|
جذور الفتنة الطائفية فى مصر - 1981-- من أرشيف حزب العمال الشيوعى المصرى
سعيد العليمى
الحوار المتمدن-العدد: 4263 - 2013 / 11 / 2 - 20:37
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جذور الفتنة الطائفية فى مصر ( 1981 ) معالم جدل الصراع بين أطراف التطرف الدينى لقد أحدثت الفتنة الطائفية الأخيرة في مصر منتصف الشهر الماضى صدى أليما لدى القوى الوطنية والديموقراطية في مصر والعالم العربي ، رغم انها لا تخرج عن إطار المخطط الذى بات يفرض نفسه بإحكام على عموم المنطقة العربية ، التى تشهد الآن مختلف أنواع الصراعات الإجتماعية والوطنية والقومية والدينية والعنصرية ، وكأنها مخاض ميلاد عسير . ودون أن نتورط فى إمحاء الحدود الفاصلة بين مختلف أنواع الصراعات وأطرافها وأسبابها الجوهرية ، فإننا نريد أن نضع تلك الأحداث الطائفية الأخيرة التى تفجرت في 17/6/1981 ، في موضعها فوق الخريطة الداخلية المصرية ، ونرصد صلتها بما يجرى من أحداث على صعيد المنطقة العربية ، لأنها تفقد مغزاها ان تم تجاهل موضعها المحدد في بنية الأوضاع السياسية والاجتماعية المصرية ، وتصبح حدثا جزئيا معزولا، قابلا للتجاوز بمختلف ضروب الاجرءات المؤقتة ايا ما كان طابعها. كما أنها تفقد بعدها القومي الشامل إن اهدرنا ما يربطها بالأحداث التى تجري على الساحة العربية . هل كان لذلك الصراع الدموى الهائل الذى جرى بلغة القنابل والرصاص والدم ، ان يأخذ تلك الابعاد الواسعة والعميقة فى مداها ، إن كان مجرد خلاف عارض بين”جارتين" ، وهو ما يجري عادة دون أن يثير مشاكل واسعة ؟ انه يبدو في الواقع كالشرارة الصغيرة التى أحرقت سهلا فقد فجرت المشاجرة الصغيرة كوامن تمور فى باطن المجتمع المصري وأبرزتها الى السطح ، وهو ما كان يمكن ان يحدث لأى سبب آخر مغاير. إنها عناصر تراكمت وتجمعت وتفاعلت طوال حكم السادات وما الأحداث الطائفية إلا أحد مظاهرها الحادة والفاجعة . لقد أعقب هزيمة يونيو1967 انتعاش التيار الديني في مصر وقد حاول هذا التيار ان يجد تفسيرا للكارثة الفاجعة بعيدا عن الأسباب الحقيقية التى تتعلق بطبيعة النظام الاجتماعي الاقتصادي السائد وسياساته التى أدت لها اضافة الى التحديات الخارجية. وكان ظهور مريم العذراء فوق كنسية الزيتون ، الذى لقي ترحيبا رسميا من الدولة . ولكن رغم هذا الانتعاش فان مناخ المواجهة مع العدو الاسرائيلي - المقاومة الفلسطينية ، وحرب الاستنزاف- كانت تحول دون أن ينقلب الى تيار سياسي واجتماعي واقعي مؤثر، وأن يقتصر على كونه نزعة للتقوي تفيض بها النفوس داخلها ، خاصة وأن التيار الوطني الديموقراطي كان فاعلاً حتى وان تطلب الأمرمواجهة النظام ذاته كما حدث في فبراير ونوفمبر عام 1968 . والميلاد الجديد لهذا التيار الدينى يعود الى ما بعد انقلاب مايو1971،الذى يؤرخ لبعثه واتجاهه نحو التحول الى قوة مؤثرة فى الواقع . فقد استطاع السادات آن يطيح بأبرز رجال الاتجاه الاساسي فى السلطة السياسية ، وهم كانوا بحكم مناصبهم القيادية على قمم أجهزة الدولة. وحين وجه ضربته الانقلابية اليهم ، كان يفتقد أى سند – تقريباً - فى جهاز الدولة الذى أطاح برؤوسه ، عدا بعض الأعوان ، وبالآحرى لم يكن يمتلك سندا شعبيا جماهيريا يؤمن به ضربته تلك ، ويعتمد عليه في مواصلة سياساته. فكان عليه من ثم، بعد أن تمكن من تصفية أبرز رجال هذا الجناح المسيطر، وأعاد تشكيل جهاز الدولة بما يتوافق وطابع الانقلاب الجديد..نقول كان عليه ايضا أن يسعى لضمان مساندة شعبية. وتمثلت راية التضليل فى رفع شعارات سيادة القانون ، ودولة المؤسسات، وانهاء عصر المعتقلات والاجراءات الاستثنائية. وكانت لغة هذه الشعارات تخاطب من الناحية الواقعية القوى الاجتماعية القديمة التى أطاح بها نظام عبد الناصر من جانب ، ومثلت من جانب آخر ادوات استقطاب مزيفة للقوى الشعبية . لقد كانت قوى المجتمع القديمة هى المعنية من الناحية الرئيسية وحشدها من أجل تأمين انتصار السادات كان ضرورة دونها يتعرض لخطر الارتداد. واتجه السادات للإفراج عن الأخوان المسلمين الذين كانوا قد حوكموا فى قضية التهيئة لانقلاب مسلح عام1965 بقيادة سيد قطب وعبد الفتاح اسماعيل ،او من تم اعتقالهم،دون ان تتوافر أدلة ادانتهم فلم يقدموا للمحاكمة. وخلال خمس سنوات من الاعتقال الكئيب حيث يتهاوى الرجال أو يتصلبون، تصارعت أفكار ونظريات كان القمع العنيف باعثها المباشر. فلا يمكن لفكر ان ينتهي باضطهاده مهما كان عنف القمع الموجه ، بل إن الأخير، إذ يحول البعض الى شهداء وقديسين فانه يحول البعض الآخر الى متعصبين متطرفين . لقد كانت فترة الاعتقال65-71 مناخا مناسبا للانتاج الفكرى والنظرى لدى الاخوان.. وحفل سجن ابى زعبل ومعتقل طره السياسي بمناقشات دينية فقهية تمخض عنها انشقاق جناح على قيادة جماعة الأخوان ، وهو((جماعة المسلمين)) - وكانت تضم في معظمها الشباب ومن الشيوخ محام وأستاذ جامعي- وهى الجماعة التى اسمتها أجهزة الدولة فيما بعد بجماعة التكفير والهجرة. وفي عزلة عنابر الاعتقال ومقاطعة الاخوان ((التقليديين)) بدأت في التبلور الأسس النظرية لفكر جماعة المسلمين، التى انطلقت من فكر الخوارج بصفة عامة ، والأزارقة منهم خاصة. واندمجت لديهم افكار نافع بن الأزرق بأفكار سيد قطب ، واختلطت بنزعة مهدية بارزة . من هنا بدأ ((تكفير المسلم)) ، واباحة دماء المخالفين بتكريس العنف، ونشأت الأحلام حول مقتضيات البداية ، وفى الاحلام كانت البداية من جبال اليمن (( فالدين يمانى...والركن يمانى )) أما فى الواقع وبعدها بسنوات كانت البداية من جبال أسيوط والمنيا. لقد وقف هذا الاتجاه الجديد ضد الجماعة التى خرج من معطفها- معالم على الطريق، وجاهلية القرن العشرين- وراح يتهمها بالتهاون والتخاذل امام طاغوت السلطة،خاصة القادة الذين لجأوا للتقية أثناءعمليات التعذيب،فاستنكروا فكرهم أو حرصوا على اخفاء قناعاتهم حماية لحياتهم. بل ان الاتجاه الجديدالمتشدد قد رأى ضرورة دعوة الاخوان المسلمين الى الاسلام من جديد. وحين رفعت مزاليج المعتقلات فى النصف الثانى من عام 1971 كانت السلطة السياسية قد تغيرت وفى سبيلها الى اجراء تغييرات أعمق . وكما ذكرنا من قبل فان الاتجاه الديني الخارج لتوه ، خرج منقسما الى اتجاهين : أحدهما وهو يمثل الاخوان التقليديين يتسم بالحرص والحذر والتبصر، والآخر- جماعة المسلمين- راح يندفع بكل فتوته وشبابه ووعية الزائف نحو مشنقة النظام التى اجاد جدلها، ولم يفد كتاب (( دعاه لا قضاة )) الذى الفه مرشد الاخوان الاستاذ حسن الهضيبي، فى ايقافهم.اما النظام فلم يكن ليدع هذا التيار فى مجمله يعمل لحساب افكاره الخاصة، فحدودة الموضوعه هى أن يخدمه ، أما ان تجاوزها فلا مناص من الاصطدام به. النظام وضرورات التحالف لقد فرضت ضرورة المجابهة مع ما سمى مراكز القوى وجيوبها في مختلف اجهزة الدولة تحالفاً مؤقتا بين السادات والاتجاه الديني فى عمومه، وخاصة الاخوان المسلمين، فقد رأى الأخيرون ان مجمل ارتباطات النظام الناصرية الدولية ، ومواقفه الداخلية هى البواعث التى مهدت لتوجيه ضربة اليهم ، فراحو يؤيدون الاتجاه الجديد او ينخرطون فى هجوم شديد على السلطة الناصرية ، وايدوا تقريبا كل الاجراءات المتخذة . وقد عبرت السيدة زينب الغزالي وهى من قيادات الاخوان عن اعتقادها بأن الأخوان يرون ضرورة أن تكون هناك هدنة طويلة مع نظام السادات . ومع تزايد الاتجاه نحو قطع العلاقات بالبلدان الاشتراكية وتوجيه الضربات للقوي الوطنية والديموقراطية، واحياء القوي الاجتماعية القديمة واعادة الروابط بالغرب الاستعماري، مثل شعار دولة ((العلم والايمان)) -وهوشعار يتناقض والواقع الفعلي- نقول مثل هذا الشعار راية التحالف الجديد. ووجدالسادات في ((مقاومة الالحاد)) انسب اداة لتغطية اجراءاته الداخلية والخارجية. وبدآ في ظل هذا الاتجاه التيارالديني بجناحيه فى العمل . اما الاخوان ففى مسار يتسم بالحذر والتبعية وفقدان الثقة فى قدرة السلطة الجديدة على الصمود امام المعارضة الشعبية الواسعة.وسارع الاتجاه الآخر في العمل وفق منطلقاته ، مركزا عمله بين صفوف الشباب الذى صدمته الهزيمة كما صدمه التدهور الأخلاقي والاقتصادي والسياسي، وخاصة فى اقليم بعيدة عن العاصمة :اسيوط ،المنيا، حيث الأرض ممهدة نسبيا بحكم مستوى الوعى الى الانخراط فى هذه الحركات السياسية ، التى كانت ثمرة ثلاثة عوامل: اليأس من المجتمع ، الفقر بكل انعكاساته ، تخلف مستوى الوعى.. وبدأ الاتجاه الأخير في تنفيذ نظرياته فهاجر من المدن الى الجبال، وأقام اخويات جماعية دينية وأسس شرائعه الخاصة ، ووضع نفسه فى مواجهة الجميع . لقد أرادت سلطة السادات ان توظف هذا الاتجاه الديني فى خدمة مصالحها وسياساتها، وكان صعبا على أى من الاتجاهين أن يقتصر فقط على ما تريده السلطة، لأن له آراءه ونظراته المستقلة. كما أنه فى التحليل الأخير اى من زاوية الأهداف النهائية فان كلا من السلطة والاتجاهات الدينية يقفان على طرفي نقيض، لأنه يتناقض مع مصالح ونمط حياة الأولي اى اتجاه يدعو الى دولة دينية. أرادت السلطة هذا الاتجاه سلاحا ضد القوى المناهضة لها ، وأرادت هذه الاتجاهات ان تعمل لذاتها. ومع ذلك لم تتلاش، بل ولم تغب نقاط الالتقاء المشتركة. فحين بدأ التيار الوطنى الديموقراطي يبلور برنامجه واقفا ضد التسوية السلمية بكل مراحلها، مطالبا بخوض النضال المسلح ضد العدو الاسرائيلي، متضامنا مع الثورة الفلسطينية، مقدما برنامجا للحريات الديموقراطية ،كان الاتجاه الديني يؤسس الجماعات الاسلامية فى الجامعات،بهدف وحيد هو مناهضة التيار الوطني والديموقراطي فى مصر . وفي أعوام71،72،73 كانت مباحث أمن الدولة تحرك لحسابها عديدا من أعضاء هذه الجماعات الاسلامية، كما اعترف بذلك المهندس وائل عثمان مؤلف كتاب ((أسرارالحركة الطلابية))، وهو ممن ينتمون الى هذا التيار الديني ، بل ان أحد رجال النظام وهو محمد عثمان اسماعيل محافظ أسيوط،قد شكل قوة طلابية خاصة من جامعة أسيوط مهمتها التدخل فى أي مؤتمر طلابي وطني داخل الجمهورية ومنعه من الانعقاد او تخريبه بالقوة، وهو صاحب العبارة الشهيرة بأن اعداء مصر ثلاثة : المسيحيون ، والشيوعيون ، واليهود. لقد شهدت مصر آنذاك اعادة طباعة واسعة النطاق لكتابات أبوالأعلى المودودى،سيد قطب وأخيه محمد قطب، حسن البنا، والهضيبي،عبد القادر عودة، وحفلت الصحافة اليومية بمواد ((ايمانية)) وعقائدية ،غريبة على السلطة. لقد كانت السياسة ((الجديدة)) في الصحافة والاعلام والجامعات تؤدى الى التسعير الطائفى . ولم يكن أمرا مفاجئا لاى متابع للحياة السياسية في مصر، ان يواجه بمحاولة اعتقال رئيس الجمهورية في مجلس الشعب في اواخرعام 1974 ، فيما عرف بقضية الكلية الفنية العسكرية، التى قادها محمد صالح سرية بتشكيل مصري تابع كما قيل لحزب التحرير الاسلامي ، او باغتيال الشيخ الذهبى فى منتصف عام 1977 . لقد كانت الدولة تحصد ثمارا زرعتها بيدها في الواقع ، فمهمة الجماعات الدينية ان تناهض التيارات الوطنية المناوئة لسلطة الدولة لا ان تناوئ سلطلة الدولة ذاتها. وكان هذا احد الاوهام الزائفة. فى الفترة الاولي من 71-73 كان وضع السادات وحكمه مهزوزا امام الحركة الوطنية الديموقراطية، وبعد ان حقق الشعب المصرى العربي انجاز اكتوبر الذى أريد له ان يشكل فقط اداة ضغط على العدو الاسرائيلي ، استطاعت الفصائل الوطنية من أول لحظة ان تعرف ((حدود اكتوبر)) ان تدرك المؤامرة الضخمة التى يراد بها ان تتخذ تلك الحرب طريقا الى السلام الاسرائيلي على الطريقة الامريكية ، فوقفت ضدها،وظل السادات يصب زيت الأحقاد الطائفية. وكان الوجه الآخر للتعصب ((الديني)) ضد القوي الوطنية ، هو التعصب ضد المسيحيين المصريين . الأقباط وسلطة السادات هناك حقيقة تشكل قاعدة عامة وهى ان انتشار التعصب الديني بين الاقباط المصريين لم يكن يظهر فى مجرى التاريخ المصري الا كرد فعل على التيار الديني المتعصب زورا باسم الاسلام ، وحقيقة ثانية ،لا تقل اهمية عن الاولي، وهى ان الصراعات الطائفية كانت تتفجر دائما فى ظل سلطات الخيانة الوطنية، التى كان يتفتق عنها الوضع العام،أو التى تدفع دفعا بأساليب التآمر . وفى الواقع كانت كل سلطة وطنية تحرص على الوحدة بين ((عنصرى الأمة)) حتى تكاد تغيب فى وجودها أي ظلال طائفية. وقد استطاع حزب الوفد قبل عام 1952،ان يحقق مثالا فريدا على الوحدة الوطنية،فقد كان عديد من قادته أقباطا كما كان عدد كبير من مرشحيه لمجلس النواب كذلك . ولم يكن معيار التمييزبين المرشحين معيارا طائفيا دينيا ، بل معيارا سياسيا ، يستند على البرنامج السياسي الانتخابى المطروح . وكان الأقباط من الوفد يرشحون في الدوائر التى توجد بها أغلبية مسلمة فيفوزون فوزا ساحقا. ويرشح أعضاء الوفد من المسلمين فى الدوائر التى توجد بها أغلبية مسيحية، فيكتسحون. كان وجودالحياة السياسية ، بالديموقراطية النسبية التى وجدت آنذاك مناخا ملائما للفوز والاستقطاب على أساس سياسي ،لا على أساس طائفي ديني . وحين أتت (ثورة) يوليو كانت الانجازات القومية التى حققتها تخص المصريين جميعا دون تمييز، وعلى أرض الانجازات التى تحققت وجد نمط من الوحدة الوطنية الداخلية كان يستبعد بمنطقه أى شكل من أشكال الصراع الداخلى الديني. وتبدأ المشاكل الحقيقية مع مجئ السادات للسلطة، ففى فترة اللاحرب واللاسلم71-73 كان السادات في حاجة الى التيار الدينى ليواجه به القوى الوطنية الديموقراطية ، وهذا التيار الديني لم يكن يمتلك أى برنامج سياسي او اجتماعى يتعلق بمشاكل الشعب المصري المطروحة ، وأهمها قضية تحرير الارض العربية المحتلة من العدو الاسرائيلي، وقضية الحريات الديموقراطية واقتصر هذا التيار على الشعارات ذات الطابع ((الأخلاقي)) والتى لا تغير حتى ان تحققت من واقع القضايا المصيرية القائمة. وبدلا من الأعداء الحقيقيين جرى البحث وهميين ، وحين يكون الدين هو المعيار الفاصل ، فلابد ان تختلف مع من هم من غير دينك . وهكذ كان. بدأت الجامعات المصرية التى كانت بؤرة المد الوطنى والديموقراطي تشهد ميلاد الجماعت الاسلامية بصحافتها الدينية واتجه نصلها الى الاقباط المصريين ايضا . وشجعت عناصر من جهاز أمن الدولة هذا الاتجاه وامدته بالمال وكفلت له الحماية. وبدأت تظهر حوادث الاصطدام الفردى فى المدن الجامعية، وبعدها اتسع النطاق وبدأت الحرب المعلنة ضد الكنائس.والتبارى فى اقامة السرادقات الدينية وظهرت الجمعيات الدينية العلنية القديمة(الجمعية الشرعية-جماعة أنصار السنة) كاماكن ملائمة للتحريض الديني. وفى ضواحى المدن ، خاصة في القاهرة والاسكندرية ، لعبت اللقاءات الدينية في المساجد دورا هاما في تعميق نزعة الأحقاد الطائفية وراجت اشرطة التسجيل (الشيخ كشك بالذات) التى تحرض علنا على القوى الوطنية،والمسيحيين،ولم تكن تخلو كذلك من بعض ما يمس الدولة . وانهمكت الصحافة وأجهزة الاعلام الرسمية ( فى نفس الاتجاه. وبدأ الاقباط المصريون يتوجسون خيفة من النظام الجديد وقواه المحركة وتشكلت لجان وجمعيات دينية وتأسست مساجد وانهمكت قوى فى أن تصبح هذه الأشياء هى خط الصراع الأول ، بديلا عن كل القضايا المصيرية القومية وكان رد فعل الأقباط على ذلك هو الانكفاء على الذات ، فابتعدوا عن كافة الاتجاهات السياسية المتصارعة ، ابتعدوا عن القوى الوطنية والديموقراطية ،عدا أصحاب الاتجاهات العلمانية الذين أسهموا – كأقباط (مصريين) علمانيين- فى الجامعات والنقابات المهنية والعمالية،رافعين راية القضية الوطنية فى الداخل،متضامنين مع الثورة الفلسطينية مطالبين بشن نضال حازم ضد الأعداء التاريخيين للأمة العربية. ولم يكن هؤلاء بالطبع يشكلون ثقلاًداخل الأقباط المصريين . لقد تورط بعض المسيحيين في سلبيتهم ازاء التيار الوطني الديمقراطي وهو السبيل الوحيد لتحرر المصريين جميعا،نقول..تورطوا فى الدخول فى تلك ((الدائرة الطائفية)) التى شكلوا طرفها الاخر . واقتصروا على ممارسة الأنشطة الكنسية الدينية التربوية والثقافية ، وهموا هم أيضا بتنشيط ((مدارس الأحد)) وتأسيس جمعيات جديدة ((جمعية القديس مخائيل)) . وكان هذا نوعا من رد الفعل على التيار الديني المتعصب باسم الاسلام،لكنه كان ردا من نفس النوع ، أى له نفس الطابع الطائفي ،الديني العزلوى. لقد اختفت من بينهم القيادات السياسية الوطنية القديمة التى قدمت لمصر بعضا من خيرة قادتها،وبدأت السلطات الكنسية تمارس الدور الذى كان يمارسة هؤلاء القادة ، لكن بمنطق ديني . وبدلا من الاجتماعات السياسية الحزبية فى الندوات والمؤتمرات التى تناقش فيها قضايا الوطن أصبحت الكنائس والأديرة والاسقفيات والمطرانيات ، مراكز للتجمع الديني،تضفي مزيدا من العزلة على قسم عظيم من أبناء الشعب المصري. وكان الصراع بين التيارين الاسلامي والمسيحي الذى بدأ يدور حول مسائل متعددة ، طعنة فى ظهر الشعب المصري وتخليا عن مطالبه الوطنية الديموقراطية ، ومجالا تستطيع السلطة من خلاله أن تحكم قبضتها البوليسية ، وتقود البلاد-فيما بعد –نحو خيانة أمانى الأمة العربية ، بعقد صلح منفرد مع اسرائيل. وكان من الاثار المرة لحرب اكتوبر محدودة الأهداف ، هو التسليم الكامل للعدو الاسرائيلي ، والارتباط بالغرب الاستعماري . والتخلي عن الثورة الفلسطينية وفك التضامن مع الشعبين السوري والاردني ، والذى انتهي بعد كامب ديفيد، باقامة العلاقات الطبيعية مع العدو الصهيوني . كانت ((متغيرات)) ما بعد اكتوبر تصب فى : خيانة السادات للأمة العربية ، لكن لم يكن هو ولانظامه يمثلان شعب مصر بمعنى انه لم يكن المعبر عن اعمق امانيه. ************ ومرة اخرى تصدت القوى الديموقراطية للخيانة القومية التى تمارس باسم السلام ، ومرةأخرى كان ينبغي مزيد من تسعير الأحقاد الطائفية. وشهدت فترة ما بعد حرب اكتوبر خاصة منذ 75 -وبعد أن تبدد بريق الانتصار المحدود وفهمت مراميه - لجوء السلطة المباشر عبر كل مؤسساتها وصحافتها وأعلامها الى اعلان حرب ((قومية)) ضد القوى الوطنية والديموقراطية، والفصائل اليسارية ، حتى أصبحت مقاومة الالحاد هى ((المانشيت)) اليومي. وقد كان هؤلاء ملحدون حقا،لكن بسياسيات السلطة . وقبل ذلك بقليل حرص السادات –فى أواخرعام1974 على أن يؤكد الخط الفاصل بين ما تريده السلطة من التيار الديني الاسلامي، وبين ما يريده لنفسه وهكذا أصدر احكاما قاسية فى قضية الفنية العسكرية ، ولم تفلح المساعي التى بذلتها بعض البلدان العربية ، لفك حبل المشنقة عن عنق المتهم الاول ، وكان تأجيج نيران الخلافات الدينية ، يؤدى على الجانب الآخر،الى مزيد من انكفاء الاقباط المصريين داخل نفوسهم وكنائسهم . وترسيخ اوضاع قياداتهم الدينية ، التى أصبحت المتحدث الرسمى بأسمهم ، وانهمكوا فى اللعبة التى فرضت عليهم،وتقلصت قضايا الوطن ،لتصبح بحثا عن حقوق انشاء الكنائس وحمايتها من الاعتداءات . وينبغي ان نشير هنا الى ان القيادة الرسمية للكنيسة – وخاصة البابا شنودة الثالث- باركت السياسة الرسمية للدولة سواء اكان الصلح مع اسرائيل ،ام احياء القوى الاجتماعية القديمة ،ام استنكار احداث يناير عام 1977 فلا يوجد هناك خلاف سياسي مع الدولة إلا على أساس دينى طائفي . وهذا الواقع يشير الى حقيقتين هما بعد معظم الاقباط عن الفاعلية السياسية من جانب ، وابتعادهم عن التيار الوطني الديموقراطي من جانب آخر، وهو ما يجعلهم ذوى نزعة اقرب للمحافظة. واذا كان الفكر الاسلامي فى مصر قد عرف مفكرين بارزين مستنيرين امثال الاساتذة خالد محمد خالد, د.محمد خلف الله ، والدكتور حسن حنفي، فقد عرف الفكر الديني المسيحي امثال هؤلاء مثل الأب متى المسكين الذى الف بعض الكتب الهامة التى تقف مع التقدم السياسي والاجتماعي فى عهد عبد الناصر ، أما المفكرين الاقباط ممن ينتمون للتيار المستنير فاكثر من ان يعدوا منهم الدكتور ميلاد حنا ، د.وليم سليمان وكثيرون آخرون .غير ان أصحاب الفكر الديني المستنير تأثيرهم غائب أو محدود . ولم تعرف الكنيسة القبطية ، كما لم يعرف الأقباط المصريون تيارا اجتماعيا سياسيا متميزا داخلهم يستمد أصوله من العقيدة المسيحية . فذا كان الفكر المسيحي العربى فى لبنان قد عرف تيارا جديدا ينفتح على العصر وقضاياه- المطران جريجوار حداد – واذا كانت القضية الفلسطينية ، وهى محور النضال القومى فى العالم العربى ، مثل المطران هيلاريون كابوتشى، والقس ايليا خورى الذى انتخب عضوا فى اللجنة التنفيذية العليا لمنظمة التحرير فان واقع المجتمع المصرى الذى تسيطر عليه عقلية اذكاء النيران الطائفية ، وواقع الكنيسة والأقباط وعجز القوى الوطنية الديموقراطية عن ممارسة التأثير الشامل، كل ذلك يقف عائقا امام وصول رجال الدين الأقباط ، بل والاقباط انفسهم الى مقدمة النضال الوطنى . ونستطيع ان نميز ثلاثة تيارات داخل الفكر المسيحي المصرى : التيار الأول ،وهو يبرز العزلة وينكفئ على الذات وتمثله خاصة القيادات الدينية المسيطرة ، وهى لا تعرف اى نوع من الانفتاح على القضايا الوطنية والقومية، فهى تكرس نوعا من ((القومية الفرعونية )) الضيقة التى تبتعد عن العالم العربى بقضاياه ، كما انها تقف مع الانفتاح على الغرب اقتصاديا وسياسيا ،وتبارك انهاء عصر ((الاجراءات الاستثنائية )) وتطابق بينه وبين الانجازات القومية التى حققها النظام الناصري . كما أنها تحبذ السلام مع اسرائيل، وتقف ضد اى حركة تناصر الثورة الفلسطينية ، والتيار الثانى تيار علماني مستنير يحبذ الفصل بين الدين والدولة، وهو يتابع سياسة الوفد القديمة فى ان ((الدين لله والوطن للجميع)) ويتجاوزها الى ادراك شمول الاضطهاد الاجتماعي والسياسي الذى يقع على المصريين جميعا. كما يدرك المخططات الاسرائيلية الامريكية لتفتيت المنطقة على أساس الكيانات الطائفية. ولا يفقد هذا الاتجاه التماس مع منطلقات الفكر الاشتراكى ،كما ان له توجهاته القومية العربية ، وينزع الى تأييد الثورة الفلسطينية كما يقف بحزم ضد السلام الاسرائيلي على الطريقة الامريكية ، وهو يشكل- أي هذا التيار- قسما هاما من القوى الوطنية والديموقراطية . أما التيار الثالث ، فهو التيار الاشتراكى الذى لا يشكل تيارا اجتماعيا فى أوساط الأقباط ، ويرتبط بأفراد يفتقدون التواجدالفعلى ، كما ان جماهير الاقباط لا تعتبره من ممثليهم ، وهو يعاني من العزلة التى يعانيها هذا التيار الاشتراكي فى مجمله - ومتطلبات هذا التيار تتوافق مع التيار السابق وتتجاوزه – غير انه لم يفرد مكانا خاصا فى برنامجه للمشكلة الطائفية بنوعيتها الخاصة ، وركز على القضايا الاجتماعية العامة وهو امر ادى لإضعاف تأثيره. من الواضح أذن أن التيار الأول وهو السائد –والذى يرتبط بالسلطة الكهنوتية يشكل بأفكاره رافدا هاما من روافد دعم سلطة السادات بتبنية الكامل لمجمل سياساته ، الا انه لا يستطيع فى الواقع لعب الدور الذى يمكن ان يلعبه التيار الاسلامي داخل الاغلبية المسلمه، فى مواجهة القوى الوطنية الديموقراطية . ولم يكن غريبا ان يعرض البابا شنودة فى أعقاب احداث يناير 1977 على شيخ الازهر تاليف كتب مشتركة للرد على الالحاد في مواجهة حركة طالبت بتطوير الظروف الاقتصادية وتحسين معيشتها، ورفضت القرارت الجائرة للبنك الدولي . كما لم يكن غريبا ايضا ان يرفض بتهذيب طلب التأليف المشترك. وحين اختطفت جماعة ((التكفير والهجرة)) الشيخ الذهبي فى النصف الأول من عام 1977 رحب الاقباط المصريون بالاجراءات المتخذة ضد تيار العنف الديني، الذى أصبح مصدرا لخشيتهم وأملوا-عبثا – فى ان تتوقف الدولة عن نزوعها فى تسعير الأحقاد الطائفية. ولكن تتالي مواقف التهادن وصولا الى السلام مع اسرائيل كان يفتح الطريق بأوسع مما كان مادامت هناك قوى وطنية تناهض السياسة القائمة ، ومادامت هناك ضرورة لحرف انتباه الشعب نحو قضايا طائفية، بدلا من القضايا القومية المصيرية. واستغلت السلطة مقتل الذهبى من اجل تقنين الشريعة الاسلامية، فبدأت تستخرج من ((الاحكام السلطانية للماوردى الفقيه ، حدود البغي والحرابة والردة ، ساعيه الى أن تطبقها اول ما تطبق على ((جماعة المسلمين)) بقيادة شكرى مصطفى ، وكان مشهدا فاجعا ان يقف نائب الأحكام فى المحكمة العسكرية التى عقدت لتحاكم جماعة المسلمين ليتكلم فى مرافعته عن الحدود الاسلامية التى ينبغي تطبيقها ، كما لو ان السلطة ارادت ان تذبحهم بخناجرهم . وبدا السادات وهو يحاول ان يكيف حدود الدين الاسلامي الحنيف لتصبح أدوات فى يده ، وكأنها موجهة الى مجمل التيار الديني فى مصر ، تحمل تحذيرا بعدم تجاوز الحدود المقررة . (2) من المعروف ان التيار الاسلامي قد طالب مرارا بتطبيق الشريعة الاسلامية الغراء وتقنينها ، وكانت سلطة السادات تقبل الدعوة الى ذلك ، دون أن تقبل تنفيذها ، فهى على استعداد للقيام بمظاهرات شكلية وكلامية تنتهي دائما بالتأكيد على أننا في دولة العلم والايمان ،ولكن السادات لا يتردد في الافادة من أي سلاح يمكنه من الدفاع عن سياساته ، فلا مانع من تقنين حدى البغي والحرابة ، فها هو سلاح شرعي أصيل يمتشق ضد الانقلابيين الدينيين ، ولا مانع – بصفة خاصة جدا – من التفكير فى تنفيذ حد الردة على هؤلاء الوطنيين واليموقراطيين الذين فشت فى أوساطهم الهرطقات ويلحدون بالدولة ...ولم تجد السلطة أى تناقض فى أن تجمع بين أصالة اسلام الجزيرة العربية ، وبين الاشتراكية الديموقراطية النمساوية، بين ترسانة قانون العقوبات- وقوانين الوحدة الوطنية وحماية السلام الاجتماعي ، والقرار بقانون رقم 2 لسنة 1977 – وبين الحدود التى تطبق على من خرجوا على ((السلطان)) وأثاروا الفتنة.. لقد كانت الدعوة إلى تطبيق الشريعة الاسلامية هى دعوة الى العودة لقوانين الطوائف الدينية، بينما ينبغي ان يكون هناك (( قانون واحد..لشعب واحد ) ) على حد تعبير الصحفى الراحل سامي داوود...كما أن تطبيق ((حد الردة)) كان يتناقض- من وجهة نظر البعض – مع حرية العقيدة والفكر التى كفلتها الاعلانات العالمية لحقوق الانسان، كما ((يكفلها)) الدستور المصرى ذاته الصادر عام 1971، وتتناقض من وجهة نظر الاكليروس القبطى مع حرية التبشير الدينى..وكان أن لجأ البابا شنودة الثالث، بعد الاعلان الاول عن تطبيق حد الردة فى ظل حكومة ممدوح سالم ، الى اصدار توجيه كنسي يكلف الاقباط بالصيام فى عموم مصر احتجاجا على ذلك...وتراجعت الحكومة عن قرارها بشأن واحدة من أهم القضايا المختلف عليها..وقبلها أثيرت قضية تعداد الأقباط ،واختلفت سلطات الدولة مع الكنيسة وأثيرت مشكلة انتهت الى لا شيئ...ويلاحظ ان رجال الكنيسة ينطلقون فى كل معالجاتهم للقضايا من نفس الجذر الطائفي ..فهناك مشكلة حقيقة يعانى منها الاقباط المصريون وهى التمييز بينهم وبين المسلمين على أساس دينى ، ويكفى أن نعرف ان القانون الذي ينظم شؤون الطائفة المسيحية فى مصر يعود الى أواخر القرن الماضى ، وهو القانون المعروف بالقانون الهمايونى الصادر فى العهد التركى العثمانى .. ولا شك أن أبرز مظاهر هذا الوضع هو ما نجده من ان الوظائف العليا فى الدولة محتكرة تقريباً ، فضلا عن وظائف الجيش والشرطة ، فلا يسمح بالوصول اليها فى الغالب لغير المسلمين ، وهو وضع شامل تقريبا فى أجهزة الدولة وشركاتها العامة ، بل ان السلطة ذاتها تضطر الى تعيين ممثليين عن المسيحيين فى جهاز الدولة او فى مؤسساتها النيابية،حين لا يفلح هؤلاء فى الوصول- وهو ما يحدث غالبا- الى هذه الاجهزة والمؤسسات ، ومن البين أن هذا المنطلق ذاته بعد تكريسا للنزعة الطائفية.. كما أن تدخل الكنيسة في اختيار الممثلين ومحاولة زيادة عددهم ينطلق من ذات الجذر ... ومنطلق التمثيل النسبي يعني أننا لسنا مصريين بل طوائف .. ولا شك ان وضعا كهذا سيبقي بكل نتائجه المحتملة والمدمرة اذا لم يلتحم الاقباط المصريون بالحركة الوطنية الديموقراطية ،التى ترفع راية العلمانية وترفض التمثيل النسبي ، وتؤسس اختياراتها على أساس الكفاءة والاتجاه السياسي، فلا يمكن للمسيحي ان يتحرر في دولة غير متحررة ، فالاضطهاد يقع على المصريين جميعا، وسبيله الوحيد هو الالتحام من اجل اعادة الوجه العربى لمصر باستئناف النضال ضد العدو الاسرائيلي، بفرض مطالبه في الحريات الديموقراطية، وأن يتوج هذا النضال باقامة جمهورية ديموقراطية علمانية ، عبر تجاوز حكم السادات، الذى يشكل ضرورة لاكمال المسيرة القومية للشعب المصري... أما أهم قضية مثارة ، فهى قضية الاعتداءات التى وقعت على عديد من الكنائس فى بعض مدن مصر ، وكذا الاعتداءات التى تقع على الأقباط كأفراد- آخر حادث اعتداء بعد وقائع الزاوية الحمراء وقع على القس شنوده كاهن احدى كنائس منطقة الالف مسكن بالقاهرة- ومسلسل العنف الطائفى الذى يمارسه التيار الديني الاسلامي المتعصب لم يتوقف منذ عام 1972 ..كما أن هذا العنف قد زاد في أعقاب سقوط شاه ايران وتسنم الامام الخمينى موقع الرئاسة.. فقد رأي هذا التيار فى انتصار الخميني انتصارا له.. وانتعشت آماله ، ولم تنتعش فى ارتباطها بقضايا الوطن الا على بعض صفحات قليلة من مجلاته العلنية ، ولكنه فى دعوته لم يتخط ذات الأطر – (( معارضة لكامب ديفيد ، وتضامن مع الثورة الايرانية فى الصحافة لا فى التحريض اليومي الذي يقتصر على التحريض الطائفى تقريبا )) – وأمعن في تسعير التمايز الطائفي... وتحت غطاء الانتصار الايراني، راح يلجأ الى مزيد من اجراءات العنف.. ورحبت مجلة الدعوة وهى مجلة الاخوان المسلمين التى صرح بصدورها عام 1976- بالثورة الايرانية ورأت فيها نموذجا للثورة الاسلامية المبتغاة، ودبجت المقالات على صفحات المجلة ، الى ان اصطدمت الثورة الايرانية بنظام السادات وخصوصا بعد ان استضاف الشاه في القاهرة، فراحت تقلل من الناحية الظاهرية فقط من احتفالها بها بمنطق: (( يابيت عاتكة الذى اتعزل...حذر العدا وبه الفؤاد موكل )). .. لقد أثارت الحرب الاهلية اللبنانية اولا- التى أبرزت صحف السادات طابعها الطائفي أكثر مما أبرزت طابعها السياسي كما أنها كثيرا ما تصف الحكم السورى بأنه حكم علوى- والثورة الايرانية ثانيا مخاوف الاقباط المصريين وبدأوا يترقبون صداها فى مصر... ورغم ان امكانية ايجاد طبعة مصرية من الثورة الايرانية ، مسألة صعبة ان لم تكن مستحيلة ، لاختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، ولان التيار الديني في مصر منفصل عن قضايا الشعب الاجتماعية والسياسية ، ولان ((الممكن الوحيد)) أمام هذا التيار الديني هو اساليب التآمر الارهابى ..لهذه الاسباب فان ((ثورة اسلامية )) غير واردة ، خصوصا بعد أن تبين طابع السلطة الايرانية ، كما انه لا يشكل اجابة على مشاكل مصر... لقد أيد التيار الاسلامي هذه الثورة التى تقوم على أساس ((مذهبى)) مختلف ، ورأى فيها نجاحا ورغم أن هذه الثورة لم تجد صدى واسعا في مصر الا فى بداياتها ، وأثرت على أحاد من المثقفين من قراء ((صوت المستضعفين)) وبدت لديهم كما لو كانت حلا سحريا لخصوصية قضية الثورة فى بلادهم..، مع ذلك فان استاذا جامعيا واحدا هو الذى احتفل بها ، وراح ينشر كتابات المرجع الدينى الأعلى ، وحين أصدر فى أوائل هذا العام مجلة تدعى ((اليسار الاسلامى )) كان هو الوحيد الذى كتب معظم مقالاتها ، هواذن اتجاه اكاديمي محدود لا يمثل تيارا اجتماعيا فى الواقع ، ومن الضروري ان نشير الى ان ناشر هذه المجلة ينطلق من أصول تتباين عن التيار الدينى التقليدي الذى يرى في الثورة الايرانية وجهها العنيف والمتعصب والمحدود الأفق... لقد تزايد الاحساس بالخطر لدى الاقباط ، وبدت لديهم الجماعات الدينية ، وكأنها قد انفلتت من عقالها.. ********** وفى ليلة عيد الميلاد الموافق 6 يناير 1980،القى وزير الداخلية بيانا عن القبض على المخربين الايرانيين الذين جاؤوا لنسف بعض الكنائس، في الوقت الذي القيت فيه فعلا بعض القنابل على كنائس في الاسكندرية، وحدث ذلك قبل أن يلقى البابا شنوده الثالث بطريرك الاقباط المصريين عظة عيد الميلاد التى دعا فيها لمجاهدى افغانستان، وصلي من أجل ان يحل السلام على ربوع المملكة العربية السعودية ، بعد حوادث الحرم المكى الشريف.. وبدت السلطة التى يمثلها السادات - فى أعين الأقباط – وكأنها أضعف من أن تحميهم، هذا ان لم تكن متواطئة مع الاعتداءات التى تكررت قبلها ، سواء بالنسبة للكنائس أو الأفراد ..وهى الاعتداءات التى صبت الماء في طاحونة الاتجاهات القبطية المتعصبة.. لقد تزايدت الاتهامات للحكومة من الاقباط ، واعتبروها مسؤولة عما يحدث ، منطقيا الا يروا ان مناخ خيانة القضية الوطنية وقمع الحريات الديموقراطية ،واستغلال التيار الديني الاسلامي المتعصب ،هى العوامل الكامنة وراء ما يحدث ..لقد تمثل الامر لديهم ببساطة فى ان السلطة تدعم المسلمين فى مواجهة الاقباط .. واحتجاجا على الالام التى يعانيها الاقباط فى مصر صدر قرار من المجمع المقدس بالغاء الاحتفالات الدينية بعيد القيامة – مارس 1980 –وعدم تقبل التهانى والاعتكاف فى الاديرة...واستشاط السادات غضبا ، وظهرت الصحف اليومية تحمل صورة الاب ((متى المسكين)) والسادات ، وقد كان الاب متى احد المتنافسين على كرسي البابوية الا انه لم يفز به وفاز البابا شنوده.. وبدت للجميع أن هناك محاولة من الحكومة للتدخل لازاحة البابا شنوده.. رغم أن الانتخاب لمنصب البابا يجري بين المرشحين بطريقة القرعة ((الالهية)) ،اى ان تعيين البابا عمل سماوي لا يجوز لسلطة دنيوية التدخل فيه.. وكان مجرد ظهور هذه الصورة كفيل بان يثير الاقباط وان يحفزهم للالتفاف حول البابا، معتبرين ان تدخل الحكومة- ان تم- ينبغى ان يلقي مقاومة حازمة مهما كانت نتائجها.. وكانت أيه خطوة حمقاء من جانب الحكومة كفيلة بأن تقود مصر الى اتون حرب اهلية طائفية ضاربة...وهكذا كانت سياسة السلطة تدفع نحو تكريس مواقع القيادة الدينية وتثبيت التفاف الاقباط حولها ، من منطلق ديني طائفي ... وكان أن ذهب السادات الى الولايات المتحدة لمقابلة كارتر وتظاهر الاقباط المصريون المهاجرون هناك ضده ، وأغلبهم قد هاجر رفضا لانجازات عبد الناصر القومية منذ الستينيات، ويمثلون اتجاها انعزاليا ضيقا يتسم بالتعصب وهم يغذون الشعور الطائفى من خلال مجلة يصدرونها باسم ((الاقباط)) التى تدور حول محور واحد هو التحريض الطائفى الفظ ، وهم يتهمون السادات بالعمل ضد الاقباط وتسويد الاغلبية المسلمة...وعاد السادات من واشنطن ليلقى خطابا فريدا يقلل فيه من المشاكل التى يواجهها الاقباط ويستثير بنفسه الاغلبية المسلمة على الاقلية المسيحية... لقد تهكم على مزاعم المسيحيين ، واعتبر ما يلاقونه من حوادث اعتداء ظواهر فردية لا تعكس شيئا، وصور البطريرك بصورة من يحاول ان تسيطر السلطة الدينية على السلطة الزمنية ...وبدأ خطابه استعداء واثارة ونفخا في النار الطائفية... فلماذا لجأ الى ذلك ؟ أزمة المعارضة ينبغى أن نشير أولا الى ان القوى السياسية – المعارضة للنظام – المعارضة بالمعنى الواسع للكلمة ...قد عانت من انحسار حاد في أعقاب يناير 1977 ، وربما كان الحديث عن أزمة المعارضة أدق تشخيصاً ، وهى أزمة ذات جانبين :الجانب الأول ويمكن أن نسميه بالموضوعى يتمثل في التشريعات العقابية الاستثنائية التى تتالت بعد أحداث18،19 يناير ، بدءا بالقرار بقانون رقم 2 لعام 1977 وصولا الى قانون حماية القيم من العيب عام 1980 ، ومروا بالطبع بقانون الاحزاب..وهى قوانين تشدد العقاب على وسائل التعبير عن الرأى كالاعتصام والاضراب والتظاهر السلمي ، لتصل الى الاعدام او الاشغال الشقة المؤبدة لمدة خمس وعشرين عاما... يضاف الى هذا انتشار اللامبالاة السياسية بين قطاعات واسعة من الشعب انهكها التدهور الاقتصادي وتدنى مستوى المعيشة ، فاختارت الاذعان بدلا من الاحتجاج ، واستنزفتها مطالب الحياة اليومية...وهذه قطاعات حين تصاب باللامبالاة فانها تضعف الى مدى بعيد من فاعلية المعارضة السياسية ، التى تمثل- هى- قاعدتها.. وهذه القطاعات قلوبها وأمانيها مع المعارضة،بيد أن خضوعها السلبى يدعم النظام ..وقله قليلة هى التى ما يزال يخطف أبصارها بريق حرب اكتوبر ،وتعمى عن رؤية النتائج التى ترتبت عليها، وهى حتى الان ما تزال تنتظر الرخاء القادم عام ((1980) وآثار الانفتاح وبركات السلام الاسرائيلي ..... (3) أما الجانب الذاتى الذى يتعلق بالمعارضة ، فجوهره هو عدم توفيقها حتى الان في الوصول الى صيغة جبهوية تقوم على اسس مبدئية ، بناء على برنامج وطنى ديموقراطى متماسك يناضل الجميع على أساسه..انها قوة كبيرة لكنها غير متلاحمة ومفتتة، وتسود بعض قطاعاتها عقلية أصحاب الحوانيت أكثر من عقلية السياسي الواعي الذى يعرف كيف يستجمع القوى ويحشد الطاقة وان عملت المعارضة بكل قوتها ووظفت كافة امكانياتها ، وعرفت كيف تدير نيرانها منسقة ((الداخل)) مع ((الخارج)) لتغير وجه مصر التى افتقدت وجهها العربى فى ظل السادات .. لقد استطاعت المعارضة أن تبرز – الى هذا الحد أو ذاك – صوت مصر الشعب في كل القضايا التى طرحت، وان كان ذلك فى حدود معينة غير ان بعض أقسام هذه المعارضة لم يقاوم بشكل حقيقي وفعال توظيف السلطة لهذا التيار الديني كما لم يواجهه الا على بعض الصفحاتالتى تناقش الفكر الديني ، والأخطر من نفس أرضيته.. بمعنى آخر لم تكن المواجهة حازمة بالشكل الذى ينبغي ان تكون به...وقد تأثرت المعارضة فى الواقع بالاتهامات التى القتها السلطة فى وجهها، ولم تستطيع أن تتجاوز الاحراجات ، خاصة وانها تعيش جوا من المطاردة والملاحقة متعددة الاوجة عبر المستوى الصحفى والاعلامي ، ومن خلال الحزب الوطني الديموقراطي،وأحيانا بالاعتقال والسجن ، وذلك كما يحدث دائما لحزب التجمع التقدمي.. كانت محصلة الاوضاع السابقة يضاف اليها المستوى المحدود من قدرات المعرضة التنظيمية الجماهيرية، وتركزها الاساسى فى المدن الرئيسية ، ان تفشي التيار الديني، واضحت المساجد نقاط ارتكاز للتحريض الطائفي ..واذ كان الاقباط يمثلون اكثر من 10% من السكان، ويتركزون في أسيوط التى تصل فيها نسبتهم العددية الى 20% ..وفقا لاحصاء رسمى صادر عن الجهاز المركزى للتعبئة والاحصاء عام 1976 – وتليها القاهرة والمنيا وسوهاج ، فقد حاول التيار الديني التمركز في ذات المناطق ،وكثيرا ما نرى شرارات الفتن الطائفية تندلع أول ما تندلع من هناك ..من أسيوط أو المنيا... على أى حال ، كانت ثمرة الأوضاع التى اسلفنا الحديث عنها أن أصبح التيار الديني الاسلامي المتعصب هو السائد ، دون أى تميز بين اتجاه متطرف وآخر حذر متبصر، فالاثنان تضافرا على خوض المعركة.. وأقلق السادات هذا النمو المذهل الذى قد يؤدى لاختلال معادلته ، فهو لا يريد أن تصل الامور لحافة حرب اهلية فهذا يهدد النظام ، انه يريد فقط كابحا للقوى الوطنية الديموقراطية التى تتربص به وتشتبك مع فى بعض المعارك...وكانت مظاهرة الاقباط المصريين في الولايات المتحدة مناسبة ملائمة يوظفها من أجل ضربة مزدوجة ، واحدة يوجهها للاكليروس القبطي الذى بات يتصدر تحركات الاقباط ، وآخرى للتيار الديني الاسلامى الذى اصبحت المساجد نقاط انطلاقه...فيبدو ملكيا اكثر من الملك من خلال تشدد ديني مفتعل ، وكان أن اعلن أنه ((رئيس مسلم لدولة مسلمة)) وان الوقت قد حان لتطبيق الشريعة الاسلامية بعد تقنينها، وأنه لا يسمح بتكرار هذه الأمور مرة أخرى- وكان يقصد بذلك موقف الاحتجاج الذى اتخذه البطريرك بان منع الاحتفال بعيد القيامة... وقد كان صدى خطاب السادات الذى أشرنا الى مضمونه، يكشف عن انه قد أفلح فى أن يوجه انظار الشعب الى القضايا الدينية ، وأنه نجح في استثارة نعرة طائفية عميقة طفت على السطح بعدها لفترة طويلة انصرف الناس- بشكل مؤقت – بعيدا عن القضايا القومية ،ووجدوا متنفسا زائفا عن اضطهادهم الاقتصادي والاجتماعي ، بعد أن الهبت مشاعرهم الدينية ضد اخوانهم المصريين الاقباط... وقد صبت السلطة بذلك الزيت على النار.. وهيأت لما حدث فيما بعد... الاحداث الأخيرة حلقة منطقية اذن لم تكن احداث الزاورية الحمراء الاخيرة ، وردود الافعال التى أثارتها في مناطق أخرى ، بشئ خارج عن سياق التهيئة العامة التى اعدت لها سلطة السادات بسياساتها .. ورغم ان الصدامات والصراعات الدامية احيانا قد وجدت مجالاتها في ظل المناخ الطائفى ، الا انها المرة الاولي التى يتخذ فيها الصدام هذه الابعاد ، ووراء القتلى والجرحى والتحريض الديني الطائفى ، والاشتباكات المسلحة ، تقف هناك عناصر التفاعل : سلطة الدولة ، التيار الدينى بوجهيه المسلم والمسيحي الذى ينطلق من مواقع التعصب ، التآمر الخارجى الامريكى الاسرائيلي ، وأخيرا عجز القوى الوطنية والديموقراطية الراهن عن أن تصد هذه العناصر وتقدم الوجهة الحقيقية للنضال على أساس اجتماعي سياسي... والمسألة الآن ليست عدد القتلى والجرحى وعدد المتهمين فى احداث الشغب الطائفية ، لان المناخ الذى يسهم فى ظهورها هو الجذر الأساسي الذى يجب اجتثاثه. ويشاع الآن أن من ثمار تسعير الخلافات الدينية أن برزت جمعيات قبطية سرية مثل ((جند المسيح)) و ((الامة القبطية)) وهما منظمتان مسلحتان ويقال بأن مخزن سلاحهما يقع فى ((دير المحرق))، ومصدر هذه الشائعات منشور وزعته الجماعات الاسلامية في اعقاب احداث الزاوية الحمراء .. وأيا ما كانت درجة صحة هذه الشائعات ، فاننا نرى ان من الصعب كبح جماح بعض رجال الاكليروس القبطى ، لانه يندر ان يدير أحد خده الايمن ليضرب على الايسر لوقت طويل!! والمعادلة التى يريد ان يحتفظ بها السادات لتصفية الحياة السياسية فى الشارع المصرى بالهاء الشعب عن القضايا الاساسية سرعان ما ستختل في يده ، وسيحترق نظامه في ويلاتها... لقد أصبح القمع الاقتصادى ، والسياسي الذى يرتدي اشكالا مختلفة متضافرا مع التخريب المعنوى والثقافي الشامل هو السياسية ((القومية )) العامة لحكم السادات.. وتتباري اجهزة الاعلام في تقديم ما يوهن ويبلد الحياة الذهنية وفق احدث الطرق العصرية ...وما من سبيل لانهاء هذا القمع بمختلف اشكاله الا بالقضاء على النظام الذى يولده...والطريق الذى يوحد كل القوى فى مواجهته هو طريق يبتعد بطبيعته عن أى خلافات طائفية ، لانه لا يفرق بين القوى المنخرطة فيه ، ومعياره هو التوجهات الاجتماعية والسياسية.. ويعرف الجميع انه ليس امرا جديدا ان تلجأ بعض السلطات الحاكمة الى تسعير الاحقاد الدينية، لكى تحرف انتباه الشعوب بالخلافات الطائفية ، وتحولها عن اعمق مشاكلها الاقتصادية والسياسية الجوهرية، وأن تفتت القوى التى تشكل قاعدة مواجهته... وهذا صلب كل اتجاه يحاول ابراز الانقسام الديني بديلا عن الانقسام السياسي... وقد كانت الجراح التى سببتها القوى الوطنية الديموقراطية للنظام عميقة ، وهى ما دعته الى أن يمسك بسوط القمع فى يد، وسوط تزييف الوعى فى اليد الآخرى ...وفي الظاهر حين يبدو السادات مدافعا عن الدين الاسلامي، وكأنه يسعى لتأمين قمع الهرطقات وكفالة سعادة العالم الاخر ، فانه فى الواقع يجرب احدى ((الادوات)) لحماية سلطته... وهناك حدان قاتلان لهذه الاداة، فانه حين يساند التيار الدينى فانه لا يستطيع ان يوقفه عند حدود النظام فهو يعمل وفقا لآليته الداخلية التى لا يستطيع أن يتحكم فيها...ومن ناحية آخرى فان تحول الدولة الى دولة علمانية ينفصل فيها الدين عن السلطة بعد ان اصبح هناك دين رسمى للدولة يمثل مصدرا اساسيا للتشريع قمين بأن يسفر عن التمايزات السياسية ، التى ستتجه حتما لاسس نظامه... من هنا يواجه السادات خيارا دقيقا اما حرب اهلية على اسس دينية ، واما صراعات سياسية تجرى فى مناخ ديموقراطى ، يختلف عن الديموقراطية المزعومة التى تساندها الشرطة يدا بيد مع المدعى العام الاشتراكي.. لقد حاول السادات وكذا وزير داخليته نبوى اسماعيل أن يبررا اختلال الامن الى حد وجود ما يقرب من الترسانة المسلحة الجاهزة في منطقة الزاوية الحمراء ،بالقاء تبعتها على المعارضة ،وخاصة على حزب التجمع التقدمي... وغنى عن القول ان المعارضة ليست لها اية نزعات دينية طائفية بل كانت هى القوة الوحيدة التى حاولت ان تقف ضد التيار الديني المتعصب ،فضلا عن ادانتها لاحداث العنف... كما أن برامجها السياسية وتاريخها يدلان بوضوح على ان توجهاتها توجهات وطنية شاملة لا صلة لها بأى تمايزات غير سياسية.. ان القول بأن حزب العمل الاشتراكي المتحالف مع اليسار قد حرض المسلمين على الاقباط ، وحرض الاقباط على المسلمين ليس اكثر من ((حجة سلطة)) وهى في الواقع شهادة اعلان افلاس ، فاذا كانت المعارضة قد اسهمت فى تأجيج نيران الفتنة الطائفية على هذا النحو المباشر ، فلم لم تتخذ الاجراءات القانونية ضدها، فاذا كان هذا موقفا فرديا من بعض المنتممين الى هذين التنظيمين ، فلماذا لم نسمع عن هؤلاء حتى الان ، والسلطة لا تفتقر فى العادة الى الحماس الذى يدعوها الى تشكيل مشهد اعلامى حافل ، من امثال هذه المواقف الفردية فضلا عن تلفيقها... وهنا نعيد التذكير ببعض ما قلناه فى موضع سابق ، وهو ارتباط بعض الجماعات أو بعض أفرادها على الأقل- بأجهزة أمن الدولة ، وهو أمر يدعونا الى عدم استبعاد التآمر المباشر، رغم منطقية الاحداث... فالتآمر حتى وان كان قائما لا يستطيع بذاته ان يفسر هذا المدى الواسع الابعاد الذى اتخذته وقائع الفتنة الطائفية ، فمن الصعب ان تدخل الجماهير بهذا الشكل فى مؤامرة ان كان هناك افتقاد لاساس يحفزهم للحركة... وهذا فى حد ذاته لا يستبعد التآمر ، لكن يضعه فى حجمه الحقيقي... ونريد ان نوجه الانتباه لبعض المؤشرات الهامة- وربما كان الوجه التآمرى محاولة لقطع الطريق عليها- فقد توصلت القوى الوطنية الديموقراطية فى مصر الى طرح صيغة جبهوية تضم اهم احزاب المعارضة ، وهى بمثابة تحالف عريض يناهض اتفاق كامب دبفيد ومعاهدة السلام ويسعى لالغائهما والعودة الى التضامن العربي. وقد ظهر هذا التوجه الجديد من خلال عقد مؤتمر جماهيري جمع كل اطراف المعارضة – وشمل لأول مرة بين صفوفه مجموعة دينية تدعى الشبيبة المسلمة- وقد صور الصحفى موسى صبري هذا المؤتمر بشكل لا يخلو من دلالة فقد كتب فى افتتاحيته اليومية: (( ثم تجئ فى الاجتماعات الشعبية التى تعقدها المعارضة التى جمعت الآن بين المؤمن والملحد والاشتراكي والشيوعي واصبحت مبارزة للاصوات المرتفعة )) وقد لا يكون من المصادفة ان يعقد هذا المؤتمر ثم تعقبه فى اليوم التالي الاحداث الطائفية ، خاصة وان المعارضة قد اتخذت موقفا حازما من الاعتداء الاسرائيلي على المفاعل النووى العراقى، وفى ذات الوقت خرجت مظاهرات بالاسكندرية يقودها طلاب وطنيون وديمقراطيون، ينددون بالعدوان ويتهمون السلطة بالتواطؤ مع العدو الاسرائيلي، ويطالبون باتخاذ اجراءات رادعة بالغاء معاهدة السلام واعادة العلاقات مع البلدان العربية . كما ان قصف المفاعل قد أدى الى ردة فعل شعبية مؤداها : استحالة السلام مع اسرئايل، وذلك عكس ما تقدم به الاعلام الرسمي . وكان منطقيا ان يضع الشعب امامه هاتين الصورتين المتناقضتين ، صورة الرئيس المصرى مع الاسرائيلي قبل ثلاثة أيام من ضرب المفاعل ، واعلانه ((الحياد)) بين اسرائيل وسوريا العربية ، وتغاضيه عن العدوان المتكرر على لبنان ، وبين واقع عربدة اسرائيل تحت مظلة معاهدة السلام . كما أن الصورة لا تكتمل ان لم نشر الى الصراع الحاد الذى تخوضه نقابة المحامين المصريين دفاعا عن القضايا القومية . ومن بين كل ما ذكرنا لا يخشي النظام شيئا قدر خشيته من رد الفعل الشعبى الذى ظهر فى أعقاب العدوان على العراق وامكانية تكراره، وربما وهذا احد الاحتمالات التى يضعها السادات فى حسبانه ، تتغير الاوضاع، وتتجه الريح فى وجهة معاكسة ضد اسرائيل ،أى ضده هو أيضا. ان هذه الخلفية التى تبين تنامى قوى المعارضة والتقائها بالنقمة الشعبية الموجهة للنظام ، تبين معنى التوقيت الذى جاءت فيه الاحداث التى ربما تكون قد بدأت عفوية لكنها انقلبت بفعل تدخلات تآمرية – غير مستبعدة ،خاصة وان الطرف الاساسى المستفيد هو الحكومة القائمة . ولا يجدى فى تضليل ما روجت له بعض اجهزة الاعلام فى الداخل والخارج من أن موسكو وراء الاحداث، كما ان الاحزاب المعارضة لن تنتهز أيه فرصة لتصعيد حملة المعارضة ضد الحكومة على أسس طائفية..كما ان توجهها " الطائفي" لم يمتد حتى أمريكا وكندا ليحرض الاقباط هناك !! يوجد نشاط للمعارضة ... سياسيى لا طائفي ديني...وطنى لا عزلوى.ان تلك الدعوات الزائفة لا تخدع احدا ولا تتطلب تكذيبا. وكما يحدث دائما ،فى أعقاب كل الاحداث ، تصدر السلطة بيانات متفائلة لا يشوبها الحذر، فهى قد اعلنت ان المشاكل قد انتهت، وان الخطر قد زال، وان الازمة العصيبة قد ولت ، وانها لم تكن اكثر من حادث جزئي عارض ومؤقت ، وان الوحدة الوطنية بخير ، وقد عادت لنقائها الاصلي. لكن الواقع غير ذلك ، فقد تركت هذه الاحداث احقادا بين الجانبين ، ولانغالى ان قلنا ان الاقباط صاروا بعدها يفتقدون الامان تماما، وعادوا يطرحون مصيرهم – فى بلادهم !- موضع التساؤل . وفى ظل مناخ تحمى الوحدة الوطنية فيه قوى الامن المركزى،ودورات الحراسة المشتركة بين الشرطة العادية ومباحث أمن الدولة ..نقول من الصعب فى مناخ كهذا ان نطمئن. واذا كان البعض من خيرة المثقفين المصريين قد قدم الى المحاكمة فى أعقاب احداث يناير 1977 بتهمة التهيئة لما حدث، الا يستحق النظام وممثله الرسمي ان يحاكم بنفس التهمة ؟ التهيئة لما حدث ! ********* وعلى الجانب الآخر ، من المعروف أن هناك مخططات امريكية – اسرائيلية لتفتيت المنطقة الى كيانات صغيرة طائفية ، تسهل احكام قبضتيهما على المنطقة العربية . وتاريخ الولايات المتحدة معروف فى هذا الصدد حتى فيما يتعلق بمصر. ففى الثلاثينات كانت الارسالية الامريكية تقوم بتبشيرها الديني داخل الجامع الازهر ! ولم يكن الهدف بالطبع سوى استثارة حرب طائفية فى مصر، لا دعوة الازهريين بالذات الى المسيحية . وفى عام 1975 عقد مؤتمر اسلامى فى احدى الجامعات الامريكية ،هدفه دراسة المجتمعات الاسلامية من جوانب متعددة ومن بينها : ((مسح للحركات الاسلامية المعاصرة )) ((أهدافها ،منظماتها ،والمناهج المختلفة التى تطرحها لتحقيق اهدافها )) ومن المعروف اين تنتهى هذه الدراسات بالضبط : الى المخابرات المركزية الامريكية . وفى عام 1978 عقدت جامعة برنستون مؤتمرا درست فيه مسألة ايجاد خريطة جديدة للمنطقة بتفتيت الدول القائمة الى كيانات عنصرية ودينية قزمية، تلتقي الاقليات فى لبنان وسوريا وفلسطين معا لتشكل كيانا منفصلا، ويلتقى الاكراد فى العراق وسوريا وايران، والسنة والشيعة والدروز والعلويون، لتشكل كل طائفة دينية كيانا مستقلا . وهكذا يتم تعميم النموذج الصهيوني وجعله عملاقا بين كيانات قزمية. والمخابرات الامريكية التى اصبح اهم مقارها مصر، تهتم منذ فترة طويلة ، وخاصة بعد السلام المصرى الاسرائيلي ، باستغلال الشعور الديني وتوجيهه وجهة طائفية ، وهذا الاتجاه فى الواقع يسير فى اطار السياسة الامريكية عامة ، والخطة التى اعدها كيسنجر خاصة، وهى تفجير البلدان العربية من الداخل بتسعير الخلافات الطائفية التى ستقف عندئذ امام اى اتجاه قومى عربى . ويمكن ان نضيف ان كل الاتجاهات الوحدوية ذات الطابع الديني كان هدفها دائما الوقوف فى وجه التيار التحررى القومي العربي. وجامعة الشعوب الاسلامية التى لفقها السادات هى مثال على ذلك . وفى ظروف تهديد سوريا العربية والاعتداءات المتكررة على جنوب لبنان ، وعقب الاعتداء على المفاعل النووى العراقى ، والعربدة الاسرائيلية الشاملة ، تبدو ضرورة تفجير احداث العنف الطائفية لتحرف الانتباه عما يجرى فى المنطقة . ويبدو كما لو كان قاعدة تحكم تاريخ مصر وهى أنها لا تعرف اشكال الصراع الديني الا فى اوقات الردة الوطنية ، وحين تسيطر الاتجاهات المتعاونة مع المستعمر الاجنبي،التى تضحى بالمصلحة القومية ، من أجل مصالحها الانانية الضيقة ، فتدفع الى السطح مختلف انواع المشاكل الطائفية، حتى تعتم على القضايا الاساسية ، وهى الوقوف ضد المستعمر وحلفائه فى الداخل والخارج، وحتى تديم اضطهادها الاقتصادى والسياسي والثقافى ، وحتى تحول دون التلاقي العربي . فما هو الموقف الذي ينبغى اتخاذه. الطريق الى وحدة وطنية حقيقية لقد عرضنا العوامل الاساسية وراء الاحداث الطائفية ، وهى عوامل باقية مادامت الظروف التى تكرسها باقية ، ووراء الهدنة المؤقتة ، لاشك ان هناك حلقات جديدة فى طريقها للتهيئة. لقد أبرزنا موقف السلطة من التيار الدينى والمعادلة التى تحكمها فى ذلك ويمكن ان نصل من كل ما سبق الى ضرورة مناهضة كافة اشكال التدخل البوليسي فى الجمعيات الدينية ، وكفالة حرية الاعتقاد ،وانهاء الوضع المشين الذى يبرر الفوارق فى الحقوق المدنية استنادا الى اختلاف المعتقدات الدينية ، والعمل من اجل تحقيق هذا المطلب هو جزء لا ينفصل عن الحريات السياسية . من ناحية اخرى ينبغى فصل الدين عن السياسة ، بمنع أى تشكيل دينى او سلطة طائفية من ممارسة العمل السياسي بصفته هذه، وبالطبع مواجهة اى تشكيلات مسلحة تقوم على هذا الاساس . وبايجاز رفض اى اتجاه ديني يسعى الى اعادة تشكيل الدولة وفق مقاييس دينية ، او يضع تفسه اداة فى يد السلطة الحاكمة. ويبقى ..ان المعارضة المصرية ستقوم بخطة اعلامية وثقافية لمحاربة الطائفية واخراج الحوار الدائر بين اجهزة الامن والمطارنة والاساقفة الى دائرة المفكرين والمثقفين والقيادات السياسية الواعية...غير ان القضية الاساسية هى مواجهة الاتجاهين الدينيين المتعصبين داخل المسلمين والاقباط، ودفع الاقباط بشكل أخص الى الالتحام بالقضايا المصيرية التى تهم امتنا عبر الانخراط السياسي المباشر فى صفوف المعارضة ،والتوعية التنويرية الشاملة باتجاهات السلطة ومواقفها ...ويبقى ايضا...ان مصر- مسلمين وأقباط – لن تتحرر..إلا بتجاوز نظام السادات . *** نشر المقال فى جريدة الخليج التى تصدر فى الشارقة أغسطس – آب 1981 . فرع الخارج باسم قلم . وقد روعى فى المقال طبيعة المنبر العلنية وجمهور المخاطبين .
#سعيد_العليمى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فى أزمة غياب القيادة الثورية - 1
-
حزب العمال الشيوعى المصرى - تأريخ النميمة والإغتياب
-
حزب العمال الشيوعى المصرى فى التأريخ الكورييلى
-
قبل أن تهب العاصفة 3 - حتى لانتذيل الجناح الآخر للثورة المضا
...
-
قبل أن تهب العاصفة 2 - هل يمكن أن نتجاوز فوضى الشعارات ؟
-
قبل أن تهب العاصفة - 1 - حتى لانعزز الثورة المضادة
-
القانون ونشأة الذات الرأسمالية - يفيجينى ب . باشوكانيس
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - سايمون كلارك - مر
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
الماركسية وأنثروبولوجيا المدارات الحزينة - تأليف سايمون كلار
...
-
سلطة الشعب أو - ثورة إدسا - بين التوظيف الليبرالى ومرض الشيخ
...
-
الواقع السياسى بين النص القانونى والصراع الطبقى
-
السياسة والمضمون الطبقى
المزيد.....
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
-
اختفاء حاخام يهودي في الإمارات.. وإسرائيل تتحرك بعد معلومة ع
...
-
إعلام العدو: اختفاء رجل دين اسرائيلي في الامارات والموساد يش
...
-
مستوطنون يقتحمون مقبرة إسلامية في الضفة الغربية
-
سفير إسرائيل ببرلين: اليهود لا يشعرون بالأمان في ألمانيا
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -أفيفيم- بصلية صا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة -ديشون- بصلية صار
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|