|
الطبقة الطفيلية في المجتمع الاشتراكي
سناء الموصلي
الحوار المتمدن-العدد: 1215 - 2005 / 6 / 1 - 07:08
المحور:
ملف - الماركسية وافق البديل الاشتراكي
الطبقة الطفيلية في المجتمع الاشتراكي كسرنا الأرض المتجمدة بالمعاول ، صهرنا الحديد ، قدمنا صدورنا لفوهات بنادق الكولاك . وأنت حينما وصلت بسيارة "بابيدا"* ، صرخت من الشباك: أكملوا البناء! .. عدّنوا! .. فنسينا النوم والغداء ، وأنت قدتنا من نصر إلى نصر! وأنت: بدلت "البابيدا" بـ "الفولكا"* ، وفيما بعد .. بدلت "الفولكا" بـ "الزيم"* ، وبعد ذلك .. بدلت "الزيم" بـ "الجايكا"* ، وإثر ذلك .. بدلت "الجايكا" بـ "الزيل"* ،…
أما نحن فأضنانا العمل ، كسرنا الأرض بالمعاول ، وحملنا الأثقال ومع هذا فأنت قدتنا من نصر إلى نصر ورفعت الأنخاب على شرف النصر … أ. كاليج . متى أعود . فرانكفورت على الماين. 1977، ص121-122. *بابيدا وفولكا وزيم وجايكا وزيل- سيارات يركبها القادة الحزبيون في الاتحاد السوفيتي. المترجم.
يكرّس لينين الفصل الختامي من كتاب "الإمبريالية- أعلى مراحل الرأسمالية" لموضوع الطفيلية والتعفن ونحن نكرس الفصل الختامي من الكتاب الحالي لنفس المشكلة- تطبيقاً للاشتراكية الحقيقية . في أي شئ يرى لينين السبب الرئيس للطفيلية والتعفن في الطبقة الحاكمة للمجتمع الرأسمالي الحديث؟ هل في أن المجتمع- رأسمالي؟ لا ، ولكن برأيه لقد أصبحت الاحتكارات هي الحاكم الفعلي في هذا المجتمع . ويرى لينين بحق أن السبب الرئيس للطفيلية في أي احتكار هو اتخاذها شكل طبقة . وتتحدد الطبقة الطفيلية وتعفن النظام الاجتماعي المقام من قبلها والمرتبط بها بنطاق الاحتكار ، إذ بقدر ما عمم هذا الاحتكار أكثر بقدر ما هي مصانة من المنافسة الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية وبقدر ما توجد إمكانية أكثر لتجدد طفيلية الطبقة الحاكمة وتحولها إلى طائفة متصلبة جالسة على رقبة المجتمع ماصة عصيره دون أن تعطيه أي شئ . هل توجد الظاهرة الطفيلية في ظل الرأسمالية؟ نعم توجد . ولكن الأصلية لا توجد في الرأسمالية . لذا فما يسمى في الأدبيات الماركسية بـ "الاحتكارات" -في الحقيقة- ما هي إلا اتحادات احتكارية ضخمة لا يوجد لدى أي منها قوة لإحتكار السوق ، ولذلك كقاعدة- أشار لينين إلى أن ظاهرة الطفيلية الشاذة تظهر في المجتمع الرأسمالي الحديث كنزعة إلى الركود والتعفن لا غير(1) . وهناك شئ آخر في ظل الاشتراكية الحقيقية هو أن احتكار طبقة النومينكلاتورا يكون شاملاً فكل منافسة مع الاحتكاريين النومينكلاتوريين يقضى عليها بعنف من قبل ديكتاتورية هذه الطبقة ولا يعيق الطفيلية والتعفن أي شئ لكي يغرقا في المستنقع الآسن المملوء بالاحتكار المخلوق اصطناعياً . ويفسر التوتر الخاص لمثل هذه العمل واقع أن طبقة النومينكلاتورا التي برزت في الميدان التاريخي بعد طبقة الرأسماليين بوقت متأخر قد سبقتها كثيراً بمقدار تجددها الطفيلي .
1. هل تعمل النومينكلاتورا؟
إن النومينكلاتورا هي طبقة خدمة نموذجية ، فقد مثلها بوقته في المجتمع الإقطاعي بالبداية طبقة النبلاء العليا (البويار) التي من واجبها خدمة الدولة ومن ثم النبلاء الاعتياديين ، وجميع أعضاء طبقة النومينكلاتورا هم موظفون شكلياً ، إذ يشغلون مراكز قيادية محددة دائماً في الجهاز الحزبي والحكومي ، لذا فإنهم يبدون خدومين ، ويسمح للنومينكلاتورين بالاستتار خلف واجهة الموظفين . إن النومينكلاتورا تخدم ، ولكن هل تعمل؟ خلال سنوات حكم النومينكلاتورا في الاتحاد السوفيتي حدث تباين طريف في المعنى بين كلمتي "يخدم" و "يعمل" . ففي بداية الثلاثينات قالوا عن الموظف: "هو ذاهب إلى الخدمة". والآن غير مقبول القول هكذا وإنما يقولون: "ذاهب إلى العمل" . ولا يعني هذا أن كلمة "خدمة" حرمت رسمياً ، والعكس يقال عن الخدمة العسكرية وعن "خدمة قضية السلم" وعن "خدمة الوطن الاشتراكي" . وباختصار فإن كلمة "خدمة" من الناحية الرسمية حظيت بمسحة إعلاء ولكن في نفس الوقت يمكن القول عن الشخص: "هو لا يعمل وإنما يخدم" ، معنى هذا أنه يملك محلاً في الملاك ويستلم راتب ولكن لا يوجد نتائج محسوسة عن نشاطه . إنها خصائص نفسية طريفة في اللغة ، إذ هي تكثيف لأفكار وشعور الشعب! والنومينكلاتورا نفسها كطبقة خدمة تحب في الأساطير المبتدعة أن ترسم عن نفسها صورة الموظف النومينكلاتوري الكادح الذي لا يكلّ ، خذوا من عهد ستالين الفيلم السينمائي "المواطن العظيم" أو رواية ف. كوجيتوفا "أمين سر لجنة المحافظة" أو حتى كتاب ألكسندر بيك الذي بقي منقوماً عليه ولكن المخصص منه للنشر في الاتحاد السوفيتي هو "التعيين الجديد": البطل النومينكلاتوري الذي صور كإنسان في كل زمان ، مع أنه بالطبع افتخار لإرادة الحزب فوق الجماهير ، فهو يعمل من الصباح الباكر حتى وقت متأخر من الليل ويقدم جميع قواه لخير الشعب . وبهذا الشكل يحب أعيان النومينكلاتورا أن يروا إنعكاسهم ، والمهم هي محاولتها الإيحاء للشعب الذي يراها داخل السيارات المسرعة في طريقها أن أعضاء النومينكلاتورا يحملون على أكتافهم حمل الأعمال الثقيل وعبء الأعمال الحكومية التي تسعد الناس السوفيت البسطاء أنفسهم . وتختفي هذه الأسطورة كما لو أنها دخلت حينما تحصلون على إمكانية رصد نشاط النومينكلاتوريين بأنفسكم وتتعرفون بدهشة كيف ينظمون هذا النشاط . ولا يتعلق الأمر بكسل النومينكلاتوريين ، فهؤلاء الناس نشيطون وليسوا كسالي في نظام الاشتراكية الحقيقية القائم بوظائفه ، إذ لا توجد ضرورة للاجتهاد وللعمل في ظروف الاحتكار المطلق . أما في الواقع ، علام تعمل النومينكلاتورا؟ هي طبقة مستغلة ، وبالتالي فإن مستوى معيشتها العالي يضمن بعمل الآخرين من الناس الخاضعين لها . وهؤلاء الناس بالملايين لأن النومينكلاتورا هي رب العمل الوحيد في البلاد ، ويوجد بين هؤلاء الناس أخصائيون بعدد كاف من الذين تنهرهم النومينكلاتورا بصوت آمر وهم يديرون لأجلها العملية الإنتاجية . ففي ظل هذا الأسلوب ينتجون أقل من الممكن؟ يكون الأسوأ للتابعين ، أما النومينكلاتورا نفسها فهذا لا يعنيها لأنها تأخذ حقها . لا يوجد سبب لأن تعمل النومينكلاتورا ؛ إن عملها هو التسلق إلى أعلى ، ولكن الطريق إلى أعلى يمتد إليها ليس من خلال العمل وإنما من خلال الدسائس ضد المنافسين وكسب حماة أقوياء . لا ، فالنومينكلاتوريون لا يتكاسلون وهن أناس مشغولون دائماً ، وشغلهم هو عمل تدرج في السلم الوظيفي فقط وليس للمجتمع . إن احتكارها الكامل للسياسة والاقتصاد والأيديولوجيا ونظامها الديكتاتوري هو الذي بواسطته أمنت النومينكلاتورا على نفسها وبهذه الطريقة انعزلت عن الشعب بحيث لا توجد ضرورة لعمل شئ ما لصالح المجتمع لأن مكانها خلف عجلة القيادة مضمون في جميع الأحوال . وتتوخي أية طبقة غاياتها بحيث لا تسترشد أية واحدة منها بحب البشرية ، ولكن الطبقة التي لا تملك احتكاراً كاملاً على السلطة ستضطر إلى تعويض موقعها القيادي بالعمل لصالح المجتمع . إن هذا غير ضروري لطبقة النومينكلاتورا الإحتكارية ، إذ يوجد هنا جذر تجددها الطفيلي السريع . وأينما وقعتم في الوسط النومينكلاتوري فلا تقعون في جو الإبداع والعمل وإنما في جو ترقي المناصب والتزلف والتبجح والمكائد . "أسياد الدسائس"- هكذا يقول الناس في الاتحاد السوفيتي عن النومينكلاتوريين طالما يعرفون أنهم لا يملكون أية عبقرية في العمل عادة ، ولكن مقابل هذا لا يوجد من يضاهيهم في الكائد . وتصيب الطفيلية أية طبقة سائدة ومستغلة ومتميزة في المجتمع ، ولكن يجب أن تكون طبقة تشبه النومينكلاتورا وتسود في ظروف الاحتكار المطلق ومُعرَّضة بشكل خاص للتجديد الطفيلي .
2.طفيلية النومينكلاتورا كطبقة
ماذا يعني مفهوم "طفيلية الطبقة"؟ لا يتطلب فهمها طبقاً إلى لوحة الإعلان حرفياً ، لأن هذه الطبقة تعبر تبعاً لكلمات ماياكوفسكي عن الذين يأكلون الأناناس والطيور . إن الطبقة الحاكمة تحكم ، وهذا هو شغل يتميز عن تذوق الأطعمة اللذيذة . والسؤال هو كيف تحكم؟ هل تقود المجتمع جيداً ، معنى هذا ، هل يعيش الناس جيداً من الناحية المادية والروحية في المجتمع الذي تديره؟ وهل أن مستوى الدخل عال؟ وهل هم أحرار؟ وكذلك هل تعمل الطبقة الحاكمة لصالح المجتمع أو تحكم لإرضاء حبها الخاص للسلطة والغرور بالضد لهذه المصالح؟ إن الجواب على هذه الأسئلة يستعمل تشخيصاً لخضوع الطبقة الحاكمة للاستحالة الطفيلية . فإذا كان الناس يعيشون بشكل سيئ وإذا كانوا هم ليسوا أحراراً وإذا كانت الطبقة السائدة تحكم من أجل التنعم بالسلطة والامتيازات ، فإن اليقظة لساعات طويلة في مكاتب وقاعات الاجتماعات لا تساعد في حجب طفيليتهم عن جسد المجتمع . وأكثر من ذلك إن طفيلية أكل الأناناس لا تلحق ضرراً بالمقارنة مع طفيلية تنعم الحاكمين بالسلطة من أجل لذة ساديّة بالسيطرة على الآخرين من الناس . وتتكون الاستحالة الطفيلية لأية طبقة حاكمة في تدهور اقتصادها تاريخياً . وهي يمكن أن تكون محددة بصيغة اعتيادية: الربحية تساوي الحصول على فائدة بعد خصم النفقات الإنتاجية . وتظهر التجربة التاريخية أن الفائدة التي يحصل عليها المجتمع بمرور الزمن من عمل الطبقة الحاكمة تنقص دائماً ، أما الثمن الذي يدفعه المجتمع لقاء هذا العمل فيرتفع . وما دامت الربحية -على الرغم من انخفاضها- تبقى في جميع الأحوال إيجابية الكمية ، يمكن الكلام عن نزعة إلى طفيلية الطبقة الحاكمة . ولكن تحل مرحلة حينما تصبح الربحية صفراً ومن ثم كمية سلبية لأن نفقات المجتمع على الطبقة الحاكمة تكون على حساب رفاهية المجتمع . ومن هذه اللحظة ينبغي القول ليس عن النزعة إلى الطفيلية ، ولكن عن طفيلية الطبقة الحاكمة ، وهي قد أصبحت بذلك طبقة طفيلية تسبب خسارة للمجتمع . ويشهد التاريخ أنه في مثل هذه الحالة يبدأ المجتمع بالكفاح بنشاط أكبر من أجل التحرر من الطبقة الحاكمة الطفيلية وفي نهاية المطاف لابد من إحراز النجاح . إن ثمن حكم طبقة النومينكلاتورا في الاتحاد السوفيتي باهظ ومضن . فالجزء الأول والأكثر قسوة لهذا الثمن هو حياة عشرات الملايين من البشر الذين أهلكتهم النومينكلاتورا . هنا توجد الملايين التي أبادتها هيئات أمن الدولة النومينكلاتورية وملايين الذين ماتوا جوعاً بسبب النومينكلاتورا وملايين الهالكين في الصراع من أجل سلطتها . هنا مصائر ملايين البشر المعطلة بسبب ديكتاتورية النومينكلاتورا . فإذا نجحنا في حساب جميع هذه الملايين سيبدو الرقم هائلاً . لقد حسب البروفيسور الروسي إي. أ. كوركانوف الفرق بين عدد السكان الذين كان يجب أن يعيشوا إلى سنة 1959 داخل حدود الاتحاد السوفيتي تحت ظل نمو سكاني اعتيادي من سنة 1917 والعدد الفعلي ، فظهر الفرق بحدود 110 ملايين شخص(1) . الجزء الثاني: الثمن هو فقر سكان البلاد نتيجة استغلالها من قبل طبقة النومينكلاتورا وعدم معرفة وأهلية النومينكلاتورا في تطور الاقتصاد طبقاً لحاجيات السكان وليس طبقاً لمصالحها الطبقية الأنانية . الجزء الثالث: الازدياد الجامع لاستهلاك طبقة النومينكلاتورا . لا يجري الحديث عن الأطعمة اللذيذة وبناء المنازل الصيفية فقط ولا عن نظام إدارتها فقط ولكن قبل كل شئ عن الثروات المادية والبشرية الضخمة المبددة ليس على الاستهلاك الطبقي فحسب ولكن على الماكينة العسكرية العملاقة والاحتكار الأيديولوجي وعلى سياسة التوسع خارج البلاد . الجزء الرابع: إلغاء النومينكلاتورا للحرية وخنق الأفكار المستقلة مع منع أعضاء المجتمع من العلاقات الفكرية الاعتيادية بينهم وبين المجتمعات الأخرى . كل هذا بدأ وكأنه كبد المجتمع في الاتحاد السوفيتي ليس خسائر معنوية ضخمة فقط ولكن خسائر مادية جسيمة لا يشعر بها وخصوصاً في مجالات العلم والتقنية والثقافة . لقد أدى كل هذا إلى عدم تطور عصري للبلاد بعد سقوط القيصرية في روسيا . ولا تستطيع المناظرات الدعائية من جعل الاتحاد السوفيتي هو البلد المتقدم جداً في العالم وبلد الاشتراكية المتطورة الوحيد لأن هذه الكلمات القديمة المكيّفة عن أن "موسكو هي روما الثالثة " (لا يمكن أن تكون رابعة) . ولا يطمس التخلف سطوة الماكينة الحربية التي صنعتها النومينكلاتورا لأن قطعان جنكيز خان كانت في حينها ذات تنظيم وتسليح ممتازين أيضاً ولكن الإمبراطورية المغولية كانت مجتمعاً متخلفاً وغير متقدم . ومن أن المحتمل أن نكون قد عددنا ليس جميع أجزاء الثمن الذي يجب أن يدفعه المجتمع السوفيتي لقاء سيادة طبقة النومينكلاتورا هناك ولكن المذكور يكفي للإقناع لأن الثمن باهظ جداً . وفي واقع الحال ، ماذا حصل المجتمع السوفيتي مقابل ذلك؟ ومن غير الصحيح التفكير بأن سيطرة النومينكلاتورا لم تجلب شيئاً إيجابياً للمجتمع في الاتحاد السوفيتي ولكن بهذا المقدار من غير الصحيح اعتبار أي خاصية إيجابية ميزت الاتحاد السوفيتي في الثمانينات عن روسيا القيصرية في العام 1913 خدمة النومينكلاتورا . إذ تحاول الدعاية النومينكلاتورية الدس للجميع أن يفكروا فيما لو لم تكن سلطة النومينكلاتورا لكانت روسيا كما هي عليها اليوم بالضبط قبل سبعين عاماً . ولكن هذا كذب سخيف . فمنذ سنة 1913 تغيرت جميع أقطار العالم بدون استثناء وخاصة تلك التي لا يجوز فيها طبقة النومينكلاتورا بالذات . من الذي يصدق أنه إلى هذا الوقت حتى في هذه البلدان الغريبة مثل البرازيل وتايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونك غير متكلمين عن اليابان التي تغيرت كل التغير بدون نومينكلاتورا لبقيت روسيا في الوقت الحاضر هكذا كما كانت عليه في العام 1913 إذا لم تغدقها النومينكلاتورا بحسنات حكمها . وفي غضون ذلك كانت روسيا في سنة 1913 متطورة وعصرية أكثر من البلدان المذكورة أعلاه . وعلى أثر الدعاية البلشفية لسنوات ما قبل الثورة يحاول علم التاريخ السوفيتي المعاصر الكلام عن روسيا القيصرية في ذلك الوقت بجميع ما هو متنافر ، فمن جهة أن روسيا هي شبه مستعمرة ومصدر المواد الخام إلى دول أوروبا الغربية الإمبريالية ، ومن جهة أخرى فهي نفسها بلد إمبريالي ذو صناعة ثقيلة متطورة وبروليتاريا قوية مؤهلة للثورة الاشتراكية . لقد وجدت هذه السخافة تعبيرها الموجز في الصيغة اللينينية التي تبناها ستالين بعد ذلك: "الإمبريالية الإقطاعية-العسكرية " . ومن وجهة النظر اللينينية بالذات إن هذه الصيغة سخيفة لأن الإقطاعية هي نظام سابق حتى للرأسمالية المبكرة ، أما الإمبريالية طبقاً إلى لينين فإنها المرحلة العليا والأخيرة للرأسمالية . فإذا كان الأمر كذلك ، فإن "الإمبريالية الإقطاعية" هي أيضاً سخيفة مثل "الماء الجليدي المغلي" . ويجب المقارنة ليس مع روسيا سنة 1913 وإنما مع البلدان في الوقت الحاضر حيث توجد النومينكلاتورا الحاكمة ، وحينذاك سوف يكون الحكم موضوعياً وكذلك أية نتائج إيجابية للسيادة النومينكلاتورية في الاتحاد السوفيتي . مثل هذه النتائج كانت موجودة ، ويمكن أن تكون الصناعة الثقيلة قد بدت أقل تطوراً من الآن في روسيا فيما لو لم تكن النومينكلاتورا ، ومن ثم كان يمكن أن يكون إنتاج سلع الاستهلاك الشعبي والصناعات الخفيفة والغذائية متطورة بشكل أفضل بالمقارنة من الآن . ولكننا قد تكلمنا عن هذا سابقاً خاصة مشاكل الأسعار المرتفعة التي يدفعها المجتمع السوفيتي مقابل سيادة النومينكلاتورا ، كما أن تطور الصناعة الثقيلة هو حقيقة بحد ذاتها . إن تطور الصناعة الثقيلة -كما تكلمنا- سابقاً كان للنومينكلاتورا ليس غرضاً بذاته وإنما شرط أولي ضروري لتطور الصناعة الحربية ، فالصناعة الحربية والتقنية الحربية متطورتان في الاتحاد السوفيتي أكثر بكثير -دون شك- فيما لو لم يكن انقلاب أكتوبر والقدرة الحربية للاتحاد السوفيتي في مقاييسها الحالية هي دون شك ثمرة جهود النومينكلاتورا . هل هذا جيد أو سيئ؟ إذا هدد الاتحاد السوفيتي عدوان خارجي كان جيداً وإذا كان الاتحاد السوفيتي بالاستثناد على قوته الحربية بهدد بلداناً أخرى ، فإنه سيئ . وينبغي التقييم إيجابياً أنه في الاتحاد السوفيتي يوجد إيجار منخفض لقاء السكن ومقابل استخدام وسائط النقل وخدمات طبية مجانية وأنه توجد بيوت راحة ومصحات غير قليلة العدد وكتب وتذاكر المسرح والسينما رخيصة . بالطبع كل هذا كما قلنا هو الجهة المقابلة للانخفاض في مستوى الأجور ولكن هو جيد بحد ذاته . لقد نظمت النومينكلاتورا البحث العلمي في الاتحاد السوفيتي بشكل لا بأس به ، فالمدارس السوفيتية الابتدائية والمتوسطة والعالية توجد في وضع جيد ، وبطبيعة الحال فإن الطالب في الاتحاد السوفيتي يعيش أصعب بكثير مما هو عليه في الغرب ، لأن بيوت الطلبة أسوأ بكثير والمنحة منخفضة جداً ، ولكن العملية الدراسية منظمة بصورة معقولة (إذالم نتكلم عن تدريس العلوم الاجتماعية من وجهة نظر الماركسية- اللينينية) ويملك الخريجون في الاتحاد السوفيتي مؤهلات جيدة جداً . وقد شاع في الغرب رأي بأن أنشئ في الاتحاد السوفيتي نظام ؛ بوليسي ولكنه نظام . وهذا ليس هكذا تماماً ، ففي الواقع فإن الجرائم الجنائية في الاتحاد السوفيتي كثيرة ، أما المدن السوفيتية وخاصة ضواحيها فخطرة تماماً ، ولا نتعجب لذلك لأن الشرطة السوفيتية المشغولة بمكافحة المجرمين مؤسسة ضعيفة سيئة التجهيز بالمقارنة مع ماكينة الـ ك ج ب الضخمة العاملة بدقة ، وبهذا الشكل لم ننجح في العثور على أية خدمة للنومينكلاتورا في هذا المجال . هذا كل ما هو إيجابي وما يمكن تسجيله لحساب النومينكلاتورا بالحقيقة . هل استحق كل هذا ملايين من الضحايا البشرية وفقر الناس وخنق الحريات؟ لا ، لم يستحق . إذ تدرك النومينكلاتورا هذا بشكل ممتاز لأنه ليس هباء حجب الاتحاد السوفيتي بجدار أصم عن بلدان أوروبا: حيث السكن والنقل والعلاج الطبي ليس مجاناً ولكن الناس يعيشون أفضل . ويعيشون أحسن لأنه لا توجد في الغرب طبقة النومينكلاتورا الحاكمة . وبالطبع في الاتحاد السوفيتي كما هو الحال في أي بلد آخر كانت لهم صعوباتهم الموضوعية ولكن من الخطأ مضاعفتها . كثيراً ما نسمع: "كيف يمكن مقارنة روسيا مع الغرب؟ أليس روسيا بلداً فقيراً! " أنا بنفسي فكرت هكذا قبل أن أرى الغرب . وبعد أن رأيت البلدان الصغيرة المحرومة تقريباً من الثروات الطبيعية بمثل هذا الاقتصاد المزدهر فهمت أن روسيا بلد غني أسطوري ولكنها تحكم ببشاعة قروناً . وحكمها بصورة فظيعة الأمراء والبويار (الأرستقراطيون الأغنياء) والقياصرة والنبلاء ، ويحكمها بصورة شائنة الأمناء العامين والنومينكلاتورا . اسمعوا كيف يشتكي النومينكلاتوريون: "إن عدد الناس في الاتحاد السوفيتي لا يكفي! "أي استنتاج عملت النومينكلاتورا؟ لا يكف الناس للعمل في البلد ، دعونا إذن نبيد الملايين تحت حجج مختلفة: مثل الحرس الأبيض والتروتسكيين ومثل خونة روسيا! لا يكف الناس للعمل في البلد: دعونا نسوق الملايين إلى الجيش وهيئات أمن الدولة والجهاز الحكومي! يشكوا النومينكلاتوريون باكين: "البلاد شاسعة ، من هنا تأتي الصعوبات" أي استنتاج تعمل من هنا؟ البلاد عظيمة ، دعونا نركز كل سياستنا على أن نخضع لها جميع البلدان الجديدة! تبرز في هذه الأهواء على حساب أرواح العشرات ونوعية حياة مئات الملايين من الناس بجلاء طبيعة طبقة النومينكلاتورا . وحينما تتغزل الدعاية النومينكلاتورية بهذه الأهواء مثل "السياسة الماركسية-اللينينية للحزب"، مثلما نتذكر بأسىً لينين معترفين كم يصاب بـ "الغثيان" من "حلاوة الكذب الشيوعي" .
3. الطفيلية تتخذ شكل تنظيمي
في كتاب "الإمبريالية- أعلى مراحل الرأسمالية" حاول لينين البحث عن دلائل ملموسة لتقدم طفيلية طبقة الرأسماليين ، معلناً أن تطور عدد أصحاب الدخل الثابت الذي يعيشون على فوائد من الرأسمال هو مثال لهذه السمة . إن التأكيد غريب لأنه ليس جدير بالذهنية اللينينية ، ومن الواضح أن لينين عمله بسرعة (ألف الكتاب خلال 6 أشهر) تحت تأثير ملاحظات عابرة في سويسرا لسنوات 1914-1916 وفي جزيرة السلام هذه حيث انتظر عدد كبير من الناس الأثرياء من مختلف بلدان أوروبا نهاية الحرب العالمية الأولى ، وإلاّ كيف يفهم القارئ الغربي أن شراء أوراق ثمينة هو عمل غير طفيلي وإنما أحد أشكال حفظ المدخرات النقدية . هذه حقيقة أن الناس لم ينفقوا مدخراتهم ولكن استثمروها في تطوير الصناعة ، وهذا لا يمكن أن يملك أية صلة بالطفيلية عموماً . وبالمناسبة فإن جميع الكادحين السوفيت اضطروا في زمن ستالين لاقتناء سندات قروض الدولة بمبلغ لا يقل عن راتب شهري ، فهل يعني هذا قد ظهرت طفيلية الكادحين السوفيت؟ بالطبع لا ، فقد كان هذا ضريبة إضافية عليهم وكانت الطفيلية شيئاً آخر ، لأنه من المليارات المبتزّة بهذا الشكل استخدمت مبالغ كثيرة لامتيازات النومينكلاتورا على بناء المنازل الصيفية لأعضاء النومينكلاتورا وتطوير أجهزة أمن الدولة . وتظهر طبقة النومينكلاتورا ، وليدة لينين وستالين طفيليتهما بشكل ملموس تماماً ، فقد اتخذت طفيلية النومينكلاتورا شكلاً تنظيمياً أيضاً . إن الشكل الرئيس هو نسخ الهيئات الحزبية لعمل الهيئات الحكومية . وقد تكلمنا سابقاً عن أن الهيئات القيادية لطبقة النومينكلاتورا- المكتب السياسي وأمانة سر ل م ح ش إ س ومكاتب اللجان المركزية للأحزاب الشيوعية في الجمهوريات الاتحادية ولجان الأقاليم (المحافظات) والأطراف والمناطق والمحليات والمدن للحزب الشيوعي السوفيتي احتكرت -كل على مستواه- اتخاذ جميع القرارات التي تملك صفة سياسية بقدر ما . وقلنا أن المكتب السياسي وأمانة سر ل م ح ش إ س هما بالذات الحكومة الأصلية للاتحاد السوفيتي ، أما مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي فهو مجرد هيئة إدارية ، رفيعة المستوى لتنفيذ قرارات هذه الحكومة ، والحالة مماثلة في كل جمهورية وإقليم ومنطقة في كل مدينة وقرية . وحينما تلاحظ كيف تعيد مجالس الوزراء واللجان التنفيذية لمجالس نواب الشعب ببساطة كتابة القرارات المرسلة إليهم من قبل هيئات النومينكلاتورا القيادية ذاكرين بأنها قراراتهم وواضعين عليها أرقاماً وتواريخ مناسبة بعد ذلك يكون من الصعوبة عدم طرح السؤال التالي: هل أن إعادة كتابة القرارات هذه أمر ضروري بشكل عام؟ أن إحدى هذه الهيئات فائضة عن الحاجة ، إما الحزبية أو الحكومية . والنسخ ليس في إعادة كتابة القرارات الحزبية في المراسيم السوفيتية فقط ، فهو يتخلل جميع أعمال الأجهزة الحزبية والحكومة ويجد انعكاساً واضحاً في موازاة تركيبها . ولكل وزارة في الاتحاد السوفيتي أو على الأقل مجموعة وزارات متقاربة من حيث الاختصاص قسم مطابق في ل م ح ش إ س . فحسب السجل الرسمي لدرجات مديرو أقسام ل م يعتبرون أعلى من وزير في الاتحاد السوفيتي ، وطبقاً لذلك فإن النائب الأول لمدير قسم في اللجنة المركزية هو أعلى من النائب الأول للوزير ، أما نواب مدير قسم في ل م فهو أعلى من نواب الوزير ، وجميع أعمال الوزارة تراقب وتوجه من قبل هذا القسم ، ومن جديد يبرز سؤال: شئ واحد غير ضروري ، إما القسم أو الوزارة؟ تعلن النومينكلاتورا الجواب على هذا السؤال: لا تنسخ الهيئات الحزبية عمل الهيئات الحكومية ولكن تحقق القيادة الحزبية ، فالحزب هو القوة القيادية والموجهة للمجتمع السوفيتي . معنى هذا أن الهيئات الحزبية تبرز في دور القوميسار السياسي بظل الهيئات الحكومية؟ لا ، إذ ينفذ دور القوميسار السياسي أمناء سر اللجان الحزبية في المؤسسات الحكومية ، ويمكن الكلام ما طاب من القدر على أن الهيئات الحزبية تنظر إلى القضايا بطريقة حزبية ، أما الهيئات الحكومية فتنظر في نفس القضايا بطريقة حكومية ، ولكن في الواقع فالحديث يجري حول نسخ عمل واحد ، ويعني هذا من الناحية العملية أنه في محل شخص واحد ولنفرض أنه وزير يقوم بنفس العمل شخصان مدير قسم في ل م والوزير أيضاً . هل يقومون بهذا العمل أم لا؟ وهنا نأتي إلى الشكل التنظيمي الثاني للنومينكلاتورا . يتكون هذا الشكل من أنه يوجد لدى كل نومينكلاتوري مساعدون حتماً ، وبقدر ما أن النومينكلاتوري رفيع المقام ، بقدر ما يوجد مساعدون أكثر . إذ يوجد لدى رئيس رئاسة مجلس السوفيت الأعلى في الاتحاد السوفيتي 16 نائباً ، ولدى رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي 12 نائباً ، ويوجد لدى وزير خارجية الاتحاد السوفيتي 10 نواب ، وحتى في معاهد البحوث العلمية يوجد لدى النومينكلاتوري الوحيد هناك -مدير المعهد- عدة نواب ، وإذا كان يوجد نائب واحد فقد ، معنى هذا أن المعهد صغير لا يعتد به أو أن مدير المعهد شخص ذو فكر حر . أتذكر يوماً ما حين قدمت من موسكو لألقي محاضرة في فيينا ، تحدثت مع أحد الموظفين النمساويين العالي الشأن وسألته- "من هو نائب الوزير عندكم؟" . هز محدثي كتفيه وأجاب بأن لا يوجد نائباً عموماً ، " من هو إذن الذي يعمل بدل الوزير؟" -سألته بحيرة . "الوزير يعمل بنفسه!" -أجاب بذهول . ذهلنا نحن الاثنين الخارجين من عالمين مختلفين ، لأنه كان واضحاً بالنسبة لي أن الوزير يجب أن لا يعمل بنفسه ، إذ يوجد من يعمل بدلاً منه ، وبالنسبة لمحدثي كان واضحاً بقدر كبير أن الوزير يؤدي عمله بنفسه طالما لم يحل على التقاعد . ماذا يعمل الوزير السوفيتي في الحقيقة؟ يعلن الجواب الرسمي: يحقق القيادة الجماعية . " القيادة الجماعية"- هذا المصطلح من الرطانة النومينكلاتورية مثل "القيادة الحزبية" . وحسب معناه فهو يقترب من مفهوم "الرئاسة الفخرية" ، إذ يتربع الوزير في مكتبه العظيم ويتنقل في الـ "الجايكا" ويحضر اجتماع ل م الموسع ودورات مجلس السوفيت الأعلى ويجلس في رئاسة الاجتماعات المهيبة ، وهو يترأس زملاءه في الوزارة ويضع توقيعه على أوامر الوزارة المهمة جداً المهيأة من قبل الجهاز الخاص بذلك ويركب السيارة إلى اجتماعات مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي ويمشي بهيبة حينما يدعوه إلى هناك ويحضر مناقشات قضية مهمة في المكتب السياسي وأمانة سر ل م ح ش إ س . وهو يظهر في حفلات الاستقبال والمآدب ويسافر ضمن وفد إلى الخارج ونادراً ما ينجز زيارة تفتيش ميدانية في مشاريع وزارته ، وهو ربما تكمن وظيفته الأساسية في تقوية الاتصال بصورة منتظمة -التعارف الودي الشخصي حسب الإمكانية- مع مدير القسم التابع له في ل م ونائبه الأول وكذلك مع نائب رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفيتي الذي هو كما متعارف عليه القول: "وصي" على الوزارة . و"الوصاية" - مصطلح نومينكلاتوري أيضاً شاع استعمالة في أواسط الخمسينات . ويحقق "الوصي" مراقبة على نشاطات الوزارة والإدارة العامة "القيّم" عليها وما شابه ذلك من الدرجات الدنيا من "القيادة العامة" وطبقاً لذلك فهم "قيّمون" ليس على مدراء الأقسام ونوابهم الأوائل ولا على رئيس مجلس الوزراء ونائبه الأول ولا الوزراء ونوابهم الأوائل ، ولكن النواب فقد . وهؤلاء النواب كما تكلمنا تتوزع بينهم مواضيع "الوصاية" بكثرة . ويقوم بـ "الوصاية" على الوزارة نواب رئيس مجلس الوزراء وعلى الإدارات العامة نواب الوزراء وعلى المديريات نواب رؤساء الإدارات العامة ومشاريع الوزارة نواب مدارء المديريات . تقوم القيادة الحزبية والقيادة العامة بالوصاية ، فمن الذي يعمل في النهاية؟ تظهر الخبرة العملية أن العمل يبدأ هناك حيث تنتهي النومينكلاتورا . وبالطبع يوجد استثناءات من هذه القاعدة ، وقد صادف أن رأيتها ولكن بشكل عام تكون القضية كالتالي: هناك حيث تكون النومينكلاتورا قائد يعمل جهاز نومينكلاتوري . في صيف العام 1957 حصل معهد الاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية التابع لأكاديمية العلوم السوفيتية -حيث عملت وقتذاك- على مكان وزارة بناء المحطات الكهربائية في الاتحاد السوفيتي التي حلّها خروشوف حديثاً . وكانت الوزارة في بناية كبيرة في الممر الصيني ، هناك حيث تتخذ المديرية السوفيتية العامة لمراقبة الأدبيات ولجنة الدولة للألكترونيات مكاناً الآن . وقد سرنا بفضول في الوزارة المهجورة ، ومكتب الوزير ضخم ذو جدران مكسوّة بألواح خشبية (مثل الكرملين) وغرفة راحة وتواليت وغرفة استقبال ، ومكتب وكيل الوزير واسع وذو جدران مكسوّة بألواح خشبية أيضاً بالإضافة إلى غرفة استقبال أصغر ، وغرف المدراء الأقل درجة لا بأس بها ، كما عُملت غرف صغيرة حيث وضعت فيها مناضد للكتابة قرب بعضها من نوعية رديئة للموظفين ، وبعد أن شبعنا تفرجاً على هذا التشريح الاحتماعي لوزارة سوفيتية ، استغرقنا في قراءة دفاتر تسجيل الوارد والصادر من المراسلات التي سجلت في أمانة سر الوزارة باهتمام . وكما أوصي في المؤسسات السوفيتية ، فقد دوّن أمناء السر في الدفاتر بحرص القرارات المتخذة من قبل القيادة العليا ، وكتب الوزير باختصار ، إذ وضع كنية وكيله "الوصي" المناسب لهذه القضية ، ويحرر الوكيل جواباً شكلياً على ورقة لمدير الإدارة معطياً أمراً قيماً: "راجع القضية واتخذ الإجراءات "أرسل مدير الإدارة الجواب لنائبه الذي بدوره أرسل ورقة إلى القسم المختص مع قرار: "للتنفيذ" وهنا انتهت النومينكلاتورا وبدأ العمل . إن إلغاء الوزارة اكتسح جميع النومينكلاتوريين الواضعين للقرارات من مراكزهم ، ولكن بدأ التيار الكهربائي في البلاد واصل العطاء . ومن المحتمل قد خطرت على بالي فكرة خطيرة في ذلك الوقت لأول مرة: أليس من الممكن أن يكون جميع هؤلاء المدراء النومينكلاتوريين طفيليين؟ الآن أستطيع الجواب على هذا السؤال .
4. النومينكلاتوريون- طفيليون
على امتداد ربع قرن من الزمان عملت مع النومينكلاتورا وتعرفت على كثير من أعضاء هذه الطبقة ، وكان بينهم مختلف الناس ، الجيدون والسيئون والوسط ، الأغبياء والأذكياء ، الكسولين والمجتهدون ، والفاحشين الخبثاء والناس الشرفاء والألطاف الذي لازلت لحد الآن مرتبطاً بهم بشكل قوي . سوف يقرأ نفر منهم هذا الكتاب ويمكن أن يوافق في قرارة نفسه على الكثير مما قيل هنا ويقطب حواجبه بأسى حينما يفتح صفحاته ، وسوف يستاؤن كالبشر مادام الشخص يداوم في العمل كل يوم من التاسعة صباحاً بالضبط ويعتبر هذا مهم جداً ، سيطالع فجأة بأنه طفيلي ، وأريد أن أخاطبهم بطريقة إنسانية ولا أتهمهم بالدناءة من الخارج . نعم ، فهم يذهبون إلى العمل ويمارسون امتيازاتهم كما يملي عليهم واجبهم وسلطتهم مع إمكانية التصرف بمصير الآخرين ، وهم يدركون بأنهم ليسوا بثوريين ولا يبنون أي مجتمع شيوعي غير طبقي ، ولكن يعتبرون بأنهم يحكمون بلداً عظيماً ، وفي هذا تكمن خدمتهم وحقهم في السلطة والامتيازات . هل يديرون الاتحاد السوفيتي جيداً؟ في الجواب على هذا السؤال أتوجه إلى الشرفاء منهم فقط الذين يهزون أكتافهم ، لأنهم يحكمون هكذا كما قررت القيادة ، وفي جميع الأحوال أفضل مما حكم سابقوهم في عهد ستالين ، هذه هي الحقيقة . ولكن ليست كلها . لقد وفقت بوقتها أن أكون في مرافعات محكمة نيورنبيرغ . كان المتهمون موظفين رفيعي الشأن جداً في الرايخ الثالث ، وكذلك هزوا أكتافهم لأنهم عملوا كما أمرهم الفوهرر . ولم يفكر أحد منهم -في جميع الأحوال وعلانية- على أنهم فعلوا ذلك لأن الفوهرر أمرهم بمجرد أنهم كانوا مستعدين للعمل . ونفس الشيء الآن في الاتحاد السوفيتي ، انصرمت أوقات استبداد الفوهررات ، إذ يتخذ المكتب السياسي وأمانة سر ل م مجرد تلك القرارات التي ينضجونها ويعدونها في النومينكلاتورا . نعم ، فالنومينكلاتوري لوحده ليس بمقدوره التأثير على القرارات إذا لم يكن عضواً في هذه القيادة ، ولكن دعه لا يرفض ، لأن هذا يعكس القرارات في نهاية المطاف ورغباته في الحفاظ على سلطته والامتيازات بغض النظر عن كون السياسة التي ينبغي أتباعها من أجل هذا جيدة أو سيئة . نعم ، ليس جميع أعضاء طبقة النومينكلاتورا مثقفين مع الاتجاه الذي تسلكه قيادة هذه الطبقة ، ولكن أية استنتاجات عملوا؟ سوف لا نتكلم عن النقد العلني لهذا الاتجاه ، لأنه من المستحيل أن نطلب من الشخص العادي بطولة الأكاديمي ساخَروف ، إذ لا يوجد أحد من الرافضين لهذا الاتجاه قد تخلى عن النومينكلاتورا وانتقل اختيارياً إلى عمل غير نومينكلاتوري حسب الاختصاص ورفض النعيم المرتبط بوجوده في الطبقة الحاكمة؟ اذكروا لي مثل هؤلاء! وبالطبع كما في الرايخ النازي كحالة مماثلة يوجد دليل ملائم ، لأن الناس الجيدين في النومينكلاتورا يستطيعون على كل حال عمل شئ ما جيد ، وإذا غادروا ، يبقى في النومينكلاتورا الأنذال فقط ، ويكون الوضع أسوأ فيها . هذا صحيح إذا عمل النومينكلاتوريين الشرفاء شيئاً ما إيجابياً فعلاً ، وبحضوري أقنع موظف لطيف في ل م ح ش إ س بلطف و أدب بالهاتف الأكاديمي كابيتسا بكتابة رسالة كاذبة إلى جريدة "تايمس" عن أنه -كابيتسا- لم يحتج بالمرة ضد حبس جوريس ميدفيديف في مستشفى الأمراض العقلية ولم يحتج لأن ميدفيديف مريض نفسياً بالفعل . والمصيبة أن الإنسان الشريف في طبقة النومينكلاتورا يضطر -إذا أراد هو أن يبقى هناك أكثر من أي شيء في الدنيا- لمجاراة خط طبقته الطفيلية ولا يصنع النومينكلاتوريون الطفيليون شخصياتهم بأنفسهم ، وإنما يصنعها نظام الاشتراكية الواقعية . ولأنني ما زلت لا أدرك مغزى هذه العملية اصطدمت معهم فوراً بمجرد أن لامست عالم النومينكلاتورا . ففي شهر كانون الثاني من العام 1947 أرسلوني في برلين إلى مجلس المراقبة الاتحادي في القطاع السوفيتي قسم البروتوكول والعلاقات (Section Soviet Element, Protocol and Liaison ). في السابق اضطر مدير القطاع المقدم مارتينوف إلى كتابة الأوراق بنفسه على الرغم من أنها كانت قليلة فقد شعر بحدة أن هذا العمل غير نومينكلاتوري ، وفلح في أن أرسلوني له . واعتباراً من هذا التاريخ صرت أقوم بكتابة الأوراق أما المقدم فيقوم بتوقيعها ويذهب إلى الحفلات ، ولكن كمدير أصبح يستحي من أنه لا يملك نائباً ، وقد حصل على ما أراد فأرسلوا له النقيب كرايينسكي بصفة نائب ، ومنذ ذلك الوقت روى النقيب المرح النكات وتهكم بلا نهاية ، وضحك المقدم كمناصر له ، أما أنا فقمت بكتابة المحاضر وملكت وقت فراغ كافي. وإعتدت آجلاً أن النومينكلاتوري إذا كان ليس بموظف بسيط في جهاز نومينكلاتوري وإنما مدير ما ، فإنه سيطلب بالتأكيد نائباً لنفسه ، وإذا ممكن عدة نواب من أجل أن يحقق بنفسه "القيادة الجماعية" . ويشعر المدير النومينكلاتوري بوخز الضمير إذا لم يعمل بنفسه ، فأحد معارفي -صحفي إذاعي سابق ذو قلم سيّال- أصبح مديراً لمعهد علمي ، معنى هذا أنه دخل في نومينكلاتورة أمانة سر ل م ح ش إ س ، ومنذ ذلك الوقت يكتبون له ليس الخطب والمقالات فقط ولكن حتى الرسائل البسيطة . وحينما طلب من عندي أمين السر المسؤول للجنة الدفاع عن السلام السوفيتية كوتوف بأن أكتب كما شاع القول "مسودة" مقالة مدير اللجنة ن. س. تيخونوف ، تمتمت بحيرة أن تيخونوف كاتب معروف ، قال كوتوف بإرشاد "نيقولاي سيميونوفيج ليس كاتباً فقط وإنما هو أمين سر إتحاد الكتّاب السوفيت ورئيس اللجنة السوفيتية للدفاع عن السلام" . وبهذا قال كل شيء: كان الكاتب النومينكلاتوري مهم جداً بحيث لا يوجد لديه متسع من الوقت للكتابة . أن روح النومينكلاتورا هي روح الطفيلية ، وهذا يشبه السيدة بروستاكوف في قصة فونفينيسكي "الجهلاء" حين قالت ، أنه ليس من شأن الإرستقراطية معرفة الجغرافيا ، ولهذا يوجد الحوذي ، وفي النومينكلاتورا يعتبر أنه ليس من شأن النومينكلاتورا العمل ، ولهذا يوجد التابعين .
5. كيان النومينكلاتورا يحدد وعيها
لقد أعطى ماركس الصيغة التي أصبحت معروفة للجميع: "لا يحدد وعي الناس كيانهم الاجتماعي ولكن بالعكس فإن كيانهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم "(3) . ولذلك يحدد الكيان الاجتماعي للنومينكلاتورا كطبقة ديكتاتورية حاكمة مستغلة ومتميزة وطفيلية وعيها بالكامل . وصاغ أخلاق النومينكلاتورا أبواها لينين وستالين . فقد علّم لينين الكومسوموليين: "نحن نستنكر كل أخلاق مأخوذة من المفهومين اللاإنساني واللاطبقي" ، وهذا يعني أن الصراع من أجل إقامة ديكتاتورية النومينكلاتورا إذاً "يخدم أخلاقية هذا الصراع هدم مجتمع الاستغلال القديم وتوحيد جميع الكادحين حول البروليتارياً(4) . " … تخضع أخلاقنا بالكامل لمصلحة الصراع الطبقي للبروليتاريا" وهذا يعني إقامة مجتمع مستغل جديد بقيادة المدعية "طليعة البروليتاريا"- النومينكلاتورا . وقد نظر ستالين أقل ، فبدلاً من هذا أظهر للعالم بوضوح ماذا تعني هذه الأخلاق الجديدة . ولقد سحبت من المكتبات منذ زمن بعيد بحوث علماء الاجتماع السوفيت في العشرينات ؛ إذ كان سحبها ليس دون قصد ، لأنهم ثبّتوا في البحوث الارتفاع السريع لصفات الجفاف والقساوة والأنانية المستهترة والوصولية بين الناس . وظهر هذا الاتجاه بدقة بين الشباب خاصة ، إذ بهذا الشكل جرى الحديث علناً ليس عن "بقايا الرأسمالية" وإنما عن الظاهرة الجديدة . وكان قد منعت البحوث المستقبلية ، وبدلاً من هذا بدأت الأناشيد المملة والمستمرة عن "الانسان السوفيتي الجديد" الذي يحب حزبه ولجنته المركزية والعمل بنكرات الذات لصالح الوطن الاشتراكي بدون حدود . ولكن الظاهرة المشار إليها من قبل علماء الاجتماع من البساطة تفسيرها من وجهة نظر ماركسية . فقد كتب ماركس وأنجلس "تظهر أفكار هذه الطبقة المسيطرة في كل عصر من خلال الأفكار السائدة" . معنى هذا ، أن تلك الطبقة التي تمثل القوة المادية المسيطرة للمجتمع هي في نفس الوقت قوته الروحية المسيطرة (5) . وانتشرت الأخلاق الطبقية للنومينكلاتورا في المجتمع الخاضع لها ، ولكن مثلما لُوّثت المجموعات المختلفة للمجتمع بهذه الأخلاقٍ تجد انعكاسها في صفوف النومينكلاتورا نفسها . وكما تكلمنا سالفاً أن النومينكلاتوري يستخدم السلطة والامتيازات ليس لأنه يعمل ولكن يحسبان له تبعاً للمركز الذي يشغله ، ويحصل على المركز بقرار من الهيئة الحزبية القائد ، فمن أجل الفوز بمثل هذا القرار يجب على الشخص أن يكون وصولياً محظوظاً ؛ ولهذا السبب تسود الروح الوصولية الوضيعة داخل النومينكلاتورا . الوصولية- هي السمة الأساسية لتفكير النومينكلاتورا الطبقي ، وتدور جميع أفكار النومينكلاتوري حول تدرجه الوظيفي ، فهو يمعن التفكير باستمرا في مناوراته بهدف التسلق إلى الأعلى أكثر - " الترقي " كما يقال في الرطانة النومينكلاتورا بتعبير واضح ، يعرف النومينكلاتوريون القاعدة غير المكتوبة: يستطيع المحافظة على مركزه في النومينكلاتورا من يحاول الترقي فقط ، أما الذي يحاول الحفاظ على مركزه سوف يفقده لأنه سيزاح إلى أسفل من قبل متسلق آخر ومن أجل هذا الترقي ينبغي بذل جهود استثنائية فعلاً . وليس من المستغرب أن النومينكلاتوريين مستعدون في هذا الركض الدائمي لاستخدام أية وسائل من أجل أن يضمنوا النجاح ، ولم أر في أي وسط آخر مثل هذا القدر من الدسائس كما في النومينكلاتورا وهذا القدر من التبجح بهدف تصوير المكيدة "مبدئية حزبية" وحتى أعضاء طبقة النومينكلاتورا المستقيمون واللطيفون يُجَرون إلى هذه المكائد ، وخلافاً لذلك فهم يفقدون انتماءهم للنومينكلاتورا ، وهذه هي السعادة الرئيسية في الحياة لكل نومينكلاتوري . وأشير سابقاً إلى الالتحام الطبقي للنومينكلاتورا وتكاتف النومينكلاتوريين في العلاقة مع الآخرين . وسنتكلم الآن عن الجهة المعاكسة لهذه الظاهرة ، عن الإحساس الدائمي للعزلة- صفة كل عضو في طبقة النومينكلاتورا . فكل واحد منهم يعمل لنفسه حساباً في أنه هو بالذات يحشدون ضده في الطبقة ويكون منافسيه أشد خطراً عليه ، فهم يدعمونه إلى ذلك الحد مادام في ذلك مصلحتهم وبغبطة كبيرة يقذفونه خارجاً بمجرد ما تزول حاجتهم له . والنومينكلاتوري عادة ما يتشدق عن "قوانين الذئاب الرأسمالية" ، ويشعر بنفسه ذئباً في قطيع الذئاب على الرغم من أنه بين رفاقه ، ولكنه معزول وفي خطر دائمي ، ومن المحتمل أن هذا شئ لا بد منه في "الطبقة الجديدة" للحشريين والمنفصلين عن طبقتهم . ومثل هذا الشعور بالعالم من قبل النومينكلاتورا وَصَفهُ بفصاحة أدوارد باكريتسكي الذي يعتبر شاعراً سوفيتياً كلاسيكياً . "عزلتك تتماشى وروح العصر . تتلفت ، فالأعداء حولك ؛ تمد يدك ، فلا يوجد أصدقاء ؛ ولكن إذا قال هو: "اكذب" ، فاكذب ، ولكن إذا قال هو "اقتل" ، فاقتل "(6) .
6. حديث مع موظف نومينكلاتوري
ماذا يقول هؤلاء النومينكلاتوريون الشرفاء الأذكياء في تبرير موقفهم التي ذكرناها سابقاً؟ فمن أحاديث كثيرة ومشاهدات ولقاءات اتفق أن أكون فيها ، يمكن بلورة الصورة التالية لتعليلاتهم ، ولتكن ليس في تلك الكلمات ولكن في ذلك المعنى: - نعم ، نحن أقمنا ديكتاتوريتنا ، نحن لا نؤمن بالديمقراطية ، لأنها تؤدي إلى الضعف والتفكك ، أما نحن فنريد أن تكون البلاد قوية ومتقدمة عسكرياً . نعم ، نحن أبدنا ملايين الناس ونحن اليوم نعمل بطرق إرهاب ومراقبة شرطية (بوليسية) ، ولكن هذا ضروري من اجل المحافظة على النظام في البلاد . نعم ، نحن نقضي على أية معارضة يمكن أن تجذب خلفها الشعب ومن جديد يسود التفكك عفوياً . نعم ، لم ينتخبنا الشعب ولكنه يخافنا ويتحمل ذلك ، ونحن لا نعتبر أننا نستحق كرهه لنا على الصعيد التاريخي ، وليكن العيش في ظل سلطتنا ليس هنيئاً كما في الديمقراطية الغربية ، ولكننا جعلنا البلاد جبارة من الناحية الحربية وترتجف أمامنا هذه الديمقراطيات المتباهية . فلنسلّم بأن لا توجد قوانين تاريخية تنبئنا بالنصر ولكننا نأمل أن الديمقراطيات لا تتغلب علينا وهذا يعني أن المستقبل لنا . إن امتيازاتنا هي مكافأة عادلة لقاء قيادة جائرة ولكنها صحيحة للمجتمع ، ونحن لا نثق في المناظرات الفارغة حول المساواة العامة ، فهي لم تكف وسوف لا توجد ، ونحن لا نبني أي مجتمع لا طبقي وإنما نخلد سيطرتنا . ولكن هذا جيد لكل البلاد لأننا نعتبر أنها ضرورية ليس لنا فقط من أجل أن نحكمها ، ولكننا ضروريين لها أيضاً . لتكن سلطتنا ثقيلة على التابعين لأنها أفضل بكثير من تلك الفوضى التي ستسود إذا لم نوجد . هلم بنا نجاوب على هذه الحجة الصادقة للنومينكلاتوريين أو الموظفين النومينكلاتوريين كما يسمون أنفسهم . - أنتم ترعونا بالفوضى وتمدحون "جور" القيادة ، ولكن أين الدليل على أنه بدون ديكتاتوريتكم كان يمكن أن تعم الفوضى في الاتحاد السوفيتي؟ في العالم بلدان كثيرة حيث لا توجد نومينكلاتورا ولا فوضى. إن نتيجة سلطتكم الاحتكارية هي نقص الإنتاج الدائم وانخفاض مستوى معيشة السكان ، وبناء الصواريخ النووية لا يعني تطور البلاد ، فمن الحدود الغربية لروسيا إلى المحيط الهادي يعيش الناس في الشمال في بيوت ريفية ، أما في الجنوب فيعيشون في بيوت مصنوعة من الطين منذ ألف سنة . والقادمون من الاتحاد السوفيتي إلى الغرب لا يصدقون بوجود قرى فيها بيوت مبنية من الحجر متوفرة فيها جميع وسائل الراحة وشوارع ومخازن ومطاعم . وهم لا يصدقون أن الفلاحين في البلدان الغربية يشكلون من 5-8% من السكان ، وعلى كل حال فهم يطعمون جميع الناس ويبيعون الفائض إلى الخارج وبالتالي إلى الاتحاد السوفيتي حيث يعمل في القرية كل واحد من أربعة أشخاص في البلد . فالمهاجرون من الاتحاد السوفيتي الواصلون إلى فيينا -أول محطة لهم في أرض الحرية بعيداً عنكم- يهرعون لشراء حاجيات مقابل آخر مبلغ لديهم خائفين أن لا يحصلوا على ذلك خلافاً لذلك لأنكم علمتم تابعيكم على النقص الدائم . لقد حكمتم البلاد أكثر من مرة وعرقلتم تطورها . فلماذا تمدحون قيادتكم؟ وأنتم تفتخرون بالقوة الحربية لدولتكم ، فهل هي ضرورية للشعب؟ وماذا يحصل إذا تخاف منكم بقية البلدان؟ إذ يخاف الناس من اللص المسلح؟ معنى هذا يجب أن يكون الإنسان مسلحاً؟ وتحاول دعايتكم حجب هذا بكلمات عن "الاشتراكية المتطورة" و "المنجزات الاشتراكية" و "الانتصارات" ومحبة للسلم و "الزيادة المطردة للخيرات المادية" من تخدعون؟ أنفسكم فقط ، لأن شقاءكم الاقتصادي المقام ينعكس علينا أيضاً أيها الموظفون النومينكلاتوريون ، وقد خرقتم الامتيازات التي تبدو لكم رائعة ، فأنت الموظف المسئول في ل م ح ش إ س فخور بأنك تشغل مع زوجتك وطفلين شقة من ثلاث غرف ، أما في الغرب فأسرة عادية من أربعة أشخاص تشغل كحد أدنى مثل هذه ويمكن أن تكون أكبر من ذلك . أنت سعيد لأنك أرسلت في السنة الماضية بقرار من أمانة سر ل م لمدة أسبوع في مأمورية إلى إيطاليا ، أما في غرب أوروبا فأي عامل شاب أو طالب يأخذ دراجته البخارية ويدور كل الإجازة سائحاً في إيطاليا ، وأنت بدقة تخفي حصولك المهيب على المواد الغذائية في المقصف الخاص التابع إلى ل م ، أما في الغرب فكل واحد يستطيع شراءها في أي مخزن ، وحتى بانتقاء أكبر بكثير ، لقد خدعت نفسك بنفسك لأنك أقمت نظاماً تعيش في ظله أسوأ مما كنت بدونه ، والحكام الديكتاتوريون في البلدان التابعة لكم هم ليسوا أحراراً بأنفسهم في المقارنة مع الناس القاطنين في الغرب وحتى في العالم الثالث . أنت تعيش جيداً بالمقارنة مع تابعيك فقط ، فكر في أن هذا شذوذ حينما تعيش بشكل أسوأ مما لو تستطيع ، من اجل أن يعيش الآخرون في وضع أكثر سوءاً! فلماذا تستغرب إذا هرب الناس من عندكم! كثيرون الذين هربوا إلى الغرب من الموظفين النومينكلاتوريين . فقد هرب نائب السكرتير العام للأمم المتحدة السوفيتي شيفجينكو وهرب ستاشينسكي بعد أن آثر السجن لمدة 8 سنوات في الغرب على مكافأتكم ، ويهرب سنوياً من بلد أو آخر دبلوماسيون وضباط مخابرات وموسيقيون وراقصو باليه ورياضيون . يترك الناس امتيازاتكم ويهربون للعيش في عالم اعتيادي الذي هو أكرم من عندكم روحياً ومادياً . ويمكن أن يتأمل الموظف النومينكلاتوري في حياته وفي مقدّراته وفي نظامه ويمكن أن يفكر بجد في أي شئ تنتهي ديكتاتورية النومينكلاتورا ، هكذا يزداد كل يوم عدد خصومها بلا تفكير .
7. طبقة ترتوف
لكي تتم ع ملية غسل الدماغ ، تدير النومينكلاتورا دعاية صاخبة ، فهي تحاول شد الجميع إلى تصور النومينكلاتوريون أبطال متفانون وخادمون للشعب وشهداء في سبيل سعادته . اقرءوا إشهار الذات هذا للنومينكلاتورا ، كيف أنهم مرتبطون بالشعب بصورة لا تنفصم من لحمه ودمه وعظم من عظامه ، كيف يفكرون ليل نهار عن سعادة الشعب وكيف لا يسعون إلى أية امتيازات ما عدا واحدة هي خدمة الشعب وجميع هواجسهم يمنحوها لهذه الخدمة ، ولا يوجد هدف لهم أهم من هناء الشعب وحريته وفي سبيل هذا لا يدّخرون جهودهم من أجل بناء مجتمع شيوعي بدون طبقات سيل من الأكاذيب المستمرة في الصحف والكتب والمذياع والتلفزيون والمسارح ودور السينما والخطب والكلمات ، وحتى أن كل نومينكلاتوري يكرر هذا الخداع منفرداً أما بحماس متكلف أو بإخلاص متكلف أو بمجرد ملل . إن ترتوف بطل مسرحية موليير ويودوشكا كولوفلوف بطلة شيدرين سولتيكوف لم ينجزا عملاً رائعاً ، ولكن الفرق بين سلوكهم الدنيء وقناع القدسية الشريف الذي بصقوا عليه بالذات صَنَعَ من هؤلاء المتظاهرين بالتقوى نماذج نكرة في الأدب العالمي ، هكذا هي النومينكلاتورا مثل طبقة يودوشكا وطبقة ترتوف استحقت هذا التقييم القاسي نتيجة تبجحها . وفي غضون ذلك فإن النومينكلاتورا لا تلصق بنفسها مباشرة صفاتها المتناقضة فقط ، ولكنها تطلب من الجميع الاعتراف لأجلها بهذه الصفة ، وتسخط النومينكلاتورا على وتتهم الآخرين بمعاداة الشيوعية والسوفيت الذين حتى في البلدان المتحررة منها يشككون في تفانيها المعنوي ، أما هناك حيث تسود النومينكلاتورا فالويل للمتشككين! وتبعة ذلك تتطفل النومينكلاتورا الحاكمة على درجات الأخلاق التي داخلياً غربية عليها ، وهذا ما ساد في المجتمع السوفيتي "ازدواجية الأفكار" كما سمى هذه الظاهرة أوريل في روايته "سنة 1984" . وكل المجتمع أوقع في أحابيل كذب النومينكلاتورا ، مع أن تقطيعها ممنوع في مكان ما لأنه ستهجم عليك النومينكلاتورا كالعنكبوب العملاق ، والجميع من المهد إلى اللحد يجب أن يكرر الكذب الرسمي ويمجدوا "الحزب" كما يذكر في الدعاية الرسمية لطبقة النومينكلاتورا . إن الكذب المنشور جبراً بواسطة النومينكلاتورا الطفيلية ، بقدر ما طفح من جميع مسامات المجتمع السوفيتي كرد فعل أولي ضخم لحفظ الذات ، بحيث ظهر الشعار الذي صاغه سولجينيستين: "العيش ليس بالكذب" . ولهذا فأني نتيجة له أكتب عن المجتمع السوفيتي ليس عما كان ، مكرراً الرسم التوضيحي الستاليني حول الطبقتين المتآخيتين وفئة المثقفين ، وإنما أكتب عما تقرءوه الآن- الحقيقة .
#سناء_الموصلي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الورود التي تقصم ظهر البعير
-
التعارض والاندماج بين التأثيرات الأوروبية والتراث الثقافي ال
...
-
غربان الشؤم تطير الى أوكرانيا
-
نظرة على الانتخابات الاوكرانية
-
يوم تصبح نظرية مالثوس صحيحة على الرغم من خطئها
-
تعليق على مقالة فاتن نور في العدد 1006 بتاريخ 03.11.04
-
سلام عبود في روايته السادسة - زهرة الرازقي
-
النومينكلاتورا -الطبقة التي حكمت الاتحاد السوفيتي
-
المعيشة المقننة في ظل النومينكلاتورا
-
اسماعيل فتاح الترك لم يرحل عنا
-
وأخيراً كشر الشيشان عن أنيابهم في قضية الشعب العراقي
-
الأجر المنخفض في ظل اطالة وقت العمل وتكثيفه
-
نزار دعنا- شهيد الصحافة الحرة
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
الدين/الماركسية نحو منظور جديد للعلاقة من اجل مجتمع بلا إرها
...
/ محمد الحنفي
-
اليسار بين الأنقاض والإنقاذ - قراءة نقدية من أجل تجديد اليسا
...
/ محمد علي مقلد
-
الدين/الماركسية من اجل منظور جديد للعلاقة نحو أفق بلا إرهاب
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|