عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4258 - 2013 / 10 / 28 - 21:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الحداثة العقلية هي التي نؤمن بها ليست لأنها مدرك عقلي فقط ولكنها عملية تجديد حقيقي لا ترفض الواقع لأنه نتاج الماضي فحسب ولأن فيه ما لا يمكن أن يقبل به الماديون من معرفة تتعلق بما هو خارج نطاقية القبول المبدئي للمقدمات بل لأن العقل أساس لا يمكنه أن يقبل بما هو خارج نتائج الصراع بين العبودية وتوقه للانقلاب على ما في الواقع من كيان معرفي لا يلبي القواعد التي تتسع مع التجربة العلمية المتطورة والمتجددة.
الحداثة العقلية نتاج الصراع هي أمتياز حقيقي وواقعي للعقل المتدبر العقل الذي يتوسع مع كل جديد على أساس توافق النتائج مع النظام القيمي الشمولي بما فيه ركني الغيب والإشهاد في عالم الحضور الوجودي الشيئي وما لم يثبت أنه غير حقيقي من عالم الغيب طالما أنه أي العقل المصنوع لم يدركه ولا يمكن أن يدركه إلا من خلال منطقية أن في وجودنا جانب خفي,جانب يمثل الجزء الغائب من الحقيقة,ليس بمعنى العدم ولكن بمعنى عدم المعرفة به,وهنا عدم المعرفة لا تنفي الوجود الشيئي أو اللا شيئي لذلك العالم.
فحتى العقل بشقيه فيه جانب خفي لم يدرك ماهية وجوده ولا تعرف عن قيمه الشيء الكثير,الحب والكراهية قيم وجوديه ولكن قواعد إثباتها من الصعب تقديرها أو قياسها أو التنبوء بها إلا من خلال التلامس مع نتائجها,فهل العقل الحداثي ينكر وجود الحب والكراهية أم أن الحداثيون لا يحبون ولا يكرهون,تلك مسألة أخرى يجب الإعتراف بوجودها وعلى العقل الحداثي أن يثبت نقيضها إن أمكنه ذلك.
العقل الحداثي بهذا المعنى لا بد أن يتحول أولا من إيجابيته الساكنة إلى إيجابية متغيرة فاعلة لا ترفض فقط الواقع ولكن تصنع البديل الحقيقي,البديل الذي يصنع الوعي الإيجابي ويحقق للإنسان مسألة الكرامة والتكريم الذي هو سر الكينونة وسر التكيف وبذلك يفهم وجوده ويعرف حقيقة هذا الوجود وبذلك تتحقق المقولة(من عرف نفسه فقد عرف ربه),هذه المعرفة التي توصلنا لمفهوم المعرفة المطلقة تتوافق مع النظام القيمي الشمولي الذي تجعل من الإنسان محورها وهدفها وترتقي فيه للكمالات الحقيقية للوجود الشيئي له.
بالحداثة العقلية نصل إلى أن للإنسان ماهيتان تفترقان بالوصف ماهية عمومية أنه إنه حيوان ناطق تميزا له عن الجنس الحيواني ووصلا له بنوعية محددة,وماهية خاصة تجعل للفردية الخاصة دورا محوريا في صياغة الوجود هذه المحورية تعتمد على ما يتسع له العقل المصنوع من تجربة وما يكتسبه من علم فيتفاضل أيضا بالنوع والجنس عن أفراد ماهيته العمومية والله تعالى يقول{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}الزمر9,فالتذكر هو أول الطريق للعلم ولأن يكون الإنسان صاحب العقل الحداثي قادرا أن يتجاوز إيجابيته الساكنة إلى إيجابية فاعلة منتجة متطورة قادرة على إدراك الوجود الشيئي ويدرك محورية النظام القيمي الشمولي.
قبل انفجار موجة الحداثة كتيار في مطالع القرن العشرين ظهر اصطلاح الحداثة أو(الموديرنيزم)في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي ,تيارٍ تطرَّف في إيمانه بالعقل إِلَى درجة التزمت والتزمت الشديد.وهذا التطرف في الإيمان بالعقل لدرجة التقديس هو ذاته مفتاح الكفر بالعقل لأنَّهُ أولى العقلَ مهمات ينوء بحملها،بل لا يحملها،ونسب إليه قدرات لا يقدر عليها في الحال الذي هو عليه دون أن يكون في إيجابيته المنفعلة بالصراع الكوني,ولذلك عندما ظهر التيار الحداثي في مطالع القرن العشرين لم يجد أفضل من اصطلاح (الموديرنيزم) ليعبر عن ذاته به.
ولا يوجد أحدٌ في الغرب من أعلام الحداثة ينكر أنَّ الحداثة لا تستند إِلَى العقل ولا إِلَى المنطق،بل لا ينكر أيٌّ منهم أنَّ الحداثة ترفض العقل وترفض المنطق يفخرون جميعاً بأنهم تيارٌ رافض للماضي والحاضر والمستقبل ،يصرُّون على أنَّهم تيار معلقٌ في الهواء،لا سندٌ ولا مستند ،ولا قاع ولا سماء وهذا تزاراً يعلن أنَّ عدمية الحركة الدادية ليست في ميدان الأدب وحده وإنَّما في كلِّ الميادين وهذا ما كان،ويقول في بيان 1918م "دادا لا تعني شيئاً... أنا ضدُّ كلِّ الأنظمة"، ويعلن ديفيد سال أَنَّهُ يحاول أن يقضي على الفن... أن يتخلص منه .
نعم كان رواد الحداثة الأوائل ينظرون للحداثة من زاوية الإنتقام من كل ما هو ساكن في العقل من ثوابت زرعها ذلك التخندق العقيدي المسيحي القائم على أن العالم عبارة عن صك معرفي في قبضة الكنيسة وأن العلم كل العلم هو علمها وما فوق ذلك مجرد هرطقات وخروج على العقل الديني,ثَمَّة الكَثير الكثير جدًّا من الشواهد والأدلة على ذلك. وعلى الرَّغْمِ من ذلك، وهو غيضٌ من فيض.
عندما قام رواد الحداثة العرب بنقل الحداثة إِلَى دنيانا،وكان ذلك، على الأغلب والمرجح، من بوابة الشعر الحر،ثُمَّ النظريات والتنظيرات ثُمَّ الفن التشكيلي... وصفوا هؤلاء الرواد الحداثةَ بأَنَّها قمَّة العقلانيَّة،وتمام المنطقيَّة، ومنتهى الأخلاقيَّة، وأَنَّها السيرورة التاريخية، والصيرورة التطورية!! ونسوا أن المعرفة التي لم تنتج بظروف يصنعها العقل والحداثة التي لم تولد من صراع حقيقي بين عبوديته وتتوقه لإختراق المجال الحيوي المتوسع ليست بحال تقدر معه أن تثبت أنها وجدت الحل أو أنها قادرة على فهم الإشكالية المعرفية والواقية لتنقل المجتمع من موقف الرفض السلبي إلى حالة الرفض الإيجابي القادر على الوصول إلى خط البداية النهضوي.
في الغرب لم تنقصهم الجرأة على أن يعترفوا بأن هوية ومؤدى الصراع القادم هو صراع بين دين الكنيسة وبين قيم العقل الحداثي الرافض لذاك الدين وضد منهجيته,فكانوا على أتمِّ الصراحة في إعلان هويتهم وغاياتهم ومناهجهم,فقالوا من دون لف ولا دوران ولا مواربة إنَّهُم يرفضون العقل والتاريخ والتراث والدين .
أما نحن فكنَّا جبناء، وما زلنا فبحثنا عن ستارٍ ندَّرع به،فخلطنا بَيْنَ المتناقضات،وساوينا بَيْنَ العقلانية واللاعقلانية,وصرنا عندما نسمع كلمة حداثة لا نعرف ماذا نفعل معها!! نخاف أن نتهم أننا ضد الدين أو نكون ملحدين أو أننا في الجانب الأخر من قضية الدين والإيمان ولكننا بقينا نصر على أننا في حداثة وندعوا لها, دون أن نعيها ولا ماذا نفهم منها!! لا نجرؤ على ذمها ونحذر من مدحها... ونخاف.
العقلانية مع الحداثة في الفكر الغربي طرفي نقيض أذن كون الثانية كما هو واضح من لفظة (الموديرنيزم) تعني رفض للرفض بما هو عقلي وتراثي وغيبي بل أكثر من ذلك تجعل العقل محايد تماما عن أن يقود تيار الحداثة إلى وجهته المقصودة,أما في فهمنها لها فتعني العقلانية أو تحكيم العقل كحاكم مطلق في الرقابة على ما هو واقع وجودي,هذا الأمر أدى إِلَى شرخٍ صريحٍ عميقٍ في الهوية الثقافيَّة والمعرفيَّة العربيَّة، وإلى انفجارٍ طالت شظاياه مختلف المناحي والجوانب ورُبَّما يكون أكثرها خطورة ما طال البنية النفسية للمتلقي العربي الذي يفجع بآثارٍ تافهةٍ في معظم الفنون وفنون الأدب خاصَّةً,وكلها نتاج عقلي محض يصنعه العقل المصنوع بما أكتسب من مقدمات تنتمي للواقع الذي ترفضه الحداثة ذاتها.فيكون فهمنا لها لا طعم له ولا لون ولا معنى ولكن رائحته مريبة،ورُبَّما كريهة.وكل ذلك بحجَّة أنَّها نتاجٌ حداثيٌّ.
إنَّ القبول بأنَّ الحداثة تعني العقلانية واللاعقلانية معاً ليس إلاَّ تحطيماً لكلِّ قوانين العقل ومبادئه وتجاوزا فجا للمنطق العقلي وحتى منطقه الحداثي الذي يقوم على الصراع بين عبوديته وبين رغبته في توسيع وعاءه العلمي وما ينتج من إشكاليات ونتائج،هذا يعني تحطيماً للعقل ذاته،وهو أمر لا يستوي إلا عند المجانين، ورُبَّما المتطرفين في جنونهم فَقَطْ، ألم يقل سقراط قبل نحو ألفين وأربعمائة سنة"إنك لا تستطيع حَتَّى في المنام أن تقبل أن للمثل أربعة أضلاع"؟ فكيف استوى ذلك معنا؟!
إنَّ إصرارنا على استخدام الحداثة كونها الدلالة العقلانية فقط وفقط وأنها العلاج الحقيقي لمشكلة التخلف التي يعاني منها النظام العقلي العملي عند الإنسان ومنه العربي,في حين أن الفكر الغربي يرى فيها دلالتين الدلالة العقلية والدلالة اللاعقلانية،وهذا يعني استمرارنا في ارتكاب حماقة لم تجرؤ عليها أمة عبر التاريخ،وخاصَّةً أنَّ اصطلاح الحداثة اصطلاح مهمٌّ وخطير وليس مفردةً عابرةً ولا هامشية يجوز تجاهل الخلط فيها.
نقطة الانطلاق هنا ينبغي أن تكون نقطة انطلاق الاصطلاح ذاته؛ نحن كما بدا واضحاً أمام اصطلاحين هما:MODERNITY وMODERNISM، وكلاهما في النشأة والعمق الدلالي والمعرفي غربيان يحملان اللفظين ذاتيهما في معظم(اللغات)الأوربية، وخاصَّة المنبثقة عن اللاتينية .
وهذا يعني أَنَّهُ عند تعريب هذين الاصطلاحين ينبغي الوقوف عند المنبع،عند الأصل ،وهذه قاعدة متعارف في علم الترجمة ولا يتجاهلها إلا جاهل بأوليات الترجمة,المشكلة هي أننا لو أقررنا التمييز بَيْنَ الاصطلاحين بإبقاء الحداثة تعريباً للموديرنتي وجعلنا الحداثوية تعريباً للموديرنيزم لوقعنا في فخ الحداثويين الذين سيسيرون تحت لواء الحداثة كما فعلوا طيلة نصف القرن المنصرم .
إن الحداثة العقلية أو أن صراع العقل المصنوع مع عبوديته حداثة لا تمتد لما يعنيه المصطلحان الأوربيان من معاني ودلالات بل يتجاوزهما نحو النهضة الفكرية التي تنتمي للوجود الشيئي الكوني الشامل بكل جوانبه الحاضرة والغائبة دون أن يكون صراعه مع عبوديته مجرد صراع لأجل الصراع فقط بل له هدف هو أستكشاف الحقيقة الكاملة والتامة للنظام القيمي الذي جعل من الإنسان محور له محور تدور معه كل المسخرات ويستجلي ما فيها نحو تلك الغائية التي بحداثة العقل يقترب من أستكشافها والتيقن بمؤدياتها والتعامل وفق معطياتها دون أن يدخلها مادة في صراعه مع العبودية لأنها تعني له التحرر وتعني الوعي الأتم بوجوده الشيئي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟