|
سلطة المثقف
عبدالكريم يحى الزيباري
الحوار المتمدن-العدد: 1216 - 2005 / 6 / 2 - 13:47
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
في عصرٍ تتسارع فيه الأنظمة والأفكار إلى نهاياتها،وتتقادم فيه الاختراعات وهي في بداياتها،وتتحد فيه الأفكار مع أضدادها ويتسابق الإنسان مع الزمن،ويتحدى الطبيعة ويخترق الفضاء ويتلاعب بخريطة الجينات الوراثية،ويتلاعب بالألفاظ ويعيد صياغتها ليعطيها معاني أخرى تلائم المبادئ المتغيرة تبعاً لتغير المصالح،بل وتجرأ البعض فظنَّ أنَّه يمكن له انطلاقاً من مختبره أن يصنع خلايا حية مبتكرة،أو يخلق نوعاً جديداً من الحياة،فكان عجزهم آيةٌ على توحيد الله،وأصبحَ العالم الكبير، قريةً صغيرة،لكن وبالرغم من كل هذا التطور،لم يحدث من قبل أن بلغ العنف مثل هذه الدرجة الهائلة،فالحروب صارت الحل الأمثل لهذا العالم الذي يزداد غلياناً كفوهة بركان،ويبرر البعض من مثقفو الغرب بأنَّ الأسلحة الأكثر دماراً،هي الأكثر الإنسانية،لأنها تؤدي إلى نهاية سريعة للحرب،وفي خضم هذا كله تبقى الثقافة معرفة،والمعرفة سلطة تسيطر كقوة،والقوة تضعف بدون معرفة تنظمها وتقودها نحو الأهداف المتوخاة،والمعرفة لها معاني،منها المعنى الثقافي،واقتربت الثقافة من أن تصبح هي علم المستقبل الشامل،الذي يحوي في طياته فروعا معرفية متعددة ومتباينة،وإنَّه لمن المهم أن يذكر المثقفون أنفسهم في أبحاثهم ويوقظوا ضمائرهم للأخطار التي يتعرضون لها في حياتهم،وإنَّه لمن الأهم أن يحددوا من هو المثقف الحقيقي؟ومن هو المزيف؟ويناقشوا مسؤولياتهم وواجباتهم في التخطيط لحياة أرقى لشعوبهم،وفي جولةٍ عبر التاريخ،حيث لم يدَّخر المثقفون وسيلةً في توجيه الجهود للارتقاء بشعوبهم نحو حياة أفضل من خلال التغيير الذي ينشدونه ومن خلال الإعلاء من شأن العقل والتوسع بحثاً في المجالين العلمي والإنساني،وكما أنَّ غياب التأصيل في مجال الدين أَثمرَ قبول البدعة وانتشارها،فإنَّ غياب المفكر في المجتمع أثمر قبول الخرافات وتصديقها،وغياب التأصيل في الدين يشبه غياب الدستور وهو القانون الأساسي الذي يرجع إليه لمعرفة شرعية القوانين الفرعية الأخرى،ولقد قدم المثقفون التضحيات وواجهوا التصلب الذي كانت تبديه السلطة السياسية في سبيل تكريس مبادئها وتصوراتها وفرضها على المجتمع،وشارك المثقف الحقيقي هموم شعبه منذ فلاسفة اليونان القدماء وإلى اليوم،فقام بفضح المبادئ البالية والمنافية للعدالة في المجتمع،لكن لا يمكن للمثقف أن يكون فاعلاً في مجتمعه ما لم يستوعب تراثه الثقافي ويستوعب ما في ثقافة مجتمعه من قيم الفضيلة وكرامتها وعار الرذيلة وسوء عاقبتها وما في ذلك من سبب كافي لمحبة الأولى والترفع عن الثانية ،والمثقف يشبه النسغ الذي ينقل الغذاء والماء من جذور الشجرة إلى أغصانها وأوراقها،ولهذا فإنَّ المجتمع يموت بموت المثقف كما تموت الشجرة إذا جف نسغها،وللمجتمع جذوره كما للشجرة جذورها وجذور المجتمع تتمثل في ثقافته المتمثلة في جماع السمات الروحية والمادية والفكرية،ولهذا فرسالة المثقف هي ربط الإنسان بجذوره،لا كم يريد البعض قلع الإنسان من جذوره،وهذا الربط هو الذي يحقق للإنسان إنسانيته وخصوصيته،مع التأكيد على أن الإنسانية لا تتعارض مع الخصوصية،بل أن إلغاء إحداهما قد يؤدى إلى إلغاء الأخرى كما قد يحدث في ظل العولمة،على أن الجذور تتعرض للموت أيضا إذا ركد ماؤها وأسن ولم يتجدد،ولكننا لا نقصد بالتجديد إقحام تقاليد الغرب وقيمهم في حياتنا،بدون تمييز الفاسد منها،ولا نقصد بهِ الابتداع،بل التجديد هو الأخذ بكل عمل نافع ومفيد ولا يتعارض مع الكتاب والسنة،وإن المقصد العام للشريعة الإسلامية يقوم على تحقيق مصالح الناس بجلب المنافع لهم ودفع الضرر عنهم،ومع التحرر من الكم الهائل والمتراكم في ذاكرة التاريخ من اجتهادات تثير الفرقة والنزاع،وفي نفس الوقت نتذكر أنَّهُ إذا لم تتعرض التربة المحيطة بها للهواء النقي من وقت إلى آخر وهو ما يقوم به الفلاح ويعرف بالعزق،فالمثقف الذي يرصد رياح التغيير وتيارات التجديد ويثري بهـا القيم والتقاليد الموروثة دون أن يلغيها مما يعنى قيامه بعملية الاختيار،ومثل هذا المثقف قد يكون موجودا في العديد من المجتمعات ولكن الأنظمة القمعية والعسكرية تلغي وجوده أو تغيّبه لأنّ بقاءها واستمرارها مرهون بإلغاء سلطة المثقف وبالتالي إلغاء حقوق الإنسان،ولعل هذا هو أحد التفسيرات للتخلف الـذي تعاني منه دول العالم الثالث،والعالم العربي منذ ألف عام وحتى الآن.. لا يمكن أن نضع نموذجاً مثالياً للمثقف يُقتدى به لأنه مواطن عادي له جذوره الاجتماعية والبيئية الخاصة به،والثقافة ليست مهنة لكسب العيش كما يريد البعض منها،والمثقف يتحرر من أهوائه الشخصية،ويسعى لرؤية متجددة للحياة،رؤية نقدية لتجاوز سلبيات الواقع وجعله أكثر عدلاً وجمالاً،والمثقف هو الإمام الفقيه الذي تهرع إليه الأمة في تلقي النصح والإرشاد، وهو الجامعي الأكاديمي الذي توظفه سلطته العلمية ونظرياته السياسية لخدمة المجتمع ويساعده في ذلك ما له من مكانة اجتماعية مرموقة وما يفترضه فيه الشعب من أمانة القول وصدق الخطاب،والمثقف هنا هو المهني أيضاً سواء كان طبيباً أو مهندساً أو محامياً فهو رجل الفكر والعمل،هو الذي يضحي بوقته من أجل القضايا العامة وهو قادر أمام الناس على حل مشكلاتهم بالعلم والعمل فهو أهل الخبرة في مقابل أهل الثقة والنظريات ويراه الناس ناجحاً في حياته وتكمن فيه بذرة الأمل لنقل نجاحه الفردي إلى نجاح جماعي،ولقد كان لقادة الفكر الدور الحاسم في عملية تطوير المجتمع لكن الأمر استغرق قروناً عديدة قبل أن يعترف بهم العالم،بأن لهم تأثير كبير في إحداث تغييرات اجتماعية وسياسية،إن سلطة المثقف موجودة منذ بداية المجتمعات القديمة لأنه يمثل المعرفة سواء ظهر بزيِّ الكاهن أو الكاتب أو الطبيب أو غير ذلك،لكن في نهاية القرن الثامن عشر فقط بدأ المثقفون يشعرون بسلطتهم ويتحدثون عنها لا سيما وهم يرون أنَّ لهم الفضل في التمهيد للثورة الفرنسية عام 1789 حيث هيئوا الأفكار التي نسفت النظام الملكي ثم أنتشر الحديث حول العقد الاجتماعي وشرعية النظام وسيادة القانون والمساواة أمامه، ودخل المثقف في عدة صراعات فعلاقة المثقف بالسلطة كانت في حالة توتر مستمر،وهذا التوتر ينتهي إما إلى صدام أو إلى تسوية تفرضها السلطة حين لا تفسح للمثقفين سوى مجال ضيق لا يطعن في شرعيتها وبالمقابل تتغاضى الدولة عن تدخلهم في الوقائع الجزئية شريطة أن تضمن ولاءهم في القضايا الرئيسية،وفي صراع المثقف مع السلطة نجد غلواً في الإيجابية عند من يحرم نقد حتى بغلة السلطان،بينما يغلو أبو موسى المردار ويكفَّر كلَّ من جالس السلطان،وفي صراع المثقفين مع بعضهم كفروا بعضهم بعضاً لاختلافهم في الرأي،وضب الصراع لصالح السلطة،فالغزالي ألف كتابه(تهافت الفلاسفة) وكفر الفارابي وأبن سينا،وردَّ أبن رشد عليه في كتابه(تهافت التهافت)،وهذه الخلافات ابتعدَ زمانها عن حياة الناس إلاّ إنها ما زالت تطرق وربما أكثر من السابق، وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم(إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) ،وقام بعض المثقفين في إثارة مواضيع تثير الفتنة والخلافات وبدأت تجر العامة للخوض في مواضيع تضرهم ولا تنفعهم وبالرغم من إننا نعيش في ظل حضارة هذا الغرب ونأخذ معظم مفردات حياتنا من وسائل نقل،أو أجهزة طبية أو غير ذلك،فلا زال هناك من المثقفين من يعيش في خوف من المجتمع أن يقولوا عنه معاصر،لأنه إذا قيل معاصر فهو غربي، والغربي إما رأسمالي أو شيوعي أو..الخ،وبهذا فهو عميلٌ كافر،وإذا كان قد سمع أحد المثقفين المتعصبين بهذا فإنه سيؤلب المجتمع والسلطة عليه لتطلق عليه رصاصة الرحمة التي ستريح الناس والمجتمع من أفكاره الهدامة والحياة في أبسط معانيها هي نزاع بين المصالح المختلفة، وهذا النزاع ينتهي لصالح أحد الجوانب مصاحباً بحركة تغيير،وأي حركة تغيير تعتبر أول أمرها زندقة وكفر أو جنون أو تفرقة فإذا نجح أصحابها في دعوتهم أصبحوا أبطالاً خالدين فهنيئاً للمجددين في سبيل حياة أكرم يعيشها الإنسان.
#عبدالكريم_يحى_الزيباري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صوفيا ملك// لنبدأ بإعطاء القيمة والوزن للأفعال وليس للأقوال
...
-
الليبراليون في كندا يحددون خليفة لترودو في حال استقالته
-
الشيوعي العراقي: نحو تعزيز حركة السلم والتضامن
-
كلمة الرفيق جمال براجع الأمين العام لحزب النهج الديمقراطي ال
...
-
الفصائل الفلسطينية تخوض اشتباكات ضارية من مسافة صفر وسط مخيم
...
-
الجيش اللبناني: تسلمنا مواقع عسكرية من الفصائل الفلسطينية
-
مباشر: حزب النهج الديمقراطي العمالي يخلد ذكرى شهداء الشعب ال
...
-
مظلوم عبدي لفرانس24: -لسنا امتدادا لحزب العمال الكردستاني وم
...
-
لبنان يسارع للكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرا في سوريا
...
-
متضامنون مع «نقابة العاملين بأندية هيئة قناة السويس» وحق الت
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|