|
الفكر اللغوي الإغريقي:سقراط: حول الأسماء
باقر جاسم محمد
الحوار المتمدن-العدد: 1217 - 2005 / 6 / 3 - 13:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفصل الأول الفكر اللغوي الإغريقي سقراط : حول الأسماء ر وي هاريس Roy Harris تالبوت جي تايلور Talbot J. Taylor ترجمة: أ. باقر جاسم محمد هيرموجينـز: ها هو سقراط ؛ هل نجعله شريكا في مناظرتنا ؟ كراتيلوس: إذا كانت تلك رغبتك. هيرموجينـز:إن كراتيلوس ، وهو من تراه هنا يا سقراط ، يقول إن لكل شيء اسما مناسبا خاصا به، وهو ما منحته إياه الطبيعة ؛ فليس الاسم هو ما يطلقه الناس بالتواضع و العرف . إنه ليس سوى بعض من أصواتهم مخصص للشيء ، و لكن هنالك نوع من الصحة و المطابقة المتأصلة في الأسماء . و هو أمر صحيح لكل الناس سواء أكانوا إغريقيين أو من البرابرة. و لقد سألته إن كان اسمه هو هيرموجينـز حقا فوافق على أن اسمه كذلك." و ما اسم سقراط؟" قلت له؛ فأجاب: "سقراط". لذلك هل يمكن القول أن ذلك ينطبق على كل الناس و إن الاسم المخصص الذي ندعو به كل شخص إنما هو اسمه؟ وقد قال" حسنا، إن اسمك ليس هيرموجينـز ، حتى وإن ناداك كل الناس بهذا الاسم. محاورة كراتيلوس (ص 383) هكذا يبدأ أقدم تسجيل لأية مناظرة مطولة حول القضايا اللسانية الخلافية التي لبثت حية في الأدبيات الغربية. و مثل كل محاورات أفلاطون فأن محاورة كراتيلوس تقدم مناظرة أعيد بناؤها خياليا بين سقراط و محاوريه حول موضوع ذي أهمية للإغريقيين في أواخر القرن الخامس و أوائل القرن الرابع قبل الميلاد. و في هذه الحالة ، تقدم لنا المحاورة سقراط في حالة مناظرة حول " صحة الأسماء و ملاءمتها لما تسميه " مع محاورين أثنين هما هيرموجينـز و كراتيلوس.إن هيرموجينـز من أتباع الفيلسوف بارمنيدس . أما كراتيلوس فهو فيلسوف وصل به الأمر ، كما تذكر الحكاية الخرافية ، إلى عدم الثقة باللغة إلى الحد الذي تخلى فيه ، في نهاية المطاف ، عن استخدام الكلام كليا و تواصل مع الآخرين بوساطة الإشارات فحسب . لقد ولد أفلاطون (427-347 ق.م ) و ترعرع خلال فترة الثلاثين عاما التي استغرقتها الحرب البلوبونيزية التي انتصرت في خاتمتها إسبارطة على أثينا ؛ كما أن الديمقراطية الأثينية قد وضعت على محك التجربة بوصفها صيغة فاعلة للحكم. لقد أثرت هذه الظروف السياسية في صياغة حياة أفلاطون و عمله بثلاثة طرق: ( 1 ) فهي قد أدت إلى موت أستاذه المبجل سقراط الذي أدين في العام 399 ق.م لوجهات نظره الهدامة وذلك من قبل القادة الديمقراطيين الذين كانوا في السلطة في حينه( 2 ) وكانت المناسبة التي دفعت أفلاطون إلى أن يختار المنفى بعيدا عن أثينا لمدة أثني عشر عاما، وقد عاد إلى أثينا في العام 387 ق.م ، و ( 3 ) لكونها قد ألهمته رفض الديمقراطية و البحث العقلي عن الشكل الأمثل للحكم و للسلوك الشخصي. و عند عودته إلى أثينا قام أفلاطون بتأسيس مدرسته الأكاديمية خاصته ، و قد ألقى محاضراته هناك فيما بقي من حياته العلمية. و بوصفه أول فيلسوف بقيت كل كتاباته حية ، و بوصفه المصدر الأساس لمعرفتنا بتعاليم سقراط و طرائقه في الحجاج العقلي ، و بوصفه معلما لأر سطو، فأن لأفلاطون ثلاثة استحقاقات لدى المؤرخين . و كل واحد من هذه الاستحقاقات يضمن له مكانة متفردة في تطور الفكر الغربي. ففي محاورات أفلاطون ، الخيالية ظاهرا ، التي بلغت ذروتها في " الجمهورية " و " النواميس " يبدو سقراط في العادة بوصفه الناطق بوجهات نظر أفلاطون الخاصة . أما إلى أي مدى تتطابق وجهات النظر هذه في تفاصيلها مع تعاليم سقراط الشخص التاريخي فأن من الصعب تقرير ذلك بأية درجة من درجات الدقة. كما انه ليس من المعروف في أية مرحلة من مراحل عمل أفلاطون تمت كتابة محاورة كراتيلوس. و لا يتوضح السبب في كون كراتيلوس و هيرموجينـز مهتمين بمدى صحة الأسماء و ملاءمتها إلا بعد أن تبسط المناظرة و جهتي النظر . و لمتابعة ذلك يجب تقويم نقطتين عامتين تخصان: ( 1 ) التوريات الإغريقية ، (2 ) أقسام الكلام الإغريقية. و توضيح ذلك على النحو الآتي: (1) تختلف الثقافات في مواقفها إزاء اللعب بالكلمات . و إن الابتهاج الإغريقي المبكر باللعب بالكلمات سوف يصدم أي قارئ معتاد على أنماط التربية الغربية . فهي أما متأصلة في الشرق إلى حد ما أو يافعة إلى حد ما. إن السخرية من أسماء الناس أمر يفتقر إلى حسن الذوق ( على الرغم من أنه ، قبل بضعة أجيال كان كتاب من منزلة ديكنز منغمسين فيه ) فالسخرية من شخص طويل صادف أن اسمه (Short) ، أي قصير ، أو لوم شخص خال من الفطنة و كان اسمه (Bright ) ، أي ذكي ، تعد في هذه الأيام دلالة على الافتقار للذوق ، لكن التعبيرات الابتدائية الساخرة لكراتيلوس تقع في هذا الباب[1]. إن الزعم القائل بأنه ليس من الصحيح مناداة هيرموجينز باسم هيرموجينز قد استند إلى حقيقة أن هذا الاسم يعني لدى الإغريق مولود " من صلب هيرمس " [2] و هيرمس هو إله إغريقي كان يعد راعيا لرجال الأعمال و التجار و الصيارفة ، و من هنا فإن المعنى الضمني هو أن المرء يتوقع لمن يحمل اسم هيرموجينز أن يكون ذا حظوة في مجال القضايا المالية . و من الواضح إن ذلك لم يكن حال الشخص الذي يحاوره كراتيلوس . ذلك أن هيرموجينز هذا ، الذي كانت مغامراته المالية تبوء بالفشل دائما ، قد أعطي الاسم الخطأ . فهو إذن ليس الابن الحقيقي لهيرمس . وهذه السخرية الهينة من اسم هيرموجينز تبدو نقطة انطلاق صائبة تماما لمناقشة جدية لطبيعة اللغة . و لكن غرضها الوحيد هنا هو أن تؤدي إلى إثارة ملاحظ ناشئة عن تفكير عميق حول ما إذا كان هنالك أي معنى للقول أن الأسماء ( ملائمة ) أو ( غير ملائمة ) لمسمياتها . و هي مسألة ما زالت تشغل بال الكثير من الآباء و الأمهات في الوقت الحاضر عندما يختارون أسماء لأطفالهم و هو ما يضمن مبيعات ثابتة للكتب التي تزعم أنها توضح معاني أسماء بعينها من مثل جون أو ماري أو أليس.. الخ. إن المعتقد الشائع بأن للأسماء معاني مغلوطة تماما منتشر في كثير من الحضارات. ومن ناحية أخرى، فإذا كان للأسماء معاني حقا فإنه يبدو معقولا أن نتوقع أن معانيها يجب أن تكون على العكس من الشخص أو الشيء المسمى [3]. وإذا كانت هناك أسماء لها معان وأخرى ليس لها معان فإنه لن يكون عبثا أن نبحث لماذا كان الأمر كذلك. (2) عند قراءة محاورة أفلاطون، يجب أن نضع نصب أعيننا أن المصطلح الذي يترجم في الإنجليزية عادة بـ ((الاسم)) (onoma) يغطي ليس فقط أسماء العلم (proper names) من مثل هيرموجنزو سقراط ولكن ما يصنف في هذه الأيام بـ ((الاسم العام)) (common name) من مثل رجل، حصان، الخ. وعلاوة على ذلك فإن كلمة (onoma) قد كانت تستعمل أحيانا في الإغريقية بوصفها مصطلحا عاما لمصطلح كلمة (word). وفي كل الأحوال فإنه لم يكن ثمة تمييز تصنيفي نظامي بين الاسم الصحيح والاسم العام في الوقت الذي كان فيه أفلاطون يلقي دروسه في أثينا. ويبدو أن أفلاطون نفسه قد ميز اثنين نقط من أجزاء الكلام ؛ أحدهما الأسماء names)) والآخر هو ما يترجم عادة بالأفعال أو الأخبار (rhemata). لذا فإن مسألة فيما إذا كان هيرموجينز يدعى على نحو صحيح باسم هيرموجينز قد عولجت على أساس كونها ، من حيث المبدأ، لا تختلف عن مسألة فيما إذا كان الماء، مثلا، يسمى على نحو صحيح باسم الماء أو أن الذهب يدعى عن حق ذهبا. فكل الأسماء من هذه الناحية كانت على قدم المساواة. إن هيرموجينز يوضح وضعه الخاص في المناقشة كما يأتي: (بالنسبة لدوري، يا سقراط، لقد تحدثت غالبا مع كراتيلوس وكثير من الآخرين، ولم أستطع أن أصل إلى حكم نهائي بأن هنالك أي تلاؤم بين الأسماء ومسمياتها يتجاوز العرف والاتفاق. لأنه يبدو لي أنه مهما كان الاسم الذي تطلقه على الشيء فإنه هو الاسم الصحيح المناسب له، وإذا ما أقلعت عن إطلاق ذلك الاسم عليه وغيرته إلى اسم آخر، فإن الاسم الأخير لن يكون أقل ملائمة من الاسم الأول ، تماما كما نغير أسماء خدمنا، لأنني أعتقد أنه ليس ثمة من اسم يعود إلى شيء بعينه بالطبيعة، ولكن فقط بوساطة العادة و التقليد لأولئك الذين يستخدمونه والذين أرسو استخدامه.) (كراتيلوس ص 384) إن تلميح هيرموجينز إلى الخدم يذكرنا بأن أثينا في زمن أفلاطون قد كانت مجتمعا تسوده العبودية ولقد كانت عادة إغريقية شائعة أن يعطى العبيد أسماء جديدة عندما يدخلون في خدمة سيد جديد، ومن الممتع هنا أن هيرموجينز يورد هذه الممارسة الاجتماعية ليس بوصفها دليلا له صلة بموضوع المناقشة، وإنما هو يوردها على أنها أنموذج يكشف على نحو أكثر وضوحا من أي شيء آخر عن الطبيعة الاصطلاحية المحضة للأسماء. إن تفكيره الضمني هو كالتالي: إذا لم تكن الأسماء اصطلاحية محضة فكيف يتسنى لي أن أغير أسم عبد ما بوساطة مجرد قرار اعتباطي؟ إن حقيقة كوننا قادرين على فعل ذلك تظهر أن الأسماء في خاتمة المطاف تتقرر بواسطة نزوة الأفراد. إن سقراط لا يوافق على ذلك وإسهامه الأول في المناقشة هو مهاجمة الأطروحة القائلة أن الأسماء تمنح أو تغير بوساطة فعل الإرادة الفردية. ولقد كانت إستراتيجية المناظرة التي اختارها سقراط ممتعة، فهو لا يشير على هيرموجينز إلى أن تغيير أسماء العبيد حالة استثنائية وجانبية، كما أنه لا يشير إلى أن هيرموجينز لا يملك حرية تغيير أسماء من مثل الماء والذهب. وبدلا من ذلك يؤثر جدلا أكثر تعقيدا وقوة: سقراط: قد تكون على حق يا هيرموجينز، ولكن دعنا نرى إن كان أي اسم نقرر إعطاؤه لشيء بعينه هو اسمه. هيرموجينز: نعم. سقراط: سواء كان واهب الاسم شخصا مفردا أو طبقة اجتماعية. هيرموجينز: نعم. سقراط: حسنا إذن، أفترض أنني إذا أعطيت اسما لشيء ما أو سواه، مسميا، مثلا، ما ندعوه الآن بالرجل حصانا، وما ندعوه الآن بالحصان رجلا، فهل سيكون الاسم الحقيقي للشيء نفسه هو رجل بالنسبة للعامة وحصان بالنسبة لي شخصيا، وفي الحالة الثانية سيكون الاسم هو حصان بالنسبة للعامة ورجل بالنسبة لي شخصيا؟ أهذا هو المعنى الذي أردته؟ هيرموجينز: نعم، تلك هي فكرتي. سقراط: والآن أجب عن هذا السؤال. هل ثمة أي شيء مما يمكن أن تقول عنه أنه يتحدث بالحقيقة والزيف في آن معا ؟ و يوافق هيرموجينز على أنه يوجد مثل هذا الشيء. وهو بذلك يغلق الفخ الذي وضعه له سقراط بعناية. إن الدفع المتضمن في سؤال سقراط هو في الإشارة إلى أن النظرية الإرادية للأسماء (Volitional Theory) التي يناصرها هيرموجينز تؤدي مباشرة إلى استنتاج يتعارض مع الفطرة السليمة لأنها تثبت وتدعم الإقرار بوجود لغات عديدة شخصية يماثل عددها عدد الأفراد [4]. إن هذا التصور، و لأمر واحد فقط ، يجعل من فهمنا الاعتيادي للفرق بين الحقيقة والزيف عديم المعنى. فالمعتاد، حين يقول شخص ما(( إن للحصان أربع أرجل)) فإننا نعد هذا القول حقيقيا. ولكن إذا ما كان علينا تصديق هيرموجينز فإننا سنكون على الخطأ لأننا نعلم جميعا أن المتحدث ربما كان يتكلم لغة خاصة تكون فيها كلمة حصان أسما لما ندعوه بالرجل. وبناءا على ذلك فإن القول (( للحصان أربع أرجل)) ستكون زائفة.والآن فإننا ما إن نقر إن كلمة حصان يمكن أن تعني رجلا، أو أن سقراط يمكن أن يكون اسما لهيرموجينز فإن اللغة كما نفهمها عادة ستتحلل تماما ولن يكون باستطاعتنا أن نحكم فيما إذا كانت عبارات من مثل (للحصان أربع أرجل) أو ( سقراط متزوج من كزانيب) هي عبارات صحيحة أم زائفة. والأكثر سوءا أنه حتى كيفية تداولنا للغة ، مع تأسيس صحة أو زيف مثل هذه العبارات ، سيغدو أمرا غير واضح إذا ما كانت نظرية هيرموجينز في الأسماء سليمة. لذلك فإن هيرموجينز يجد نفسه مجبرا على إعلان انسحاب سريع وفي الحال. و في هذه المرحلة من المناظرة يبدو سقراط قد قام على نحو لا جدال فيه، بالبرهنة على أنه مهما كانت طبيعة العلاقة بين الشخص هيرموجينز والاسم هيرموجينز، أو بين الحصان وكلمة حصان، فإنه هناك أمر واحد واضح على الأقل: أنها علاقة لم يتم إرساؤها بوساطة أو استنادا إلى نعمة الأفعال الإرادية من أشخاص بأعيانهم. ولكن سيبرز الآن السؤال: إذن، ما الذي يشرع هذه العلاقة؟ إن بقية المحاورة ستكرس لاستكشاف مختلف الاحتمالات. أولا، يقول سقراط، يجب أن نبحث في طبيعة الملائمة التي يتوقع أن تكون للاسم ولكي نبرهن ذلك يجب علينا أن نسأل عن الغرض الذي تؤديه الأسماء. وهو يحث هيرموجينز على الموافقة على أن: ((للأشياء واقع ثابت من نوع ما خاص بكل منها. إنه واقع لا علاقة له بنا ولسنا من كان سببا له. فهي( الأشياء :المترجم) لا تختلف أو تتأرجح من ناحية إلى أخرى بانسجام مع أهوائنا ولكنها توجد بذواتها في علاقة مع واقعها الخاص الذي فرضته الطبيعة .)) (كراتيلوس ص 386) الأفعال كذلك صنف من أصناف الواقع: (( الأفعال أيضا يجري إنجازها استنادا إلى طبيعتها الخاصة، وليس استنادا إلى فكرتنا.)) (كراتيلوس ص 387) فمثلا لا نستطيع أن نقتطع قطعة خشب أو نحرقها ما لم نباشر العمل بانسجام مع طبيعة القطع والحرق. فنحن سنفشل في اقتطاع أي شيء ما لم نستعمل آلة قطع حادة، كما أننا سنفشل في حرق أي شيء بسكب الماء عليه لأن مثل هذه الأفعال لا تتقرر على وفق الإرادة البشرية . لا بل أن الإرادة البشرية يجب أن تعمل على وفق و استنادا إلى طبيعة الفعل إذا ما رغبنا في إنجازه بنجاح. ثم تأتي بعد ذلك الحركة الحاسمة في مناظرة سقراط. التكلم هو أيضا فعل والأسماء هي أدوات الكلام. فالتكلم بصورة صحيحة يستلزم استعمال أدوات الكلام بطريقة سليمة تماما مثلما يكون الاستعمال السليم للأدوات الأخرى جوهريا لأنماط الفعاليات المعينة التي صممت تلك الأدوات من أجلها. كيف إذن تؤدي الأسماء عملها حين تستخدم بشكل صحيح في التكلم؟. إن وظيفة الأسماء ، كما يزعم سقراط، هو أن تقوم بتقسيم و تفصيل الواقع لنا، وان تميز أحد الأشياء عما سواه، وأحد الأشخاص عمن يليه فالاسم هيرموجينز هو ما يميز الفرد هيرموجينز عن الأفراد الآخرين. ويثير سقراط مقارنة خيالية بين فعاليتي التكلم والنسيج. فهو يصف الاسم على أنه أداة تعلم وفعل الواقع كما يكون المكوك أداة فصل بين طبقات النسيج. (كراتيلوس ص 388) ولكي يؤدي الاسم هذه الوظيفة يجب أن يعد لهذا الغرض على نحو صحيح وذلك تماما مثلما يجب أن يعد المكوك إعدادا صحيحا لغرض النسيج فهو يجب أن يكون ذا شكل مناسب وإلا فإنه لن يعمل. إن كفاءة المكوك كما هو حال أية أداة أخرى، تعتمد على هيأته وهنا بدأ سقراط بمهاجمة الفكرة الأساسية الثانية في نظرية هيرموجينز : أنه ليس مهما أي اسم نعطيه للشخص أو الشيء وهذا الفرض، بالنسبة لسقراط، ليس طائشا فقط بل هو فرض سخيف. فاللغة التي نتحدث بها قد رسخت قبل أن نولد بزمن بعيد، ونحن لا نعرف من اخترعها كما لا يعرف النساج من هو الذي اخترع النول، ولكننا في كلتا الحالتين نستطيع إلى حد ما، أن نقرر ماذا كان في ذهن المخترع، وذلك بواسطة فحص تصميم الاختراع فحسب ولأغراض سجالية، يقدم سقراط في هذا الموضع المخترع الخرافي للغة والذي يسميه ببساطة (( صانع الأسماء )): (the name maker) وصانع الأسماء لا يختار الأسماء اختيارا عشوائيا محضا، مثله في ذلك مثل مخترع النول الذي يجمع عشوائيا مجموعة أشياء ثم يصنع منها ماكينة للنسيج وبناءا عليه، فإذا أردنا أن نبحث في ملائمة الأسماء لمسمياتها يجب أن نحاول اكتشاف كيف صمم ، أصلا ، صانع الأسماء تلك الأسماء. (( لأنه يعرف كيف يجسد في الأصوات والمقاطع ذلك الاسم الذي جعل ليتلاءم بالطبيعة مع كل شيء)) (كراتيلوس ص 389) وقبل أن نكمل أكثر فإنه يجدر بنا أن نلاحظ كيف إن قياس التمثيل مع النسيج قد مكن سقراط أن يقدم بحركة واحدة عددا من الأفكار المستقلة عن بعضها تماما حول اللغة: (1) أن اللغة ذات هدف، (2) وأن هدفها منعكس في تصميمها، (3) وأن اللغة أمر تم اختراعه، (4) وان أجزاءها تتناسب مع وظيفتها، (5) وأنها لا تعمل إذا كانت خلاف ذلك ، (6) وأنه لكي يتاح لنا تشغيلها على نحو صحيح فإن ذلك يتطلب منا أن نفهم تصميمها. إن السلك الناظم في كل هذه الأفكار هو ذلك المستمد من الوظيفية (Functionality) التي يفترض أنها تستلزم العقلانية (Rationality) [5]. وبالتضمن فإن نظرية هيرموجينز في الأسماء مسبوكة في وظيفة النظرية التي تمثل اللغة بوصفها لا عقلانية و تصادفية وطارئة. هذا هو السبب الذي جعل سقراط لا يحتاج إلى أن يرد مباشرة بالبينة والحجة النقطة التي أثارها هيرموجينز في أن أي سيد يمكن أن يغير اسم عبده، فالقياس التمثيلي مع النسيج ينقل المناظرة بكاملها على مستوى مختلف ؛ ولسوف يكون من الخطأ أن نفترض أن سقراط يتوقع أن يتم تناول القياس التمثيلي حرفيا: فاللغة ليست نولا وليست اختراعا ماديا من أي نوع ، ولكن سقراط في الواقع يقول: إذا ما أردنا البحث في اللغة، فيجب علينا الافتراض أنها ذات طبيعة وظيفية. وخلاف ذلك فإنه ليس ثمة ما يوجب البحث فيه. وعلى نحو مشابه، فما إذا لم نفترض أن النول ذا طبيعة وظيفية فإن السؤال لماذا وضع بهذا الشكل لن يكون ذا معنى. ولذلك فإنه أمر مخالف للعقل أن نبدأ بنظرية مثل نظرية هيرموجينز لأن من شأن الزعم أن الأسماء يمكن أن يتم تغييرها عشوائيا وبوساطة نزوة فردية إنكار مسبق لوظيفية اللغة ببساطة. وذلك مما سيتركنا بدون أساس للبحث البتة. إن الوظيفية، إذن، تعني ضمنيا أن الشكل ليس تصادفيا ولكنه قد صمم ليخدم غرضا. ما الذي يجعل شكل اسم ما مناسبا لغرض ما أكثر من شكل اسم آخر؟ هذا هو ما سيأخذنا إلى الخطوة القادمة من مناظرة سقراط. إنها تقدم الفكرة القائلة أن الكلام يمثل أو يصور الواقع. وعلى ذلك فإن الاسم سيكون قد صمم على نحو حسن إلى الدرجة التي تجعله يمثل بصورة صحيحة ما يشير إليه. (وهذا يلزم بالضرورة من الفرض المسبق الأصلي القائل أن الكلام يتطلب وجود الأسماء حتى يمكن الفصل والتمييز بين أشياء الواقع المختلفة التي نرغب في الكلام حولها) فمثلا، يقول سقراط ، يخبرنا هوميروس أن ابن هيكتور كان معروفا باسمين: أستيناكس وسكاماندريوس. ولكن الأول هو الأكثر ملائمة من الاسم الأخير، لأن أستيناكس يعني ( أمير المدينة) و هيكتور يعني المالك وكلاهما اسمان مناسبان للملوك، لأن من طبيعة الملك أن يورث ملكية المدن التي يمارس الملك حكمه عليها إلى الابن الذي سيمارس حكمه عليها من بعد أبيه . ثم يتابع سقراط لإعطاء مثال على هذا المبدأ بمناقشة أسماء أشخاص أخرى استعملها هوميروس. بيد أن أسماء الأشخاص ليست أدلة موثوقة وثابتة، لكونها تمنح من الأبوين اللذين هما نفسيهما عرضة للخطأ. لذلك فإن البحث يجب أن يجري توسيعه ليشمل كلمات إغريقية أخرى. يقول سقراط: (( الاحتمال الأكبر أن نجد الأسماء الملائمة في طبيعة ما هو خالد ومطلق ، لأنه هناك يجب أن تعطى الأسماء بأعظم درجات الحرص، وربما أن بعضها تمنحه قوة أسمى من تلك التي للإنسان)). (كراتيلوس ص 397) ثم تلي ذلك مناقشة طويلة ومفككة لأصول الكلمات، وفيها يختبر هيرموجينز براعة سقراط وذلك بسؤاله أن يوضح معاني مختلف أنواع الكلمات وبعض أصول الكلمات التي تم تدقيقها كانت غير مقنعة إلى حد بعيد. فمثلا كلمة بطل (hero) قد جرى توضيح أصلها بربطها بآلة الحب (Eros)، على أن أساس البطولة في نتاج الحب بين الآلهة والبشر الفانين . أما إلى أي مدى كان سقراط جادا في تعامله مع أصول المفردات التي اقترحها فذلك ليس واضحا بتاتا. فبعضها قد جرى تقديمه بجرأة قد تصل إلى حد القحة وفي بعض الأمثلة الأخرى كان سقراط فقط يعيد التفسير التقليدي للاسم. ففي تفسير اسم أفروديت (Aphrodite) بوصفه اسما مناسبا للآلهة التي ولدت من الزبد (aphros) فإنه ببساطة يورد الرواية التي كان هيزيود قد قدمها سابقا . إن الاشتغال في البحث في أصول الألفاظ، كما يبدو، هو جانب آخر فقط من جوانب ولع الإغريق التقليدي باللعب بالألفاظ. فسقراط يذكر أحيانا أصول ألفاظ متضاربة، وهو لا يعرف اختيار أي منها. وأثناء المناقشة يبدو واضحا أن الإغريقيين في زمن أفلاطون كانوا مدركين تماما أن لفظ وتهجي اللغة الإغريقية قد تغير عبر القرون. ويظهر سقراط دائما وكأنه يفترض أن شكل الكلمة الأقدم هو أكثر ملائمة وصحة من الشكل اللاحق. وكانت التفسيرات التي قدمت للتغيرات التي تمت ملاحظتها لا تعدو الإيحاء بأن التلفظ قد تغير أحيانا لأسباب خاصة تتعلق بسهولة النطق. وقد كان سقراط مدركا أيضا أنه ليست كل الكلمات في الإغريقية هي ذات اصل إغريقي وهو يقر أن المعاني الأصلية لهذه الكلمات ينبغي تحريها بالرجوع إلى اللغة التي استعيرت منها. وفي هذا الصدد فإن بحث سقراط في أصول الألفاظ لا يفتقر إلى النقد الذاتي فهو يلحظ أنه من السهولة بمكان أن يزعم المرء أن لفظة ما ذات أصل أجنبي حين يعجز المرء عن إيجاد أصل إغريقي واضح لها. وهو يلحظ أيضا أن هناك حدودا للاستشهاد بتغيير طريقة اللفظ لإسناد وتدعيم تعليل المرء التقليل من شأن عدم تناسب الأصوات الصحيحة وأصوات العلة: سقراط: ...أعتقد أن ذلك نوع من عمل أناس لا يأبهون قط بالحقيقة، وإنما يعنون فقط بأشكال أفواههم لذلك فهم ما انفكوا يضيفون إلى الكلمات الأصلية حتى نصل في خاتمة المطاف إلى حالة لا يدرك فيها أي إنسان ما تعنيه أية كلمة في هذا العالم ... هيرموجينز: نعم، ذلك صحيح يا سقراط. سقراط: وإذا ما سمح لنا أن ندخل أو نحذف ما يعجبنا من حروف في الكلمة، فإن من السهولة التامة جعل أي اسم يلائم أي شيء . (كراتيلوس 414)
(إن سقراط يستبق هنا، نقد فولتير الساحر لعلم أصول الألفاظ بوصفه علما تساوي فيه الأصوات الصحيحة شيئا قليلا بينما لا تساوي أصوات العلة شيئا على الإطلاق). وفي هذا الوقت ربما بدأ القارئ يشك في أن البراعة نفسها التي ينتج فيها سقراط توضيحات تأصيلية لمعاني الألفاظ إنما هي مقصودة بوصفها دليلا غير مباشر لأطروحته الخاصة، وأن هيرموجينز، سيئ الحظ لكنه كان يقاد من أنفه.. وسقراط نفسه يكاد يقترب من الاعتراف بهذا وفي خاتمة المطاف يسلم بان مثل هذه التوضيحات تصل إلى نهاية ما. إن الباحث في أصول الألفاظ يجب أن يتخلى عن بحثه الذي يجب أن يحل مكانه طريقة بحث أخرى. سقراط: والآن في أية نقطة سيكون على صواب ويقلع عندها ويتوقف؟ أليست هي عندما يصل إلى الأسماء التي هي عناصر لأسماء وكلمات أخرى؟ ولهذا إذا كانت هي العناصر، لم تعد تظهر على نحو صحيح على أنها مؤلفة من أسماء أخرى.. فإذا ما توصلنا إلى كلمة هي ليست مؤلفة من كلمات أخرى فإننا سنكون على صواب في قولنا أننا قد توصلنا إلى عنصر في الأقل وأننا لا يجب أن نشير إلى كلمات أخرى لغرض اشتقاقها [6]. هيرموجينز:اعتقد أنك على صواب . سقراط: إذن، هل أن الكلمات التي تسأل عنها الآن هي عناصر وأننا يجب ، ومن الآن، أن نبحث في صحتها بطريقة أخرى؟ (كراتيلوس ص 422) وعلى هذا النحو يكون هيرموجينز الذي عانى طويلا قد وصل أخيرا إلى الموافقة على أننا لا نستطيع أن نأمل بإيضاح صحة الكلمات بواسطة الإشارة إلى كلمات أخرى فحسب. ففي نهاية الأمر فإن مثل هذا التوضيح سيكون دوران في حلقة مفرغة فضلا عن كونه لن يكون متوافقا مع العلاقة بين الاسم والواقع المادي للشيء المسمى. فيجب أن نبحث عن مبدأ توضيحي إضافي وهو مبدأ لا يفترض مسبقا ارتباطات بين كلمة وكلمات أخرى. ولكن ماذا يمكن أن يكون مثل هذا المبدأ؟ سقراط: حسنا إذن، كيف أمكن للأسماء الأكثر قدما التي لم تبن بعد على أية أسماء أخرى، كيف يمكن لها أن توضح لنا طبيعة الأشياء على النحو الذي كان فيه ذلك حكمنا، والذي يجب أن ننجزه إذا ما كانت أسماء البتة. أجب عن سؤالي هذا: إذا لم تكن تملك صوتا أو لسانا ورغبنا أن نوضح الأشياء لبعضنا ألا يجب علينا أن نحاول كما يحاول الخرس فعليا، عمل إشارات بأيدينا ورؤوسنا وجسمنا عامة؟ هيرموجينز: نعم، أتوجد ثمة طريقة أخرى ، يا سقراط؟ سقراط: إذا ما رغبنا أن نسمي ذلك الأمر السامي واللطيف، فيجب كما أتصور، أن نرفع أيدينا نحو السماء في تقليد لطبيعة الشيء الذي نبحث فيه ولكن إذا ما كانت الأشياء التي يجب ان نسميها هي هابطة وثقيلة، فيجب أن تطول أيدينا باتجاه الأرض، وإذا ما رغبنا في أن نذكر وضع حصان وهو يعدو خببا أو أي حيوان آخر، فيجب طبعا، أن نجعل مواقفنا البدنية على أكبر قدر مستطاع من المماثلة مع وضعها نفسه. هيرموجينز:نعم. سقراط: حين نرغب في التعبير عن أي شيء بالصوت أو باللسان أو الفم، أليس تعبيرنا بهذه الوسائل يمكن أن يتم في أية حالة معينة حينما يكون تقليد شيء ما قد أنجز بوساطتها؟ هيرموجينز: أعتقد أن ذلك أمر محتوم. سقراط: فالاسم إذن، كما يبدو إنما هو تقليد صوتي لما يراد تقليده، والشخص الذي يقلد بصوته إنما يسمى ذلك الشيء الذي يقلده. (كراتيلوس ص 422) و على أية حال ، فأن ما يقصد بتقليد الأسماء ، كما يقول سقراط ، لا يعني ترجيع صدى نداءات الحيوانات و الطيور و إنما شيئا مختلفا تماما. فالمقصود هو تمثيل للطبيعة الجوهرية لكل شيء بوساطة الربط بين أصوات مناسبة. وكما يفعل الرسامون حين يرغبون في إنتاج تقليد ما، فإنهم أحيانا يستعملون الأحمر فقط، وأحيانا لونا آخر، وأحيانا يخلطون عدة ألوان كما يفعلون عندما يقومون بعمل صورة لرجل أو شيء ما، مستخدمين كل لون ،كما أفترض، وفقا لما تتطلبه الصورة المعينة . هكذا نحن نفعل ذلك و بالطريقة نفسها أيضا، يمكن أن نطبق الحروف على الأشياء مستعملين حرفا واحدا لشيء واحد، عندما يبدو ذلك مطلوبا أو حروفا عدة معا لتشكل مقاطع، كما تسمى، كما أن ذلك يليه ربط المقاطع. (كراتيلوس ص 424) يبدي سقراط بعد ذلك ملاحظات حول التحليل التأملي للأسماء الإغريقية لغرض اختبار الفرضية القائلة بأن تركيبها مبني على مبادئ المحاكاة والتقليد. وفي دفاعه عن هذا المنحى يقول: يخيل إلي أن الأمر سيدعو للسخرية إذا قلنا بأن الأشياء يتم إظهارها عبر التقليد بالحروف والمقاطع، على الرغم من انه لا يمكن أن يكون غير ذلك لأنه لا توجد نظرية أفضل يمكن أن نؤسس عليها حقيقة الأسماء الموغلة في القدم، ما لم نعتقد أنه من الأفضل لنا أن نتبع مثال الشعراء المأساويين الذين عندما يقعون في مأزق يلجئون إلى إدخال الآلهة على آلة إلى المسرح [7] وبذلك يمكن أن نخرج من المشكلة بالقول أن الآلهة هي منحت الأسماء المغرقة في القدم ولذلك فهذه الأسماء صحيحة. أتلك هي أفضل نظرية لدينا؟ أم هذه التي ترى أننا حصلنا على الأسماء من شعب أجنبي وأن الأجانب هم أكثر إيغالا في القدم منا؟ أو تلك التي ترى إن من الممكن أن نبحث في الأسماء بسبب من قدمها كما هي الحالة مع الكلمات الأجنبية؟ كل هذه ليست سوى معاذير لبقة جدا من جانب أولئك الذين يرفضون أية نظرية عقلية لصواب الأسماء الموغلة في القدم وصحتها. (كراتيلوس ص 425) و يبدأ سقراط تحليله بالصوت الصامت/ r/ الذي يعده أداة معبرة عن كل حركة ويشير إلى أنه يقع في كلمات إغريقية تعني "تدفق" و " تيار" و "اهتزاز" و"ركض" الخ. والسبب في هذا التلاؤم، يقول سقراط ، هو آن اللسان يكون في أقل حالات الاستقرار وأكثر حالات القلقلة عندما يلفظ هذا الحرف . أما الصوتان الصامتان /d/ و/t/ من جهة ثانية، و بسبب الضغط والتشديد على اللسان فإنهما يتلاءمان طبيعيا كمحاكاة لفكرة الربط والراحة، وفي حالة الحرف الصامت / l/ يكون حركة اللسان انزلاقية سلسة وهذا الحرف الصامت موجود في كلمات إغريقية تعني "الانزلاق" و"مستوى" و"نعومة" و "ملامسة" الخ . كما أن الصوت الصائت (الحركة) /o/ يتلاءم مع التعبير عن الاستدارة وهكذا . وعلى هذا النحو، يفترض سقراط أن مانح الاسم يقوم أصلا بعمل:وبواسطة الحروف والمقاطع ،اسم لكل شيء، ومن هذه الأسماء فإنه يقوم بتركيب كل ما تبقى من أسماء بالمحاكاة. وهذا كما يبدو لي يا هيرموجينز هو ما يكون نظرية صحة الأسماء.. (كراتيلوس ص 427) وفي الشكل النهائي، ستكون لدينا نظرية من مرحلتين.الأساسية تبنى فيها الأسماء بوساطة عملية محاكاة وعبر ترابط الأصوات الذي يحتذي ويماثل الطبيعة الأساسية للشيء المسمى وهذه العملية قد بنيت على أساس من الملفوظات الفسلجية للأصوات المفردة موضع البحث. وحالما تستقر هذه الأسماء الأولية فإن الذخيرة تتوسع بعد ذلك بوساطة ربطها في مركبات ذات معنى استنادا إلى معانيها الأولية. و بعد أن يقدم توضيحا لهذه النظرية في هذا المخطط الأولي، ينطلق سقراط الآن لاختبارها. وعند هذه النقطة من تركيب المحاورة يستبدل هيرموجينز بكراتيلوس بصفته محاور سقراط الأساسي. وتعود المحاورة إلى رأي كراتيلوس الذي دافع عنه أصلا والقائل بان مناداة هيرموجينز باسمه أمر يفتقر إلى الصواب، و يبدأ سقراط مرة أخرى بالمناقشة التي تنبع من ضرورة التمييز و التفريق بين الحقيقة والزيف : سقراط: ماذا عن اسم صديقنا هيرموجينز الذي ذكر قبل قليل، أيجب أن نقول انه ليس اسمه على الإطلاق، ما لم يكن هو من جنس الهرامسة، أو أنه اسمه ولكنه غير صحيح؟. كراتيلوس: أعتقد يا سقراط أنه ليس اسمه على الإطلاق، يبدو أنه اسمه، ولكنه حقا اسم شخص آخر يمتلك الطبيعة التي تجعل الاسم كاملا غير منقوص. سقراط: وحين يقول شخص أن صديقنا هو هيرموجينز أليس يقول أمرا يصل حد البهتان؟ لأن من المحتمل ألا يكون ممكنا القول أنه هو هيرموجينز إذا لم يكن كذلك. كراتيلوس: ماذا تعني؟ سقراط: أتقصد القول أنه ليس ممكنا الكلام بالبهتان قط؟ لأن هنالك ، يا صديقي كراتيلوس العزيز ، الكثير ممن يقومون بذلك والذين فعلوا ذلك في الماضي. كراتيلوس: لماذا يا سقراط، وكيف نفترض أن بإمكان أي شخص أن يقول ما يقول وتقول أنه ليس كذلك؟ أوليس البهتان والكذب هو القول بغير ما هو كائن؟ سقراط: إن حجاجك العقلي هو أكثر ذكاء من أن احتمله في عمري هذا، يا صديقي، ومع ذلك أخبرني بالآتي: أتعتقد أن من الممكن أن يتحدث المرء بالكذب ولكن دون أن ينطق به؟ كراتيلوس: لا الكلام بالكذب ولا الزعم به ولا القول (بالبهتان) . سقراط: ولا لفظه أو استعماله بوصفه صيغة للخطاب ؟ فمثلا، فإذا ما التقى بك شخص بأسلوب مضياف، وأمسك يدك وقال: مرحبا بك يا صديقي من أثينا، كراتيلوس وابن سميكريون [8] . أيمكن أن يكون قد قال هذه الكلمات أو لفظها أو وجهها ليس لك ولكن إلى هيرموجنز أو ليس لأي أحد؟ كراتيلوس: أعتقد يا سقراط أن الرجل قد كان ينتج أصواتا دون معنى سقراط: وحتى هذا الجواب مرحب به، لأنني يمكن أن اسأل فيما إذا كانت الكلمات التي أحدثها صادقة أو كاذبة، أو هي صادقة جزئيا وكاذبة جزئيا ، حتى هذا سيكون كافيا. كراتيلوس: ينبغي أن أقول إن الرجل في هذه الحالة قد كان يحدث ضجة، ويقوم بذلك بوساطة حركات لا غاية لها كما لو أنه كان يطرق على قدر من البرونز. (كراتيلوس ص 429-430)
ولكن سقراط لا يرضى بهذا الجواب، ويلاحق المسألة بالتوسع في القياس باللغة والرسم ( التصوير) تماما كما يمكن إن نخطئ في نسبة صورة شخصية إلى فرد ما، السبب من كونها مشابهة حقيقة لشخص آخر، كذلك يمكن أن نرتكب خطأ في نسبة اسم ما. إن النسبة الصحيحة في كلتا الحالتين هي في أن يعزى لأي شيء ما يمكن أن يكون عائدا له و يماثله : سقراط: أنا أدعو ذلك النوع من النسبة في كلا النوعين من المحاكاة ، الصور والأسماء ، صحيحا، وفي حالة الأسماء فإنه ليس صحيحا فحسب بل حقيقيا، وأما النوع الثاني الذي يعطي ويطبق محاكاة غير مماثلة فأني ادعوه غير صحيح وفي حالة الأسماء ، كاذب، زائف. كراتيلوس: ولكن يا سقراط، قد يكون أن النسبة غير الصحيحة تلك ممكنة في حالة التصوير وليس في حالة الأسماء التي يجب أن تنسب دائما على نحو صحيح. سقراط: ماذا تعني؟ ما الاختلاف بين الاثنين؟ ألا أستطيع أن أتقدم نحوه و أقول له هذه صورتك الشخصية واريه ربما شبيهه أو ربما صورة لامرأة؟ وأعني بكلمة أريه أن أضع أمام ناظريه. كراتيلوس: بالتأكيد. سقراط: حسنا إذن، ألا أستطيع أن أتقدم إلى الرجل نفسه مرة أخرى وأقول له، ((هذا هو اسمك)) ؟ الاسم محاكاة، هو الحال بالنسبة للصورة. حسنا جدا ، ألا أستطيع أن أقول له : هذا هو أسمك ثم بعد ذلك أضع أمام حاسة سمعه ما يمكن أن يكون محاكاة له زاعما انه رجل، أو ربما محاكاة لأنثى من الجنس البشري، زاعما أنها امرأة ؟ (كراتيلوس ص 430-431) إن هذه المناقشة تكبح شكوك كراتيلوس فيسلم بأن سقراط على صواب ، ويلاحق سقراط الآن، عملية القياس. إن بعض صور الأشخاص أفضل من سواها والشيء ذاته يفترض أن يكون صادقا في حالة الأسماء. سقراط: فإذا ما قارنا ، تبعا لذلك، الأسماء الأقدم بتخطيطات الصور الأصلية، فهذا أمر ممكن في الكلمات كما في الصور، لإعادة إنتاج جميع الألوان والأشكال أو ليس جميعها ، قد يكون بعضها يتطلب وبعضها يضاف، وربما تكون مفرطة في العدد أو في الضخامة ، أليس ذلك صادقا؟ كراتيلوس: نعم إنه كذلك. سقراط: إذن، فإن الشخص الذي يعيد إنتاجها كلها، ينتج مخططات وصور جديدة وأما الشخص الذي يضيف أو يحذف فإنه ينتج أيضا مخططات وصور، ولكن من نوعية سيئة. كراتيلوس: نعم. سقراط: وماذا عن ذلك الذي يحاكي طبيعة الأشياء بوساطة الحروف والمقاطع؟ فوفقا للمبدأ نفسه، إذا ما أعطى كل ما هو ملائم، فإن الصورة المتخيلة بكلمات أخرى، الاسم- ستكون جيدة، وإذا ما حذف قليلا في بعض الأحيان، فإن النتيجة ستكون صورة متخيلة، ولكن ليست جيدة، ولذلك فإن بعض الأسماء حسن والبعض الآخر قد أعد إعدادا سيئا. أليس ذلك صادقا؟ (كراتيلوس ص 431) ومع ذلك فإن كراتيلوس نزاع إلى الشك في الأمر ويجادل بأن التهجي الصحيح ليس مسألة تقريبية لأن هنالك طريقة واحدة فقط لتهجي اسم ما على نحو صحيح. كراتيلوس: ولكن كما ترى يا سقراط، فحينما ننسب استنادا إلى علم النحو، هذه الحروف ألفا، باء، والبقية [9] ،إلى الأسماء، وإذا ما أقصينا أو أقحمنا أي حرف فإن ذلك لا يعني إن الاسم قد كتب مطلقا، ولكنه سيغدو في الحال كلمة أخرى إذا ما حصل له شيء من ذلك. سقراط: ربما لسنا ندرس المسألة بطريقة صائبة. كراتيلوس: لم لا؟ سقراط: قد يكون ما تزعمه يكون صادقا بالنسبة لتلك الأشياء التي يجب أن تتألف من عدد معين أو قد توقفت عن أن تكون، كما في العدد عشرة أو أي رقم تحب، فإذا ما أضفت أو طرحت أي شيء، فإن الناتج هو عدد آخر ؛ ولكن ذلك ليس هو نمط الصواب الذي ينطبق على النوعية أو على الصور المتخيلة عموما، وعلى العكس، فإن الصورة المتخيلة لا يجب في كل الأحوال أن تعيد إنتاج خصائص كل ما تحاكيه، إذا ما كان لها أن تكون صورة. تثبت من كوني لست صائبا. أيمكن أن يكون هنالك شيئان ، كراتيلوس وصورة كراتيلوس، فإذا لم يتوجب على مبدع ما أن يحاكي اللون والشكل كما يفعل المصورون، ولكن يجب أن يصنع كل الأجزاء الداخلية المشابهة لما لديك من أجزاء داخلية، ويجب أن يعيد إنتاج المرونة و الحيوية والدف نفسيهما ويجب أن يصنع فيهما الانفعال، والحياة والعقل، كما هو موجود لديك، وباختصار يجب أن يضع إلى جانبك، نسخة مكررة من كل الخصائص والسجايا؟ أ فيكون هنالك في مثل هذه الحادثة كراتيلوس وصورة كراتيلوس أم كراتيلوسان؟ كراتيلوس: يجب أن أقول ، يا سقراط، إن هنالك كراتيلوسين. سقراط: وإذن، ألا ترى يا صديقي إننا يجب أن نبحث عن مبدأ آخر للصواب في الصور المتخيلة والأسماء الذي كنا نتحدث فيه، ولا يجب أن نصر أنها لم تعد بعد صورا إذا ما أعوزها شيء وأضيف عليها شيء آخر؟ (كراتيلوس ص 2-431) إن المشكلة هي أننا حالما نسمح بدرجات من المماثلة، إما في الأسماء أو في الصور فسيغدو من غير الواضح أي معايير للتشابه يجب أن تطبق في أحوال معينة . والأسوأ من ذلك أننا يجب أن نعرف بوجود عدم التشابه بين المادة التي هي تمثيل وما تمثله. فمثلا، إذا كان الحرف الصحيح /r/ يمثل حركة منزلقة فإن من الممكن الافتراض أنه ليس له من وظيفة ملحوظة في الكلمة الإغريقية التي تعني " صلب " (Skleron) ومع ذلك فإن له مثل هذه الوظيفة. سقراط: ومع ذلك ألا نفهم بعضنا بعضا حينما يقول أي منا كلمة ( Skleron ) مستعملا التلفظ الحالي أو لا تعرف الآن ما أعني؟ كراتيلوس: نعم . ولكن ذلك بحكم العادة يا صديقي. سقراط: بقولك (العادة) (costom) هل تعتقد أنك تقول شيئا مختلفا عن العرف (Convention) ؟ إلا تعني بقولك العرف أنه عندما أتكلم فإن لدي معنى محددا وأنك تدرك أن لدي ذلك المعنى؟ (كراتيلوس ص 434) في اللحظة التي يذعن فيها كراتيلوس لهذا فإنه من ناحية أخرى يبدو قد أخضع إلى نظرية الاتفاقية للأسماء بالدرجة نفسها التي كان عليها هيرموجينز . وفي الحال يدفع سقراط النقطة نحو الإقناع بأن يبرهن أنه من الصعب في كثير من الحالات أن نرى كيف يمكن للمشابهة أن تجسد في الأصوات. سقراط: لأنه، يا صديقي، إذا ما حصرت انتباهك بالأرقام فأين في اعتقادك بإمكانك أن تتحقق من تطابق الأسماء مع كل رقم مفرد اعتمادا على مبدأ المشابهة، ما لم تسمح بالاتفاق والعرف من جانبك لكي تستوثق من صحة الأسماء؟ أنا نفسي أفضل النظرية القائلة بأن الأسماء، في أفضل حالاتها الممكنة ، تشبه الأشياء التي تسميها ولكن ، أحقا أن هذه القوة الفاتنة للمشابهة هي كما يزعم هيرموجينز، شيء بائس ونحن مجبورون لاستعمال العرف فضلا عن هذه الذريعة الشائعة وذلك لنرسخ ونبرهن صحة الأسماء ربما تكون اللغة، في حدود الممكن ، ممتازة على نحو لا نظير له حينما تكون كل حدودها ومصطلحاتها، أو أكبر عدد ممكن منها، قد بنيت على المشابهة وهذا ما يمكن أن يوصف بأنها ملائمة، وهي في أقصى حالات النقص حينما تكون في ظروف مضادة. (كراتيلوس ص 435) إن الموضوع الأخير الذي تمت مناقشته في هذه المحاورة هو فيما إذا ، في نطاق وجهات النظر المتشكلة هذه، كان من الراجح أن نفترض أن الاسم هو دليل معتمد لطبيعة الشيء المسمى. ويبرهن سقراط أننا لا نستطيع أن نسلم جدلا أن الواهب الأول للاسم قد كان دائما على صواب في فهمه للعالم. سقراط:فإذا ما افترضنا أن واهب الاسم قد أخطأ في مبتدأ الأمر، وهو بذلك سيكون أجبر كل الأسماء الأخرى في سياق توافق مع خطأه الابتدائي. فليس ثمة من أمر مستغرب في ذلك فالحال هو كذلك تماما في بعض الأشكال الهندسية، فالخطأ الابتدائي أمر هين ولا يمكن ملاحظته ولكن الاستدلالات العديدة ستكون خاطئة رغم توافقها. (كراتيلوس ص 436) وفضلا في ذلك فإننا لا نفترض أن البحث في الأسماء هو المدخل الوحيد لاكتشاف طبيعة الواقع : لأن الذي منح الاسم أصلا، في أقل تقدير لا بد انه قد استعمل طريقة أخرى بما أنه لم تكن لديه أسماء مسبقة توجهه، وهذه الطريقة البديلة ليست سوى البحث المباشر في الأشياء نفسها. سقراط: وإذن ، أيجوز الافتراض أن الأمر سيكون صادقا حقا كون الأشياء يمكن أن تعلم إما بوساطة الأسماء أو من خلال كينونتها هي التي تمثل طريقة أفضل وأكثر موثوقية لمعرفتها؟ أن نتعلم من الصورة سواء أكانت بذاتها محاكاة جيدة وأن نتعلم أيضا الحقيقة التي تحاكيها هذه الصورة ، أو أن نتعلم من الحقيقة نفسها كذلك فيما إذا كانت الصورة قد أنجزت على نحو سليم؟ كراتيلوس: أعتقد أن من المؤكد أفضلية التعلم من الحقيقة. (كراتيلوس ص 439) لقد أصابت الحيرة كثير من المعلقين والشراح الذين تصدوا لهذه المحاورة لكونها غير قابلة لأن توضع في مكان بعينه في منظومة أعمال أفلاطون الفلسفية الشاملة و لصعوبة ما تهدف إليه مناقشاتها المتذبذبة . ذلك أنه في نهاية المطاف لا يتم إثبات أي من النظريتين اللتين قدمها كل من كراتيلوس و هيرموجينز،كما أن الحل الوسط النهائي لا يكاد يرقى إلى درجة أن يكون مقصودا بوصفه جوابا مقنعا للمسألة الأصلية. وعلى أية حال فإنه سيكون من الخطأ أن نعامل (كراتيلوس) بوصفها عملا صغيرا أو تمهيدا لم ينجز فيه أفلاطون صياغة وجهات نظره حول اللغة بعد. إن مقاومة سقراط الرائعة الجلية للانصياع أما إلى جانب كراتيلوس أو هيرموجينز ستكون هي مفتاحنا الأمثل لمقاصد أفلاطون. ويجب أن لا ننسى أنه طوال محاولات أفلاطون كان سقراط بشكل دائما في معارك كلامية مع السوفسطائيين [10] ، أولئك المتحدثون اللبقون في العالم الإغريقي القديم، وهو معني بشكل خاص بفحص وتكذيب وجهة النظر السوفسطائية التي ترتبط خصوصا ببروتاجوراس والقائلة بأن الصدق والحقيقة وهم. وبحث سقراط ليس سوى سعي لا يلين لبلوغ الحقيقة بوساطة السؤال والجواب : فإذا كانت الحقيقة وهما فإن هذا البحث سيكون عديم الفائدة. لقد قدم السوفسطائيون برنامجا تعليميا مختلفا تماما في روحه وهدفه عن برنامج سقراط. وهو البرنامج الذي أسهمت جوانب عديدة منه في إنجاز الوظائف التي طورت لاحقا في الجامعات في أوربا منذ القرون الوسطى وإلى العصر الحديث فالذين يحضرون محاضرات السوفسطائيين قد كانوا يبحثون أساسا عن تدريب يمكن أن ينهض بهم وينفعهم في الحياة العامة، وفي اليونان التي عاش فيها أفلاطون، فإن المفتاح لمثل هذا يكمن في مهارات الحديث إلى الجماهير. إن موقف أفلاطون الأساسي تجاه السوفسطائيين يجب أن يوضع في سياق وجهات نظرة سياسية . إن المؤسسين المدينتين الرئيسيين في دولة المدينة الديمقراطية وهما الجمعية والمحاكم القانونية، قد كانتا كلاهما مؤسستين يعتمد النجاح فيها على الإقناع الكلامي، وبهذا المعنى، بدت الديمقراطية لأفلاطون بوصفها نظاما يضع الإجماع فوق الموضوعية والنزاهة العقلية. إن موت سقراط قد كان درسا فلسفيا لم ينسه أفلاطون قط. إن محاكمة وإدانة سقراط مثلت بالنسبة لأفلاطون الوجه غير المقبول للديمقراطية وقيمتها وهي قد مثلت أيضا الديمقراطية على حقيقتها. إن اللغة تبعا لذلك، قد كانت ذات أهمية في فلسفة أفلاطون لسبب شامل ومهيمن. فإذا كانت عقيدة بروتاجوراس صائبة، فإن موت سقراط هو تضحية عبثية. إن البحث اللفظي بالكاد يستطيع أن يزعم لنفسه أنه يوصل للحقيقة إذا كانت الحقيقة وهما. وأفضل شيء يمكن أن يأمله المرء هو أن يقنع الآخرين بقبول رأيه الخاص. وهذا هو الارتباط والدفاع والتسويغ النهائي للمذهب السوفسطائي والديمقراطية في آن واحد. لذلك صار مهما بالنسبة لأفلاطون أن يوضح أن اللغة - وهي الأداة الجوهرية التي يدير السوفسطائيون والسياسيون والديمقراطيون شئونهم بواسطتها –نفسها تتطلب منا أن ندرك أن الحقيقة بوصفها شيئا مستقلا وليس وهميا. وهذه هي القضية الأساسية في كراتيلوس. عندما يتخذ هيرموجينز موقفه المتفرد المتصلب حول صحة الأسماء، فإن سقراط لا يعارضه بالطريقة التي ربما توقعناها، بمعنى أنه لم يقل له إن القرار يعود إلى الجماعة اللغوية وليس للفرد أن يقرر بم يمكن أن تسمى الأشياء. إن ذلك سيكون أن يتصرف بطريقة تخدم خصوصه السوفسطائيين والذين يعدون الإجماع أعلى شكل من الأشكال التنظيمية يمكن للإنسان أن يعظمه(كما يزعم الديمقراطيون) ويعارض سقراط فردية هيرموجينز بوجهة النظر الواقعية للغة ؛ الأسماء هي إجابات ملائمة للواقع وليس للجماعة. ولكن وبالطريقة نفسها، وحين قدم كراتيلوس وجهة النظر القائلة أن الأسماء تمتلك صحة متأصلة فيها، فإن سقراط يرد بالقول أن من يعطون الاسم، كائنا من يكونون ربما يكونون على خطأ صريح في الأسباب التي تجعلهم ينسبون أي اسم محدد. وعلى هذا النحو فإن المدى الذي يعبر فيه الاسم عن حكم ما، فإن هذا الحكم ملائم للواقع وليس للجماعة. إن اللغة، كما كانت تبدو لأفلاطون، هي الضمان وجوب تثمن الحقيقة و أن توضع في منزلة أعلى من الموافقة المعبرة عن الإجماع. وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فلن يكون هنالك شيء لنوافق أو لا نوافق عليه، وستكون جهودنا لإقناع الآخرين ذات معنى فقط بوصفها محاولات للخداع ، أو للإرهاب بالعبوس والتقطيب أو الاستناد على من هم أضعف منا. إن غاية أفلاطون أيضا أنه لا يهم إن كانت اللغة اعتباطية أو متسمة بالمحاكاة والتقليد، أو إلى أي مدى هي مزيج من هذين الأولين. فمادام هذان الرأيان هما الاحتمالين الوحيدين الذين يمكن لنا تصورهما فإننا مسوقون، في النهاية، إلى إدراك إن اللغة تصل إليهما معا وبما يتجاوز آراءنا ويتجاوزها نفسها. وإلا فإننا نتخلى عن وننكر الحجاج العقلي برمته (كما يفعل كراتيلوس ......) إلى أي مدى يمكن أن تصل اللغة ؟ ليس هنالك جواب يعطى لهذا في كراتيلوس . إنما هو يعطى في عقيدة أفلاطون شبه الصوفية حول الأشكال أو الصور (Forms) والأفكار أو المثل (Ideas) . (كونفورد 1935) إن الأشياء والخصائص التي نتحسسها، أو نعتقد إننا نتحسسها، في هذا العالم، إنما هي مجرد نسخ يعوزها الكمال مقارنة مع يوافقها من صور ومثل. وهذه الأخيرة إنما هي العوالم السرمدية الذي يمنح وجودها الأساس النهائي لكل المعرفة البشرية . واللغة تربطنا عبر الأعراف من هذا الواقع المطلق إلى انعكاسه الغامض الذي هو العالم اليومي المألوف الذي يحيا فيه البشر الفانون . ترجمة للفصل الأول من كتاب: “ Land Marks in Linguistic Thought: The Western Tradition from Socrates to Saussure " (1989)By: Roy Harris and Talbot J.Taylor. Routledge and kegan .London.
إشارات و ملاحظات المترجم : يقتضي التنويه بأن ملاحظات المترجم قد أشير إليها بأرقام عربية محصورة بين معقوفتين [ ] تمييزا لها عن أية ملاحظات للمؤلفين. [1] لا تتوافق أسماء العلم و دلالاتها مع مسمياتها؛ فمثلا في العربية قد نسمي شخصا " خالدا " و نحن نعلم إنه إنسان فان؛ و قد نسمي امرأة هيفاء وهي بدينة. أما الأسماء العامة فأنه يفترض أن تكون لها معان محددة ما لم يمنع السياق من إرادة ذلك المعنى. [2] يناقش المؤلفان دلالة اسم هيرموجينز مستندين في ذلك إلى المهاد الفكري و الاجتماعي للثقافة الإغريقية القديمة لإظهار تهافت القول بملائمة الاسم لمسماه. و هذا لا يعني أنهما يعتقدان بصحة المحتوى الأسطوري و الميثولوجي لهذه الثقافة . [3] من الواضح أن هذا الرأي يعبر عن توقع منطقي لأن بعض معاني الأسماء ، و ليس جميعها ، لا تتوافق مع مسمياتها. [4] في هذا الموضع ، يتضمن دفاع سقراط توكيدا غير مباشر لفكرة كون اللغة مؤسسة اجتماعية تتجاوز الأفراد و الجماعات المستعملة لها. وهي تكتسب قدرتها الاتصالية من وجودها الموضوعي و ليس مما ننسبه إليها من معان . ولعلنا نعثر هنا على جذر فكرة دي سوسير حول اللغة. [5] الوظيفية و العقلانية اتجاهان في علم اللغة الحديث. و تمثل الاتجاه الأول مدرسة براغ و المدرسة البريطانية كما في أعمال فيرث . [6] يكاد سقراط ، هنا ،أن يتوصل إلى الفكرة الأساسية لعلم الصرف "morphology" ؛ فكون الكلمة يمكن أن تحلل إلى كلمات أخرى تحتوي على الفكرة الجوهرية في علم الصرف. [7] يشير سقراط إلى حيلة فنية كان المسرحيون الإغريقيون يلجأون إليها و ذلك بإنزال شخصيات تمثل الآلهة على خشبة المسرح بوساطة آلات و ذلك لكي تتدخل و تحل المأزق الدرامي الذي تعالجه المسرحية. [8] ورد أسم هيرموجينز في النص الأصلي ؛ غير أن المعنى لا يستقيم إلا باستبداله باسم كراتيلوس. [9] يذكر كراتيلوس الحروف الأولى من الألف باء الإغريقي القديم وهي ألفا و بيتا و لكننا آثرنا ذكر الحروف الهجائية العربية انسجاما مع ثقافة اللغة المنقول إليها. [10] السوفسطائيون مجموعة من الفلاسفة الإغريق الذي سبقوا سقراط. و كانوا يعتدون كثيرا بالنقاشات التي تظهر أن الحقيقة لا وجود موضوعي لها و أسهموا في تطوير الأسلوب الحواري في الحجاج الفكري. و يعد سقراط ، في نظر البعض ، آخر فيلسوف سوفسطائي كبير.
#باقر_جاسم_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الماركسية: أهي فلسفة أم أيديولوجيا
-
الوعي الذاتي المأزوم و الوعي الموضوعي الحر
-
قوى اليسارو الديمقراطية و إمكانات العمل المشترك
-
أهمية اللغة في الدستور العراقي المنشود
-
جريمة الحلة : بين الحقيقة و الإدعاء
-
من المسؤول عن تعطيل العملية السياسية في العراق
-
المقاطعون و المغالطة الكبرى
-
بمناسبة يوم المرأة العالمي : المرأة العراقية بين الواقع و ال
...
-
الحلة : جورنيكا القرن الحادي و العشرين
-
حول السامي و الوضيع : قرأة في كتاب المراحيض
-
الدجل الإعلامي في مواجهة الحقيقة الدامغة
-
الفدرالية : أهي خير مطلق أم شر مطلق
-
عبد الكريم قاسم : ما له و ما عليه بمناسبة مرور 42 عاما على ا
...
-
ما بعد الانتخابات العراقية : قاعدة الشرعية الدستورية
-
الانتخابات العراقية :دلالات و استحقاقات
-
تسونامي في ميزوبوتاميا
-
الدكتور كمال مظهر أحمد و كتابه - كركوك و توابعها : حكم التار
...
-
مدونات سومرية - المجموعة الرابعة
-
الحوار المتمدن :المزايا و الاستحقاقات
-
مدونات سومرية : المجموعة الثالثة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|