أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - إعادة قِراءة في كتاب -جدار بين ظلمتين- لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي -الضحية والجلاد في بلاد الرافدين!- الكتاب الذي يستحق أن يكون فيلماً سينمائياً بجدارة















المزيد.....



إعادة قِراءة في كتاب -جدار بين ظلمتين- لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي -الضحية والجلاد في بلاد الرافدين!- الكتاب الذي يستحق أن يكون فيلماً سينمائياً بجدارة


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 4254 - 2013 / 10 / 23 - 22:33
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


صورة لغلافي الكتاب الأول والأخير
قراء في كتاب : جدار بين ظلمتين
المؤلفان: بلقيس شرارة ورفعة الجادرجي
دار النشر: دار الساقي، لندن
تاريخ النشر: 2003
عدد الصفحات: 350 صفحة من القطع المتوسط

في قلبِ الظُّلمةِ .. في الزنزانةِ.. يبحثُ عن صُبحٍ لا يملِكُ غيرَ حذاءٍ ورداءٍ وبقايا ملعقةٍ ينتظرونَ خلاصاً.. يحفِرُ بيديهِ ورجليهِ يحفِرُ بأظافرهِ جدرانَ السجنِ وحيطانَ الحزنِ فبماذا يحفِرُ، يا ويلي.. في زنزانةِ وطني؟ من لا يملِكُ قدميهِ وكفّيهِ! من لا يملِكُ.. حتى شفتيهِ!!
الشاعر سيروان ياملكي


عند تصفح كتب التاريخ التي تبحث في مسيرة العراق منذ ألاف السنين، وحين يقرأ الإنسان كتاب المحقق والمؤرخ القاضي عبود الشالجي (1910-1996م) الموسوم "موسوعة العذاب" وكتاب الأستاذ هادي العلوي (1933-1998م) حول التعذيب في الإسلام، أو كتاب جمهورية الخوف للكاتب كنعان مكية وكتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة في العراق"، على سبيل المثال لا الحصر، سيتيقن بأن هذا التاريخ كان ولا يزال مليئاً بعلاقة خاصة متميزة ومستمرة بين الضحية والجلاد، بين الإنسان المفكر وعدو الإنسان وعدو التفكير، بين الخير والشر، سواءً اجتمعا في الواحد أم توزعا على اثنين على وفق ميثولوجيا الشعوب المتنوعة. وحين يقرأ الإنسان الشرائع العراقية منذ القدم، ابتداءً من قانون أوروكاجينا وإصلاحاته الاجتماعية ومروراً بقوانين أورنمو ولبت عشتار وإشنونة وشريعة حمورابي وقوانين الكلدان والآشوريين من بعدهم، سيجد أمامه تطورات وتحولات إيجابية في تلك المجتمعات، ولكن برز معها معها المزيد من القوانين العقابية القاسية والموجعة للإنسان بالارتباط مع واقع تطور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وتطور ملموس في تقسيم العمل الاجتماعي ونشوء دولة المدينة ومن ثم الدولة المركزية. ففي الوقت الذي خلت أولى الشرائع العراقية من عقوبات ردعية تصيب الجسد والنفس، واعتمدت على فرض غرامات مادية، فإنها تحولت تدريجاً إلى عقوبات تصيب الجسد والنفس البشرية في آن. ثم اتخذت أبعاداً جديدة في شريعة حمورابي التي تضمنت 52 مادة تعاقب بالموت على الكثير من المخالفات، واقترب عدد قوانين ومراسيم صدام حسين الذي كان يحكم بالموت على الإنسان من عددها في زمن حمورابي رغم التغيرات الكبرى بين الفترة التي وجد فيها حمورابي والفترة التي برز فيها صدام حسين وحكم حزب البعث العربي الاشتراكي الاستبداديين.
لقد تميزت قوانين حمورابي بالقسوة المفرطة، دللت عليها قاعدة العين بالعين والسن بالسن. لقد مارس الحاكم الجلاد التمييز والاستغلال والاضطهاد ضد سكان البلاد بشتى الأساليب والأدوات، واستند في ذلك على قوانين وقواعد معينة في الحساب والعقاب منطلقاً من كونه يمثل الإله على الأرض، إضافة إلى الاعتقاد بأن الحاكم (حمورابي مثلاً) نصفه من الآلهة ونصفه الآخر من البشر.
وفي الدول "الإسلامية" تعددت صيغ تعذيب الإنسان وإذلاله وسحق كرامته وتنوعت أدوات وأساليب ممارسة التعذيب، وخاصة من قبل الخلفاء الأمويين والعباسيين وسلاطين الدولة العثمانية وولاتهم في مختلف المناطق. وكتاب "موسوعة العذاب" يقدم لنا لوحات مأساوية عن العلاقة الحاكمة بين الجلاد والضحية، حيث يقشعر لها الإنسان وتجسد الانحطاط الأخلاقي والتعسف اللاإنساني الذي تميز به هؤلاء الحكام الأوباش.
إن تاريخ العراق السياسي الحديث حافل بالتجاوزات الفظة والكارثية على الإنسان وحقوقه وكرامته، سواء أكان ذلك في فترة الاحتلال البريطاني وسنوات الانتداب حتى العام 1932، أم بعد ذلك وعلى امتداد فترة الحكم الملكي حتى العام 1958. ولم تخل فترة حكم عبد الكريم قاسم من ممارسات قمعية من جانب أجهزة الأمن، وبشكل خاص ابتداء من العام 1960 حيث تعرض الكثير من المعارضين أو حتى المؤيدين له للسجن والتعذيب أيضاً.
وفي الفترة التي أعقبت انقلاب شباط في العام 1963 واجه الشعب العراقي صنوف العذاب والحرمان والتنكيل والقتل بالجملة. وهذه الفترة القمعية استمرت عملياً حتى سقوط الدكتاتورية في العام 2003 تحت ضربات القوات الأمريكية – البريطانية. ومنذ سقوط الدكتاتورية الغاشمة حتى اليوم يواجه العراق استبداداً شرقياً جديداً مطعماً بالدين وفتاوى شيوخه والأحزاب الدينية الإسلامية السياسية ذات النهج الطائفي المقيت. وهذا النوع من التمييز والاستبداد الفكري والسياسي لا يقل خطورة وبشاعة عن الدكتاتورية الشوفينية والعنصرية لحزب البعث العربي الاشتراكي وقيادته ابتداءً من أحمد حسن البكر ومروراً بالآخرين وانتهاءً بصدام حسين الذي فاقهم جميعاً في مستوى استبداده وفظاعة مرضه بجنون العظمة الذي ميزه وشدة ساديته وعمق نرجسيته.
على امتداد عقود طويلة كان العراق وما يزال يُحكم دون قوانين، رغم وجود دستور مؤقت أو دستور دائم، فالحاكم هو الدستور وهو القانون وهو الذي يمسك بيديه السلطات الثلاث إضافة إلى الإعلام بمختلف وسائله وأدواته باعتباره السلطة الرابعة. فالحاكم بأمره هو الذي يقرر كل شيء وبقراراته تعمل أجهزة الدولة ومؤسساتها. فهو الذي يقرر من يعيش ومن يموت وكيف يموت وباي واسطة، وهو الذي يحدد من يشبع ومن يجوع، ومن يسجن ومن يمتلك حرية ناقصة دوماً، وهو الذي يقرر من يعمل ومن لا يعمل ومن يحارب بالرزق اليومي ويركن جانباً ويعيش في عزلة خانقة حتى الموت. إنه المستبد بأمره، إنه القائد الضرورة، إنه الفلتة التاريخية التي أنتجها العرب عبر تاريخهم الطويل على شاكلة الكثير من الحكام ممن سبقوه في حكم العراق، إنه صدام حسين. وما أذكره هنا ليس حديثاً عبثياً عابراً، بل يجسد حقائق موثقة بألاف القرارات الصادرة عن مجلس قيادة الثورة أو عنه مباشرة، وكان ما يصدره يعتبر قانوناً واجب التنفيذ، وهو ما عبر عنه بنفسه في واحدة من خطبه الكثيرة.
الكتاب الذي قرأته في العام 2008 كتبت عنه مقالاً ونشر في نفس العام. ولكني اليوم في نهاية العام 21013 قرأت الكتاب ثانية ووجدت فيه الكثير الذي يستوجب الكتابة عنه. فالكتاب الموسوم "جدار بين ظلمتين" يقدم لنا لوحة استثنائية ووصفاً مميزاً للعلاقة بين الجلاد والضحية بالعراق. ببلاد الرافدين، ويؤكد ما أشرت إليه بأن العراق شهد على امتداد تاريخه الطويل علاقة مريعة بين الإنسان العراقي المفكر والناقد والمتطلع نحو الأفضل، وبين الحاكم الجلاد المستبد بأمره، المنغلق على نفسه، المشدود إلى كرسيه، المطعون في ضميره والمُغتصِب لإرادة الإنسان وحقوقه والدائس على كرامة الإنسان. فما هو هذا الكتاب وأين يكمن سرّ أهميته؟

في العام 2003 صدر عن دار الساقي بلندن كتاب قيم للأديبة والكاتبة السيدة بلقيس شرارة والمهندس المعماري الكبير والباحث والكاتب الأستاذ رفعة الجادرجي تحت عنوان "جدار بين ظلمتين". ومن المؤسف حقاً أني لم أطلع على هذا الكتاب إلا في الآونة الأخيرة حين تسلمت الكتاب هدية غنية وطيبة من الكاتبة والكاتب، ولهذا لم يتسن لي الاستفادة منه حين أنجزت كتابي الموسوم "الاستبداد والقسوة بالعراق" والذي صدر عن مؤسسة حمدي في مدينة السليمانية في العام 2005، إذ لو كنت قد اطلعت عليه لخصصت لأحداثه المأساوية موقعاً مناسباً في كتابي.
وكتاب "جدار بين ظلمتين" يكشف ببراعة ودقة وبأسلوب غير معهود عن جوانب جوهرية وحساسة للعلاقة غير المتكافئة والمريرة بين نظام الحكم والمواطن، بين الجلاد والضحية، بين مستبد مُغتصِب للسلطة ومهيمن على أجهزة القمع والسالب لحقوق الإنسان كافة والناهب للأموال من جهة، وبين الإنسان الضحية والأعزل والمُغتصب والمسلوب من حريته ومن حقوق المواطنة والفاقد لكل ما يمت بصلة لما يسمى بمبادئ لائحة حقوق الإنسان التي ساهم العراق في وضعها ووقع وصادق عليها منذ العام 1948 وما صدر من لوائح أخرى في مجال شرعة حقوق الإنسان عن الأم المتحدة من جهة أخرى.
الكتاب يقدم لوحات إنسانية وواقعية أصيلة تصور الإنسان الأعزل في مقابل سلطة مستبدة، ظالمة ومستهترة بكل القيم الإنسانية وما يطلق عليه بـ"الشرائع السماوية!"، يقدم لنا صوراً مشحونة بالألوان والعواطف والمشاعر الإنسانية الجياشة والمخنوقة في آن. يقدم لنا الكاتبان صورة الحزن والألم الإنسانيين اللذين يسيطران على مشاعر الإنسان في أكثر اللحظات قسوة ومرارة وعذاباً وهو عاجز تماماً عن الدفاع عنه نفسه أو عن أبنه أو ابنته أو زوجته أو زوجه. بينه وبين الموت أو اغتياله خارج القانون وباسم القانون قاب قوسين أو أدنى. من يقرأ هذا الكتاب الفريد في طريقة عرضه للأحداث سيجد أمامه شريطاً سينمائياً فريداً في عرضه للأحداث، متنقلاً بين السجن الصغير والسجن الكبير، متحركاً في فضاء الفكر غير المقيد بالرغم من السجن القامع لكل شيء، إنه پانوراما واقعية لما كان يواجه العراق والشعب في تلك المرحلة من مراحل الإرهاب الحكومي الماحق لكل ما هو إنساني. والكتاب مؤهل جداً وبامتياز لكتابة سيناريو رائعة لفيلمٍ سينمائي يسجل حقائق الوضع في أحلك مرحلة من مراحل عراق القرن العشرين، إنها المرحلة الأكثر سواداً وعبثية وهدراً للإنسان وحياته وكرامته وحقوقه وأمواله وبدء حروبه الخارجية. أتمنى أن يكتشف واحداً من خيرة المخرجين البارعين على الصعد العراقية والعربية والعالمية هذا الكتاب ليبدأ بالبحث عن منتج وكاتب سيناريو ومصور وممثلين مبدعين يمكنهم تحويل هذه الرواية الواقعية إلى حياة مليئة بالحركة والفعل الإنساني على الشاشة البيضاء من أجل المساهمة بإزالة الحجب السميكة التي شكلت جداراً منع عن عيون الكثير من الناس حينذاك، وخاصة الناس بالدول العربية، وبعضهم ما يزال حتى يومنا هذا، يواجه مثل هذا الجدار الإيديولوجي المانع عن إدراك الحقائق في الأوضاع التي سادت العراق في فترة حكم البعث وصدام حسين.
يجسد هذا الكتاب تجربة ذاتية غنية جداً لشخصين، وبتعبير أدق، لزوجين حبيبين، لعاشقين بكل ما في هذه الكلمة من معنى عميق، أحدهما يعلن عن ذلك صراحة وبأحلى الكلمات المعبرة وأكثرها رقة وشوقاً وحيوية، وهي المرأة الشجاعة والمفعمة بالأنوثة والحيوية والحب، هي بلقيس شرارة، والآخر العاشق الذي يتجنب الحديث عن الحب، رغم هيامه بزوجته الجميلة وحبه للإنسان واحترامه له، إنه رفعة الجادرجي، إنه الرجل الذي، وكأي رجل عراقي، يستحي من التعبير عن حبه والإعلان عن عواطفه إزاء حبيبته وزوجته صراحة، رغم تفتحه الفكري والثقافي الكبيرين، فهو ابن هذا المجتمع رغم تمرده المتنوع عليه وعلى تقاليده البالية ورغم غزارة علمه ووعيه الهندسي.
عاشا معاً ما يقرب من ثلاثة عقود قبل أن يواجها ظلم النظام واستبداده واستهتاره بكل القيم الإنسانية المتراكمة عبر الزمن وتاريخ الشعوب حين تم اعتقال الزوج رفعة الجادرجي، عاشا في عالم الثقافة العراقية والإقليمية والدولية، تجولا في بلدان العالم سعياً وراء الفن والموسيقى والثقافة وفن العمارة، عاشا الحياة الثقافية المتنوعة والإبداع الفني معاً وكل في مجال اختصاصه، وبالتالي قدم كل منهما لنا بأسلوبه الجميل المتباين في تجربته واتجاهات تفكيره وأفكاره ومعايشته للآخرين عن ذات الفترة التي عاشاها طيلة عشرين شهراً، وهي الفترة التي قضاها الأستاذ رفعة في معتقلات العراق الجهنمية بعد أن حكم عليه بالحبس المؤبد.
يبدأ المهندس المعماري البارع والدولي الأستاذ رفعة الجادرجي ورئيس المكتب الاستشاري العراقي بوصف مكثف عن حياته اليومية وحياة من عاش معه تلك الأحداث منذ أن اعتقل من قبل جهاز المخابرات العراقية في زمن الدكتاتورية المطلقة والنظام الشمولي الفردي، فترة كانت قبل وأثناء وبعد صعود صدام حسين من موقع الرجل الثاني أو نائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس مجلس قيادة الثورة إلى رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة، وعن وضعه في زنازين المخابرات العراقية واضطهاد الجلادين اليومي له ولغيره من المعتقلين. والثاني هي الأديبة والكاتبة الأستاذة بلقيس شرارة التي عاشت المأساة خارج السجن بحرية مقيدة وقدرة ضعيفة على تقديم العون لمن يقبع وراء الجدار رغم الجهود المبذولة لفك حبسه وإطلاق حريته. كتبت لنا عن معاناتها وقسوة الحياة عليها بعيداً عن حبيبها وحيث تدور في الرأس الكثير من الأسئلة المحيرة لا جواب لديها، سواء أكان عن الواقع الراهن أو عن المستقبل المجهول لزوجها وعن مستقبل العائلة.
وضُع زوجها في زنزانات صغيرة جداً وفي معتقلات وسجون أكبر حيث تنقل بينها، بينما كانت بلقيس تعيش في سجن كبير هو العراق كله في فترة حكم صدام حسين، ولكنه يبقى ضيقاً جداً إذ يحرم الإنسان من التنفس بحرية ومن الحلم بأمان، يحس دوماً بالاختناق. لقد كان الفاصل بين الزوجين جداراً سميكاً وعالياً، جداراً اسمه الدكتاتورية الغاشمة وسجونها المظلمة، إنه الـ "جدار بين ظلمتين".
الكاتبة بلقيس شرارة خريجة كلية الآداب ومن وسط وعائلة ثقافية وديمقراطية تقدمية وأبوها الأستاذ الكبير والكاتب محمد شرارة وأختها الكاتبة الرائعة حياة شرارة اللذين تسبب النظام بموتهما، أسلوبها شفاف ورقيق ينساب بعفوية كما تنساب المشاعر الإنسانية الحرة، وأدب جميل في الكتابة ينساب بهدوء إلى عقل الإنسان ويدغدغ عواطفه ويحرك مشاعره ويشعره بالمظالم التي يتعرض لها الإنسان في الربع الأخير من القرن العشرين، سواء حين كتبت عن الحزن والألم والمرارة وفقدان الأمل والثقة بالآخر، أم حين كانت تعيش البسمة والسعادة حين يحاورها أبوها ويسعى على تغيير أجواء الحزن المهيمنة عليها، وسواء كتبت عن الغضب أم عن الحب بأجمل معانيه، حب أم رفعة لابنها وحب نصير ويقظان لأخيهما وحب وبكاء الأخت أمينة لأخيها والزوجة لزوجها، أو السائق وهو يبكي ويردد "شلون عمي رفعة ينسجن مؤبد؟ شلون؟ شلون يابا شلون!" إنها التفاتة إنسانية بارعة تشير إلى العلاقة الطيبة والحميمة بين السائق والعائلة والأستاذ رفعة. حين تكتب تغوص في عمق الإنسان وتسعى إلى اكتشاف دواخله والعوامل التي تحركه وتبحث في خلفية ذلك.
أما الأستاذ رفعة فهو ليس مهندساً كبيراً حسب، بل هو فنان كبير ومثقف رفيع المستوى وقارئ نهم، وكتاباته تعبر عن ذهن هندسي متقد ومبادر ومبدع وله منهجية صارمة وقدرة عالية على التحليل للنفس البشرية، صريح وجرئ في عرض أفكاره الفلسفية والحياتية والمواقف التي مرّ بها ورأيه في الناس والأحداث التي عاشها.
والكتاب يروي لنا قصة شخصيتين عاشتا عشرين شهراً في موقعين مختلفين أحدهما في السجن والآخر في البيت والمجتمع، ومن هنا اختلف فحوى أحاديثهما وحركتهما وتباينت طبيعة الشخوص الذين تعايشوا وتعاملوا معهم وسلوكياتهم ووفائهم للصداقة أو انتهازيتهم أو خشيتهم الشديدة من بطش النظام، ولكنهما التقيا في تشخيص عام سليم حول مسائل مشتركة كان يعيشها الشعب العراقي بغالبته. فماذا ينقل لنا الكاتب رفعة الجادرجي من وراء القضبان حين كان في وكر الذئاب، جلاوزة النظام وسجانيه، وماذا تكتب لنا بلقيس شرارة وهي خارج السجن الصغير وفي سجن أكبر حيث تلعق جراحها النفسية وحيث يهيمن عليها القلق والخوف من غدٍ مجهول؟
غالباً ما كانت اعتقالات الناس، سواء أكانوا معارضين أم عليهم قضايا أخرى غير معروفة للمعتقل، تجري على الطريقة التي طرحها الأستاذ رفعة الجادرجي حين جاء شخصان لاعتقاله:
قال رفعة: ماذا تريدان مني، أخبراني الآن؟
أجابا بصوت خافت وقور: "أستاذ، لن يطول غيابك أكثر من عشرين دقيقة، يريدون الاستفسار، بعض الأسئلة و ترجع إلى بيتك وأهلك." وكانت النتيجة أن قدم إلى محكمة الثورة، وهي محكمة قرقوشية خارج القانون والدستور، وحكم عليه مؤبد، وحكم على آخرين بالموت أو بأحكام مماثلة في ذات الدعوة الملفقة! وهكذا كان حين جاء رجلا أمن إلى بيتي في شهر تموز من العام 1878 لاعتقالي، وكان أحدهما طالباً في الكلية التي كنت أدرس فيها في الجامعة المستنصرية:
سألتهما: أخبراني ما جاء بكما في هذه الظهيرة التموزية اللاهبة؟
وكان الجواب: "لا شيء بالمرة، أستاذ كاظم، المدير العام الدكتور فاضل البراك يريد اللقاء بك، قيل لنا إن اللقاء لن يطول أكثر من نصف ساعة." وكان الاعتقال والتعذيب البربري الذي تعرضت له في مديرية الأمن العامة في البتاوين. وهكذا كانت تجري عملية اعتقال مئات ألوف الناس بل ملايين الناس الأبرياء على مدى 35 عاماً، أي خلال فترة حكم حزب البعث العربي الاشتراكي بين عامي 1968-2003. وإذا كان عشرات الآلاف منهم قاد عادوا إلى بيوتهم فأن الكثير والكثير جداً منهم قد قتل تحت التعذيب أو سجن لسنوات طويلة أو أرسل إلى جبهات القتال ليموت هناك كما حصل للألاف من شباب الكرد الفيلية ابتداءً من العام 1980. وكانت هناك أساليب أخرى وحشية في الاعتقال تجري من خلال الهجوم على الدار أو النزول من السطوح ومفاجأة العائلة، أو الاختطاف من الشوارع أو الاعتقال في المدارس والعمل والمعامل ...الخ.
لقد بذل نظام البعث وأجهزته الأمنية والمسؤول الأول عن الجهاز صدام حسين جهوداً استثنائية لبث الرعب في صفوف الشعب وقهر وإسكات القوى المعارضة له وإضعافها ومن ثم السعي لصفية وجودها. فكان القتل والرمي في الشوارع والاعتقالات العشوائية وأحكام مجلس قيادة الثورة وإعدامات المواطنين اليهود بتهم باطلة وإعدام عراقيين بتهمة التجسس لإسرائيل في الساحات العامة وترك الجثث معلقة بحبل المشنقة، وكأن البعث والنظام في كرنفال فرح وسعادة!، قد أعاد إلى ذاكرة الشعب أحداث انقلاب 8 شباط/فبراير 1963 البعثي الفاشي. فساد الخوف على نطاق واسع حقاً. وحين كان يعتقل أي فرد يصبح من الصعب على عائلته معرفة مكان الاعتقال أو حتى الاستفسار عنه. وحين أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية، نفذ مجزرة دموية بحق 21 رفيقاً من أعضاء حزبه وصعد على أشلائهم ليتربع على كرسي ملطخ بدماء الشعب، كرسي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس قيادة الثورة ورئاسة حزب البعث والقائد العام للقوات المسلحة ورئيس الوزراء. ومن هنا أصبح صدام حسين المالك بيديه مصير الدولة العراقية والبشر في آن. في لحظة ما يقرر موت هذا الشخص وفي لحظة أخرى يقرر العفو عنه دون أن يستطيع أي شخص حتى أقرب الناس إليه أن يستفسر عن السبب في اعتقاله أو إعفائه. هكذا حصل أثناء التحقيق مع رفعة الجادرجي حين جرى الحديث التالي مع حاكم التحقيق صادق سالم الذي استدعاه إلى غرفته بعد صدور الحكم المؤبد بحقه ومصادرة أمواله، إذ كتب رفعة:
"أصبحنا أنا وحاكم التحقيق وجهاً لوجه هذه المرة.
فقال "ماذا تقول عن قرار الحكم؟"
فقلت: "حدث"، كنت أقصد أن أقول "صدمة"، ولكن كنت لا أزال في دوامة وأنا أدور في صدمة الحكم المؤبد، وأحداث المحكمة الصورية."
فقال: "الذي أدخلك، سيطلعك. أنت بالنسبة إلينا مهم جداً، ونعتبرك ثروة وطنية، فالذي أدخلك سيطلعك، وإذا وجدت أي صعوبة أو مضايقة في السجن أو مشكلة، فاتصل بي شخصياً." (ص 180)
بدأت بلقيس شرارة حينذاك تتابع أخبار المعتقلين وسلوك صدام حسين في التعامل مع السجناء، والتقطت العديد من الحوادث التي تدلل على مزاجية الحاكم الدكتاتور وأحكامه القرقوشية واحتمال إطلاق سراح من هو محكوم بالإعدام أو المؤبد، ولكن احتمال إعدام من لم يقدم للمحاكمة أصلاً وبأساليب أخرى. كتب بلقيس عن حالتين، على سبيل المثال لا الحصر، تؤكد بأن العراق كان يعيش في بلد الواق واق، بلد أللا قانون:
قالت وجدان لبلقيس شرارة ما يلي:
"زارني أمس في مكتبي مهندسان، لهما علاقة بالمشاريع التي ستقام في بغداد بمناسبة مؤتمر عدم الانحياز الذي سيٌعقد في بغداد عام 1982، و نقلا إليها حديثاً دار بين أحد المسؤولين المهمين و رئيس الجمهورية صدام حسين، حيث سأل الرئيس عن المعماريين المهمين الذين يمكن إناطة هذه المهمة بهم و إعادة بناء بغداد، فأجاب ذلك المسؤول: سيدي عندنا خيرة المهندسين في الشرق الأوسط، الذين من الممكن إناطة مثل هذه المسؤولية بهم. سأله الرئيس: لماذا لا يمكن إناطة هذه المسؤولية بهم؟ أجابه المسؤول: "سيدي واحد جوة والآخر برّة" يقصد بذلك أن رفعة الجادرجي في السجن والمعماري الآخر الدكتور محمد مكية خارج العراق، فقد ترك العراق منذ بداية السبعينيات.
أجاب الرئيس عندئذ: الجوة نطلعوا، والبرّة نجيبوا". (ص 318/319).
أما الحادث الثاني فهو التالي:
"زار الرئيس إحدى المدارس في حي المنصور، حيث استقبل بالأناشيد والهتافات من قبل طالبات المدرسة. وبعد انتهاء الزيارة، ركب سيارته، فرمت طالبة نفسها على نافذة السيارة، وبيدها باقة زهور، و عيناها مغرورقتان بالدموع. سألها الرئيس عن سبب بكائها؟ أجابته: إن والدي بالسجن. قال لها: "من هو والدك؟" أجابت عن اسم والدها، قال لها: "هو مو خوش آدمي، وأذى البلد هواي، لكن لخاطرچ راح أطلعه." وبعد فترة قصيرة أطلق سراحه". (ص 231)
هناك مئات بل ألاف الأمثلة من هذا النوع وبالعكس أيضاً، أي كان المعتقلون يحصدون الموت بقرارات فردية ومباشرة من صدام حسين. وقد دللت المحاكمات التي جرت له بعد اعتقاله في حفرة تحت الأرض عن الحجم الهائل للجرائم البشعة التي ارتكبها رئيس دولة العراق خلال 35 عاماً من عمر البلاد والشعب العراقي.
لم يكن صدام حسين وحده يثير الرعب في نفوس الناس، بل أصبح جلاوزته حينذاك وجلادوه وسجانوه يثيرون الفزع في نفوس الناس. لقد كانوا ينفذون بإبداع ومبادرات سادية تجسد السادية الفعلية المفرطة التي تميز هؤلاء الناس الذين تدربوا على ممارسة التعذيب النفسي والجسدي. لقد كانوا يحولون حياة السجناء والمعتقلين اليومية إلى جحيم لا يطاق، إلى حالة من الجوع والحرمان والعيش تحت كابوس دائم. فليس الحرمان من الشمس أو من الهواء الطلق أو من حق الذهاب إلى الحمام والتغوط بدون ضغوط ...الخ، وحدها، بل كان الشعور بأنهم سيقتلون في كل لحظة يلاحق السجناء بدون استثناء، سواء أكانوا سياسيين أم غير سياسيين، وسواء أكان الموت تحت التعذيب أم بحبل المشنقة أم بأس أسلوب مبتكر آخر. ولم يكن الاعتداء الجنسي على النساء والرجال بغريب عنهم وكشف الكثير من هذه الحالات على امتداد فترة حكم حزب البعث الفاشي وقيادته الأوباش.
لم يكن الخوف من جهاز الأمن وهماً، بل كان أمراً واقعاً يعيش تحت وطأته الإنسان خارج السجن وفي داخل السجن وفي الزنزانات. وهنا يجدر بنا أن نقرأ بعض الكتب المهمة بهذا الصدد وحول التحقيق مع المعتقلين. أشير هنا إلى كتاب صدر في العام 2003 للكاتبة البريطانية جين پ. ساسون الموسوم "ميادة" (ابنة العراق)، أو كتاب حسين الشهرستاني حين كان سجيناً في سجون البعث في العقد التاسع من القرن العشرين وقبل هروبه من السجن على سبيل المثال لا الحصر حيث يروي حالات من التحقيق والتعذيب له ولغيره من المعتقلين ومنهم مدير أمن النظام الأسبق الدكتور فاضل البراك.
من المعروف لمن مرَّ بالسجون العراقية وعانى من التعذيب، سواء أكان في الفترة الملكية أم بعدها، وبشكل خاص في فترة البعث الأولى والثانية، يدرك بأن الإنسان قادر على تحمل الكثير من أساليب التعذيب النفسي والجسدي بشكل مباشر استنداً إلى إرادته ومدى قناعته بعدالة القضية التي يناضل من أجلها، ولكن العذاب الذي يعانيه وهو يرى كيف يعذب الجلاد رفيقاً له، أو أي إنسان آخر، يكون تأثيره النفسي أكبر بكثير وأشد قسوة على الإنسان ومن التعذيب المباشر الذي يتعرض له. إذ إنه يشعر بعمق الجرح الإنساني وبعمق الإهانة التي توجه لكرامة الإنسان، وهم أحدهم. وهذه الحقيقة هي التي تدفع بالجلادين إلى جلب بعض المعتقلين لمشاهدة جولات و"حفلات!" تعذيب لرفاق لهم أو لأفراد عائلاتهم بأمل انهيارهم أمام الهمجية والعدوانية التي يمارس بها الجلادون تعذيب الضحايا. وعلي هنا أن أشير إلى إن الأستاذ رفعة الجادرجي اعتقل بقضية تمس مكتبه الهندسي من حيث الشكل، ولكنها من حيث الجوهر ذات خلفية سياسية تمس البلد الذي كان المفروض أن يتم التعاقد مع, وهي بريطانيا. لم يتعرض الأستاذ رفعة الجادرجي إلى تعذيب جسدي مباشر، أي الضرب، ولكنه عانى الأمرين من التعذيب النفسي ومن معايشة قوى الإرهاب في السجن البعثي الصدامي ومن التعذيب الجسدي من خلال العيش في زنزانات مظلمة وتجويع وحرمان من الضياء والشمس والهواء الطلق.
كتب رفعة الجادرجي يصف سجيناً يصدر أصوات تأوه، وكان الحراس يهددونه بالضرب وتكسير الضلوع إن واصل ذلك، "فيبدأ بطرق الباب الحديدي، فُيسحب إلى الممر، و نسمع أصوات ضربات الحارس على جسده، ومع كل ضربة تصدر صرخة أخرى :أيا: أو "أياي"، مع كل كلمة أخرى أو كلمتين. تتكرر الضربات تجاوباً مع كل صرخة، أو يتعاقب الصراخ مع الضربات. يأمر الحارس بالسكوت، ويتحدى الرقم ويصرخ، فتزداد الضربات، حدةً و عدداً. يتقدم حارس آخر، أحياناً مع قهقهة و شتائم وضرب متنوع. لا بد من أن يكون جسم ذلك "الرقم" ضخماً، فرنة الضربات تدل على ذلك، تتكرر الـ "أياه" و تتكرر الضربات المتنوعة من كفخات وضرب باليد وركل بالبصاطيل التي تصطدم بالبدن، فيختلط الأنين مع أصوات الضربات ومع ألـ "أيات" أو "الأياهات" وكلمات تتناوب معها: كان كل واحد منا يجمد في مكانه ملتفاً ببطانيته، و نسمع أحدنا يهمس في أذن الآخر: "هذه وحشية"، "ظلم"، ويضع أحدنا راسه بين يديه، "لم هذه الوحشية؟" هذا لو يموت أحسن له" "هذا ليس ببشر". ويبكي أحدنا ويبقى الآخر كئيباً لمدة من الزمن، و يستمر الضرب، ويزداد معه الأنين، وتقل نسبة سماع "أياه" ثم تنقطع". (ص 164/165).
في النص الذي كتبه الكاتب والصحفي الألماني الشهير كورت توخولسكي (1890-1935م) في العام 1931 تحت عوان "لمعان ساحة الحرب المحروسة"، والذي نشر في مجلة المسرح العالمي، أكد إن "الجنود قتلة" „Die Soldaten sind Mö-;-rder“، فهم من حيث الأساس يهيئون للحرب ولممارسة قتل الآخرين. وكان على حق في ذلك حين يتابع الإنسان الحروب التي عاشتها البشرية، ومنها حروب القرن العشرين وحروب ألمانيا وحروب العراق في الربع الأخير من القرن ذاته، ولدي القناعة التامة بأن النظم العسكرية والفاشية والمناهضة للديمقراطية تربي الشرطة والسجانة ورجال الأمن بثقافة مناهضة للمجتمع وكأن الأفراد والمجتمع أعداء الدولة والحكومة، ويجري تدربهم على فعل البغضاء والكراهية والتعذيب والقتل للمعارضين لها، وهي أبعد ما تكون عن مهمات حراسة الناس وخدمة مصالحهم والتزام جانبهم. وهذا ما حصل في العهد الملكي ولكن وبشكل خاص كون القاعدة الأساسية لوجود ونشاط أجهزة الدولة العسكرية القمعية في العهد البعثي الدكتاتوري وفترة حكم أحمد حسن البكر وصدام حسين، إذ كانوا يتحينون أي فرصة للتهديد بضرب السجين وكسر عظامه أو إهانته. ومن هنا، كما يقول رفعة الجادرجي، كان موزع الطعام الحارس الذي يرتدي "اليشماغ" الأحمر و الذي اصطلحنا عليه بـ "الوحش" أسمع صوته الوقح و العدائي و هو يصرخ: "يكفي". بالرغم من ذلك، كان خروجي من الزنزانة لنصف دقيقة أو أقل، إلى عالم يتمتع بقليل من الضياء، والهواء النقي نسبياً، الذي يأتي من أحد نوافذ الممرات التي تطل على العالم الخارجي، متنفساً لي." وهنا يقول الأستاذ رفعة "لا أدري لِمَ كانت المعاملة التي تمتعت بها نسبياً أحسن من الآخرين." (ص 118).
ويبدو لي، وتحت ثقل كارثة الاعتقال غير المبرر وغير المسبب أصلاً، أن الأستاذ رفعة الجادرجي نسي تحت وطأة ما عاناه في الاعتقال وتحوله إلى مجرد رقم "200" في وكر الذئات المتوحشة، بأن وحوش الأمن وقيادتهم المستبدة لم توجه له تهمة سياسية ولم يكن متهماً بمعارضة النظام بل تبين فيما بعد إنها قضية عقود هندسية، وهي تهمة غير جدية، ونسي أيضاً إنه أحد أبرز كبار المهندسين المعماريين العراقيين والعرب وإنه معتقل خارج إطار القانون، ومع ذلك فلم تكن المعاملة اعتيادية بل كانت مهينة لكل إنسان حين وضعوا القناع على عينيه، وحين وضع في المعتقل في "ظلمة المخابرات"، وحين أعطي رقم 200 ولا ينادى باسمه، وحين حشر في زنزانة رقم "26" مع خمسة أشخاص وصفها لنا في كتابه على النحو التالي:
"لا تعدو سعة زنزانة رقم (26) أكثر من متر وسبعين سنتيمتراً عرضاً، ومترين طولاً. تشعر بثقل الهواء بسبب حشر المعتقلين في ذلك الحيز الضيق. لا مجال لحركة الهواء النقي فيها، فيدور الهواء كما لو إننا في داخل فنجان، لأن الزنزانة مغلقة بباب حديدي لا منفذ للهواء من أسفله، ولا فتحة في أعلاه، سوى شق صغير لمراقبتنا من قبل الحراس، وربما للسماح بدخول كمية من الأوكسجين بقدر ما تؤمن بقاء المعتقلين أحياء ليتمكنوا من استدعائهم من شاؤوا. لذا تمتزج رطوبة أنفاسنا بهواء الزنزانة الفاسد". (ص 107).
كان السجناء يعانون من الجوع الدائم بسبب قلة وسوء التغذية اليومية. وهذا الأمر جعل الأستاذ رفعة يفكر في قضية الجوع لا أعتقد بأن فكر بها يوماً لنفسه. إذ يتحدث لنا كيف يفرح السجين حين يحصل على "نصف چفچير (ملعقة) کبی-;-رة من الأرز إلى الصحن، فيقول "كنا نتمنى تلك الزيادة بالرغم من تكرار نوع الطعام في كل وجبة ورداءة طعمه." (ص 119). ومن هنا راح يتحدث الكاتب عن ثلاثة أنواع من الجوع: "1- جوع مزمن بسبب قحط أو عوز،.." و 2- والنوع الآخر هو الذي يسبق جوع الوجبة المنتظمة للطعام، وهو الجوع الذي يتعرض له أغلب أفراد الجنس البشري،..و 3- النوع الثالث الذي عانينا منه، هو جوع مثبط لأنه مقترن بقلق، فنحن لا نعلم كم سيدوم، وما سيرافقه من مفاجآت، و لكل منا في الزنزانة روايات عن تلك المفاجآت، إنه جوع يخضع لنظام صارم، ونحن آخر من يعلم بمواعيده و مسبباته، وأن كانت أجسادنا هي التي تكون موضوع هذا العوز القسري و حقول تجاربه. فهو ليس جوع العوز، إنما جوع يهدف إلى إخضاع إرادة الفرد و إذلاله، وتحطيم معنوياته، وإضعاف بدنه ليتحقق بذلك إضعاف نفسيته أيضاً." ص 120".
والمعتقلات الفاشية لنظام البعث مليئة بالقاذورات التي تتسبب بأنواع الأمراض لمن تطول إقامته فيها. فصعوبة أو استحالة الاستحمام وعدم التعرض لأشعة الشمس والبقاء فترة طويلة في غرف مظلمة ورطبة يجبرون على التبول فيها ليلاً وربما يضر البعض إلى التغوط أيضاً، إذ لا هواء نقي كاف يصلها يجعل تلك الغرف وأجسام السجناء وملابسهم مرتعاً خصباً للقمل بشكل خاص. يتحدث الكاتب عن هذه الحالة فيصف أنواع القمل على النحو التالي:
" القمل نوعان: أسود يستوطن الرأس، وأبيض يستوطن بين طيات الملابس. القمل الأبيض بطئ الحركة، ويحتاج إلى عدة أيام أو أسبوع قبل أن يتمكن من التغلغل في الملابس، ولذا لا يتعرض المستجد في الزنزانة لقرص القمل إلا بعد أسبوع من دخوله إليها." ثم يكتب: "عندما امتلأت ملابسي بالقمل، وأخذ ينتشر في مختلف طياتها، خلعت البيجامة وبقيت في السروال الداخلي ملتفاً بالبطانية. كان البعض منا يصرف ساعات المساء قبل غروب الشمس، عندما تكون أشعتها موازية للفتحة الصغيرة في أعلى باب الزنزانة الحديدي، في التفتيش عن القمل بين طيات ملابسهم. لم أتمكن من القيام بهذه العملية لأنني كنت بلا نظارات،..." ص (127). وأنا أقرأ هذه الفقرة من الكتاب تذكرت المعتقل العراقي والسجين والمبعد فيما بعد السيد واجد نجم ججاوي من أهالي الموصل الذي اعتقل في العام 1955 حيث وجد اسمه في قائمة في سقف دار كبس من قبل شرطة التحقيقات الجنائية في العام 1954/1955. لم يكن الرجل شيوعياً بل كان نصيراً للسلام. كان واجد معنا في موقف السراء ببغداد في أوائل عام 1956. بدأ يعاني من حكة في جسمه لا يعرف السبب. رجوناه أن يفتش داخل ملابسه فعثر على القمل بكمية كبيرة، لم يكن قد رآها من قبل ولم يسمع عنها، فهو من عائلة غنية نسبياً ولم تتعرض للفقر والعيش في الرطوبة والبؤس والقذارة حيث تنمو هذه الحشرات المتطفلة على رأس وجسم وملابس الإنسان. بدأ يقهقه على عيش هذه الحشرات في جسمه وراح يجمعها في علبة كبريت (شخاطة) ويتركها تتسابق على صفحة ورق بيضاء يومياً ثم يجمعها ثانية ويعيدها إلى علبة الكبريت. بدأت تتضاعف واحتاج إلى علبة كبريت أخرى. وجدها تسلية له في الموقف، فعرف الفرق بين القمل الأبيض والقمل الأسود أو الرمادي وتعرف على بيوضها البيضاء اللون في فروة الرأس الذي يطلق عليه شعبيا (صواب) أو في ملابسه. ولم يكن حال بقية الموقوفين تختلف عن حالته ولكنهم كانوا قد تعرفوا عليها قبل ذاك. جاء في الموسوعة الحرة عن القمل ما يلي: "القمل نوع من الحشرات المتطفلة يكثر بين المساجين وطلاب المدارس عند عدم مراعاة شروط النظافة والنظافة الشخصية خصوصا. القمل حشرة رمادية سمراء اللون صغيرة الحجم جداً ويبلغ طولها حوالي 2.5 مليمتر. يعيش القمل عادة على فروة رأس المضيف أو منطقة شعر العانة أو تحت الإبط ويعتاش على دم المضيف عن طريق عض فروة الرأس." (الموسوعة الحرة ويكيبيديا: القمل).
حين أصبح صدام حسين رئيساً للجمهورية وأزاح عن طريقه أحمد حسن البكر وأقام مجزرة بشعة لرفاقه في قيادة الحزب ومجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء وبعض كوادر الحزب حيث قتل 21 عضواً قيادياً، كما صدرت مجموعة من الأحكام الثقيلة بالسجن على عدد آخر من كوادر حزب البعث، توقع الناس شراً مضاعفاً سيتوجه صوب الشعب العراقي، كما سيعاني مزيداً من خنق الحرية الفردية المصادرة أصلاً فكتبت بلقيس عن هذه الفترة تقول:
"عندما أصبح نائب الرئيس صدام حسين رئيساً للجمهورية، أصبحت المحافظة على حياته نوعاً من الهوس، فقامت السلطة بقلع الأشجار وسط شوارع مدينة بغداد، وأصبحت حدائق وسط شوارع المدينة عارية، وظهر قبحها. فقد كانت أشجار النخيل تزينها كما تزين الملابس أجساد النساء. ... كانت أشجار النخيل تعيش بيننا و تتنفس معنا و كأنها كائن حي منا، بعد أن نمت و نضج رطبها، وظلل سعفها الشوارع في قيظ بغداد المحرقة. ولكنها هددت بالموت، فذبحت و شوهت، وقطعت أشلاؤها إلى قطع صغيرة، وسحبت أحشاؤها لتصبح وقوداً. لو كان للأشجار صوت، لحدثتهم عن ألمها و موتها البطئ أمام أنظاره! فذنبها الوحيد إنها اعتبرت مسؤولة عن اختفاء المتآمرين بظلها، ولذا وجب عقابها واقتلاعها من جذورها! عادت تلك الشوارع في المدينة جرداء عارية، خالية من جمال تخيلها. ولم يعد للناس ظل يقيهم من حرارة الشمس". (ص 90). إنها في هذا المقطع تجسد قسوة النظام في التعامل مع النخيل، هذه الشجرة المعطاءة المرتبطة بحياة وتاريخ وأحداث العراق وغناء العراقيين "نخل السماوة يگول طرتني سمرة ... سعف وكرب ظليت ما بيه ثمرة"، أو "ما طول بالنخل تمر .. ما جوز من شرب الخمر"، فكيف يكون تعامل مثل هذا النظام مع الإنسان العراقي. لقد كان الناس في حدسهم على حق/ فمع صعود صدام حسين إلى رئاسة الجمهورية ومجلس قيادة الثورة نشبت الحرب مع إيران، وبدأ القتال ضد الشعب الكردي ثالثة، ونفذ اجتياح الكويت، وتسبب في حرب الخليج الثانية والحصار الاقتصادي، ومن ثم تسبب في حرب الخليج الثالثة في العام 2003. وتسبب كل ذلك بموت ما يقرب من مليون إنسان وأكثر من ذلك بكثير عدد الجرحى والمعوقين من الرجال والنساء والأطفال، دع عنك ما يعاني العراق حالياً وبعد الإطاحة بنظام صدام حسين وإقامة نظام سياسي طائفي ويعتمد المحاصصة الطائفية المدمرة لوحدة الشعب ونسيجه الوطني والاجتماعي.
لقد كانت بلقيس بوعيها السياسي وثقافتها الرفيعة ومشاركتها الواعية في الخمسينيات في صفوف الحركة الوطنية والسياسية العراقية، وحسها السياسي وتجربتها الشخصية وما حصل في العام 1963 لكل العراقيين، تعرف طبيعة نظام البعث ودمويته وما يمكن أن يحصل لزوجها رغم براءته. لهذا كانت معاناتها شديدة وهي خارج أسوار السجن، إذ كانت تعيش القلق والشك في ما يمكن أن يحصل لزوجها، وكان العذاب النفسي شديداً، خاصة حين كانت تسمع أخباراً عن أحكام قرقوشية تصدر عن أشخاص استدعتهم المحكمة ليكونوا شهوداً فتحولوا إلى متهمين وصدرت بحق هؤلاء أثقل الأحكام الظالمة. فهي تشير مثلاً إلى أخ لصديقتها بتول، الذي استدعي كشاهد وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، فـ "استطاعت أن تتصل تلفونياً بنائب رئيس الجمهورية صدام حسين. وعندما رن التلفون ورفعت السماعة، وإذا بصوته، فقالت له بصوت متردد ومرتجف "لقد صدر الحكم على محمود بعشرة أعوام". أجابها مندهشاً "شلون؟" قالت: لقد طلبوا حضوره كشاهد، وإذا به يصبح متهماً." أجابها: "لقد خرج بكفالة، مو معنى هذا إنه برئ؟" قالت: "لقد قلت لي بنفسك إنه برئ، فكيف أصبح متهماً وحكم عليه بالسجن؟" أجابها: "الأمور مو كلها بيدي، أعطيني مجال يا بنتي، شهر شهرين، حتى أشوف شگدر أسوي، وأوعدچ ما يطول أكثر من ثلاثة أشهر." قضى محمود عامين ونصف العام بعد تلك المكالمة التلفونية." (ص 196/197).
كانت هذه الأخبار بمثابة كابوس ثقيل على بلقيس. ولكن كان يخفف الضغط النفسي عنها حين تجد أحبة وأصدقاء لها يزورونها ويسعون إلى دعم جهودها للإفراج عن رفعة. كتبت تقول حين زارها والدها الأستاذ محمد شرارة، وهو شخصية وطنية وأممية وأديب معروف وكاتب جرئ في لبنان والعراق والعالم العربي:
"زارني والدي مساء اليوم التالي، خيم الحزن والألم على أسارير وجهه. ولكنه وبعد أن شرب الشاي، اتكأ على الكنبة منشداً بعض قصائد المتنبي التي كان يقرأها و يترنم بها، بل يتنفسها و يعيشها. أبعدني حديثه المشوّق عن أجوائي القاتمة، و عن استمرار الحياة الموحشة التي كنت أحياها، و التي لا لون مفرحاً لها في تلك الفترة الحالكة التي كنت أمرّ بها، وبعث فيها الواناً زاهية، وأضاء المساحات المعتمة في أعماقي، ودبت حرارة الحياة فيها من جديد." ثم تقول عن والدها: "كان يقول ويكرر دائماً "لا يمكن للظلم أن يستمر و لا بد للفجر أن ينبلج!" كم هو جميل أن يحلم الإنسان! إن العالم الذي يخلو من الأحلام لا يستحق العيش، بل يصبح كابوساً." (ص 197).
لم تدم محاكمة رفعة الجادرجي سوى عشرين دقيقة، إذ صدرت الأحكام الثقيلة بحق عدد من المتهمين بذات الدعوى. وحكم على رفعة الجادرجي بالمؤبد. عرف نصير الجادرجي بالخبر المحزن ونقله إلى والدته وإلى زوجة رفعة. تقول الكاتبة بلقيس شرارة: شأهدت نصير عن بعدٍ يتلكأ بخطواته، وقرأت في وجهه المتجهم والممتقع، قرار قسوة الحكم الصادر بحق رفعة. جلس على كرسي بجانبي يسود بيننا الصمت ويخيم الوجوم، لا نعرف كيف نبدأ الحديث. شعرت بعبء الحزن والألم اللذين كان ينوء تحتهما، فقد جثت الكلمات ضاغطة على شفتيه، وأزاح ما ينوء به عتدما نطق كلمة "مؤبد". كانت كلمة مؤبد كإعصار هز كياني، صعقت من شدة الصدمة، بعد انتظار دام مئة واثنين وخمسين يوماً، فقد كنت أتوقع براءته، وعودته إلى داره." ثم تقول بمرارة خانقة: " انفلت الصمت السجين بين شفتي، و عصرت كلمة "مؤبد" بين فكيّ وأسناني، وسال عصيرها القاتم، المرّ بين شفتيّ: مؤبد، مؤبد، مؤبد. صعق والدي مثلما صعقنا بقسوة الحكم. وضعت سماعة التلفون، وظل صدى كلمة مؤبد تطن في أذنيّ بإيقاع حاد متصل".
حين يتسنى لأي إنسان أن يقرأ كتاب "جدار بين ظلمتين" يكتشف بيسر السمات الأساسية التي تميز بها نظام البعث في الفترة التي كان الزوجان يعيشان فيها وما بعدها، طبيعة الاستبداد المسلط على رقاب الناس طيلة 35 سنة مريرة. فالنظام البعثي الصدامي تميز بـ:
• غياب كامل للحياة الدستورية والقانون والحرية الفردية وحق الإنسان في الدفاع عن نفسه.
• تمركز السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، بيد مجلس قيادة الثورة الخاضع كلية لرئيس هذا المجلس، الحاكم الفرد، صدام حسين. وهذا يمنح الحاكم عملياً:
• الحق المطلق بإصدار الأوامر باعتقال أي شخص مهما كانت منزلته دون الحاجة إلى تبرير ذلك وتقديمه للمحاكمة، وإصدار الأحكام بحقه بما فيها قرار الحكم بالإعدام. وهو الذي منح أجهزة الأمن والمخابرات الحق في ممارسة الاعتقال دون العودة إلى أمر قضائي أو حاكم تحقيق أو المرافعة أمام محكمة شرعية وأسس وقواعد قانونية، إضافة إلى حق أجهزة الأمن والمخابرات في اعتقال وتعذيب وقتل من تشاء دون خشية من محاسبة أو عقاب. وقُتل تحت هذه الحماية الممنوحة للأجهزة القمعية الكثير من الناس الأبرياء تحت التحقيق والتعذيب أو دس السم لهم أو الدهس بالسيارات أو بأي أسلوب عدواني آخر.

• وكانت الكراهية والحقد والرغبة في القتل تملأ صدر الجلاد إزاء الإنسان والرغبة في إهانته وسحق كرامته. لقد كان صدام حسين مصاباً بالنكروفيليا. ولم يكن يجد السعادة والهناء إلى بقتل الناس. وبهذا الواقع المر استطاع صدام حسين نشر الخوف، بل الرعب في نفوس الناس ومن ثم تجليات ذلك في سلوكهم اليومي، وما ينجم عنه من ازدواج شخصية الفرد العراقي والتحولات المريعة التي انعكست في تصرفات الإنسان اليومية وفي علاقاته العامة. لقد نشأت عند الفرد الرغبة الجامحة في خلاص الذات والتخلي عن الآخر أو العجز عن التضامن معه أو الخشية منه. لقد فقد الكثير من البشر بسبب سياسات هادفة وفاعلة لحزب البعث وصدام حسين جملة من القيم الإنسانية الحضارية. لقد فرغ الكثير من الناس العراقيين من قيمهم الإنسانية والتي نشأت بفعل سيادة الفكر العنصري والعسكري الفاشي في التربية والتثقيف اليومي للناس. وكان هذا أحد أهداف حزب البعث والقائد الضرورة!!!
إن أفضل ما صوراه لنا، السيدة بلقيس والسيد رفعة، هي تلك اللوحة الخاصة بالمستبد بأمره، ذلك الدكتاتور القادر على أن يقول "كن فيكون"!، وقد كرس ورسخ هذا المعنى في أذهان الناس، كل الناس، عبر أجهزة إعلامه ودعايته وأجهزته القمعية وعبر زياراته والأساليب التربوية الفاشية التي كانت تمارس وعبر سنوات طويلة، إذ أقنعهم عبر مآسيهم ومحنهم اليومية بأنه "القادر على كل شيء قدير"، وبأنه وكيل الله على أرضه! فهو الذي يمنح مراحمه متى ولمن شاء، ويمنعها عمن شاء. وهو الذي يقرر مصير الإنسان بين الموت والحياة، وبينهما خيط رفيع ارتبط دوماً بمزاج البطريق لا غير، وهو الذي جاء ليبقى، وكما قال "جئنا لنبقى!!"
ليست القسوة في الاعتقال وحده، بل في عدم معرفة الإنسان ما ينتظره، فهو حين يعتقل لا يعرف التهمة الموجهة له، ولا يعرف أين سيذهبون به، ولا من سيحاكمه، ولا من يمكن أن يدافع عنه إن كانت هناك محاكمة، ولا إلى متى يبقى معتقلاً، وهل سيموت أم سيبقى على قيد الحياة. كما أن أهل الضحية لا يعرفون لِمَ اعتقل أصلاً، وأين سيجدونه، وكيف يفترض أن يتحركوا لإنقاذه. فالضحية والأهل والأصدقاء يعيشون في عالم مضبب تماماً وقلق دائماً والخوف يمارس فعله القاتل من المجهول القادم. إنها المحنة الدائمة التي يعيشها الضحية في قبضة المستبد الجلاد. وفي ضوء هذه الحقيقة شخص الكاتبان نوعين من البشر : فمنهم من نسى الصداقة والود السابقين وتحول إلى شخص غريب الأطوار بسبب الخوف الذي كرسه الجلاد في طباع الناس، والخشية من الجلاد المرتقب، أو بسبب صداقة كانت بالأساس مزيفة قبل ذاك أو بسبب الشماتة والرغبة في الحصول على مشاريع هندسية بدلاً عن الضحية التي كان يحظى بها بسبب معارفه وقدراته الهندسية. ومنهم من أبدى استعداداً كبيراً ومستمراً وبصور شتى لتقديم المساعدة والتضامن وعدم نسيان الصداقة، أو احتضان الأهل في فترة يكون فيها الضحية أو أهل الضحية في أمس الحاجة لمثل هذا الدعم المعنوي والاحتضان. إن أسلوب التحليل في تصوير تلك الشخصيات سهل ممتنع يعبر عن وعي ثقافي رفيع المستوى بالإنسان ومواطن ضعفه وصلابته. وكانت بلقيس بقدراتها الأدبية بارعة في ذلك.
قدما لنا صورة مباشرة وغير مباشرة عن علل المجتمع العراقي ومشكلاته الأساسية وتخلفه الحقيقي ومعاناة المرأة العراقية والتقاليد البالية الثقيلة الخانقة للمرأة والمصادرة لحقوقها وحريتها الفردية. لقد صورا لنا العلل النفسية والاجتماعية التي يعاني منها المجتمع من خلال استعراض شخصيات سجينة أو سجانة أو شخصيات من خارج السجن، رغم الحضارة التي كان يمتلكها العراق، وكذلك الخزين الفكري والثقافي اللذين تختزنهما الذاكرة المثقفة والذاكرة الجمعية العراقية.
لقد ذكرني الكتاب وأنا أقرا صفحاته كيف رن جرس الدار عندي ببغداد في صيف تموز اللاهب من عام 1978 رجلان من جهاز الأمن العراقي وطلبا مني مرافقتهما، فمدير الأمن العام يريد محادثتي. كانا مؤدبان، ولكنهما منعاني بأدب من الاتصال بأخي هاتفياً. كانت زوجتي وطفليّ، سامر وياسمين، في ألمانيا في زيارة لعائلتها. كنت حينذاك عضواً متفرغاً في المجلس الزراعي الأعلى وبدرجة خاصة بعد أن تم نقلي من جهاز التدريس في الجامعة المستنصرية لمنع اتصالي مع عدد كبير من الطلبة الذين تكون لي معهم علاقة ودٍ واحترام. جلست في المقعد الخلفي لسيارة شيفروليت حديثة وجميلة وذات نوافذ زجاجية مانعة للرؤية من الخارج وقادا السيارة إلى الأمن العامة في البتاوين، حيث وضعت في زنزانة انفرادية رقم "1" لثلاثة أيام دون تحقيق أو استفسار أو معرفة بما يريدون، رغم استفساري عن السبب، إذ لا جواب. ثم بدأ التحقيق، وكانوا مؤدبين حتى نهاية التحقيق، ثم جاءوا بالأوراق والقلم لأجيب وأنا في زنزانتي عن مجموعة من الأسئلة وجهها لي جهاز الأمن ولكنها معطاة من صدام حسين ذاته، كما أُخبرت لاحقاً من قبل مدير الأمن العام ذاته. وقد تسنى لي تسجيل تلك الإجابات على وفق ذانرتي في شريط أودعته عند الرفيق الفقيد عامر عبد الله في حينها وقب لمغادرتي العراق. ويبدو إن الرفقد عامر قد تركه بالعراق ولم أعثر عليه حتى الآن. ومع ذلك لا تزال إجاباتي عن تلك الأسئلة في الذاكرة حية تماماً. لم تكن زنزانة الانفرادي التي وضُعت فيها تختلف عن تلك التي وصفها الأستاذ رفعة الجادرجي في هذا الكتاب، فهي متشابهة عموماً. لم يمكن معي سوى بطانية واحدة افترشها. كنت وحدي في الزنزانة، وقبالتي كان وكيل وزارة الداخلية من عائلة الآلوسي في الزنزانة رقم "2". وبجوار زنزانتي على جهة اليسار كانت ردهة واسعة تضم العشرات من الشيوعيين والديمقراطيين المعتقلين الذين بدا الحزن عليهم لاعتقالي وفرحة اللقاء بهم من بعيد. حين التقت نظراتي بهم رفعوا أيديهم بالتحية والسلام بعد أن عدت من التحقيق، فحييتهم بابتسامة وتحريك اليد ولو من بعيد. كانت زنزانتي مقابلة لغرفة الحرس وكنت أرى مرور المعتقلين الجديد من خلال الفتحة الصغيرة في الربع الأخير من باب الزنزانة الحديدي. كان البعض يجلب ويفرض عليه الوقوف ووجهه صوب الحائط وكان الحرس يمر به ليضربه على رأسه (كفخة) أو صفعة على خده أو يمد يده لمؤخرته بقصد إهانة الكرامة. وكان على هذا البعض من المعتقلين السكوت وتخمل العدوانية وإلا تبدأ جولة من الضرب المبرح.
بعد عدة بتم نقلي إلى غرفة واسعة تتراوح مساحتها بين 40-50 متر مربع وتقع في الجانب الأيسر من ساحة واسعة في وسط مديرية الأمن العامة. لم أكن أعرف السبب من نقلي. كان في الغرفة حمام ومرحاض، وكان الحمام معطل ومليء بالغائط والبول ولا يمكن ولوجه إلا الغوص بهذا المزيج الذي يصل إلى حد الرسغ. غرفة واسعة بنيت بمواصفات خاصة، وقد شعرت بأن قوى الأمن قد وضعت في السردات التابع لهذه الغرفة مرجلاً شغال، إذ كانت الحرارة تصل إلى أكثر من 70 مئوية. وكان العرق يتصبب مني وكأني في حوض سباحة. كانت قطرات العرق التي تسقط مني على أرض الغرفة تجف أو تتبخر مباشرة. اضطررت بعد ساعتين أن ألج المرحاض، ومنه أصبت بالفطريات في قدميَّ.
بعد ذلك أُدخل إلى الغرفة شابان افترشا الأرض، وبدأا بالاستفسار مني عن أسباب اعتقالي. فأجبتهم، لا أدري. لم يرضيهم جوابي فانهالا عليَّ بالضرب العشوائي المبرح وبدأا بشتمي بأني أكتب ضد الرئيس القائد في جريدة طريق الشعب. لقد كان الشخصان من الجهاز الأمني المتخصص بالتعذيب، وهما حاذقان ومحترفان في مهنة التعذيب وعارفان مواطن الخطر وإلحاق الضرر في جسم الإنسان. كان هدفهم إصابتي بتعويق في قدرتي على التفكير، أي أن أصاب بالجنون، إذ كان الضرب مبرحاً وهادفاً إلى إيذاء رقبتي ورأسي وإلى التسبب بتعطيل أو إلحاق الضرر بالحبل الشوكي. وبعد 12 ساعة أو أكثر على هذه الحالة, إذ غبت عن الوعي ولا أدري الفترة التي بقيت فيها على هذه الحالة ومتى كفوا عن التعذيب، إذ عدت إلى صوابي حين فتح الباب ودخل ضباط الأمن، واستفسر عما حصل، فعنف الشخصين واعتذر لي وأخذني معه إلى غرفة الضابط وأنا أتحرك ببطء شديد إذ كانت الآلام مبرحة. كانت المسرحية التي قدمها ضابط الأمن مضحكة ومبكية في آن.
جلبوا طبيباً لفحصي وهمس بأذني بأنه سعيد أن يراني حياً ولم أمت، إذ كنت قاب قوسين أو أدنى. نقلوني ثانية إلى الزنزانة رقم "1". تركوني لمدة ثلاثة أيام. قاطعت الطعام الذي كانوا يقدمونه لي. لم آكل منه سوى الخبز ولم اشرب الشاي، وكنت أشرب الماء من حنفية المرحاض، إذ كانت في نهاية الزنزانة مرحاض. بعدها استدعوني لغرفة الضباط. لم يكن هناك تحقيق، بل جلس بعض الضباط حول مائدة طعام وعليها صينية كبيرة مليئة بالهبيط (الرز واللحم). دعوني للغداء معهم. كان بعضهم طلبة في الجامعة المستنصرية التي كنت أدرس فيها. وضعوا أمامي كأس لبن (شنينة)، نقلت الكأس من أمامي ووضعته بجهة الضابط المقابل لي وأخذت كأسه الملء باللبن (شنينة). لم أشرب من كأسي ، ولم يشرب هو من كأسه أيضاً. لم أكل من الرز واللحم الذي أمامي، رغم تحريك صينية الهبيط بحيث أصبح ما كان أمامي أمام الضابط المضيف. ولكن لم أذق منه شيئاً يذكر. استفسروا عن سبب ذلك، قلت لهم لا ثقة لي بكم. كان التعذيب لمرة واحدة وفي وضح النهار وفي غرفة مضاءة ولكن لا يسمع صوت التعذيب فيها أو الصراخ. لم يصدر مني أي صوت قاومتهم دفاعا عن نفسي ومحاولة تفادي الضربات، ولكنهم كانوا شباباً أقوياء وأقوى مني بكثير. عجزوا عن لوي إرادتي وصمودي وفشلوا في إهانة كرامتي وكرامة الحزب الذي أنتمي إليه واحترم نضاله، ولكنهم أذاقوني مرَّ العذاب. كان التعذيب للمعتقلين الآخرين يجري عموماً في ساعات الليل. كنت اسمع صراخ المعذبين من السجناء.
بعد أكثر من أسبوعين أحلت على التقاعد وأنا في المعتقل وبدون تقاعد مع إنزالي درجتين وظيفيتين، وهي للإهانة فقط. وحين أطلق سراحي كنت قد فقدت أكثر من 14 كيلو غراماً من وزني وكنت مصابا بالفطريات. لقد كان اعتقالي بأمر صدام حسين، وكان قد أرسل للأمن ورقة يعطيهم الأوامر بما يفترض أن يمارسوه معي من أساليب التعذيب وأن لا يطلق سراحي إلا بأمر منه. هذا ما بلغني به وهو يوصلني إلى زنزانتي مدير الأمن العام الدكتور فاض البراك الذي قتل تحت التعذيب فيما بعد.
لا زلت أعاني بهذا القدر أو ذاك من بقايا ذلك التعذيب الشرس والمركز والموجه إلى الرأس والرقبة بشكل خاص. من هنا جاءت رغبتي في أن أبادر للكتابة عن هذا الكتاب القيم الذي قدم لنا وصفاً واقعياً عن فترة الاعتقال بالنسبة للضحية وعن حالة الزوجة وأفراد العائلة خارج السجن أثناء فترة الاعتقال الطويلة.
رغم المصائب التي صورها لنا الكتاب من زاويتين مختلفين ومن شخصين مستقلين فكرياً، يمنحان القارئة والقارئ ساعات جميلة يتمتع بها في قراءة نص رائع يشد الإنسان إليه شداً ويوصل لهما تجربة إنسانية غاية في الأهمية ويمنحهما فرصة التعرف القريب جداً على طبيعة نهج وسلوك نظام شمولي غادر إزاء الشعب. ولكن القراءة لا تخلو من حزن يسيطر على القارئ والقارئة لأنه يمس ضمير الإنسان وحسه المرهف حين يقرأ المشاهد المؤلمة والكارثية التي تضمنها الكتاب، غادرنا النظام بلا رجعة، ولن يغادر القارئة والقارئ مطالعة الكتاب إلا بعد أن ينتهيا منه.
لقد سقط النظام الاستبدادي ولم يتخلص العراق من الاستبداد والتسلط والقهر والقمع. وإذا كان في فترة صدام حسين قد وقع تحت وطأة نظام شوفيني عنصري قمعي شرس وفاشي النزعة في أسلوب الحكم، فإن الشعب العراقي عانى من قوى الاحتلال وأجهزته الأمنية، وعانى السجناء في سجن "أبو غريب" من عمليات تعذيب يشيب لها رأس الصبية وتقشعر لها الأبدان وتعكس تخلي المتحضرين عن حضارتهم ويتحولون إلى وحوش كاسرة لا ضمير ولا رحمة في قلوبهم حين يتعلق الأمر بمصالحهم وجشعهم ومن أجل الوصول إلى غاياتهم المعدة سلفاً. والشعب العراقي الذي تخلص من نظام البعث الدكتاتوري وصدام حسين، مبتلى اليوم بحكم استبدادي طائفي مقيت يحرم الشعب من الحريات العامة والحرية الفردية ويحرم المرأة من حقوقها والإنسان من حقوقه كما تسرق موارد النفط المالية ويقتل يومياً ويجرح ويعوق عشرات الناس الأبرياء ويرأس هذا النظام الطائفي شخصية تعاني من علل اجتماعية ونفسية عديدة ويقترب في سماته وسلوكه من سمات وخصائص وسلوك صدام حسين. إنها المأساة والمهزلة المتواصلة في بلاد ما بين النهرين!



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة في كتاب السيدة بلقيس شرارة الموسوم -محمد شرارة من الإي ...
- الحزب الذي أصبح كارثة ورئيسه الذي أصبح طامة كبرى بالعراق!!!
- قراءة في مسرحية -ثور فالارس- للكاتب والصحفي ماجد الخطيب
- نقاش هادئ مع أفكار افتتاحية طريق الشعب في 10/10/2013
- هل من أخطاء فادحة ارتكبتها المعارضة السورية؟
- جرائم بشعة متلاحقة ترتكب يومياً بالعراق!!!
- قراءة في كتاب -نبوة محمد- للكاتب الدكتور محمد محمود
- الحذر ثم الحذر ثم الحذر من مخاطر التلويث الإضافي لبيئة عراقي ...
- قراءة في كتاب هروب موناليزا -بوح قيثارة- للشاعرة بلقيس حميد ...
- بشاعة الجرائم الدموية التي ارتكبت بمدينة الثورة ببغداد، فمن ...
- هل وقع حكام العراق على وثيقة شرف جديدة, أم إنها محاولة جديدة ...
- من المسؤول عن قتل وتهجير أتباع المذهب السني وآل السعدون في ا ...
- من المسؤول عن ضحايا المفخخات وضحايا السرطان يا وزير الإسكان ...
- لماذا يُعقد مؤتمر أصدقاء برطِّلة بالعراق؟
- من أجل محاكمة بشار وماهر الأسد أمام المحكمة الجنائية الدولية ...
- يواجه الشبك إرهاب القاعدة وغياب الحماية الحكومية بالعراق
- من يمارس القتل ضد مجاهدي خلق في معسكر أشرف بالعراق؟
- مع حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في مؤتمرهم السابع
- هل نسى نوري المالكي أن الشعب العراقي يمهل ولا يهمل!!
- البعث الصدامي وبعث الأسد وجهان لعملة وجريمة واحدة!!!


المزيد.....




- مصر: الدولار يسجل أعلى مستوى أمام الجنيه منذ التعويم.. ومصرف ...
- مدينة أمريكية تستقبل 2025 بنسف فندق.. ما علاقة صدام حسين وإي ...
- الطيران الروسي يشن غارة قوية على تجمع للقوات الأوكرانية في ز ...
- استراتيجية جديدة لتكوين عادات جيدة والتخلص من السيئة
- كتائب القسام تعلن عن إيقاع جنود إسرائيليين بين قتيل وجريح به ...
- الجيشان المصري والسعودي يختتمان تدريبات -السهم الثاقب- برماي ...
- -التلغراف-: طلب لزيلينسكي يثير غضب البريطانيين وسخريتهم
- أنور قرقاش: ستبقى الإمارات دار الأمان وواحة الاستقرار
- سابقة تاريخية.. الشيوخ المصري يرفع الحصانة عن رئيس رابطة الأ ...
- منذ الصباح.. -حزب الله- يشن هجمات صاروخية متواصلة وغير مسبوق ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - كاظم حبيب - إعادة قِراءة في كتاب -جدار بين ظلمتين- لبلقيس شرارة ورفعة الجادرجي -الضحية والجلاد في بلاد الرافدين!- الكتاب الذي يستحق أن يكون فيلماً سينمائياً بجدارة