عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4255 - 2013 / 10 / 24 - 06:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الوردي والتنظير الأجتماعي
يبقى الدكتور علي الوردي صاحب نظرية مثيرة للجدل وقابلة للتطوير والتصحيح من خلال ممارسة النقد العلمي الاحترافي ولا يعفي الأخرين من مواصلة البحث والتنظير وتجديد أساليبه مستفيدين من التطور الهائل في الأفكار والوسائل معتمدين منهجية حيادية لا تحابي ولا تقفز على الواقع, لإعادة قراءة المجتمع وتصحيح الكثير من المسلمات التي كانت مع علميتها مبسطة تتناسب مع أجواء مجتمع النصف الثاني من القرن الماضي بعيدا عن التعصب أو التعالي على جهود الدكتور علي الوردي.
كما أن إعادة قراءة الكثير مما كتبه وما زال طي الأدراج مما لم يظهر والذي قد يثير الكثير من الأفكار والتساؤلات حول عدم نشرها في حيته وإصراره على نشرها بعد رحليه وعن أسباب تأخر هذا النشر والعلة التي تقف خلفه لأن ذلك يعدا تعديا على الثروة الفكرية العرقية أولا وتنقيصا متعمدا لجهود المرحوم في الكشف الكامل عن أفكاره ورؤاه ونظرياته, وهذه الدعوة موجه خصوصا إلى الأكاديميين وشراح الفكر الوردي على كثرتهم.
لقد كان الدكتور الوردي باحثا نظريا وعمليا حسيا وعقليا في نفس الوقت صاغ افكاره عن تفاعل مع مقدماتها وعايش الواقع عن قرب, وأمتهن البحث دون أن يجلس في الأبراج العاجية ويكتب عن تأمل ونظره فوقية بل أمتحن أفكاره بالواقع وصاغ الواقع العملي نظريا مما أعطى فكره صفة الإبداع والأصالة وقربها من الحقيقة, لكن لا يعني هذا أبدا ضرورة لتسليم بها واعتبارها قوانين خالدة لان ذلك يشكل خرقا للعلمية والعقلانية التي نادى بها وسعى إلى تجذيرها عبر سلسلة مؤلفاته وأبحاثه وجهده الأكاديمي وعبر كل محاجاته وسيرته العلمية الرصينة.
لقد أجمل الدكتور الوردي كل التناقضات التي درسها في ثلاث محاور رئيسية تعود لسبب واحد هو صراع البداوة والمدنية بالرغم أن هذه المحاور قد لا تمس في منطلقاتها وأسبابها روح الصراع الذي يتكلم عنه, لمحاور الثلاثة يمكن إرجاعها إلى سبب رئيسي واحد أو لصورة واحدة من شكل صراع أخر, لا التعصب الدين ولا التناشز المجتمعي ولا تجذر روح الجدل تبيح حسب نظرية الوردي أعادتها بمجملها إلى صراع البداوة ,بل أن هذه المحاور يمكن عدها وجه أخر من وجه النتائج التأريخية لوجود العراق وسط المربع الحضاري القديم, وما ترك من أثر سيكولوجي معرفي مميز ينبئ عن أهمية توظيف هذا الأثر بنجاح لإعادة أنتاج العراق الحضاري الفاعل.
هذا الثراء والتنوع والانبساط والقدرة على التحكم بالواقع من خلال قوة الشخصية العراقية بما تملك من خزين يؤهلها لأن تكون قادرة فعلا على البقاء رغم الأزمات والنكبات المتلاحقة ليست في محل اهتمام جاد من النظرية الوردية التي سعت للتعرية أكثر من سعيها لامتلاك رؤية استراتيجية واضحة المعالم مصاحبه بمنهج عملي محكم مترجم بمدى منظور يؤهل المجتمع ويعيد الفاعلية الحيوية له وهذه من بديهيات النظرية.
فليس المهم كما قلنا أن تكتشف الخطأ لأن أمامك مهمتين الأولى البحث عن الأسباب الحقيقية له ومن ثم تهيئة القاعدة العملية لعدم الوقوع في الخطأ مرة أخرى, نحن نتكلم عن مجتمع مركب متنوع ومتشعب في امتداده التأريخي والاثني والعرقي وهو بحاجة إلى إعادة اكتشاف قاسم مشترك جامع يتجاوز أشكالية التحرر منها نحو صنع رؤية لحرية في الاطار الذي يحفظ لكل لمجتمع خصائصه العامة ولمكوناته خصائصها الخاصة دون تزاحم ودون أقصاء.
هذا الرؤية المستقبلية لابد لها أن تستند بقوة إلى ركيزتين هما المدنية السياسية والدينية في العلاقة الأجتماعية, والديمقراطية في السلطة وتداولها دون أن تمس جوهريا القناعات الشخصية لا بالإكراه والجبر ولا بالدعوة أو التحريض لها, ولكي يكون الصراع خارج الذات موجها نحو التحديات المصيرية التي تجعل العراقيين جميعا في مواجهة الواجب الحضاري تاركين للخصائص الذاتية أن تأخذ مكانها الطبيعي في حدودها الخاصة.
بهذا المنهج نحيد أسباب الصراع القديمة ونعطي للشخصية العراقية مجال حقيقي وأكيد لتفريغ أثر الشحنة السالبة وتوظيفها إيجابيا نحو هدف جامع هدف يحتضن الطاقات ويصهرها نحو غائية خارج الصراع القديم مما يهدئ من الصراعات الداخلية مرحليا ولينتهي إلى أن تكون هذه جزء من ماض سيكتشف العراقيون من بعدها كم كانوا في وهم حين تمسكوا لأجيال متعاقبة به دون نتيجة تسجل لصالحهم الخاص ولصالح مشروعهم الحضاري.
مثلا الصراع الطائفي في كل مراحله لا يخدم الحق ودين الإسلام الحقيقي بقدر ما يخدم العربانية والجاهلية المقيتة, فلا سجل الشيعة من خلاله انتصارا حاسما ولم يكسب السنه الحق إلى جانبهم وبقيت طاحونته تأكل من الأثنين دون مصلحة جادة وملموسة ولو لطرف منهم, فلو وظفت هذه الطاقات التي تهدر في هذا الصراع نحو قضية تجمع الطرفين بمصلحة شاملة سوف نشهد إجماعا ونتاجا أكبر بكثير من كلا المشروعين المتنافسين على الساحة الطائفية.
الاحتقان الطائفي المزمن والخارطة القومية المليئة بفراغات تركتها النزاعات والحروب (العرب والكرد) مثال (والعرب الفرس) مثال أخر ,نتائج هذه الحروب والاحساس بجروح التاريخ التي لم تندمل وطبيعة تشكيل الوعي المجتمعي المتأزم نتيجة لها والحضور الراسخ للاضطراب المتعدد لا شعوريا في سيكولوجيا ذاتية الفرد العراقي والكثير من الظواهر التي اشبعها الوردي بحثا في اوصافها الكثيفة كانت تتضافر وهي تتحول الى مضامين هدامة تستنزف العقل العراقي وتشغله في الدفاع عن التأريخ دون إعطاء المجال للبحث في المستقبل أو البناء له وهذه أحدى نتائج الوهم التأريخي بصفته الحضارية المنطلق من قاعدة أجتماعية.
إذن الخروج من دائرة الطائفية والعرقية والجروح التأريخية يمكن تسويتها من خلال الحرية التي تمنحها مدنية السلطة, وتؤسس لديمقراطية في شكل السلطة متماشية مع التحدي الحداثي وعلمانية البناء الأجتماعي فيصبح العيش المشترك الواحد هدف ليس فقط يسعى المجتمع له بل يشعر بمسئولية المحافظة عليه وصيانته من الأيديولوجيات التي تنتهك مبدأ التعددية وتقنن مبدأ الشمولية في الفكر والممارسة.
لقد طرح الدكتور الوردي مسألة الديمقراطية كحل كما طرح مفهوم المدنية من خلال سردياته القصيرة الناقدة دون أن يؤسس لمشروع متكامل بين المدنية والديمقراطية ولم يبين في أثرية هذا الحل في التخفيف من أثار الصراع المحتدم الذي أشره وأشار إليه بل أن مشروعه كان ينتهي بتوصية مشهورة عنه(إن التجارب القاسية التي مرّ بها الشعب العراقي علّمته دروساً بليغة، فإذا هو لم يتّعظ بها، أصيب بتجارب أقسى، وربما حلّ به من الكوارث والويلات ما يقسره على تغيير إطاره الفكري رغم أنفه ... ومن الوسائل المجدية في ذلك، هو أن نحاول تعويد الشعب العراقي على الحياة الديموقراطية، ونجعله يمارسها ممارسة فعلية، حيث نتيح له حرية إبداء الرأي، والتصويت، دون أن نسمح لفئة منه أن تفرض رأيها بالقوة على الفئات الأخرى) .
ثم يقول يستطرد مضيفا من نفس الاقتباس محذرا هذه المرة(يقف العراق الآن على مفترق الطريق. وهذا هو أوان البدء بتحقيق النظام الديموقراطي. فلو فاتت هذه الفرصة من أيدينا لضاعت منّا أمداً طويلاً." ويختتم الكتاب بقوله: "ينبغي لأهل العراق أن يعتبروا بتجاربهم الماضية. وهذا هو أوان الاعتبار ... فهل من يسمع ...!! "
الدعوة للديمقراطية كممارسة حتى تكون مجدية وحقيقية لا بد لها من تأسيس قبلي وهو تمدن الدولة من خلال تمدين القانون الجامع وتمدين القضاء والفصل بين السلطات والإعادة المستمرة لقراءة الحزمة القانونية الحاكمة وتوسيع المشاركة الشعبية المدنية في تشيد مؤسسات الدولة والابتعاد عن الخلط بين الشخصي والعام والتفريق ما بين مفهوم النظام ومفهوم السلطة, وتحزيب المجتمع على أساس برامج محددة غير منتمية لأيديولوجيات متطرفة أو شمولية أو ممهدة له.
كان لا بد للمجتمع حتى يتحول نحو المدنية أن تكون الثقافة وأساليب نشرها بيد مؤسسات المجتمع المدني وليس بيد السلطة وأن تكون معيارية الوطنية والمواطنة هي للجماعية والعمل المنظم من خلال هدف واحد جامع ,وأن يكون شعار المجتمع والسلطة هو الكل في خدمة المجتمع والمجتمع في خدمة الكل, أي تأصيل مبدأ الإحساس بالمسئولية ليس فقط القاء هذه المهمة على الأفراد بل أن على السلطة وقواها أن تشعر بها وأن وجودها هو وجود تكليفي محدد أصلا بنجاحها في تجسيده وليس تشريفا لها لأنها نادت به فقط.
لقد كان الوردي في خطابه الأخير الذي اقتبسناه واعظا أكثر من كونه باحث متعمق ,وكانت كلماته أمنيات بدل أن تكون برنامج عمل ناجح ,ولكن هذا لا ينقص من قيمة فكر الرجل وهو يعاني من تهميش وتضيق وإفقار متعمد من الكثير من القوى الفاعلة ابتدأ من المؤسسة السلطوية مرورا بمن يفترض ان تكون داعمة له ومعاونة في بسط أفكاره ورؤاه الخاصة وأعني به المؤسسة الأكاديمية كنظام وكأشخاص وليس انتهاء بالمؤسسة الدينية الرجعية المتزمتة التي حاربته وفسقته ولم تترك مناسبة دون أن تشهر به وبأفكاره التنويرية.
كما لاقى المفكر الراحل الأمرين من المؤسسة الإعلامية والثقافية والعشائرية ومن المتنفذين من طبقات المجتمع ليكون كل ذلك كابح ومعرقل حقيقي في الإفصاح عن الكثير مما في جعبته ,ولو تهيأت له الظروف المناسبة التي نشهدها الأن مع النضج النسبي ثقافيا وفكريا لكان أكثر جرأة وعطاء وأبداع فيما ينظر به ويبحث فيه.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟