|
تراتيل سورية .. الاختلاف ..
بدر الدين شنن
الحوار المتمدن-العدد: 4257 - 2013 / 10 / 27 - 13:12
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
من المخجل والمؤسف ، أن مفهوم الاختلاف الحضاري ، منذ الاستقلال ونشوء الدولة ، لم يأخذ مكانته التي يستحقها في الوعي في سوريا .. وفي المجتمعات العربية بعامة . ومازال مفهوم الصراع .. والاحتراب الدموي المتخلف .. ما قبل التمدن .. مجتمعياً .. ومؤسساتياً .. هو الذي يهيمن على الوعي ، ويتحكم بآليات معالجة الاختلاف ، وهو الذي لعب ويلعب دوراً أساسياً في إضعاف البلاد ، وفتح المجال للتدخل الخارجي .. عدواناً واستدعاءً .. ليقوم تعسفياً بالنيابة عن الشعب في تقرير مصير العباد والبلاد ، وهو الذي .. أيضاً .. أوجد المناخ المعوق للنمو الاقتصادي ، وكرس الفوات والتخلف ، وألحق أضراراً مادية هائلة تتجاوز قيمها أضعاف مضاعفة ، لما تحتاجه مجتمعاتنا ، لتكون في عداد المجتمعات التي تتمتع بالكفاية والرقي الحضاري .
المشهد الراهن لكل من ، الصومال ، والسودان ، واليمن ، وليبيا ، وسوريا ، ومصر ، والعراق ، ولبنان ، يعبر عن هذه الحقيقة البشعة . كما أن المشهد في البلدان العربية الأخرى ، الملكية الغارقة في الأمية الدستورية ، أو الجمهورية الفاقدة للمؤسسات الديمقراطية ،التي ’تجتث فيها .. مسبقاً .. أو لاحقاً .. كل المؤسسات السياسية والاجتماعية والنقابية ، التي تعبر .. وتنظم .. وتدير الاختلاف الحضاري المتمدن ، يعبر عن حقيقة لاتقل بشاعة من حيث المحصلة الموضوعية .
وتجنباً للالتباس ، إن الاختلاف المقصود هنا ، ليس بمعناه الحواري ، مثلاً ، حول القواعد الفقهية في أحكام الشريعة ، أو المعايير الجمالية في الأدب والنشر ، أو ما تفعله " حتى .. وبين " في بناء اللغة ، وإنما بمعناه الشامل المعبر عن علاقات وتفاعلات الأفراد ، والقوى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، من أجل تأمين مقومات الحياة الإنسانية ، المادية والروحية ، وفق معايير حقوقية وأخلاقية عادلة ، يخضع لها الجميع .. من أجل الجميع . ومن عمق هذا المعنى ، تأتي الضرورة لآليات تنظم هذا الاختلاف ، ليصل المجتمع إلى الأرقى ، في النمو والإبداع والعطاء ، التي اصطلح على تسميتها .. الديمقراطية ..
ولهذا ، فإنه من الجائز القول ، أن الاختلاف هو في الأساس ، تعبير عن تفاعلات موضوعية اجتماعية سياسية اقتصادية ، بين أفراد وجماعات وطبقات اجتماعية ، لتأمين احتياجاتها ، التي يتطلبها عيشها المشترك ، ولتداول مركز القرار لسلطاتها حسب موازين القوى .. ولرسم خرائط المستقبل . وهو بمثابة العضو اللاإرادي في بنية أي مجتمع ، الذي يؤثر في مختلف التفاعلات ، ويحدد خطوطها العريضة ، بصورة مستقلة ، سواء اعترف بذلك البعض أم لم يعترف .
والاختلاف بصورة مبسطة ، ابتداء من الأسرة ، إلى كافة التجمعات ، السياسية ، والاجتماعية ، والثقافية ، والنقابية ، إلى المجتمع ومكونات الدولة ، هو مشروع . وتفاعلاته من أجل الأفضل ، تمنح الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها ، طاقة من الحيوية لاتنضب ، وتنوعاً في الإبداع يتجاوز المتوقع ، وحالة من التعاضد تقاوم المستحيلات ، وتنمح الوطن القوة والطاقات ، التي تمكنه من التطور والازدهار والمنعة .
على أن إدارة الاختلاف الحسنة ، المعتمدة على السياسة العقلانية ، وتحقيق الممكن من الاحتياجات المجتمعية ، والمتسمة بالموضوعية والتسامح ، يفتح المجال ليتمخض الاختلاف عن نتائج إيجابية . والعكس صحيح . فسوء إدارة الاختلاف ، الذي تتمثل بالاستبداد ، والتعصب ، والحقد ، والإخضاع ، يفتح المجال للصراعات غير العقلانية الضارة بكل أطراف الاختلاف ، والمدمرة لمصالح الوطن ، وللعبث بالمفاهيم والقيم والأخلاق . وحسب إدارة الاختلاف ، يطول أو يقصر زمن الصعوبات وتحقيق النجاحات . ولما يطول زمن الاختلاف حول المسائل الأساسية ، ويستعصي الحل ، يتحول الاختلاف إلى أزمة . ما يتطلب تكثيف الجهود العقلانية لإيجاد الحلول التوافقية ، حتى لاتخرج الأمور عن السيطرة ، ويذهب ما هو مختلف عليه والمختلفون والوطن هباء .
وطالما بقي الاختلاف مقتصراً على أطراف وقوى محلية ، يظل مجال الحل واراداً . وتظل مصالح الوطن ووجوده ، ووحدة الرؤية الوطنية فيه ، هي العامل الأهم المرجح لتسوية ، أي كان مستوى الاختلاف ونوعه . أما لما يلجأ طرف في الاختلاف إلى الخارج ، ليدعم حراكه وأهدافه ، وهو يعلم أن لدعم الخارج مقابل يطال الوطن ، فهنا يخرج الاختلاف عن الإطار الوطني ، ليصبح جزءاً من مخططات الخارج ، وتنقسم الرؤية الوطنية في المجتمع . فمن آثر استدعاء الخارج ، ليحقق من خلاله أهدافه ، لأنه لم يكترث منذ البدايات ، بالقوى الشعبية حمالة برنامج التغيير الوطني الديمقراطي .. كما حدث في أمريكا اللاتينية .. ولجأ إلى النخب السياسية المغامرة والنخب الثقافية الليبرالية وحسب ، يهون عنده الوطن ، وتسقط المفاهيم الوطنية وقيمها في تصرفاته وأقواله ، ويتحول هو إلى جزء من الخارج . وكلما أوغل هذا الطرف في الاندماج مع الخارج وبرامجه ومصالحه ، ينسلخ أكثر فأكثر عن الوطن . ويغشي التعصب لخياراته وللخارج بصيرته ، ويدفعه الحقد لعداوة كل من لايوافقه الرأي ولايسلك مسلكه .. ويتحول الاختلاف من أزمة مستعصية إلى حرب وتدمير .
الحرب السورية الآن تقدم أنموذجاً للاختلاف ، الذي لم يحظ ، من قبل القوى المنخرطة فيه ، بمعالجة عقلانية وطنية ، وخرج عن السيطرة . وذلك ليس لأن هذه القوى محكومة بالتنابذ فيما بينها ، تبعاً لخلفياتها الأيديولوجية ، والاجتماعية والسياسية ، وتبعاً لمرجعيات بعضها الخارجية وحسب ، بل لأنها التقت على خلفية واحدة في التعاطي مع الاختلاف ، بوسائل القوة والصراع والاحتراب .. الكل يبتعد عن الحركة الشعبية والمسائل الحيوية للمجتمع .. وكل يريد أن يقصي الآخر ويستاُثر بالسلطة والثروة . وذلك منذ فصم الوحدة السورية المصرية في 28 أيلول 1961 ، ومن ثم تكرس ذلك في إنقلاب 8 آذار 1963 البعثي الناصري ، وما تلاه من إنقلابات داخل الحزب الحاكم ، وما آل إليه الحكم الأحادي ، الذي هيمن على الدولة والمجتمع .
كما أن الحرب السورية الآن ن تقدم الجواب على سؤال الاختلاف ، الذي ’فقدت السيطرة عليه . وإذا عدنا إلى مفاعيل الاختلاف السوري ، نجد أن الاختلاف حول من المسؤول عن الكارثة السورية لا يمكن أن ينكره أحد . كثيرة هي الأطراف التي تتهم بعضها البعض ، وتحمل غيرها المسؤولية . ولكن ما أصاب سوريا من دمار وخراب ودماء ، لايمكن أن ينكرعاقل أنه بسبب هذا لاختلاف .. وبسبب معالجته بالصراع التناحري ، والحوار المسلح ، والاحتراب حتى السحق ، والارتهان إلى الخارج ، سياسياً وإعلامياً ومالياً وعسكرياً ، بل واستدعاء ألة حرب الخارج ومرتزقته " بطبعة إسلامية " لتحويل الحرب إلى مجزرة كبرى تطال الشعب السوري كله ، بدلاً من توفير فرص الحوار السياسي العقلاني ، ومن الاحتكام إلى آليات الديمقراطية المتمدنة .
وما خلفه الاختلاف الاحترابي ، في العلاقات الإنسانية في المجتمع السوري ، المعروف عبر تاريخه بالتآخي والتسامح ، من أحقاد .. وتعصب .. وتمايز عرقي .. وديني .. ومذهبي .. وعشائري .. وأسري ، هو أسوأ ما اصاب سوريا من تدمير . فمجرد الاختلاف في الرأي ، ودون أي خلفية لعداوة سابقة أو قرينة مبررة ، يجري التسرع في اتهام الآخر بالخيانة .. أو بالعمالة للنظام . وكما ’شوهت .. واستخدمت في غير موضعها .. مفاهيم الوطنية عند البعض ، ’شوهت .. واستخدمت في غير موضعها أيضاً مفاهيم العمالة والخيانة . وأصبح التمترس بالرأي .. الوجه الآخر للتعصب .. ظاهرة عامة ، لايمكن لأي معيار منطقي ، أو برهان مادي ملموس أن يخترقه . ليس لأن المتمترس مقتنع بصواب رأيه ، وإنما لأنه يشعر أنه يحافظ على الكبرياء الشخصي والفئوي .
إن معطيات اللحظة السورية السياسية والميدانية ، والدولية ، الراهنة ، تدل على أن سوريا مقبلة على مرحلة ، قد تكون مفصلية ، في أزمتها المؤلمة ، تتضمن احتمالين متعارضين في آن . وهما .. احتمال الحوار السياسي والتوصل إلى حل للاختلاف المحتدم في البلاد ، ما سوف ينعكس إيجابياً على الشعب السوري ، وعلى الجوار ، وعلى الاستقرار الدولي .. واحتمال فشل الحوار وعدم التوصل إلى حل ، واستمرار كارثية الحرب المدمرة ، وانتقال شظاياها ونيرانها إلى المحيطين الإقليمي والدولي .
بيد أنه ، لكي تتوفر فرص نجاح الاحتمال الأول ، أي الحوار السياسي والتوصل إلى حل ، لابد من تفكيك البنية التحتية للاحتراب الدموي ، المكونة من استدعاء الخارج لتقرير مصير الوطن ، والتعامل مع الآخر بروح الحقد والثأر والسحق . وإعادة بناء البنية التحتية للحوار السياسي ، التي تتكون من الإرادة الوطنية الصادقة ، والتفاهم والاحترام المتبادل والتسامح والتعاضد .
وبكل ثقة يحق القول ، أنه نتيجة نضج التجربة المريرة .. قبل الدماء والخسائر ، أن الشعب السوري ، ومعه كل أصدقائه الشرفاء المدافعين عن العدالة الدولية والسلام ، هو مع أن تتوفر فرص حقيقية لتقدم ونجاح الاحتمال الأول .. من أجل سويا جديدة .. آمنة .. ديمقراطية .. تتقن فن الاختلاف .. وفن التعاطي الحضاري المتمدن معه .
#بدر_الدين_شنن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المملكة .. وزمن أفول الامبراطوريات
-
عيد السوريين الأكبر
-
سوريا إلى متى .. وإلى أين ؟ ..
-
الأزمة السورية ولعنة أمراء الحرب
-
ابرهيم ماخوس باق .. لم يرحل .
-
اللحظة السياسية داخل وخارج الأسوار السورية
-
عندما تقع الحرب
-
ضد المذبحة الدولية في سوريا
-
مصر والتحديات الإرهابية والتآمرية الدولية
-
ثورة .. أم انقلاب .. أم ماذا ؟ ..
-
أكبر من مؤامرة .. وأكثر من تدخل عسكري خارجي
-
سوريا بين موازين القوى .. وموازين الدم
-
دفاعاً عن ربيع الشعوب العربية
-
الحظر الجوي .. والسيادة الوطنية .. والديمقراطية
-
سوريا بين الانتداب والحرية
-
الوطن أولاً
-
أول أيار والبطالة .. والأفق الاشتراكي
-
لو لم تقسم سوريا ..
-
- هنانو مر من هنا - إلى عشاق الوطن -
-
ماذا بعد - المعارضة والثورة - .. ؟ ..
المزيد.....
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
-
مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع
...
-
رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51
...
-
العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل
...
-
أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|