|
حديث طريف.. وكله عِبَر
مصطفى مجدي الجمال
الحوار المتمدن-العدد: 4254 - 2013 / 10 / 23 - 07:40
المحور:
سيرة ذاتية
ضحكت بصوت مكتوم.. حرصت ألا أؤذيه.. لكني فوجئت به يجاريني في الضحك ويفوقني.. رغم أنه في بداية الجلسة كان مقطبًا ولم ترتح أنفاسه المتلاحقة إلا بعدما أخذ يبوح..
هو شخص محترم بمعنى الكلمة.. مواهبه ومعارفه وعلاقاته من النوع النادر.. تربى الكثيرون على يديه ونهلوا من علمه.. لكن القليلين هم من كرروا نموذجه الأخلاقي.. فهو يعيش مازال في شقة متواضعة ويربي أولاده بالحلال.. رغم أنه لو أراد أن يصبح وزيرًا مثلاً لكان له هذا منذ عقود.. بيد أنه اختار "وزارة" احترام الذات وحب الوطن والشعب.. فكان له من الملاحقة والسجن وضيق الرزق نصيب كبير..
بدأ حكايته بتذكيري بشخص من النوع الطاووسي الذي عرفنا منه الكثيرين أيام شبابنا وكنت أطلق عليهم لقب "المثقفين اللي شاربين نشا"!!! وهو ذلك المثقف المغرور بقشور ما قرأه، وربما يكون له بعض من اللباب أيضًا..
حدث في يوم بأوائل السبعينيات أن تعرف صاحبنا على الطاووس فأراد أن يناقشه في ذلك "الكنز" الذي كنا اكتشفناه حديثًا وقتها واسمه "الاشتراكية العلمية".. فرد عليه ردًا متعجرفًا: "قرأتها بأي لغة؟". فبهت الشاب صاحبنا وقال: "بالعربية طبعًا". وجاءه الرد الصاعق: "آسف.. الماركسية لا تقرأ إلا بالإنجليزية والألمانية.. وربما الفرنسية".
كانت هذه هي البداية الدرامية في العلاقة الشائكة بين الشاب والطاووس.. لكن على كل الأحوال تكونت بينهما علاقة تنظيمية.. وبالأحرى جنده كعضو في جماعته "المفروض أنها سرية".. لكنها في الحقيقة كانت تعقد اجتماعات دورية على مقهى وتحت أنظار وأسماع المخبرين "العلنيين".. وهو مذهب خاص في "التنظيم" لا مجال للاستطراد فيه الآن..
قلت لصديقي: لا تظلمه فقد كان مثقفًا كبيرًا.
أجاب: نعم بالتأكيد.. لكنه كان يمارس "القهر الثقافي" على مريديه.. فيقول لهم مثلاً: "الواشنطن بوست ذكرت كذا وأيدته الفيجارو".. أو يجتر من ذاكرته هيجل وماركس وماركيوز..الخ.. أو يستعرض المذاهب النقدية الحديثة، ويخرسهم بمصطلحات مستعارة من البنيوية وما بعد الحداثة..الخ.. وهم مبهورون بأستاذهم الذي لا يستطيعون مجاراته فيطيعونه دون نقاش.. ويتباهون به على أعضاء التنظيمات الأخرى "البائسين" ثقافيًا..
قلت له: لكنك تركتهم مبكرًا..
قال صديقي: نعم.. فلم أرتح للخلطة العجيبة التي جمعت بين التشدد الماوي واعتبار ثورة يوليو مؤامرة أمريكية على الحركة الشعبية والهجوم المتواصل على الاتحاد السوفيتي باعتباره إمبريالية.. وبين الدعوة لجبهة متحدة مع السادات واعتبار من يخالفه في الرأي من "عملاء مراكز القوى" (أي جماعة على صبري وشعراوي جمعة)..
قلت: وكيف صار الحال بالمجموعة؟
قال: كما تعرف لم تعش طويلاً.. في الحقيقة لم يكن اعتراضي فقط على بعض الأفكار.. إنما كان اعتراضي الأكبر على التهور في استخدام أقبح التعبيرات لإدانة الآخرين.. فيصف فلان (...) مثلاً بأنه "زعيم مزبلة الخونة والمرتدين".. ناهيك عن الاتهام بالجهل والانتهازية والعمالة للبوليس..
قلت: لكنه نجح فعلاً في تربية جيل من المناضلين.. بغض النظر عن مواقفهم السياسية.
رد صديقي: نعم.. لكن هل تعرف ماهي الآلية الأهم التي استخدمها للاحتفاظ بهم حوله؟ لقد عودهم على احتقار الجيل الأسبق، بدعوى أنه استسلم لعبد الناصر، وشجعهم على استخدام أقذع الألفاظ في الخلاف مع نظرائهم في جماعات أخرى.. أي أنه استخدم نعرة قريبة من صراع الأجيال.. والغريب أن تلاميذه لم يلحظوا أنه نفسه من ذات الجيل الذي يدينه..
استدركته قائلاً: لكن الرجل عدل الكثير من مواقفه بعد زيارة السادات للقدس..
قال: نعم.. ولكن ظلت ترافقه نفس العيوب الشخصية والتربوية.. وقد تضاءلت جماعته جدًا.. وتفرق التلاميذ بين من ذهب لبلاد النفط وعاد هذه الأيام ليعلمنا الثورة "عن حق ربنا".. ومن انخرط في الجمعيات الأهلية بأجندات تعلمها وتمويل سخي.. وبين كثيرين آخرين استمروا في النضال الشريف، ولكن كأفراد زاهدين تمامًا في أي نشاط منظم..
قلت: يحسب له أن وضع أقدام الكثيرين على أول الطريق..
قال: ولكنك قد لا تعلم أنه رحمه الله ظل حتى أواخر آيامه يعتبر أن ثورة 25 يناير وكل "الربيع العربي" مؤامرة أمريكية من الألف للياء..
قلت له: ولكن لماذا تذكرني بكل هذا الآن؟
قال: ياسيدي أنا كما تعرف انضممت لإحدى الجماعات التي تشكلت أثناء الثورة.. ولكنك لا تعرف لماذا خرجت منها؟
قلت: كنت أنتظر منك تفسيرًا.. خصوصًا أنك احترمت الجماعة- وهي حقًا جديرة بالاحترام- ولم تدخل في شجار علني معها.
قال آسفًا: يا أخي لقد صدمت من نفس نغمة الصراع مع الجيل القديم ونفي الثورية عنه.. ومن عدم وضوح الرؤية لما تعنيه الثورة بالنسبة للكثيرين.. فهي تكاد تنحصر في التظاهر والتدوين الإلكتروني والمبارزات الكلامية في الغرف.. أما عن ضعف الوعي السياسي فحدث ولا حرج.. وجدتهم تارة ينجرون وراء السلفيين ويتورطون في معارك ثبت أنها في النهاية لخدمة الإسلام السياسي.. وتورط البعض في انتخاب أبو الفتوح ومرسي.. تصور!!!
علقت على كلامه: لكن كل هذه خلافات يمكن حلها داخليًا.. وحتى "صراع الأجيال" يمكن حله بتدابير تنظيمية..
رد قائلاً: كلامك سليم تمامًا.. لكن السبب الحقيقي أو قل المباشر كان تلك اللغة العدائية شديدة الفظاظة المستخدمة في النقاش الداخلي.. وقد يكون مفهومًا في النقاش الشفوي أن تنفلت الأعصاب بما لا يستحب قوله.. لكن أن تعمر النشرة الداخلية والمجموعة البريدية بأشنع الاتهامات فهو أمر لا يطاق..
واصل حديثه: كان الخلاف الأخير هو أنهم يعتبرون 30 يونيو ثورة حقيقية ولكن 3 يوليو انقلاب عسكري.. وكان رأيي أن 3 يوليو منع حربًا أهلية في الشارع بين حشود وحشود.. فتخيل أن أحدهم أخذ كلامي ونشره على الفيس بوك ووصمني بأنن من "لاحسي بيادة العسكر"!!! والغريب أنني وجدت أكثر من 140 علامة إعجاب (like) على كلامه.. وبتفحص أسمائهم وجدتهم جميعًا من أعضاء الجماعة تقريبًا..
أبديت له أسفي الشديد.. فعاجلني بقوله: هل تعرف من هذا الشاب.. إنه ابن الطاووس نفسه.. وهو شاب مثقف ورائع واستطاع أبوه تعليمه في الجامعة الأمريكية.. غير أن معظم مجد الولد قائم على وراثته لسمعة أبيه.. فهل كان من الممكن أن أقول له "وأبوك كان من لاحسي بوت السادات"!!!!
قلت له: إذن لقد نفرت من جماعة الابن مثلما سبق أن نفرت من جماعة الأب..
قال: نعم.. لقد زايد أبوه علي بأنني شاب جاهل.. وهاهو الابن يزايد علي بأنني شيخ جاهل.. أما عن كوني انتهازيًا فهو اتهام مشترك في الحالتين..
وباغتني بسؤال: هل مثل هذه الأمراض لا شفاء منها.. وهل من الضروري أن يكون الثوري سافلاً يفحش القول والاتهام.. وهل يعتبر التهذيب من أعراض الأخلاق البرجوازية... وهل يصح أن نساعد هذه البرجوازية في نسبة الشرف الأخلاقي لنفسها فقط.. أما نحن "الرعاع" فلا نجيد سوى الشتم.. بما فيه شتم النفس؟؟؟
قلت ضاحكًا لأخفف عنه: ارجع لعبقرية الشعب المصري.. السبب الحقيقي هو أن "العِرق دساس"!!!!
#مصطفى_مجدي_الجمال (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مينا دانيال.. بطل من مصر
-
مسألة السيسي بين الاستقالة أو الاغتيال
-
كي لا تفشل الثورة المصرية
-
مظاهرة الزيتون
-
غابت البوصلة والطليعة فحضرت الكاريزما
-
شعب ثائر وحكومة مرتعشة
-
المجد للشعب المصري
-
أيام مصر الخطيرة
-
انقلاب عسكري أم انقلاب ثوري
-
الثورة المصرية بحاجة لطليعة
-
لا نوايا حسنة في تبرير الإرهاب
-
الساكت عن النقد...
-
شافيز.. عرفته قبل أن أقابله
-
حتى لا تخسر القضية الفلسطينية شعب مصر بسبب حماس
-
حول الدعوة إلى تنظيم شيوعي للشباب
-
السياسة الثورية.. وإلا الخيار نيرون !!
-
قهر الفاشية.. أو الخروج من التاريخ
-
لنكسر الفاشية أولاً
-
ارتباك في بر مصر
-
بلطجة نظام مرسي وجماعته لن تخيفنا
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|