|
نبوءة ماركس والأشباح العائدة
صبحي حديدي
الحوار المتمدن-العدد: 1215 - 2005 / 6 / 1 - 07:20
المحور:
ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي
في مثل هذه الأيام، ولكن قبل عشر سنوات، كان ليش فاليسا ما يزال يتمتّع بسلسلة صفات بارزة: إنه الزعيم التاريخي السابق للنقابات التعاونية البولندية (سوليدارنوش)، وقائد الإضراب العمّالي الشهير الذي شهدته أحواض سفن غدانسك صيف 1981، والرجل الذي ألقى خطاباً في اجتماع مشترك للكونغرس الأمريكي ليصبح بذلك ثالث شخص يحظى بهذا الشرف بعد المركيز دولافاييت والسير ونستون تشرشل، ثمّ بالطبع الرجل الذي صار أوّل رئيس منتخَب ديمقراطياً في أطوار ما بعد انهيار المعسكر الإشتراكي. رغم كلّ هذه المزايا كان فاليسا قد خسر معركة الإنتخابات الرئاسية في مواجهة ألكساندر كواسنييفسكي، القادم مباشرة من صفوف الحزب الشيوعي البوبندي! ولقد استجمع فاليسا قواه آنذاك، وأطلق آخر ما تبقّى في جعبته من سهام حين زعم كشف النقاب عن «الوثائق» العتيقة الخطيرة التي تدين الرئيس الجديد بالخيانة العظمى، ثم ألقى خطباً لاهبة طويلة حول الأمجاد النقابية في حوض غدانسك، وأخرى شاعرية قصيرة حول عقوق التاريخ وانتصار قوى الشر على قوى الخير. وحين فشلت هذه في تبديل الوقائع الباردة، راقب فاليسا تسلّم الرئيس الجديد مقاليد السلطة، وسار في موكب حزين إلى طائرة جاثمة في مطار كئيب، وألقى نظرة وداع أخيرة على مودّعيه القلائل الذين حرصوا على عدم الظهور بمظهر المشيّعين، وسافر إلى حيث ينبغي أن يسافر. م يكن يسيراً أن ينتظر المرء مشهداً كهذا في قلب «المعسكر الإشتراكي سابقاً»، الذي لم يكد يستكمل نصف عقد من ثوراته الديمقراطية الليبرالية حتى استعجل العودة إلى النقائض القديمة، بعد أن أضفى عليها أكثر من مسحة واحدة جديدة. وكان فريدريك إنجلز، شريك كارل ماركس في رصد ورسم ملامح الشبح الشيوعي الذي أخذ يحوم في سماء وأرض أوروبا منذ أواسط العقد المنصرم، قد أطلق عبارة نبوئية مدهشة وثمينة في آخر أيام حياته. قال إنجلز: «ثمة غرابة خاصة في أطوار البرجوازية، تميّزها عن جميع الطبقات الحاكمة السابقة، هي أنها تبلغ منعطفاً حاسماً في صعودها وتطوّرها تصبح فيه كلّ زيادة في وسائل جبروتها، أي كلّ زيادة في رأسمالها أساساً، بمثابة عنصر جديد إضافي يساهم في جعلها أشد عجزاً عن الحكم بالمعنى السياسي». وبصرف النظر عن درجة الصلاحية العامة في تشخيص صدر قبل أكثر من قرن (توفي الرجل عام 1895)، فإنّ المجموعات الحاكمة في المجتمعات الرأسمالية الغربية المعاصرة تبدي الكثير من هذا الميل، فكيف الحال في مجتمعات الإهتداء الهستيري العجول إلى فضائل وآلام وآمال الرأسمالية العتيقة. وكان الأمريكي فرانسيس فوكوياما قد أعلن نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية السياسية والإقتصادية في معركة ختامية لن تقوم بعدها قائمة لأية إيديولوجية منافسة. بعد خمس سنوات أصدر فوكوياما كتابه الثاني الذي يبشّر بنهاية الإقتصاد الوطني وولادة التعميم العالمي لاقتصاد كوني واحد عماده «الثقة»، تدورمن حوله أفلاك اقتصادية أصغر أو هي ليست بالاقتصاد إلا لعدم توفّر مصطلح بديل يصف طبيعتها. ولكن فوكوياما، في الكتاب الأوّل كما في الثاني، كان قد أساء قراءة هوية «الرجل الأخير» أو الرأسمالي خاتم البشر الذي سيرث الأرض بعد طيّ صفحة الحرب الباردة. والأشباح التي أخذت تعود من جديد في موسكو وبولونيا ورومانيا وهنغاريا وبلغاريا ليست بالتأكيد في عداد ذلك الرجل، وكان فوكوياما قد «ابتلع» ليش فاليسا على مضض، فكيف سيتمكن من ابتلاع الرئيس الجديد الذي كان «الطفل المدلل» للجنرال ياروزلسكي؟ وكيف سيهضمه وقد أتى لا على ظهور الدبابات، بل خرج من شقوق صناديق الاقتراع؟ التبسيط هو آخر المعايير المقبولة في أيّ وقوف عند متغيّرات «المعسكر الاشتراكي سابقاً»، والأمر هنا يشمل التبسيط على الجانبين: ذلك القائل إنّ هذه عودة من النافذة لشيوعية خرجت من البوّابة العريضة، أو القائل إنها لا شيوعية ولا من يحزنون. النطاق الإقتصادي يأتي بعد (وليس قبل) المعضلات الاجتماعية، وبينهما تكون السياسة أو العجز السياسي عن ممارسة الحكم هي القشة التي ترجح كفّة الميزان. وبعد عام فقط على هزيمة فاليسا، كانت الرأسمالية المعاصرة تشهد فصلاً جديداً في مسلسل التأزّم العميق الذي تعيشه، ليس في أوروبا أو الولايات المتحدة هذه المرّة، بل في اليابان. ولقد تابع العالم بأسره ذلك المشهد المسرحي الجدير بأكثر تراجيديات شكسبير توتراً ومأساة، مع فارق حاسم هو أنّ المشهد هنا واقعي 100%: في نقل حيّ على الهواء مباشرة، من عشرات شاشات التلفزة اليابانية، فاضت عبرات المدير التنفيذي لشركة «يامايشي» للسندات والأسهم والمضاربات، وانخرط في بكاء متقطع مرير، وانحنى على النحو الشعائري الياباني وهو يعلن الإفلاس الوشيك للشركة. واكتملت الدراما القصوى حين توقفت الكومبيوترات والحاسبات، وتجمدت المعاملات المالية، وأُطفأت الأضواء في ناطحة السحاب حيث مقرّ الشركة. نهاية حزينة لا ريب، و«ثمة الكثير الذي يستحق الدموع المدرارة» كما يقول شكسبير على لسان عطيل. تلك كانت الشركة التي تحتلّ المرتبة الرابعة في لائحة كبريات بيوتات السندات المالية الخاصة في اليابان، وعراقتها تعود إلى عام 1897، ولها فروع في 31 عاصمة رأسمالية، بكادر من المستخدمين يتجاوز السبعة آلاف موظف. ذلك كله لم يحصّنها ضدّ سلسلة من الفضائح المالية، وسلسلة ثانية من تقلبات أسعار الأسهم، وسلسلة ثالثة من صعوبات تأمين التمويل، الأمر الذي أفضى إلى خسارة صافية مقدارها 25 مليار دولار أمريكي، وإلى إعلان الإفلاس والإغلاق. أوّل الدروس وراء ذلك الإنهيار الدراماتيكي للشركة اليابانية هو أن العمالقة قد يجدون أنفسهم بغتة في عراء مطلق، بلا سند أو كفيل أو ضامن، قاب قوس واحد من الهاوية. البنوك المركزية في أوروبا وضعت يدها على قلبها، وأبدت مشاعر «التعاطف»، ثم التزمت الصمت. الشركاء الأمريكيون ضنّوا حتى بمشاعر التعاطف. وبنك «فوجي»، الذي رعى مصالح شركة «يامايشي» منذ عقود وربح مئات الملايين منها ومعها، نفض يده في نهاية الأمر وأعلن مسؤولوه أنهم لا يستطيعون القيام بأيّ شيء لإنقاذ الموقف. ثاني الدروس أن التشدّق الليبرالي حول ضرورة توطيد وتسهيل الإستقلالية المطلقة للمؤسسة الخاصة مقابل الدولة والإدارة المركزية، يتلقى من جديد لطمة قاسية لأنّ الجهة الوحيدة التي كانت قادرة على انتشال «يامايشي» من الهاوية هي وزارة المالية اليابانية. وهنا أيضاً اتضحت محدودية هذا الدور، لأن الخزينة العامة ليست مضخة مليارات لا تنضب، بدليل عجز الحكومة اليابانية عن إنقاذ بنك «تاكوشوكو» وشركة سندات «سانيو» من إفلاس مماثل وقع قبل أيام معدودات فقط. ثالث الدروس هو المفارقة المؤلمة التالية: يوم 23 تشرين الثاني (نوفمبر) من ذلك العام صادف عيد العمل في اليابان، وهو حرفياً «عيد الإمتنان لقاء الحصول على وظيفة». وبدل أن يحتفل سبعة آلاف من عمال وعاملات «يامايشي» ببقائهم على رأس العمل في عيد العمل، وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق، في شدق البطالة الفاغر. وأما رابع الدروس فهو مفارقة بدوره، مزدوجة وخارج حدود اليابان هذه المرّة. ففي فانكوفر حيث تجري وقائع مؤتمر التعاون الاقتصادي لدول آسيا والباسيفيكي (أبيك)، أصدر صندوق النقد الدولي وثيقة جديدة حول برنامج التعديل الهيكلي، وهو «وصفة» الإصلاحات الإلزامية التي يفرضها الصندوق على الدول النامية كشرط مسبق للإقراض والإعانة، تحثّ على منح المزيد من الاستقلال للشركات الخاصة، والمزيد المزيد من إقصاء الدولة بعيداً عن الحياة الاقتصادية! وفي معظم أطراف المعسكر الرأسمالي المعاصر (إذْ لا يزال يستحقّ صفة سالمعسكر»، حتى مع غياب المعسكر الإشتراكي النقيض)، في فرنسا كما في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا واليابان، تتابع أخلاقيات السوق العيش وفق قواعد «ثقافة الرضى» حسب تعبير المفكر الإقتصادي الكبير جون كينيث غالبرايث. إنها جسم إيديولوجي اجتماعي ـ اقتصادي يلبس لبوس الديمقراطية (حين لا تكون هذه خيار مجموع المواطنين، بل أداة أولئك الذين يقصدون صناديق الاقتراع دفاعاً عن امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية)، وتفرز أجهزة حكم لا تنطلق في تطبيقاتها السياسية من مبدأ التلاؤم مع الواقع والحاجة العامة، بل من طمأنة الخلايا الدقيقة المنعمة والراضية، التي تصنع الأغلبية الناخبة. والفكر الاجتماعي الرسمي من حول هذه الثقافة لا يلحّ على قضية أخرى قدر إلحاحه على الطبقة، أو بالأحرى على غياب مفهوم الطبقات. وبدلاً عن هذا التوصيف الكابوسي الذي يرجّع أصداء الماضي، يلجأ ذلك الفكر إلى البلاغة فيتحدث في أمريكا عن "الطبقة السفلى Underclass ، وفي فرنسا عن الذين "بلا عنوان دائم" SDF، وفي بريطانيا عن "المشردين" Homeless . لكن المحتوى في جميع الأحوال يصف ملايين الفقراء والعاطلين عن العمل، ويصف طبقات جديدة، وأخرى عتيقة. الموقف من الزمن التاريخي (أي ذاك الذي يرتد إلى الماضي من المستقبل، مروراً بالحاضر) هو إحدى السمات المكوّنة في لاهوت ثقافة الرضى التي تحدث عنها غالبرايث. إنها لا تنكر التأزّم (حيث يتعذر الإنكار)، لكنها تسعى إلى تأجيل الفعل اللازم لحله وتنحي جانباً كل ما يثير الاضطراب: مظاهرات، اضرابات، نتائج انتخابية تقلب المعادلات الراسخة رأساً على عقب... واليوم، في عيد العمّال وبعد مرور أكثر من عقد ونصف على النظريات التي تبشّر ببزوغ فجر الرأسمالية واقتصاد السوق مرّة وإلى الأبد، ليس عسيراً أن نشهد استقطابات عميقة تتحرّك في السطوح الأعمق من السياسة اليومية، الميدان المعلن الذي يتبدّى فيه عجز الإقتصاد الرأسمالي عن تطويع الحياة اليومية. ويكفي أن يتابع المرء ما يجري في أيّ من البلدان الرأسمالية الأساسية، في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، بصدد السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الثقافة أو الحرب أو السلام... لكي يتذكّر المرء نبوءة ماركس الرهيبة حول برجوارزية لا تملك سوى أن تخلق حفّاري قبورها!
#صبحي_حديدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إسكندرية كافافيس
-
الدستور الأوروبي الموحد وانحطاط الحلم إلى ردّة
-
وما أدراك ما القراءة
-
سورية والجوهري هذه الأيام: عود القمع على بدء الاستبداد
-
مواطَنة فخمة
-
السعودية: عنف يتفاقم، مأزق يستحكم، ونظام يتآكل
-
تحية إلى المؤتمر السادس لحزب الشعب الديمقراطي السوري
-
من طروادة إلى بغداد
-
بلير والولاية الثالثة: الناخب أعطى، وثاتشر أخذت
-
أبقار نووية
-
بشار الأسد بعد الإنسحاب من لبنان: اختبار النار؟
-
العراقي الطائر
-
القيادة السورية: أيّ انقلاب أبيض يصلح البنية المستعصية؟
-
غسان كنفاني... شكراً
-
أمثولة مجزرة قانا: الماضي جثّة ثقيلة على صدر الحاضر
-
مَن يعبأ بالصدى؟
-
السودان والقرار 1593: مَن يتذكّر رادوفان كراجيتش؟
-
سياسة الروح
-
أيّ تغيير «من الداخل» تريد واشنطن في سورية؟
-
«أشغال» الوكالة
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
الدين/الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من اجل مجتمع بلا إرها
...
/ محمد الحنفي
-
اليسار بين الأنقاض والإنقاذ - قراءة نقدية من أجل تجديد اليسا
...
/ محمد علي مقلد
-
الدين/الماركسية من اجل منظور جديد للعلاقة نحو أفق بلا إرهاب
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|