قصة قصيرة
فاجأتني زوجة أبي التي ورثت مكان أمي بعد وفاتها المفاجئة المبكرة ونحن لما نزل بعد أطفالا ، والتي لم أراها منذ اثنا
عشر عاما ، فاجأتني إذ تلفنت في الصباح الباكر لتقول قبل الأشواق والتحيات " لقد بعت دجاجاتي ونعجتي الجرباء
الوحيدة وبقايا كتبك الجامعية العتيقة وبذلة عرسك الفاشل بل وحتى شهادتك الجامعية ، ماذا ...أصادقه أنتي يا أمي ، تبيعين أشيائي وأنا التي أرسلت لك ورقة بمائتين قبل برهة وجيزة ، لماذا...؟ ما الذي ألزمك على هذا كله ونحن عائدون لا شك في القريب ، إذا ما مات صاحبنا أو تعوق ابنه الثاني أو غير الأمريكان استراتيجيتهم ، وآمنوا إلى إن
ضرعه قد جف ولن ينتج دما ولا حليبا ، لماذا كل هذا … وماذا سأفعل بدون شهادتي وبطاقة هويتي وكتبي وثياب عرسي التي قد استخدمها في عرس آخر قد لا يكون فاشل مثل ذاك الذي سلف ، ثم من أين لك بالبيض والحليب وقد بعتي دجاجاتك ومعزاك ، على الأقل هذه تساعد حين لا أستطيع أن أرسل لك ورقة كل شهرين او ثلاث … "
انفجرت في ترديد حججي واحتجاجاتي دفعة واحدة ، وبلا فواصل ولا نقاط ، وكأنه شريط مسجل ابتلعته نبضة نبضة عبر زمن الهم الطويل ، وتقيأته دفعة واحدة ، في لحظة المفاجأة التي هزتني بعمق ، فأشيائي أثيرة على نفسي ، تماما مثل النهرين والنخلة واللغة العربية ، هذه قدسيات شخصية لا اسمح ببيعها ، ولا أريد حتى أن امتلكها في غربتي ، لأنها ترتبط بهذا الذي اسمه الوطن والذي لا اسمح باستبداله او أست أجاره او نقله ليعيش معي ، أريد أشيائي تبقى هناك وتعيش هناك وتتنفس وتعاني هناك ، وبذات الآن تستقبلني مثل أمي ، ومثل بعضي إذ يستقبل بعضي… لحظة الإياب .
ليس هذا فقط … " أجابت زوجة أبي بحماس استفزازي وقح لم استطع تحمله ، فهببت مذعورة وانفجرت بها وأنا أتلظى من ألغيض " وماذا بعد ، أخشى أن تكوني قد بعتي…
اخرسي عليك اللعنة ، ما لم أبعه وأنت واخوتك صغارا جياعا بعد أن اعدموا أبوكم ، أبيعه الآن وأنا مطمئنة عليك وعليهم في استراليا وكندا ..
هدأت نفسي قليلا ، اعتذرت بإلحاح ، ومع ذلك ضل ضميري يؤنبني ، حتى بعد إن عاد الصفاء إلى أصواتنا ، وأخذ الحديث التلفوني مجراه المرح المعتاد من نكات مرمزة على طاغيتنا العتيد وأولاده وزوجته الشمطاء ،كما تعودنا دائما .
وبخبث المعدان* البريء تركت مفاجئتها الصاعقة إلى نهاية الحديث …
لقد بعت بيتي أيضا وأنا قادمة لك ، لا أستطيع عيش ما تبقى من العمر لو حدي ، قتلني الشوق لكم …وانتم لا تريدون العودة ، وترفضون تدبير أمر سفري إليكم … أذن علي أن اعتمد على الله ثم على نفسي …
لكن يا أمي أنتي تعلمين إننا ، وان كنا بخير هنا ولله الحمد لكن ما نحن فيه ، قد لا يروق لك ، وستفتقدين الصحبة والأقارب وسيختلف عليك الماء والهواء والجو هنا بارد عندي في السويد ، وأخلاق الناس هنا قد تغيظك ، أما عن اخوتي في استراليا وكندا فأنت تعرفين مسؤولياتهم ، حيث إن زوجاتهم أجنبيات وحياتهم قد لا تسرك …و… " قاطعتني بغضب ، هي ذات الحجج الواهية التي تتحججون بها دوما ، انتم لا تحبونني ، ربما تذكرتم أخيرا إنني لست أمكم الحقيقية ،وإني مجرد …
بكيت بحرقة ، كانت دموعي تنثال كالمطر وكان نشيجي يعلو على صوت غضبها وانفعالاتها الحارة ,…
حسنا يا أمي ، أنا آسفة … إنني فعلا آسفة … إنني والله لم احلم بشيء إلا بالعودة إلى حضنك ، إنني أكاد أموت من الشوق إليك ، ولولا خوفي من أن يبطشوا بي لركبت أول طائرة إلى عمان ، ثم إليك … أنتي لا تعلمين كم هم مرعبين يا أمي وكم هي خسيسة أساليبهم … انتم حتى لا يسمحون لك بالموت الهادئ السريع ، أن سيتي ما فعوه بابي ، الست أنتي ما كان يصور لنا بشاعة القتل البطيء الذي استعملوه معه …
- لهذا لا أريد لأحد منكم أن يأتي ، ولكي أسد عليكم كل باب للعودة ، فإني أريد أن أكون إلى جواركم ، أرعاكم كما كنت ، واخدم أبنائكم ، وانظف بيوتكم وأطهو طعامكم " واستدركت .." هذا إذا رغبتم … إنما يكفيني أن أكون معكم ، وارى نجاحكم وسعادتكم .. " وأجهشت بالبكاء .."
- حسنا يا أمي ، سأتصل بسامي وعدنان ، وسنرى كيف نسفرك إلينا ..س…" قاطعتني بحنق …"
- لن تتصلي بأحد ولا أريد شيء منكم ، إنني لا أستطيع أن انتظر ، إنني أعيش كابوسا لا يكاد يفارقني ، أخشى أن أموت قبل أن أراكم …
- استغفري الله يا أمي ، لازلت بحمد الله بكامل قوتك ، انك حتى لم تصلي الستين بعد ، والأعمار بيد الله .." قاطعتني وهي تنشج "
- لن تقنعيني …بل …أقنعيه إن استطعت
- من يا أمي …. هذا الكابوس الذي يلازمني ، ملك الموت الذي يزورني كل ليلة ، فأهب فزعة مرعوبة ، لا … لا أريد أن أموت دون أن أراكم … لا بد أن آتي بأسرع ما يمكن ، سأسبقه إليكم … سأراكم وأموت في أحضانكم …
اتصلت باخوتي في الحال ..
أمكم تريد أن تأتى ، يجب أن نعمل شيئا لمنعها من التهور ، إنها مصرة … تحركوا بسرعة,..
.وتحركنا بسرعة ، اتصلنا بالأقارب والمعارف ، و"…أمكم غادرت المنزل بعد أن باعته ، لا أحد يعلم أين هي الآن ، لقد رتبت أمورها منذ عدة اشهر واستحصلت على جواز سفر ، وباعت كل شيء ، ولا علم لنا بها الآن …، كانت تتصرف كالمجنونة في الأشهر الأخيرة ، قاطعتنا جميعا…. مسكينة لقد ضمر جسمها وبدا عليها الإعياء ، وكانت تهرول هنا وهناك بين باعة العتيق ، ودائرة الجوازات و… ، و…"
وغابت عنا أخبارها منذ اشهر عديدة ، لا رسالة ولا تلفون ولا …
*******
قال أحد الناجين من غرق العبارة التركية في بحر ايجه ، أنه لا يستطيع أن ينسى مشهد عجوز في الستين ، كانت تجول هنا وهناك وهي توزع التمر المجفف على النسوة والأطفال المرعوبين ، وكانت تصلي حينا وتزغرد أخرى مشجعة الرجال وشادة لعزيمة النساء . وكانت تردد سنسبقه … سنسبق الموت حتى نصل إلى أحبابنا .
*******
المعدان : قوم من أهل جنوب العراق ، تميزوا بالشجاعة والجمال وروح الاستقلالية ، وحافظوا على حياة فطرية
في مسطحات مائية كانت غنية بالسمك والطير ، وكانوا ينتجون غذائهم وغذانا من ثروات أرضهم ومائهم الطبيعية التي ورثوها من أسلافهم السومريين في فترة ما قبل الميلاد ، وقد كان المعدان عصيون على التدجين والتبعيث ، وقد برز منهم من برز في كل الميادين .
أوسلو في العاشر من تموز 2001