كاتب وصحفي فلسطيني- الرياض
إذا كانت القضية الفلسطينية قد شهدت عبر تاريخها الطويل مراحل متعددة ومتـنوعة من المقاومة والنضال والجهاد من أجل إنهاء الإحتلال الإسرائيلي ، وشهدت كذلك عددًا هائلا من الفصائل والتـنظيمات وحركات المقاومة ذات التوجهات المختلفة في رؤية وأساليب العمل والمتفقة في الهدف النهائي ، فإن الوحدة الوطنية الفلسطينية كانت- ولا تزال- حلم كل فلسطيني على امتداد التاريخ الفلسطيني ، وكان قادة الفصائل- في المنفى- يتذرعون بالقول بأن هذه الوحدة لن تتم إلا عندما يصبح لنا أرضـًا نحن نحكمها ، مع اعترافهم بأن ما هو قائم بين الفصائل هو علاقات مجاملة ، أو " وحدة حال" باعتبار أن الكل مهدد .!
وبعد عودة القيادة الفلسطينية إلى الداخل ، وأصبح لنا " بعض أرضنا" التي نحكمها ، أضحى تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية أصعب مما سبق ..!!
لماذا ..؟!
رغم أن السؤال- على ضرورته- أصبح يثير من السخرية والمهانة في هذا الزمن الصعب بالذات أكثر مما يثيره من الجدية والإحترام ، لكن يجب علينا أن نتوقف قليلا لنتساءل لماذا لم تتحقق وحدتـنا الوطنية على أرضنا الفلسطينية طوال الثمان سنوات الماضية ..؟!
لا نريد توزيع قرابين التهم على أحد ، فالقضية أكبر وأخطر وأدق من أن تفتح فيها المعارك الجانبية ، وحسبنا ما عانيناه في العامين الماضيين من حملة تطهير عرقي إسرائيلية لكل ما هو فلسطيني أمام أنظار العالم المتحضر.! ولكن يجب علينا تأكيد أن وحدة كافة قوى وفصائل الشعب الفلسطيني لمواجهة عدونا الأبدي والأزلي هي مطلب وطني وضرورة استراتيجية في مرحلة التحرر الوطني التي يعيشها شعبنا هذه الأيام .
لقد تحدث الكثيرون عن الوحدة الوطنية الفلسطينية ، ولكن هذا الحديث في كثير من الحالات ( كلام حق يراد به باطل ) فالوحدة الوطنية ضرورة استراتيجية نابعة من حاجة هذا الشعب - الذي ما زالت معظم أراضيه مغتصبة ، وشعبه يتعرض يوميـًا للقتل والإعتقال والتدمير تحت حصار إسرائيلي أوصله إلى حد المجاعة ، ومقدساته تتعرض للتهويد .
فالوقت قد حان لكي تتفق جميع فصائل المقاومة مع السلطة الوطنية وتتوحد على آلية عمل واحدة تعزز وحدة وصمود الشعب الفلسطيني لمواجهة تحديات المرحلة القادمة من حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها العدو الإسرائيلي بجميع شرائحه وطوائفه ضد كل ما هو فلسطيني..!!
لقد استبشر الفلسطينيون في الداخل وفي المنافي والشتات خيرًا للحوار الفلسطيني- الفلسطيني الذي يجري هذه الأيام بين حركتي حماس وفتح في القاهرة ، وإن كنا نتـمنى أن يكون هذا الحوار فوق الأراضي الفلسطينية وبين جميع فصائل المقاومة .
إن ما جرى في الأيام الأخيرة من سقوط الشهداء بالمجان في القضية التي عرفت بقضية مقتل العقيد راجح أبو لحية على يد عماد عقل أحد أعضاء حركة حماس آخذا بثأر شقيق له ، وبروز شبح الصراع الداخلي الفلسطيني بعد تهديدات بعض المتـنفذين في السلطة بحرق كل مراكز حماس وقتل قادتها والقضاء على بنيتها التحتية ، ومن ثم إزدياد الحديث عن الإنتفاضة من غاية مشروعة للشعب الفلسطيني لتحقيق أهدافه إلى حديث حول نزع الشرعية الأخلاقية عن النضال الفلسطيني ووصفه بالإرهاب ، ومشروعية السلطة وعدم مشروعية المقاومة والكفاح من أجل التحرر الوطني ، كل هذه الأمور خطوات سعى إليها العدو الإسرائيلي ليس فقط من أجل رفع السلاح الفلسطيني في وجه بعضه البعض ، بل سعى أيضـًا لخلق دائرة من الخلاف الفقهي والسياسي والفكري في العواصم العربية حول الإنتفاضة وكل ما يرتبط بها ، ومن ثم توجيه اتهامات لفصائل المقاومة سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية ، ومن ثم تتحول المعركة في الداخل الفلسطيني بين السلطة وفصائل المقاومة ، وفي الخارج الفلسطيني بين أصحاب الرؤى والأيديولوجيات والسياسيين والمفكرين .
لقد جاءت أحداث قطاع غزة الأخيرة بمثابة دق جرس تنبيه لرؤية الظلال القاتمة على مسيرة الحوار الوطني الفلسطيني التي طالما تشدق بها البعض بعد إفراغ هذا الحوار من محتواه ، ومن الأسس التي بني عليها ، فعلى ضوء هذا التباين والإحباط في الشارع الفلسطيني ، والخوف من أن يتحول الخلاف السياسي إلى صدام يضرب هيكلية ومؤسسات الشعب الفلسطيني التي بناها بدماء شهدائه وتضحيات أبنائه ، يأتي الانطباع بأن ثمة اغتيالات ستقوم بها أجهزة المخابرات الإسرائيلية للقيادات الفلسطينية إما داخل السلطة أو لقادة فصائل المقاومة وذلك لتمهيد الطريق لحشر الفلسطينيين في المربع الأول أي وضعهم أمام حرب أهلية ، ولدفع الوضع في الأراضي الفلسطينية إلى مزيد من التآكل كي يستطيع العدو الإسرائيلي إعادة إحتلال الأراضي الفلسطينية بالكامل.
من هنا نطالب بالدعوة إلى حوار فلسطيني- فلسطيني موسع تشارك فيه جميع القوى والفعاليات السياسية الفلسطينية .
حوار وطني يشمل جميع فصائل المقاومة يحول دون تمزق الشعب الفلسطيني .
حوار وطني حقيقي وجاد وبنّاء وصريح بين السلطة الفلسطينية و أبناء شعبها الذين وقفوا خلفها وبجانبها ضد الهجمة الصهيونية الشرسة .
حوار يكسر الحواجز بين السلطة والفصائل والجماهير، نستطيع من خلاله رسم سياسة توحد الوضع الفلسطيني ، وتضع الثوابت والخطوط الحمر التي تشكل القاسم الوطني المشترك بين الجميع لتفويت الفرصة على العدو الإسرائيلي والمتربصين لاختراق هذه الثوابت ، والعمل على استمرار الإنتفاضة والمقاومة المسؤولة ، والحفاظ على منجزات الشعب الفلسطيني وقيادته وسلطته الوطنية ، وحتى لا تتحول الأهداف عن مسارها الطبيعي إلى اتجاهات أخرى تزيد من الإحباط القائم حالياً.
إن الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج أحوج ما يكون الآن إلى الوحدة الوطنية لمجابهة أعباء المرحلة القادمة ، لأن هذه الوحدة ضرورة إستراتيجية في زمن الصمود والتصدي .. زمن الانتفاضة المباركة التي نعيشها اليوم ، ويجب عدم السقوط في وهم اعتبار وحدة الفصائل والتنظيمات في حد ذاتها هي الوحدة الوطنية الفلسطينية ، وحتى توحيد المؤيدين والمعارضين لاتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاقات ليس تعبيراً عن الوحدة الفلسطينية ، وإنما وحدتها هي في توحيد كافة قوى وأبناء الشعب الفلسطيني في هذه المرحلة التي نضع فيها أولى لبنات الدولة المستقلة.
إن الوحدة الوطنية الفلسطينية هي التي تفرض على الشعب التكاتف والتضامن والإتحاد والوقوف صفاً متراصاً أكثر من أي وقت مضى في مواجهة المغتصب والمحتل والتصدي لهما ، وتغليب المصلحة الوطنية على كل ما عداها عبر التمسك بالثوابت الوطنية الفلسطينية من خلال برنامج سياسي واقعي ومحدد يتم التوافق عليه من قبل الجميع ، ويحدد مطالب الإنتفاضة وأهداف المقاومة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة في حدود الرابع من يونيو عام 1967م بما فيها القدس عاصمة للدولة الفلسطينية .
لقد كانت الدعوة والحديث والعمل من أجل الوحدة الوطنية الفلسطينية تبدو في الماضي- وخاصة في السنوات الأولى لعمر الثورة الفلسطينية المعاصرة- وكأنها مرهونة بردود الفعل العفوية على المؤامرات التي تعرضت لها الثورة هنا وهناك ، وكان يبدو أيضـًا بأن الدعوة والحديث والعمل من أجل هذه الوحدة لم يكن نابعـًا من قرار محدد وواضح تسعى كل الأطراف المشاركة في الساحة الفلسطينية من أجل تحقيقه كفعل وليس كردة فعل ، بحيث أصبح يعتقد البعض بأن كل ما يجري يدور بشأن الوحدة الوطنية الفلسطينية إنما هي مواضيع نظرية محضة تطرح من نقاش وللحوار داخل إجتماعات المجالس الوطنية الفلسطينية لتعود وتختفي عند إنتهاء دورات هذه المجالس .
إذن لا يجب أن يكون الحديث عن الوحدة الوطنية وكأنه مرهون بردود الفعل العفوية على المؤامرات التي تحاك هذه الأيام ضد الفلسطينيين ( القيادة والفصائل والشعب والأرض ) ، ولكن يجب أن يكون الحديث والعمل من أجل هذه الوحدة نابعاً من قرار محدد وواضح يسعى كل الفلسطينيين لتحقيقه كفعل وليس كرد فعل.
وإذا كانت هذه الدعوة لعقد حوار فلسطيني- فلسطيني موسع ، ففي المسيرة الفلسطينية سابقة في هذا المضمار ، فقد أجرت القيادة الفلسطينية حواراً شعبياً وعالمياً واسعاً عندما اتخذت قرارها بالعمل المرحلي عام 1974م ، ووضعت آنذاك برنامج النقاط العشرة ، وأجرت القيادة الفلسطينية حواراً داخلياً كثيفاً للغاية استمر ستة أشهر كاملة ، وهيأ هذا الحوار لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني (1988م) والتي أعلنت قرار الاستقلال والموافقة على القرار 242 .
فلماذا لا يجري الآن حوار مماثل للوصول إلى وثيقة سياسية توقعها كافة القوى الوطنية والإسلامية ، وتقود إلى تفاهم تام مع السلطة من أجل تدعيم الوحدة الوطنية وخلق الأطر الأكثر موضوعية وواقعية من أجل تحقيقها خاصة وأن الموضوع المطروح هو المصير الوطني للشعب الفلسطيني في ظل هجمة إسرائيلية- أمريكية للقضاء على آخر منجزات الشعب الفلسطيني .