقات . لقد كان شعوري البدائي والذي تكون مع بداية تجربتي البسيطة ، بأن شيئاً ما سيحصل لي ، وأن حياتي سوف تتقطع ، وستخرب العلاقة بالمكان الأول ، وسيتحول الزمن لاحقاً الى مادة لزجة لاتتشكل منطقياً أو فيزيائياً ، ولايمشي نحو إتجاه ما ، بل يقف عمودياً أحياناً ، أو مقلوباً على نفسه ، أو يتجمد في منطقة لاأريدها ، ولاأسير نحوها ، ولا أبحث عنها . بينما ظل يلازمني شعور جميل ، حتى داخل الزنازين الكثيرة التي أغلقت أبوابها عليّ ، بأن هذه الحالة ستنتهي في لحظة ما ، مهما طالت أو عرضت ، كان هذا الشعور العجيب نوع من المعادل الغامض لمواجهة محنة الغربة ، وتفسيري لهذا الشعور هو نوع من ممارسة نشاط الإرادة وتفائلها ، حتى لو كان غير دقيق وغير منطقي ، أو قد لايتحقق ، لكنه شعور موجود وفعال ومفيد . المشكلة الآن في المرحلة الجديدة من المغترب المتجدد أنني فقدت هذا الأحساس ، وقد سقط الزمن في حالة سديمية حرجة ، وحراك رجراج ، بلا توازن ، وبلا شيء إطلاقاً ، كأنما أنقطعت العلاقة بذلك الشيء ، وتلك الحالة التي تفككت وتحولت الى نوع جديد ، لم يتبلور بعد ، لاأعرف أسمه للآن . في التجربة الماضية كنت أعمل وأراقب وأنتظر سقوط الفاشية ، وسقوط تفاصيلها ، الغربة مثلاً . ولكن من الذي يسقط الآن ؟؟ ومن الذي يجيْ ؟؟ هل ثمت أمل بشيْ ما ؟؟ ربتما ستشتغل من جديد ( إرادة التفائل ، ضد تصورات العقل المتشائم ) ، وربما يزودنا المستقبل غير البعيد ، بما لم نكن نعرفه حتى هذه اللحظة المغلقة . أليكم أجزاء من رسالة التوحيدي ، وهي تتكلم عن حالتنا، قبل التكلم عن نفسها : سألتني- رفق الله بك ، وعطف على قلبك- ( و) أن أذكر لك الغريب ومحنه ، وأصف لك الغربة وعجائبها ، وأمّر في أضعاف ذلك بأسرار لطيفة ومعان شريفة ، إما مُعرضّاً ،وأما مُصرًحاً ، وأما مُبعّداً ،وإما مقرّباً . فكنت على أن إجيبك الى ذلك . ثم إني وجدت في حالي شاغلاً عنك ، وحائلاً دونك ، ومُفرّقاً بيني وبينك . وكيف أخفضُ الكلام الآن وأرفَع ، ما الذي أقول وأصنع ، وبماذا أصبر ، وعلى ماذا أجزع ؟ وعلى العلات التي وصفتها والقوارف التي سترتها أقول : إنَّ الغريب بحيث ماحطت ركائبه ذليل ويد الغريب قصيرةُ ولسانه أبداً غريب والناس ينصرُ بعضهم بعضاً وناصره قليل
وقال آخر: وما جزعاً من خشية البين أَخْضَلَتْ دموعي ، لكنَّ الغريبَ غريبُ يا هذا ! هذا وصفُ غريب نأى عن وطنٍ بنى بالماء والطين ، وبَعُد عن أَلأّف له عهدهم الخشونة واللين ، ولعله عاقرهم الكأس بين الغُدران والرياض ، واجتلى بعينه محاسن الحَدَق المراض ، ثم إن كان عاقبة ذلك كله إلى الذهاب والانقراض ،- فأين أنت من قريب قد طالت غربته في وطنه ، وقلّ حظه ونصيبه من حبيبه وسكنه ؟! وأين أنت من غريب لاسبيل له إلى الأوطان ، ولا طاقة به على الاستيطان ؟! قد علاه الشحوب وهوفي كِنّ ، وغلبه الحزن صار كأنه شَنُّ . إن نطق نطق حزنان منقطعا ، وإن سكت سكت حيرا مرتدعا ، وإن قرب قرب خاضعاً ، وإن بَعُدَ بعد خاشعاً ، وإن ظهر ظهر ذليلاً ، وإن توارى توارى عليلاً ، وإن طلب طلب اليأسُ لاغالبُ عليه ، وإن أمسك أمسك والبلاء قاصد إليه ، وإن أصبح أصبح حائل اللون من وساوس افِكْر ، وإن أمسى أمسى مُنْتَهَبَ السر من هواتك السَّتْر ، وإن قال قال هائباً ، وإن سكت سكت خائباً ، وقد أكله الخمول ، ومصه الذبول ، وحالفه النحول ، لايتمنى الإ على بعض بني جنسه ، حتى يفضي إليه بكامنات نفسة ، ويتعلّل برؤيه طلعته ، ويتذكر لمشاهدته قديم لوعته ، فينثر الدموع على صحن خده ، طالباً للراحة من كده. وقد قيل : الغريب من جفاه الحبيب ، وأنا أقول : بل الغريب من واصله الحبيب ، بل الغريب من تغافل عنه الرقيب ، بل الغريب من حاباه الشريب، بل الغريب من نودى من قريب ، بل الغريب من هو في غربته غريب ، بل الغريب من ليس له نسيب ، بل الغريب من ليس له من الحق نصيب . فإن كان هذا صحيحاً ، فتعال حتى نبكي على حال أحدثت هذ النَفْوة ، وأورثت هذه الجفوة : لعَّل انحدار الدمع يعقب راحةً من الوجد أو يشفي نجى َّ البلابل يا هذا ! الغريبُ من غربت شمسُ جماله ، واغترب عن حبيبة وعذّاله ، وأَغْرَبَ في أقواله وأفعاله ، وغَرَّب في إدباره وإقباله ، وأستغرب في طِمِره وسرباله . يا هذا ! الغريب من نطق وصفُه بالمحنة بعد المحنة ، ودل عنوانه على الفتنة عقب الفتنة ، وبانت حقيقته فيه في الفينة حَدّ الفينة . الغريب من إن حضر كان غائباً ، وإن غاب كان حاضراً .الغريب من إن رايته لم تعرفه ، وإن لم تره لم تستعرفه ، أما سمعت القائل : بَمَ التعلُّل ؟!لا أهلٌ ولا زمن ولانديمٌ ، ولا كأسٌ ، ولا سكَنٌ هذا وصفُ رجل لحقته الغربة ، فتمنى أهلاً يأنس بهم ، ووطناً يأوى إليه ، ونديماً يَُحلُّ عُقَد سَّره معه ، وسكناً ينتشى منها ، وسكناً يتوادع عنده . فأما وصف الغريب الذي اكتنفته الأحزان من كل جانب ، واشتملت عليه الأجان من كل حاضر وغائب ، وتحكمت فيه الأيام من كل جانب وذاهب ، واستغرقته الحسرات على كل فائت وآئِب ، وشتّته الزمان والمكان بين كل ثقة ورائب ،- وفي الجملة ، أتت عليه أحكام المصائب والنوائب ، وحطته بأيدي العواتب عن المراتب ، فوصفُ يخْفي دونه القلم ، ويفني من ورائه القرطاس ، ويشل عن بجسه اللفظ ، لأنه وصف الغريب الذي لا اسم له فيذكر ، ولا رسم له فيشهر ، ولا طي له فينشر ، ولاعذرله فيعذر ، ولاذنب له فيغفر ، ولاعيب عنده فيستر . هذا غريب لم يتزحزح عن مَسِقْط رأسه ، ولم يتزعزع عن مَهَبَّ أنفاسه .وأغرب الغُرَباء من صار غريباً في وطنه ، وأبعد البُعداء من كان بعيداً في محل قربه ، لأن غاية المجهود أن يسلو عن الموجود ، ويغمض عن المشهود ، ويقصى عن المعهود ، ليجد من يغنيه عن هذا كله بعطاء ممدود ، ورِفْدٍ مرفود ، وركن موطود ، وحد غير محدود . ياهذا ! الغريب من إذا ذكر الحقَّ هُجِر ، وإذا دعا الى الحق زُجِر . الغريب من إذا أَسْنَدَ كُذّب ، وإذا تطاهر عُذّب . الغريب من إذا امتار لم يْمرِ ، وإذا قَعَد لم ُيَزرْ .يا رحمتنا للغريب ! طال سفره من غير قدوم ، وطال بلاؤه من غير ذنب ، وأشتد ضَرَرُه من غير تقصير ، وعظم عناؤه من غير جدوى ! الغريب من إذا قال لم يسمعوا قوله ، وإذا رأوه لم يدوروا حوله . الغريب إذا تنفس أحرقه الأسى والأسف ، وإن كتم أكمده الحزن واللّهَف . الغريب من إذا أقبل لم يُسَّع له ، وإذا أعرض لم يسئل عنه . الغريب من إذا سأل لم يعط ، وإن سكت لم يُبْدَأ . الغريب إذا عطس لم يُشَمَّت ، وإن مرض لم يُفتقّد . الغريب من إن زار أغْلق دونه الباب ، وإن استأذن لم يُرفع له الحجاب. الغريب مَن إذا نادى لم يُجبْ . اللهم إنّا قد أصبحنا غرباء بين خلقك ، فآنسنا في فِنائك ، اللهم وأمسينا مهجورين عندهم ، فِصلْنا بحبائك ................................... ثم يقول : أيها السائل عن الغريب ومحنته ! إلى ههنا بلغ وصفي في الورقات. فإن استزدتَّ زِدْتُ ، وإن اكتفيتَ اكتفيتُ ، والله أسألُ لك تسديداً في المبالغة ،ولي تأييداً في الجواب ، لنتلاقى على نعمته ، ناطقين بحكمته ، سابقين الى كلمته . يا هذا ! الغريب في الجملة من كله حرقة ، وبعضه فُرْقة ، وليلُه أَسَف ، ونهارهُ لهف ، وغَدَاؤه حَزَن ، وعشاؤه شَجَن ، وآراؤه ظنن ، وجميعه فِتن ، ومفَرِقه مَحِن ، وسُّرِه عَلَن ، وخوفه وطن . ......................... يا هذا ! أنت الغريب في معناك ..
#أحمد_الناصري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسئلة الماركسية الرئيسية ؟؟
-
الطائفية السياسية تحركها ومخاطرها
-
في الذكرى السنوية لمجزرة بشتآشان
-
الصراع الطبقي ومفاهيم الحداثة
-
رحيل يوسف عبد الكريم البيض ( عبدول ) في مدينة هورن الهولندية
-
حول تأسيس الحركة الشيوعية العراقية / ملاحظات نقدية
-
عرض لبيان المبادرة الديمقراطية العراقية
-
منتصر لن تموت .. منتصر بيننا أبداً !!
-
عن الجريمة والأعمال الإرهابية ضد طلبة البصرة
-
بطاقة الى المرأة
-
الإنتفاضة الوطنية .. التجربة والدروس .- القسم الثالث والأخير
-
الانتفاضة ..التجربة والدروس - القسم الثاني
-
الانتفاضة الوطنية .. التجربة والدروس
-
توقعات كبيرة وأمنيات صغيرة في العام 2005
-
مدينة الموصل خط أحمر وطني وملتهب .
-
بطاقة للناس والوطن
-
الشهيدان الخالدان سحر أمين منشد وصباح طارش ( ثائر ) . نجمان
...
-
دعوة : من أجل كتابة وتوثيق تاريخنا الوطني اليساري ، من اجل ك
...
-
السجون والمعتقلات الرهيبة وبارقة أمل مغربية وسط الليل البهيم
-
تطورات الوضع السياسي والأمني بين الإرهاب والإنتخابات وحمى ال
...
المزيد.....
-
سحب الدخان تغطي الضاحية الجنوبية.. والجيش الإسرائيلي يعلن قص
...
-
السفير يوسف العتيبة: مقتل الحاخام كوغان هجوم على الإمارات
-
النعمة صارت نقمة.. أمطار بعد أشهر من الجفاف تتسبب في انهيارا
...
-
لأول مرة منذ صدور مذكرة الاعتقال.. غالانت يتوجه لواشنطن ويلت
...
-
فيتسو: الغرب يريد إضعاف روسيا وهذا لا يمكن تحقيقه
-
-حزب الله- وتدمير الدبابات الإسرائيلية.. هل يتكرر سيناريو -م
...
-
-الروس يستمرون في الانتصار-.. خبير بريطاني يعلق على الوضع في
...
-
-حزب الله- ينفذ أكبر عدد من العمليات ضد إسرائيل في يوم واحد
...
-
اندلاع حريق بمحرك طائرة ركاب روسية أثناء هبوطها في مطار أنطا
...
-
روسيا للغرب.. ضربة صاروخ -أوريشنيك- ستكون بالغة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|