|
التقنية وأتمتة الإنسان
نور شبيطة
الحوار المتمدن-العدد: 4262 - 2013 / 11 / 1 - 07:14
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
هل ما زلت إنسانا؟ أم انتهت عملية تحويلك لإنسان آلي "سايبورج" أو لنقل إنسان مُؤتْمت؟
ماهية الأتمتة
الأتمتة هي مصطلح خاص بالآلات، يرد في كتب الهندسة الإلكترونية العربية، كتعريب للمصطلح الإنجليزي أتوميشن، أي تعديل الآلة بحيث تقوم بالعمليات المطلوبة منها بشكل تلقائي أوتوماتيكي، وهذا يتأتى من تحليل العملية المطلوبة إلى مهام متراتبة، وتوفير إشارات البدء بالمهام اللاحقة، من خلال إشارات تمام المهمات السابقة (محاكاة للاستجابة الشرطية لكنها هنا عديدة المراحل)، وبغض النظر عن تشعّب وتعقيد أي عملية فإنه يمكن أتمتتها، إذا توفر التحليل المناسب للعملية، واستطاع المهندس المصمم تركيب خوارزمية مهام تؤدي إلى القيام بالعمل.
قد يبدو مصطلح “أتمتة الإنسان” بشعا، لكنه كممارسة أقدم مما نتخيل، إذ بدأ كممارسة بشكل أوسع من الفرد الواحد، ويعود ذلك إلى بداية ارتفاع وتيرة زخم الانتاج، ودخول الآلة إلى التصنيع، وبدأت مدارس إدارة العملية الإنتاجية بالظهور، وقامت هذه المدارس بتقسيم العملية الانتاجية إلى عمليات جزئية، فاختلف دور العامل الذي كان فيما سلف من العصور، يقوم بصناعة المنتج كاملا كصانع ماهر في ورشة (يرى في قطعة أثاث يصنعها تحفة فنية)، وتحوّل إلى عامل يقوم بمهمة محددة، بتكرار كبير، وهو ليس بالضرورة على اطّلاع بمخرجات العملية الانتاجية، فهو لا يتصل عاطفيا بالسلعة التي ينتجها كما في السابق. ومدارس إدارة الانتاج هذه تطوّرت ولها أشكال حديثة نسبيا مثل (إدارة الجودة الشاملة) اليابانية، وهي في حد ذاتها خوارزمية لتنظيم العملية الانتاجية أو لنقل أتمتتها كعملية، عناصرها هي عناصر خط الانتاج من آلات وعمّال، إذاً الأتمتة بحد ذاتها قديمة قدم خوارزميات الانتاج والإدارة، لكنها كانت في ذلك الحين أتمتة مجموعات وليس أتمتة للفرد نفسه، والفرد كعنصر في عملية الانتاج وإن كان جزءا من الأتمتة إلا أنه كان، نوعا ما، لم يزل يتمتع بحياته كفرد، بغض النظر عن الآثار النفسية التي تركها الزخم الانتاجي في نفس الفرد، ودليل إنسانيته هنا ما شهده القرن المنصرم من نضالات النقابات العمّالية، وأدب النضال العمّالي الذي صاحب كل ما سبق.
وحتى بعد ما يسمى بالثورة التكنولوجية ما يزال الكثير من تقاليد الثورة الصناعية حيا وفاعلا، حتى في تلك المجتمعات التي لم تشهد نهضة صناعية من الأساس، لكن هي تقاليد الإدارة التي امتدت لحقول أخرى كالخدمات، والإدارة بشكل عام حتى المجتمعية والسياسية منها، حتى أن علوم أخرى وُظفت في خدمة علم الإدارة، حيث علم الإدارة نفسه موظف في خدمة رأس المال، ولنا أن نتخيل ماذا سيقدم علم النفس وعلم النفس الاجتماعي من خدمات لرأس المال، لكننا لسنا مضطرين أن نتخيّل بالفعل، إذ بإمكاننا ببساطة النظر حولنا! فمن منا لا ينتبه لتلاعب التسويق بمشاعره! والروابط العاطفية التي ينشئها الإعلان التجاري مع السلعة! من لم يلتفت لذلك عليه المطالعة حول (علم النفس التسويقي) وحينها سيعرف أيّ فريسة هو. لنعد خطوةً إلى الخلف، ولنفكر كيف استفادت السياسة والإدارة المجتمعية من هذه العلوم بما فيها علم الإدارة وعلم النفس الاجتماعي، طبعا دعونا نتفق أولا أننا عندما نتكلم عن فوائد جنتها السياسة في عالم فيه الشركات أكبر من الدول فنحن نتكلم عن فوائد جناها رأس المال، بالدرجة الأولى.
حسنٌ، الإنسان بالنسبة لرأس المال ليس إلا واحدا من اثنين؛ إما قوة عاملة أو قوة مستهلكة، وقد تمكن رأس المال من تطويع الإنسان كقوة عاملة وإدارته، داخل ساعات العمل، لكن بقي النضال العمّالي والقيم الأخلاقية وحتى الدينية منها كقوة كابحة تحاول أن تستنقذ ما استطاعت من إنسانية الإنسان، أما كمستهلك فقصة الصراع مختلفة، وأساليب السيطرة مختلفة أيضا، وهي قصة أطول من أن تروى، لكن يكفي أن نذكر مثالا لسلوفاك چيچيك، يتحدث فيه عن بيع الأخلاق كسلعة، فمحال القهوة الصهيونية “ستاربكس” التي استمرت بإضافة المزيد للقهوة من نكهات وصرعات صحية، استطاعت على حد تعبير چيچيك أن تضيف “قيم أخلاقية” للقهوة، فأنت لا تشتري فقط فنجانا من القهوة، بل تشتري رضاك عن نفسك حيث يخبرونك بتقسيمة المال الذي تدفعه، وإلى أين يذهب كل قسم (على حد زعمهم طبعا)؛ حفر آبار مياه في الصومال، تعليم أطفال في غانا … إلخ. فأنت تخرج بقهوتك وقد تخلصت من الشعور بالذنب الذي جلبته عليك نشرة الأخبار. (طبعا چيچيك هنا يخاطب جمهورا أمريكيا وأوروبيا). وهذه هي النتيجة حتى الآن لمحاولات السيطرة على المستهلك، وهي كفيلة بأن نقول أن إنسانية الإنسان غدت سلعة تباع له، إذا كان بمقدوره أن يدفع.
وليس من الصعب أن نخرج بنتيجة أقرب للبداهة وهي أن رأس المال يحاول تقليص انسانية العامل، حيث يحاول أن يجعله يعمل كآلة ويصل ذلك للاستغناء عنه واستبداله بالآلة بالفعل ( والعمل عل تطوير الإنسان الآلي ليس بعيدا عن هذه الفكرة)، ويحاول تشظية إنسانية المستهلك وتقسيمه على نفسه وتكثيره فصاميا من باب توسيع السوق، ليستهلك أكثر، وفي محاولة لأن نختصر وبشكل مكثف نتائج هذه الهيمنة الرأسمالية، نعيد دمج الإنسان العامل بالإنسان المستهلك، ولنلاحظ الخوارزميات التي رسمتها أدوات رأس المال _من إدارة وسياسة وإدارة مجتمعية …حتى التعليم_ للإنسان لكي تقوم بأتمتته كإنسان مفرد وليس كعضو في مجموعة عمل، فالسيطرة والتحكم (الأتمتة) وإن كانت تمارس بالجملة على مجاميع بشرية هائلة، إلّا أنها أيضا غدت تستهدف الإنسان الفرد، فهو لا يتصرف وظيفيا ضمن خوارزمية كعضو في مجموعة إنتاج فقط، كما في السابق، بل غدا يتصرف بشكل مبرمج مأتمت في شتى مناحي الحياة، وهذا يمكن ردّه بسهولة لمبدأ أن الإنسان نتيجة بيئته. ولعل رأس المال وفي سعيه لصناعة الإنسان الآلي رأى بناء الذكاء الاصطناعي مكلفا، فقرر اللجوء للغباء الطبيعي!.
ماذا عن كل هذه التغييرات التي شهدتها بيئتنا في المئة وخمسين سنة السابقة! ماذا عن أثرها في الإنسان! وإذا وضعنا العدسة المكبرة على الوطن العربي، فكم هذا التغيير متطرف ومكثف، فقد تجمع كله في سبعين سنة فقط، حيث تستطيع اليوم مقابلة عربي استخدم وسائل الاتصال جميعها بداية من الحمام الزاجل وحتى تطبيق “واتساب”! ولنبق تقاصر أعمار الأجيال قيد الملاحظة، فتغير البيئة السريع الذي نعيشه يجعل الخانة العمرية التي يتكون منها الجيل أضيق فأضيق، وإذا كان هذا عامّا حول العالم، فلنا أن نتخيّل ضيق الخانة العمرية التي تحتوي على جيل متمايز في البيئة العربية، وهذا يسبب صعوبة في رسم حدود الأجيال وفصلها عن بعضها في الوطن العربي، ولأن هذا يحتاج لدراسة ميدانية فبقاؤنا في الإطار المعمّم في حديثنا هذا له مبرره.
وفي العصر الذي يظن الناس أن التقنية تجعل حياتهم أسهل، نرى أن اتباع ما هو سهل غدا طبيعة بشرية عامة، كأنه انسياب الماء من منطقة عالية لمنطقة منخفضة، فهي تسيل باتجاه أسهل الطرق، ومثل ما أن فلاحا واحدا يستطيع بفأسه التحكم بمجرى المياه في بيّارة برتقال شاسعة، فإن المجتمعات غدت أسهل انقيادا من ذي قبل، لكن هذه المرة هي قيادة مختلفة عن مقولات القيادة القديمة، فهي ليست من خلال الدفع ولا السحب، إنما قيادة من خلال التيسير، وما يقابل التيسير في مثال المياه الجارية هو التقنية (المقصود منها هنا حفر القنوات لمياه الري، وليس التكنولوجيا)، فعمل الميسّر، في حقل التنمية والتدريب مثلا، هو تجهيز الأرضية التي تنحدر عليها الأفكار والسلوكات بحيث تصل حيث يُريد لها هو أن تصل، لكن بشكل طبيعي ودون إجبار أو تلقين أو حتى اقتراح!!! وهذا لا يعني أبداً انتهاء السيطرة!
طبعا دخول التقنية الحديثة إلى حياتنا له أثره على النفس الإنسانية، الذي لا يقلّ، بأي حال من الأحوال، عن آثار دخول الآلة إلى المصنع. حيث أن الإنسان يحاكي بيئته، وكما يجد الفرد منا جوابا سريعا على سؤاله من خلال محرّك البحث، فلا يهتم إن كان هو الجواب الأكمل أو الأفضل، فنحن أيضا نستسهل في كل شيء، الموسيقى التي نسمعها، والشعراء الذين نعرفهم، والأدب الذي نطالعه، الفكر، الهياكل التنظيمية في الشركات، حتى حلم اللحظة الذهبية في حياتنا هو فتاة شقراء نحيلة في سيارة رودستار مكشوفة تسير على شارع محاذي للشاطئ وكأننا في دعاية أمريكية!!! استسهالنا هذا ممتد على كل شيء ويصل لقراراتنا المصيرية في الحياة إذ نقوم باتخاذ المسار الذي يمنحنا خيارات أكثر وكأننا نؤجل الخيار المصيري، وهذا بحد ذاته تأجيل للحظة الإرادة واختيار للأسهل، ويصل أيضا لأحزابنا وقوانا التي كانت يوما من الأيام ثورية، ولا أبالغ إن قلت لك أن العالم يكاد يتّحد على دين واحد وهو الاستسهال!
أخيرا بالنسبة للدين فهو أيضا خيار سهل، أجوبة جاهزة عن كل شيء، وهو إن كان في الأصل أجوبة تعطي تصورا عاما عن الماوراء (المجهول) لتجعل الإنسان يلتفت للمنظور ويسيّر شؤونه، بقلق وجوديّ أقلّ، فهو غدا ومنذ فترة ليست بالقريبة، يعطي أجوبة جاهزة عن كل شيء حتى الأشياء المنظورة، وتنبّه “الميسّرون” لتلك الميزة فيه، فجعلوه فأسا تساعدهم على التقنية، وهكذا بات ممكنا أن ترى إنسانا بلحم ودم، وفيه قلب ينبض، وماء الحياة يملأ وجهه، والسيالات العصبية تشق طريقها في عصبونات حواسه ودماغه، ومع ذلك كله فهو يردد، باستسهال بالغ، كل ما سمعه من “الثقات”، حيث الثقات لم يعودوا شهود العدل فقط، بل صاروا رواة الحديث، و”علماء الدين” و “الدعاة” والقنوات الإعلامية وحتى “مفكرين” اشتهروا بنفس الطريقة التي يشتهر فيها أبطال الأفلام الخليعة (عدد مرات الظهور على الشاشة!)، وهؤلاء الثقات هم فأس المُيسّرين التي يشقون بها طريقنا نحو الهاوية، ولا تعتقد للحظة أنني أعني هنا نظرية المؤامرة أو اليد الخفية فحتى هذه الفكرة ليست سوى استسهال يمنعنا من فهم الواقع المعقّد.
تحسس نفسك فلعلك غدوت إنسانا مأتمتاً، رجلا آلياً، “سايبورج” تماما كالذي كان يداعب خيالنا في أفلام الخيال العلمي! فأنت تواصل الإنحدار منذ فترة ليست بالهينة، وإذا كنت ترى أن الإنحدار يتباطأ فلعل السبب هو أننا اقتربنا من القاع فقط! كل هذا بسبب خطيئتين، هما: الجشع ممثلا برأس المال، والكسل ممثلا بالاستسهال، إياك ونسيان أن تتحقق من إنسانيتك، فأنت حينها تكون ارتكبت خطيئة ثالثة وهي الخطيئة الكبرى، أقصد التكبّر، فتقول: “نعم، أرى أن من حولي آليين مُأتمتين لكن أنا مختلف، وسأسير في الطرق السهلة الجاهزة دون أن أفقد إنسانيتي، وهذا لأنني مختلف” دعني أنبّهك أنك لست سوى قطرة في بحر، خيط في نسيج، واحد من قوم، فما تتهم به قومك، ابحث عنه في نفسك، ودعك من الكبر، فالكِبر لو علمت أبو الخطايا جميعا.
عدم تقديم اقتراحات لحل مشكلة الاستسهال، وترك النهاية مفتوحة هي أفعال مقصودة من الكاتب منعا للاستسهال.
#نور_شبيطة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|