|
واجهة لاستبداد الحكم تدعمه وتقنع فجوره
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 4259 - 2013 / 10 / 29 - 13:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لاشك ان من يفجر نفسه داخل مسجد بين حشد من المصلين الخشع ، لم يمنّ النفس إلا برضوان الله ودخول الجنة. لا ترتفع من أوساط الجهادية الإسلامية من يؤثم او يجرم هذه الأفعال ؛ فكلها تحسب ضمن اجتهاد يثاب عليه بحسنة وربما بحسنتين. التكفير أكبر لوثة عطلت العقل الإسلامي؛ بدأت خلافا سياسيا ممهورا بضيق الأفق وتواصلت في المجتمعات الإسلامية تهبط بها من حفرة إلى حفرة اعمق وأشد هولا. وما من امة مثل المسلمين عانت من ضيق الأفق هذا، كما قدر الدكتور محمود عاشور وكيل الأزهر السابق. والمدلّس، محترف التكفير الفردي أوالجماعي، إذ يفلح في أن يسرب على الإسلام هذا الفجور بمقدوره أن يقحم على الدين ما شاء له العصاب والعصبية من آثام . وبموجب مبدأ "الإسلام هو الحل" يمكن، إذا حانت الفرص كما جرى مع السلفية الأولى في القرن الثالث الهجري، سوق المجتمع إلى التدهور في هاوية الاستبداد السياسي والفكري اللذين امحلا العقول وأجدبا الحياة الاجتماعية. ليس غير إرجاع المجتمع المعاصر إلى كهوف العصر الوسيط ما يكمن في جراب " الحل الإسلامي " للمشاكل الاجتماعية الناجمة عن التبعية والتخلف واستبداد الحكم. ولهذه السيرورة حكاية. من المستحيل استحضار عهد الرسول أو خلفائه الراشدين. نبوة الرسول محمد {ص}حالة فريدة في التاريخ العربي ، حالة لم تألف المصالح ولا تأتلف مع جشع النفوس. ما من قوم أحاطوا قائدهم بمشاعر الحب والولاء بمثل ما حظي به الرسول الكريم. ورغم مكانته السامية بين القوم، ورغم تنزل الوحي عليه أُمِر بمشاورة أصحابه وإشراكهم في القرارات المتعلقة بالحياة العامة. وهو القائل أنتم أدرى بشئون دنياكم. كان الرسول يستشير أصحابه في عدة أمور، في الأمور الحربية وفي أمور السلم. لم يساوره القلق من جموح نحو الشر؛ ولا ارتجى تعزيز رأي او موقف بإيحاء من رب العالمين؛ وما ادعى ، شأن البعض من الدعاة المعاصرين، أن كل حل لمشاكل الحياة مودع بالدين يستله من أسداف المطلق. فقد حث القرآن على التفكر والتعقل والتدبر. ممارسة الرسول لم تكن مرجعية الأشاعرة، ممن انقلبوا على علم الكلام المعتزلي وعقلانيته في القرن الثالث الهجري ، مدعين العودة إلى السلف الصالح. سلفية العصر الوسيط تنتهي عند معاوية، وريث الفتنة الكبرى. والفتنة تزامنت وتوافقت مع تململ في النفوس، فانساقت مع شهوات الجشع وحب الثراء المتدفق من الأمصار المفتوحة. و نزاهة الحكم ، الذي ميز بالفرادة عهد الرسول والراشدين من بعده، لا تتوقف فقط على نزاهة الحاكم ويقظة ضميره؛ إنما يجب أن يكون لرعيته شبه إجماع على النزاهة وقوة الطبع والرضا والقناعة، فيقوم السلطان على المحبة والعدل، لا يعرف فتنة ناشئة عن أنانية تغري بالجلوس على مائدة معاوية والضرب بسيفه، ولا انحرافا ينم عن جشع أو إكراها تمليه سياسة متحيزة . لم تعد الاختلافات تباين اجتهادات ، إنما نوازع استنبتت العنف ومكر السياسة وخبائثها. التكفيريون يتعمدون الانتقائية في خياراتهم لتراث السلف وأصول الدين. هم يغفلون تماما دعوة المقدس لتكريم الإنسان ، ويكادون ينكرون دعوة الدين لحرية الاعتقاد ؛ بل إنهم ، وهم يأتمون بالرسول، يتجاهلون أنه أُمِر بمشاورة أصحابه والمؤمنين، بينما هو يتلقى الوحي . يتجاهلون "أمرهم شورى بينهم " . وفي عالم الحضارة ، حيث العلم يدخل في تلافيف الحياة الاجتماعية ، عاملا رئيسا في الإنتاج والاتصالات والمعاملات كافة يفرضون جهالتهم ومن أنفسهم سدنة الدين وأوصياء على المجتمع، و ينصبون فوقهم وعلى رأسهم صاحب الكلمة المطاعة . شيخ السلفيين ، الفقيه ابن تيمية، برر لمعاوية اغتصابه للحكم، فهو من فقهاء الاستبداد ممن أفتوا بضرورة التسليم والإذعان لصاحب الشوكة حتى لو كان فاسقا. معاوية بن أبي سعيان هو المثال الملهم لابن تيمية، وهو الذي ارسى تقليد تحكيم القرآن مراوغة وتحايلا، فأشاع الجبرية فلسفة حياة وحكم، وبرر بالجبرية تسلمه امر المسلمين ، "لو أراد الله غير هذا لفعل". وبغلظة المستبد بأمره قال ذراعه الأيمن" زياد بن أبيه: " إننا أصبحنا لكم سادة وعنكم ذادة، نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي فوضنا. فلنا عليكم الطاعة فيما أحببنا" . باتت سلطة الحكم تستند إلى وجوب الإذعان لإرادة السلطان لأنها ـ حسب الزعم ـ مستمدة من إرادة الله. وتناسلت جبرية الحاكمية فلسفة للحكم الجائر الفاسد حتى يومنا هذا.ومن يرسي مفسدة عليه وزرها إلى يوم الدين. بذهنية السدنة الأوصياء يتهيج التكفيريون إذ يسمعون ما يخالف قناعاتهم ضيقة الأفق. أهاجهم إقرار لجنة وضع الدستور المصرية مادة تبيح حرية الاعتقاد. وفي نقاش مع واحد منهم ركز على الزعم أن ما يخشى منه هو الشطط في ممارسة الحرية ، كأن تبلغ حرية الاعتقاد اعتناق أحد الأديان الأرضية، وكل التكفيريين يعتنقون ديانات أرضية. لا يثقون بحكمة الرأي العام فينصبون أنفسهم اوصياء، ويفتقدون الثقة بالدين ذاته فيسعون لتسييجه بطقوس التحريم والتأثيم. يتجلى ذلك أثناء إشراكهم في نقاش. يهيجهم أبسط خلاف مع ما يعتقدون، فلا يصبر التكفيري حيال رأي مخالف ويرفض الاستماع، يتمنى لو يضع إصبعيه في أذنيه إذا اضطره ادب الحوارللإصغاء. وحتى في أعقد قضايا الفكر يتباهى السلفي ، وهو يتنطح، إذ يصرح أنه يربأ بنفسه الاطلاع على موضوع النقاش مما يطرحه الأخر؛ فلا يدحض حجة بحجة ويحاجج بضراوة بناء على سماع. يجهل التكفيريون أبسط مقومات الحوار، والحوار إحدى أدوات الديمقراطية واحد مؤهلات دخول عالم الثورة العلمية والمعلوماتية . دوما يكون الشطط مبررا لمعارضة الحرية أو تحكيم العقل وغيرهما من القيم التي غدت مقومات الحضارة الحديثة وجوهر إنسانية البشر . لكنهم لا يتحوطون من الشطط حين يدعون للعنف، وحين يناهضون العقلانية والديمقراطية، او يوالون حكم الاستبداد. لا تنبههم يافطة خطر التورط في شباك العولمة والليبرالية الجديدة، من شطط الدعوة للحرية الاقتصادية. وهذه امثلة على انهم ينهون عما يتورطون فيه، ويقولون ما لا يفعلون . يأتمون بالسلف الصالح فيتوقفون عند الإمام أبي حامد الغزالي، ولكن بأي من الشخصيتين المأثورتين عن إمام القرن السادس الهجري يتشبث أولئك الذين يعيشون في القرن الخامس عشر الهجري؟ صاحب كتاب "تهافت الفلاسفة"، ام التائب عن علم يخدم السلطان ولا يبتغي الحق ومرضاة رب العالمين؟ أجل تشبث التكفيريون بالمؤلف الذي انزل ضربة قاصمة بالعقلانية العربية ـ الإسلامية لم تشف منها طوال العصر الوسيط.التقى المؤلَّفان "تهافت الفلاسفة" و " تهافت التهافت " في زمن واحد كان مفصليا في التطور التاريخي . نبذت المجتمعات العربيةـ الإسلامية مضمون تهافت التهافت وتناولت تهافت الفلاسفة تمضي به في دياجير الظلامية وبؤس الجهل ؛ بينما التقط الأوروبيون تهافت التهافت يضوّون به نهضتهم العلمية المستندة،إلى الإبداع العقلي. وكان محتما أن يلتقي الطرفان على مشارف العصر الحديث كل بمأثوره في علاقة تخلف إزاء تقدم، وتابع إزاء متبوع، ومقهور مستسلم لقاهر. وبالداء يداوون السقم . ما زال التكفيريون بقصورهم الفكري وعماهم السياسي بتشبثون بمؤلف " تهافت الفلاسفة "، ويتجاهلون او يجهل معظمهم أن الإمام الغزالي، وبعد إنجاز كتابه، أفاق على حقيقة انه لا يكتب الحق ولا يعلّمه؛ إنما يقوم بذلك إرضاء للسلطان. أفاق على حقيقة أنه لا يتصرف إرضاء لله بل لإرضاء الحاكم؛ فانعقد لسانه وتعذر عليه الإجابة على أسئلة المريدين . خرج سرا من بغداد وتوجه إلى الشام ثم إلى القدس ، حيث لا تصله يد الحاكم. حفظ التاريخ الإمام الغزالي فقيه الاستبداد،لأن محتضني مؤلفه تهافت الفلاسفة واصلوا سيرة العمل في كنف الاستبداد، ومضى الشذوذ عبر التاريخ قاعدة . والفكرة المخالفة للمصلحة السائدة تغامر بمصيرها ضعفا أو اجتثاثا . وكان النسيان نصيب الغزالي التائب عن الغي والتضليل. السلفيون يحفظون الغزالي فقيه الاستبداد. وعبر العصر الوسيط لم يُلتفَت إلى الدين مرشد معاملات وعلاقات اجتماعية. مضى ابن تيمية على نهج الغزالي فقيه الاستبداد؛ركب الشطط وافتى ان من اوصلته الشوكة إلى الحكم وجبت بيعته ولو كان فاسقا. ونظرا لارتباط الفكر بالمصلحة احتفظ فكر ابن تيمية بسطوته المدعومة بسطوة الاستبداد وعبَر مكرّما إلى العصر الوسيط يدعم الاستبداد ويسند جوره وفجوره. ونظرا لأنه الفقه الطافي على سطح المجتمع الراكد يتناوله الشائنون للإسلام والمسلمين، مستشرقين ومحافظين جدد اتباع المسيحية السلفية، على انه الإسلام الحق. إذ به يشوهون الدين ويحقرون أتباعه ويحرضون على غزوهم . حقا فالدين لا يدخل السياسة إلا محاباة لأولي الأمر، المستبدين. لا يستشار الدين في باب المعاملات والعلاقات الاجتماعية، ولا في أداب الحوار : لكم دينكم ولي دين. والذين يستحضرون الدين في السياسة إنما توجههم فقط خدمة الاستبداد، واجهة تقنع ممارساته البعيدة عن المصالحة العامة والمناقضة لها.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأبارتهايد يوزع أسقامه على الجانبين
-
نتنياهو المرعوب من تداعي مواقع الحرب
-
المرأة والديمقراطية والثقافة
-
ماريون فيسنو كاستان
-
في الذكرى العشرين لاتفاق اوسلو
-
سبع دول منذورة للتدمير
-
خلف الأقنعة
-
استهانة بالعقل إفراز التعالي والعنصرية
-
ليبحثوا عن هيكلهم خارج فضاء فلسطين
-
لغز التماهي بين حركتين نشاتا في علاقة عداء
-
العالم يدرك سجل الحروب العدوانية للولايات المتحدة الأميركية
-
اضطراد التوحش الامبريالي
-
عدوان قادم ام تغطية على عدوان جار على قدم وساق؟
-
طقوس التحولات
-
الأجواء ملوثة للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية
-
اختراق اللحم الفلسطيني
-
جبهة ثقافية عربية من اجل العدالة في فلسطين
-
كيف اقتحم التكفير الثقافة العربية -الإسلامية
-
كيري يسوق مشروع نتنياهو للسلام الاقتصادي
-
اليسار العربي وفلسطين
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|