أيوب عيسى أوغنا
الحوار المتمدن-العدد: 4253 - 2013 / 10 / 22 - 21:40
المحور:
سيرة ذاتية
من ذكريات قلعة كركوك
كركوك التاريخية تتمثل في قلعة كركوك التي يعود تاريخها الى ما قبل السبي البابلي , ولايزال المسجد الوحيد في القلعة بمنارته القديمة شاهدا حيا يؤرخ تاريخ السبي البابلي الذي تجسد علي أرضها , وترك أسم النبي التوراتي / دانيال , أسما على مسمى للمسجد نفسه ( مسجد دانيال بيغامبار) بالتركمانية , أو مسجد النبي دانيال ولا يزال قائما بمنارته ويعلوها عش اللقلق وهو منتصب على قدم واحدة وكأنه حارس وحامي المسجد , وينظر أليه بخشوع ولايجرأ أحد على أزعاجه أبدا .
ولايزال السرداب تحت المسجد حيث تم أحتجاز النبي دانيال في تلك القلعة من قبل جيوش الملك البابلي ( نبوخذنصر) , بعد رجوعه وهو يقود العديد من الأسر النبيلة وحتى أعضاء الأسرة الحاكمة بعد هدمه أورشليم والمعبد اليهودي , في مل يعرف تاريخيا بالسبي البابلي , لذا كان موقع المسجد هو معبد يهودي منذ ذلك التاريخ , وحتى بداية خمسينات القرن الماضي , كان حشد من اليهود يأتي من مختلف أنحاء العراق يجتمعون حول المسجد ويؤدون صلاة عيد الغفران , ولم يتمكن اليهود من الأنعتاق من أسرهم والعودة الى أورشليم , ألا بعد عدة قرون بعد هزيمة بابل على يد الملك الفارسي (سيروس) العظيم , حيث وعدهم بالعودة وأعادة بناء المعبد , ثمنا لمساعدته في فتح بابل والقضاء على الأمبراطورية البابلية , ولقد وفى بوعده لهم بالعودة لمن رغب بذلك , ولقد أحتفظ بالمدينة العامرة التي كانت تشتهر بالجنائن المعلقة التي تم ذكرها في التورات والأنجيل , والأسطورة بأن نبوخذنصر بناها لعروسته ( الميدية) , لكي لاتحن الى موطنها في الجبال في دولة ميديا بعد معاهدة الصلح معهم ( كما تذكر الكتب المدرسية) , ومن الجدير بالذكر فأن عدد كبير من اليهود أستقروا في بلاد ما بين النهرين وكان لهم تأثير بارز في الحياة الثقافية والفنية وصياغة الذهب والفضة , وكان لليهود محلة خاصة بهم في القلعة , ومن أشهر الأسماء ( عرب أوغلو) اليهودي , حيث كان حارسا لمدرسة ثانوية الصناعة في منطقة ( المصلى) , في القلعة وشهرته الواسعة في معالجة الكسور والعظام وكنت محظوظا لتلقي العلاج من يده , بعد أن وقعت أرضا وأنكسرت يدي اليسرى , أثناء عراك مع أحد الطلاب خارج المدرسة , حيث قام والدي بأصطحابي أليه وفي يدنا دجاجة , حيث كان يمتنع لأخذ الفلوس , كان علاجه معظم الأحيان مجانا , ( ومن يقول بأن اليهودي بخيل وطماع يحب المال ؟؟!!..) . و بالرغم من أندثار معظم معالم القلعة التي أصبحت أطلالا وآثار لهضاب ترابية كانت يوما ما مدينة مكتظة و آهلة بالسكان , بدروبها وأزقتها الضيقة وبيوتها المتلاصقة , ولم يبقى فيها سوى عدد محدود من البيوت لثبت بأنها أقدم قلعة في التاريخ لاتزال مسكونة وعلى قيد الحياة . وما تميزت به المدخل الرئيسي حيث المدرج العريض على جانبي سفح الهضبة المرصع بالأحجار من قاع النهر ( خاصة صو) , ولقد خلدتها الأغنية التراثية التركمانية :- " قلعدا ديبندنا بير داش أولايدوم , كلانا , كيدانا يولداش أولايدم ...." . (وترجمتها :- حبذا لو كنت حجرا في منتصف طريق القلعة لكي أصبح صديقا للصاعد والنازل ) . والجسر القديم المؤدي أليه حيث كانت منصة صغيرة لشرطي المرور في المقدمة , تسيطر على القليل من السيارات و الكثير من العربات التي كل منها يجرها حصان , وعربنجي بيده السوط ( عربنجي أضرب قنجي !!..) وهذا للصبي الذي يحاول بغفلة من العربنجي للألتصاق بمؤخرة العربانة و يركب ولو لمسافة قصيرة كانت هذه قمة الأثارة والمتعة , بالرغم من لسعة القنجي المؤلمة , لذا كنا نحمي وجهنا الى الأسفل ولكن قماش الدشداشة لم يحمينا كثيرا , ولكن المنافسة كانت لمن يبقى مسافة أطول على الرينكات الخلفية للعربانة !!؟.. يا لها من أيام الطفولة , وأتذكر عندما جرفت السيول جزءا من الجسر وتعذر طريق الذهاب الى مدرسة الطاهرة الأبتدائية للبنين في القلعة , حيث أستمرينا في الدراسة هناك بعد أنتقالنا من القلعة الى منطقة ( القورية) , وطبعا مشيا على الأقدام . وأستمرينا في تلك المدرسة , حتى بعد أنتقالنا الى بيوت (العرفة) كركوك الجديدة , حيث كنا نستقل الباص ( الأمانة) , الى آخر محطة أمام الجسر القديم , ونسير فوق الجسر حيث كان (الخاصة صو) معظم الأوقات يابسا لا ماء فيه , عدا بعض الكلاب البرية والطيور الجارحة على جثث الحيوانات , وما تبقى من عظام الأضرحة التي تذبح في أعياد الأضحى , وكنا نحدق بهيكل السيارة المقلوبة في القاع , حيث سبق وأن وقعت من فوق الجسر وهي تحمل ركاب من عمال شركة نفط العراق وهم عائدون الى بيوتهم في القلعة , ونشعر بهول الفاجعة لمن قتل وأصيب في هول الفاجعة المؤلمة تلك , ومن حسن حظنا , فأن والدي كان مريضا ونجا من الموت بغيابه عن العمل في الشركة . ونجا من الموت مرة ثانية في الأضراب التاريخي عن العمل في شركة النفط العراقية ( اللآي بي سي) , والتي كانت بريطانية بأسم عراقي , حيث جلبت جندرمة مسلحين ( مرتزقة) , بعد أن رفض المحليين , من أطلاق النار بدون أنذار على العمال المضربين والمطالبين بزيادة الأجور , حيث تم قتل وجرح العشرات من العمال بطلقات نارية معظمها من الخلف وهم يركضون , وبالرغم من أن والدي كان جريحا بطلقة في الكتف خرجت من الصدر , جائه أحد المرتزقة وهم بأطلاق النار لأتمام العملية , لولا أن الله أرسل ملاك الرحمة, وقال له منددا :- "هذه ليست رجولة منك لتقتل مصابا على شفى الموت " . وذلك كان أول أضراب عمالي في منتصف أربعينيات القرن الماضي لما تم تخليده ( بأحداث كاورباغي) وترجمة الأسم :- كاور = كافر , وباغي= حديقة , وأيضا كان أهالي القلعة الغير المسلمين مدللين بأسم محبب :- قلعة كاووريه ( أي كفار القلعة ) ومعظمهم من الكلدان من السكان الأصليين من الأصل البابلي , وبعد حرب 1948 وقيام دولة أسرائيل , أصبح اليهود بصورة خاصة , منبوذين وخاصة من الشباب المغرر بهم ويتم ضربهم بالحجر على رؤوسهم وهم يرددون( باشينيه قريم ) أي أكسر رأسه بالحجر, الحجر الذي كان يتغنى به سابقا كصديق وتحول الصديق الى العدو !!.., وما أشبه اليوم بالبارحة !!!..
ولا أزال أتذكر وكنت صبي بعمر أربع سنوات , ذلك الفتى اليهودي وهو يركض والدماء تسيل من رأسه وضفائر شعره ترقص في الهواء , لينجو بحياته من تلك الأحجار الصديقة !!..( هذه من ذكريات الطفولة التي تم نحتها في ذاكرتي) . وبعد ثورة 14 تموز 1958 وبعد تأميم شركة النفط وأصبحت عراقية أصلية , حاولت السلطات المحلية تخليد (كاورباغي) , بتمثال لعامل وفي يده عريضة , وبعد نصبه على منصة عالية , في الشارع المؤدي الى المستشفى المركزي على طريق محطة القطار , حيث بقى التمثال مغطى لفترة طويلة وبعد طول أنتظار , وخلال أحتفال شعبي مهيب لذكرى هؤلاء الشهداء , ولكن الصدمة والدهشة كانت أثناء أزاحة الستار عن التمثال الهزيل , وكأنه مصنوع من الطين , بيد أحد الهواة الغير المهرة , ومن حسن الحظ تم أزالته بعد أن تزايدت الشكاوى من المواطنين لتدنيس تلك الحادثة التاريخية بذلك التمثال الهزيل !!.. بعد سنوات طويلة من الغربة منذ أكثر من ربع قرن من الزمان , قررت أن أزور مسقط رأسي وأسير على تلك الدروب وأحاول التعرف على تلك الأمكنة , والتي لم تقم لها قائمة غير مرتفعات ترابية وأحجار مكدسة ومناطق معظمها مهجورة , عدا بعض العوائل التي تشبثت ببيوت عشوائية ولكن المسجد لايزال قائما بمنارته ولم يخيب ظني ذلك اللقلق , حيث كان كعهده السابق لايزال قائما ومنتصبا على قدم واحدة , وكأنه تمثال منصوب فوق المنارة منذ القدم .
يتبع ولو الى حين ...
( وحبذا لو تم أضافة من القراء والكركوكليين وخاصة الأستاذ نادر قريط الذي عمل وعاش هناك لفترة , ولأثراء الموضوع , وشكرا )
#أيوب_عيسى_أوغنا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟