|
هيمنة بوجوه متعددة، لكن بلا روح
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1216 - 2005 / 6 / 2 - 13:58
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أعلن يوم 26 نيسان انطواء مرحلة من العلاقات السورية اللبنانية تميزت بهيمنة سوريا على النظام السياسي اللبناني واحتلال الموقع الذي يمكنها من السيطرة على التفاعلات الداخلية بين اللبنانيين. على أن لبنان لم يكن مساحة سلبية للهيمنة السورية خلال سنوات ما بعد الطائف، كما لم يكن محض ساحة لحروب الآخرين على ارضه خلال سنوات الحرب. فقد كانت الطبقة السياسة اللبنانية شريكة على العموم في نظام الهيمنة الذي فضل القيادات السابقة، الطائفية والمشاركة في الحرب الأهلية، (وإن يكن أقصى قيادات مارونية فاعلة)، لأنه يسهل التحكم بها من جهة، ولأنه يسهل إفسادها والتلاعب بها وحتى إثارة الخصومات بينها من جهة ثانية، ولأنها تضمن له ولاء جمعيا من جهة ثالثة. هناك أيضا قطاعات، مارونية بصورة خاصة، لم يسيطر عليها نظام الهيمنة، لكنها لم تطور مفهوما غير هيمني وغير طائفي للسياسة. خرجت من الهيمنة، واعتصمت بطوائفها دون جهد يذكر لبلورة استقلالية ديمقراطية وتغييرية في لبنان. تنويعة الاستقلالية اللبنانية هذه لم تكن تغييرية سياسيا واجتماعيا، كانت محافظة تبغي نصيبا "عادلا" في نظام طوائفي دون أن تضع اسس هذا النظام للتساؤل. بهذا المعنى استفاد نظام الهيمنة من الطائفية في لبنان لمنع أو تحجيم فرص نشوء قيادات جديدة ولحصر المعارضة في إطار طائفي. وبهذا المعنى أيضا دشن الانسحاب السوري من لبنان انتقال التلاعب بالاستقطابات الطائفية من المهيمن السوري إلى لاعبين لبنانيين غير ديمقراطيين، وربما انفتح الباب من اجل لاعبين دوليين. الاستقلالية الديمقراطية وغير الطائفية كانت موجودة ومعارضة للهيمنة، لكنها ضعيفة ومحدودة التاثير وغير منظمة. كان النظام السوري المهيمن والطائفية بوصفها قابلية للهيمنة أو للتفرق الجالب لسيادة خارجية قد نجحا في إضعافها. حركة اليسار الديمقراطي حديثة التكوين، ومن المبكر الحكم على نجاحها في كسر جاذبية "الثقب الأسود" الطائفي أو آلية "الترجمة الفورية" التي تحدثت عنها وثيقة "لبنان الآن وغدا" (نشرت في "نوافذ" ملحق جريدة "المستقبل" في 1 ايار 2005). لا تختلف الصيغة التي حكمت بها سوريا عن تلك التي حكم بها لبنان. ما يختلف هو فقط نسبة العنف السائل والاحتياطي إلى التلاعب السياسي. في سوريا العنف بشكليه أكبر، وفي لبنان يتيح التكوين الطائفي المعترف به اقتصادا في العنف ووفرة في التلاعب السياسي. بالمقابل عدم الاعتراف القانوني بالوقائع الطائفية يفسح المجال لدرجة اعلى من العنف والاختراق الجهازي للمجتمع السوري، ويقتضي من النظام تحديث أدوات هيمنته (منظمات شعبية وجبهة تقدمية..). البديل الآخر، المواطنة والمساواة السياسية، ملغى عمليا. كان نظام الهيمنة في لبنان فعالا لكن سطحيا. قد يمكن القول إن سطحيته هي ثمن فاعليته. كان هيمنة بلا هيمنة. احتلال موقع يتيح التحكم بالتفاعلات اللبنانية، لكن دون اهتمام بارتضاء اللبنانيين لهذا الموقع ودون استبطانهم له (المعنى الغرامشي للهيمنة). لذلك لم يكن في وسع هذا النظام السير دون جرعات من العنف المخابراتي ودون تخويف فعال ومجرب. في سورية الهيمنة احتوائية وأعنف كما قلنا. احتوائية بمعنى أنها تبني أطرا تنظيمية حديثة شكلا، لكن مفرغة من أي مضمون حديث، لاحتواء وتقييد وجوه الفاعلية الاجتماعية والسياسية والثقافية للسوريين. ما لا ينضوي ضمن هذه الأطر يقصى باشكال مختلفة، تشترك في عنفها، منها السجن او حتى القبر. "المنظمات الشعبية" في سوريا تقوم بدور يقارب دور الطوائف في لبنان. لكن الترجمة هنا ليست ذاتية. المنظمات هذه لا تتماسك إلا بفضل اندراجها في نظام كلي قامع وذو غريزة أمنية بالغة النمو. لكن هنا أيضا ثمة هيمنة بلا هيمنة. ودور الهيمنة في الاقتصاد في العنف، هنا أيضا، غائب. في البلدين بنى نظام الهيمنة شرعيته على دوره. في لبنان كان يقال إما نحن أو الحرب الأهلية، في سوريا يقال إما نحن أو "الإخوان المسلمون"، أي مخاطر العنف الأهلي. ما كانت أدوات الهيمنة السورية في لبنان؟ الجيش والمخابرات؟ صحيح. لكن الوقوف هنا مضلل. العرى الوثقى للهيمنة السورية هي الانقسام الطائفي اللبناني. أتاح الانقسام الطائفي لسوريا التلاعب بالحياة السياسية اللبنانية والانتصاب قوة داخلية لبنانية. يتأكد ذلك من حقيقة انه لم يكد الانسحاب السوري يكتمل، ورغم "انتفاضة الاستقلال"، حتى عادت الانقسامات الطائفية والشحن الطائفي النشط إلى الساحة اللبنانية. لقد خضعت التحولات الكبيرة، الداخلية والإقليمية والدولية، إلى "ترجمة فورية" فرغتها في منطق الاستقطاب الطائفي. ما أريد الخلوص إليه هو أن انسحاب الأدوات الفاعلة للهيمنة السورية سيكون محدود الأهمية إن لم "تنسحب" الأدوات المنفعلة للهيمنة، اي اقنية "الترجمة الفورية" التي تعطل ترجمة المشكلات الاجتماعية إلى حلول سياسية وطنية. انسحب الجيش السوري والمخابرات السورية، بقي ان تنسحب الطائفية الجالبة للهيمنة والطالبة لها. تقوية الدولة وتكون تنظيمات وأحزاب عابرة للطوائف ونزع طائفية الوظائف العمومية ومعارضة التدخلات الخارجية تساعد على تراجع الطائفية. إن لم يحصل ذلك قد تقع حرب لبنانية باردة. هل يمكن النظر إلى ردة الفعل الطائفية هي موجة ارتدادية لزلزال اغتيال الرئيس الحريري والانسحاب السوري وإعادة هيكلة النظام اللبناني، وان فورة الطوائف لن تلبث أن تتراجع بقدر ما يتقدم لبنان في طي صفحات أزمنة الحرب والاحتلال الإسرائيلي والهيمنة السورية؟ ولعل المسيحيين هم اكثر اللبنانيين مصلحة في نزع الطائفية، ومن شأن انحياز قطاعات واسعة منهم لمبدأ المواطنة بدلا من الانكفاء على الذات و/أو الاندراج في خطط لاعبين دوليين أن يكون الخطوة الأهم نحو لبنان الجديد (انظر افتتاحية جوزف سماحة في "السفير" 13/5/2005). إن انحياز المسحيين اللبنانيين إلى صف التغيير والديمقراطية وحده هو الذي يعوض تراجع وزنهم الديمغرافي وأفضلياتهم الحداثية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أزمة أحزاب وإيديولوجيات أم أزمة حضارة؟
-
سوريا، حزب البعث، ونظام الحزب الواحد: الانفصال هو الحل
-
كلام على غائب في ذكرى إنشتاين ونظرية النسبية
-
مبارك انتهاء الخط العسكري!
-
الطائفية والطغيان: الأسفلان في لبنان وسوريا
-
حزب الله والبشمركة: مشكلات السيادة والسياسة والعدالة
-
على غرار ما تتغير الأنظمة يكون مستقبل البلدان
-
مناقشة لتقرير -المجموعة الدولية لمقاربة الأزمات-: سوريا ما ب
...
-
المسألة الأميركية والثقافة السياسية السورية
-
الثقافة المنفية في سوريا البعثية
-
دستور السلطة الخالدة
-
الرجاء أخذ العلم: سوريا ستنسحب، وكل شيء في لبنان سيختلف!
-
في أصل -السينيكية- الشعبية
-
وطنية تخوينية أم خيانة وطنية؟!
-
جنون الاستهداف والعقل السياسي البعثي
-
في استقبال التغيير: ليس لسوريا أن تتخلف!
-
ما بعد لبنان: سوريا إلى اين؟
-
على شرف حالة الطوارئ: حفلة لصيد -الخونة- بين قصر العدل وساحة
...
-
نحو تملك عالمي للحداثة والتغيير تأملات حول شيوعية القرن العش
...
-
نقاش حول الدين والثقافة وحرية الاعتقاد
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|