|
مأزق الاستحواذ في منظمات المجتمع المدني العراقية
جاسم ألصفار
كاتب ومحلل سياسي
(Jassim Al-saffar)
الحوار المتمدن-العدد: 4261 - 2013 / 10 / 31 - 21:29
المحور:
المجتمع المدني
كان هذا قبل عشرون عاما تقريبا عندما كنت اعمل في ليبيا. وكان من ضمن مهامي المختلفة في "مكتب الجنوب الاستشاري للدراسات الفنية والاقتصادية"، المساهمة في مشروع إنشاء متحف للفولكلور الشعبي لسكان المناطق الصحراوية الجنوبية. وتنقلت وقتها بين القرى المنتشرة في عمق الصحراء والقريبة من المواقع الجغرافية لمنابع المياه والواحات الصحراوية القديمة اجمع كل ما اعثر عليه من ملابس قديمة واواني منزلية والات انتاج بدائية. وفي اثناء تجوالي في احدى القرى النائية وقع نظري على صبي يدحرج بين قدميه انية معدنية قديمة. وبعد ان طلبت منه معاينتها، أثار انتباهي وجود اثار كتابة بلغة محلية قديمة على جزء من الانية التي هي بقية ابريق صغير او شيء من هذا القبيل. طلبت من الصبي ان يعطيني الانية مقابل مبلغ من المال. فنظر الصبي الي مندهشا من عرضي وتلفت يمينا وشمالا وعقد يديه خلف ظهره مبتسما بخجل بعد ان قدم لي الانية لأخذها دون مقابل لأنها من المهملات الملقاة على الطريق، وان مثلها الكثير هنا. ففرحت للخبر وتمنيت عليه مساعدتي في العثور على قطع اخرى من نفس النوع. وكانت النتيجة ان جمعت كيسا كبيرا من مختلف الاواني والآلات المعدنية اضافة الى قطع خشبية متآكلة لها اشكال منتظمة في بعض اجزائها تثير الاهتمام. سلمت للصبي مبلغ من المال مقابل مساعدته لي، هرول به فرحا الى بيته وعدت انا الى سيارتي التي تركتها عند مدخل القرية. وقبل ان أهم بتشغيلها للعودة سمعت صوت رجل يركض مسرعا نحوي ويطلب مني التوقف، ويجر ورائه ذلك الصبي الذي ساعدني في جمع المهملات. ومن كلامه المفكك بلهجته الجنوبية الصحراوية فهمت انه اب لهذا الصبي وانه كان يتعين علي الحصول على موافقته لجمع هذه المهملات التي تعود له ولأقاربه المقيمين معه في القرية. فلم اجادله فيما قال واخرجت الكيس من صندوق سيارتي وسلمته اليه كاملا، وطلبت اعادة المبلغ المالي الذي اعطيته لابنه. ففتح الرجل فمه متعجبا، هطل معه شارباه الكثان بصورة اثارت عندي الرغبة بالضحك. ولكنه عاجلني بهمهمة فهمت منها انه يقدر حاجتي لما جمعته بمساعدة ابنه وانه ما جاء الا ليعلمني بانها مهملات ثمينة لا توازي المبلغ الذي سلمته لابنه. ثم امعن النظر في وجهي الذي لم يجد في تعابيره اي استجابة لطلبه بزيادة المبلغ. عندها عاد ليشرح لي بألم عن حالتهم المالية المضنية وحاجتهم لأي مساعدة يغطون بها حاجات امسهم قبل مصاريف يومهم. هكذا نحن دائما، نتمسك بأشيائنا ومشاريعنا الفاشلة، وحتى تلك التي اصبحت تثقل علينا، لمجرد أن تثير هذه الاشياء او الموضوعات اهتمام غيرنا وتعاطفهم معنا وابداء استعدادهم للتعاون من اجل استخدامها بصورة افضل وتعديل مساراتها واهدافها لكي تكون معطية لمنفذيها وللصالح العام. والاسوأ من ذلك (على الاقل من الجانب الاخلاقي) ان يقايض اصحابها الذين تنفذ هذه المشاريع لأجلهم بدرجة كبيرة، على مقابل قد لا يقوى المنفذ (!!!) على دفعه. والمقابل هنا ليس بالضرورة ماليا كما في حكايتي اعلاه، بل قد يكون هذا المقابل معنويا او الاثنان معا في حالات معينة. لقد تأسست منظمات المجتمع المدني العراقية أو أعيد تأسيسها، على تنوعها في غاياتها واهدافها، على عجالة بعد عام 2003 لتساهم في حل معضلات المجتمع العراقي التي ابتلى بها ابان حكم الطاغية صدام حسين، ولتتصدى للمشاكل والسلبيات المتجددة التي يفرزها مجتمعنا نتيجة لسياسات سلطة المحاصصة الطائفية والقومية التي تربعت على صدور العراقيين بعد سقوط الطاغية. ومع ان بعض هذه المنظمات قد توفقت في اداء مهامها الى حد ما واختيار مساراتها الاكثر جدوى وصواب للوصول الى اهدافها. الا ان الكثير منها لم توفق تماما الا في صناعة انجازات ثانوية لا اهمية لها الا في مخيلة قادتها "ألتاريخيين". فاصبحوا هم ومنظماتهم ظاهرة اعاقة في جسد المجتمع العراقي. فلا المشاكل تجد طريقها نحو الحل، ولا هم يسمحون لمرور دماء جديدة نحو قيادة تلك المنظمات لتجعلها عنصر فعال في منظومة منظمات المجتمع العراقي. وحتى الحل الذي اعتمده بعض الناشطين بإنشاء منظمات بديلة موازية لتلك التي تهيمن على مقدراتهم والمدعومة من احزاب في السلطة او خارجها، لم ينجح تماما في توحيد الصفوف او الوصول الى قنوات هامة بقيت تستحوذ عليها دون جدوى، ألمنظمة الاقدم، موظفة اياها في أقبح عملية ابتزاز لإسقاط التجديد واضعاف قوته. وعلى هذا المنوال تتشكل منظمات متوازية لها نفس الاهداف على الورق ونفس العناوين وتتعامل مع نفس الشرائح الاجتماعية التي تعلن عن نفسها ممثلة لها. وهي من حيث الواقع لا تهتم بتوسيع مساحة تأثيرها ببذل جهود مضنية لتحقيق انجازات ملموسة ومتميزة لتلك الشرائح الاجتماعية تحديدا، بنفس القدر الذي تهتم به في وضعها العصي في عجلة الغير وعرقلة مسيرة الاخرين باستخدام علاقات وقنوات جرى الاستحواذ عليها منذ منحت لهم من قبل الاطراف الداعمة (بما فيها أطراف أجنبية). ولم يلجأ البعض الى انشاء منظمات موازية الا لكون الحلول الاخرى اما عديمة الجدوى او عصية على التحقيق. فالخيار الثاني أمام النشطاء من المتطوعين المتحمسين للمساهمة في الدفاع عن حقوق الشرائح الاجتماعية التي ينتمون هم اليها، هو المشاركة التنافسية في مؤتمرات هذه المنظمات كأعضاء فيها، يحق لهم ما يحق لغيرهم. ولكن هذا الطريق الشرعي تماما ليس سالكا دائما. فالمؤتمرات لا تعقد بمواعيدها كما ان قيادات هذه المنظمات تلجأ أحيانا للتسويف في قوائم الحضور والعضوية عندما تشعر بخسارتها للانتخابات اذا ما عقدت هذه المؤتمرات. هذا عدا الاعيب اخرى تجيدها بعض قيادات المنظمات الصغيرة تجعل من المؤتمرات الدورية مجرد اجراءات شكلية. ويبقى الحل الافضل هو التعاون والتوافق، اذا ما صفيت النوايا وصدقت الرغبات، وكان الهدف الوحيد الذي يجتمع عليه المتنافسون، هو خدمة تلك الشريحة من المجتمع التي يمثلونها. على ان مصداقية النوايا وتلك الرغبات يجب ان يعكسها الطرفان او الاطراف المختلفة بالمساهمة في تنفيذ اعمال مشتركة ضمن خطة طريق متفق عليها، تكون معيارا للمصداقية ومقياسا لشفافية الاعداد والتحضير للمؤتمرات الدورية. أما اذا لم تتوفر هذه الشروط فلا بديل عن الخيارين الاولين .....وأحلاهما مر.
#جاسم_ألصفار (هاشتاغ)
Jassim_Al-saffar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التغيير المغامر وانتاج النكسة
-
ذكريات في ضواحي بيرسلافل
-
آراء عند الخطوط الحمراء
-
قراءة جديدة للجذور
-
رسالة اخرى الى الاحياء
-
تساؤلات بعد الفاجعة
-
هوامش في ذاكرة متعبة
-
-عمود السحاب--دروس وعبر (ألجزء ألثاني-ألمفاجئات)
-
-عمود السحاب--دروس وعبر (ألجزء ألأول-ألبدايات)
-
رسائل قصيرة من بغداد-2 (حوار في موضوع المقاومة)
-
رسائل قصيرة من بغداد-1
-
قضية ألبروليتاريا هي قضية ألمجتمع بأسره
-
قراءة لرسائل مفتوحة
-
ألأصالة
-
قراءة هادئة للوضع في سوريا
-
ألذاكرة وألتوبة
-
أفكار إشتراكية في ألمسألة ألقومية
-
لمن تقرع أجراس ألربيع ألعربي
-
يسار خارج ألزمان وألمكان
-
ألإشتراكية وألديمقراطية
المزيد.....
-
الأمم المتحدة تحذر: توقف شبه كامل لتوصيل الغذاء في غزة
-
أوامر اعتقال من الجنائية الدولية بحق نتانياهو
-
معتقلا ببذلة السجن البرتقالية: كيف صور مستخدمون نتنياهو معد
...
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحب بإصدار المحكمة الجنائية الدولية
...
-
البنتاجون: نرفض مذكرتي المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتني
...
-
الأونروا: 91% من سكان غزة يواجهون احتماليات عالية من مستويات
...
-
الإطار التنسيقي العراقي يرحب بقرار الجنائية الدولية اعتقال ن
...
-
وزير الدفاع الإيطالي: سيتعين علينا اعتقال نتنياهو وغالانت لأ
...
-
قرار الجنائية الدولية.. كيف سيؤثر أمر الاعتقال على نتانياهو؟
...
-
أول تعليق للبنتاغون على أمر الجنائية الدولية باعتقال نتانياه
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|