أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل صويلح - المريض السوري: تمرينات شاقة لتعلّم النطق















المزيد.....

المريض السوري: تمرينات شاقة لتعلّم النطق


خليل صويلح

الحوار المتمدن-العدد: 4261 - 2013 / 10 / 31 - 19:40
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يسأل العسكري شاباً يتأبط كمبيوتراً محمولاً عند الحاجز: "معك فيس بوك؟"، يجيب الشاب بهدوء "لا ..لابتوب"، فيأذن له عبور الحاجز. هذه النكتة المتداولة بين الشباب السوريين ، تنطوي على مفارقة أولاً، والتباس في المصطلح ثانياً. الفيس بوك، بالنسبة لعسكري الأمن، هو وحش بأنياب لا مرئية، وفايروس يخترق طمأنينة البلاد، من دون جواز سفر، وينبغي تحطيمه على رأس من يحمله.
في الأيام الأولى للاحتجاجات السورية، أطلق مثقفون شباب موقعاً باسم "فورغ"(الضفدع) . ليس عبثاً أن تكون ضفدعاً في سوريا، فالنقيق ممنوع وهو إحدى علامات التمرّد على الصمت الطويل. السوري اعتاد أن يلتفت يميناً وشمالاً قبل أن ينطق بجملة يعتبرها خطرة، فالحيطان لها أذان. طبيب شاب من الجولان المحتل، حكى نكتة بالإنجليزية، خشية أن يفهمها نادل المطعم. وقتها نصحه أحد الأصدقاء أن يذهب إلى أقرب سفارة أجنبية، للحصول على لجوء...إنساني. الحادثة تعود إلى سنوات، وقد تغيّرت الأحوال تماماً، فاليوم استعاد السوري حواسه الخمس، بعد تمرينات شاقة على الحكي، من دون أن يلوي عنقه يميناً وشمالاً، كما لو أنه زرافة.
ثلاثة أجيال أسقطت كلمة "مظاهرة" من قاموسها، لمصلحة "مسيرة". كان التمرين الأول على التمرّد هو الاعتصام أمام السفارة الليبية ضد جماهيرية العقيد، وآخر أمام السفارة المصرية تضامناً مع ثوار "ميدان التحرير"، لكن شرطة مكافحة الشغب، وعناصر من الأمن سحلوا بعض المتظاهرين والمتظاهرات، كنوع من الحرب الاستباقية، لكن الأحوال اشتعلت "افتراضياً"، حين دعا بعضهم على صفحات "الفيس بوك" إلى تظاهرة، في15 آذار المنصرم. سيكون هذا التاريخ منعطفاً عميقاً في تفكير السوريين، خصوصاً الشباب منهم، هؤلاء الذين ظلوا مهمّشين طويلاً، وعاطلين عن العمل، وإذا بهم يتصدرون الواجهة، من دون ألقاب.
ليست ثورة الـ"فيس بوك"، كما يتردد أحياناً، هي التي كانت وراء هذه الحمّى الشبابية، أو ما يسمى "الربيع العربي"، لكنه الضجر. لقد ضجر جيل كامل مما هو فيه من إهمال. ضجر من حانات باب توما، ومقاهي الشعلان، والبطالة، وعروض المسرح القومي، ومهرجانات السينما، والكلمات المتقاطعة في الصحف المحليّة، ونجوم التلفزيون الذين احتلوا الشاشات كطهاة سياسة وثقافة ومجتمع. لقد ضجروا من الخطابات الحماسية، وبالروح بالدم، وفلسطين التي لا تأتي أبداً. جيل في العراء، وفي أحسن الأحوال، بالكاد يجد أحدهم غرفة في أحد أحياء العشوائيات، ومقعد في الميكروباص المزدحم، محشوراً، ومكوراً، أو مضطرباً، في قبر متنقل. ميكروباص لن تتمكن من الصعود إليه، أو النزول منه، من دون انحناء. المشية محدودبة الظهر، هذه ليست سلوكاً فيزيائياً فقط، إنما ترخي بظلالها على كل ما يخص الكائن السوري المريض. فالنص السوري استعار المشية العرجاء نفسها، هناك سطر ممحو، أو جملة مبتورة، وحيناً، مبتدأ بلا خبر، وصفة بلا موصوف. نص غائم، لكنه لا يبشّر بزخة مطر مباغتة.
يكتب السوري المريض نصّه، مرتدياً زي الشرطي، كي يعبر مخافر الرقابات بحرّاسها المتعددين. المخطوط الأولي، سوف يتعرّض إلى انتهاكات بالجملة، بأصابع المؤلف نفسه، ثم بممحاة الرقيب، ثم باحتجاجات القارئ المبجّل.
"المكتوبجي" العثماني لايزال قابعاً في رأس الرقيب. المكتوبجي الذي حوّل خبر ثورة اكتوبر(1917)، بعد شطب وتعديل، إلى عبارة واحدة هي "حدثت خناقة في موسكو". ليس مايجري في سوريا مجرد "خناقة"، بل انتفاضة حقيقية ضد انتهاك الكرامة أولاً، ومسعى لترميم عطب أخلاقي أصاب الجميع في مقتل. النقاشات والسجالات التي تدور هنا وهناك لا تتفق إلى الآن، على المصطلح نفسه: احتجاج، أم انتفاضة، أم ثورة؟ في المقابل تتصاعد حدة التخوين والإقصاء، ليس من جمهرة الشارع، بل من النخب، وهي في غالبيتها، ممن كان منخرطاً، إلى ما قبل الانتفاضة مباشرة، بوليمة السلطة، وإذا به يسعى إلى وليمة أخرى، كنوع من صك غفران مبكر، ومحاولة لكتابة "سيرة مضادة"، تتطهّر مما قبلها، مترقّبة رحيق التفاحة المحرّمة. هكذا بدا أن الجميع من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهم بحاجة إلى إعادة تأهيل، فالعقود الأربعة الأخيرة، وطول الإقامة لنموذج الزي الموحد الذي أفرزته السلطة، أنشأ حراشف صلبة لقيم جديدة، أخذت تتسلل إلى مجتمع حائر بين مقولات لفظية، ورطانة عالية، وحياة تتجوّل في الشارع برداء آخر، ينسف الشعار في وضح النهار، في حمّى استهلاكية خشنة، أزاحت الثقافة إلى الأزقة الخلفية، وبات طبيعياً، أن تغلق عشرات المكتبات أبوابها لتتحوّل لاحقاً إلى دكاكين لبيع الأحذية، وأجهزة الموبايل، ومطاعم للوجبات السريعة، إلى مؤسسات ثقافية يديرها بيرقراطيون لا يتمتعون بأدنى درجات الابتكار. هذه الثقافة لم تجد ما يقابلها في الكتابة، من وجهة نظر سوسيولوجية، على الأقل، وبدا أن علم الاجتماع اختصاص غائب، أو مغيّب، بقصد فحص هذه التحولات، وإدراك جوهرها، أو تقليب التربة تحتها لمعرفة اتجاه البوصلة.
***
أعبرُ كل يوم شارع الصالحية، في قلب دمشق، بطريق لولبي كي لا أصطدم بالبسطات التي انبثقت فجأة كالفطر، بالتوازي مع انطلاق الاحتجاجات، فغياب شرطة البلدية، أو انشغالها بمهام أخرى، أفسح المجال لهؤلاء الباعة باحتلال الأرصفة، ليس في هذا الشارع الحيوي فقط، بل في معظم الأرصفة التي تغص بالعابرين، وخصوصاً رصيف كلية الحقوق، في منطقة البرامكة. اندس مخبرو الأمن بين الباعة الجوّالين، ولم يعد معروفاً بالنسبة لشرطة البلدية، مرجعية هذا البائع من ذاك ("المندس" مصطلح جديد في القاموس السوري يُستعمل على الوجهين)، فتخلت عن مهمتها في مصادرة البضائع. تكتشف "المندس الأمني" من طريقة وقفته، وعرضه لبضاعته (ابتعت فلاش ميموري بحجم عالٍ من الميغا بايت بمئة ليرة فقط، بما يعادل ربع الثمن الحقيقي). المشهد عند رصيف كلية الحقوق يختلف عمّا هو عليه في الصالحية. ففي الأيام الاعتيادية كان هذا الرصيف مخصصاً لبوسترات النجوم، وبطاقات الموبايل، والساعات المزيّفة، أما اليوم فقد أُزيحت صور شاكيرا، وهيفاء، وميسي، لمصلحة صور الزعماء السياسيين والشعارات الوطنية، والأعلام، فيما يغص شارع الصالحية بالأحذية والحقائب الصينية بأثمان بخسة، بالمقارنة مع أسعار السلع في واجهات المحال. شارع الصالحية هادئ عموماً، ومقفر ليلاً، لكن ما أن نكمل صعودنا إلى "ساحة عرنوس"، نقطة بداية الشارع، حتى نقع على مشهد مختلف وصاخب، ففي هذه الساحة التي يتوسطها تمثال ضخم للرئيس الراحل حافظ الأسد، انتشرت عشرات المقاهي المرتجلة التي استثمرت مقاعد الساحة لجلوس هواة الأراكيل. الساحة مراقبة بصرامة، ذلك أن بعض المحتجين اخترقوها في تظاهرات صغيرة، سرعان ما تنتهي، نظراً لبسالة أصحاب المقاهي (رجال أمن) في تفريق الجموع، واعتقال عينات منهم إلى باصات مجهّزة تقف قريباً من الحديقة.
***
ولكن أين النخب الثقافية مما يجري؟ عبرت الأشهر الأولى من الاحتجاجات بصمت مطبق، عدا بيانات غامضة، إلى أن بدأ نص الخوف يتفكك على مهل، محاولاً كسر قشرة بيضة الرخ، فالتجارب القديمة مع السلطة تنطوي على عنف لا يوصف، واعتقالات مفتوحة على أشهر، وحيناً على سنوات، من أجل جملة في مقال رأي، لم تعجب صاحب القرار، فآثر المثقف الصمت أو الكتابة المواربة إلى حدود الإبهام، ونشأ نص يشبه شورباء الجيش، فيه من الحصى، أكثر مما فيه من العدس. نص متماثل في بنيته كأنه خارج من مدجنة لتفريخ الصيصان. هكذا وجد جيل من الكتّاب (الروائيين على نحو خاص) في دور نشر بيروتية ملاذاً لنصوصهم المارقة بعرف الرقابة الرسمية، خصوصاً تلك الروايات التي تناولت "أدب السجون"، ثم ذهب النص الجديد إلى مسالك وعرة أخرى تتلمس تضاريس العشوائيات، والهوامش المهملة، ومكابدات الجسد، وخصوصية الأقليات.
المشهد تغيّر اليوم - إلى حدٍ ما- بوجود شبكة الانترنت التي تضم عشرات المواقع الالكترونية للكتابة، الجادة أو الركيكة منها، عبر مدوّنات شخصية تتيح أمام أصحابها كتابة ما يشاءون. كتابات غاضبة ومتلصصة وكيدية وغرامية، الخ... مع انتعاش الانتفاضة السورية، ظهرت مواقع جديدة في حرب افتراضية. أحدهم أنشأ موقعاً طريفاً بعنوان "الثورة الصينية"، مخترعاً أسماء وحوادث تجري في الصين، هي في الواقع نسخة عصرية من مدوّنة ابن المقفع "كليلة ودمنة"، لجهة الإشارة والتأويل، كما استقطب "الفيس بوك" أسماء مجهولة، وأخرى معروفة بتعليقات غاضبة وساخطة في فضح الطغيان، والتطلع إلى مشهد آخر لطالما حجبته الرطانة الرسمية في مديح الأحوال، لكن مثل هذه التعليقات العابرة، كانت لدى بعضهم وثيقة "حسن سلوك" لعبور المرحلة، وطي صفحة الأمس الملوّثة بحبر مهادن ومراوغ ومغشوش، أكثر منها موقفاً جذرياً، لنقل بأنها مقاومة في البيجاما: أن تجلس أمام الكمبيوتر وتطلق قنابل صوتية لا أكثر، فما أفرزته البرهة الماضية من سجالات ثقافية يحتكم إلى التخوين أكثر مما ينطوي على رحابة الاختلاف، وقبول الآخر، وإذا بجزر معزولة تنهض هنا وهناك، مغلقة على نفسها وتطلعاتها، حاجبة الوليمة المشتهاة عن غيرها، تطلعاً إلى مجدٍ فردي في المقام الأول، وعلى هذا الأساس، فقد كانت "النيران الصديقة" أكثر حضوراً من نيران الخندق المضاد، فيما بقي الشارع بعيداً عن مائدة الحوار بوصفه رافعة مستعارة للوجاهة الإيديولوجية وحسب.



#خليل_صويلح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العقل النسوي... ألم يتجاوز فكرة الوأد؟
- يهودي في دمشق...يبشر بالتعايش بين الأديان!


المزيد.....




- كيف يعصف الذكاء الاصطناعي بالمشهد الفني؟
- إسرائيل تشن غارات جديدة في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بع ...
- أضرار في حيفا عقب هجمات صاروخية لـ-حزب الله- والشرطة تحذر من ...
- حميميم: -التحالف الدولي- يواصل انتهاك المجال الجوي السوري وي ...
- شاهد عيان يروي بعضا من إجرام قوات كييف بحق المدنيين في سيليد ...
- اللحظات الأولى لاشتعال طائرة روسية من طراز -سوبرجيت 100- في ...
- القوى السياسية في قبرص تنظم مظاهرة ضد تحويل البلاد إلى قاعدة ...
- طهران: الغرب يدفع للعمل خارج أطر الوكالة
- الكرملين: ضربة أوريشنيك في الوقت المناسب
- الأوروغواي: المنتخبون يصوتون في الجولة الثانية لاختيار رئيسه ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - خليل صويلح - المريض السوري: تمرينات شاقة لتعلّم النطق