|
ثورات الربيع العربي ما بعد -المستنقع-الراكد
بطرس حلّاق
الحوار المتمدن-العدد: 4247 - 2013 / 10 / 16 - 00:33
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
مهما تعددت التسميات التي أُطلقت على مجمل الاحتجاجات الشعبية في العالم العربي منذ شهر كانون أوّل من عام 2010 في تونس بأنها تعبير عن "ثورات عربية" أو "انتفاضات عربية" أو "يقظة عربية" فإنه يمكن وضعها اصطلاحاً تحت عنوان "الربيع العربي" بالمقارنة مع تعبير "ربيع الشعوب" الذي جرى إطلاقه عام 1848 . والمقصود هو حركات الاحتجاج التي عمّت مختلف بلدان القارّة الأوروبية حيث أسماها البعض "ثورات الشعوب". لقد جرى قمع تلك الحركات الاحتجاجية بالحديد والنار من قبل الأنظمة السائدة آنذاك ولكنها حملت في أعماقها بذور تغييرات كبيرة في أوروبا لم يكن أقلّها أهمية توحيد الأمة الألمانية عام 1871.
انطلقت حركات ما أصبح يتم التعبير عنه بـ "الربيع العربي " يوم 17 كانون أوّل ـ ديسمبر من عام 2010 عندما أضرم الشاب التونسي محمد البوعزيزي، تاجر الخضار المتجوّل، النار في نفسه احتجاجاً على منعه من ممارسة عمله وتأمين قوت أمّه وأخوته. عمّت المظاهرات تونس وفرّ بن علي إلى المملكة العربية السعودية لاجئاً بعد 23 سنة كان فيها على رأس السلطة. وبتاريخ 25 كانون الثاني ـ يناير من عام 2011 انطلقت أول المظاهرات الكبرى وتبعها "احتلال" ميدان التحرير بالقاهرة من قبل المحتجّين. وانتهى الأمر بالرئيس المصري السابق حسني مبارك بالرحيل عن السلطة. للتذكير لم يشارك الأخوان المسلمون المصريون في المظاهرات الشعبية الاحتجاجية إلا بعد عشرة أيام من انطلاقها. وبتاريخ 17 فبراير عرفت ليبيا موجة الاحتجاجات الشعبية الكبرى ضد معمّر القذّافي التي انتهت بمقتله. وفي الخامس عشر من شهر آذار ـ مارس من عام 2011 انطلقت مظاهرات شعبية في سورية تطالب بالحريّة في مدينة درعا. وبعد أكثر من عامين سقط عشرات الآلاف من الضحايا المدنيين والعسكريين وآلة العنف والقتل تزيد الخسائر والدمار كل يوم. كان ما فعله محمّد البوعزيزي الشاب التونسي العاطل عن العمل والباحث عن وسيلة لكسب قوت حياته وتأمين سبل العيش لأسرته، مثل الملايين من الشباب في مختلف أرجاء العالم العربي، كان بمثابة الشرارة التي أولعت الحريق الكبير. لم تكتفِ السلطة بمنعه من ممارسة تجارة متواضعة على عربة بل تلقّى صفعة من امرأة من شرطة بلدية مدينته. هكذا تلازم منع كسب الرزق مع الإذلال الإنساني بتعبيره السلطوي. ملايين التونسيين وغيرهم من أبناء الشعوب العربية أحسّوا أنهم معنيون مباشرة بما جرى للبوعزيزي ونزلوا إلى الشوارع احتجاجاً وانتقاماً له... ولهم أيضاً بالوقت نفسه. وما جرى يمكن رؤيته كنوع من اللقاء بين سياق موضوعي لمعاناة شعب وحدث فجّر الغضب الشعبي في لحظة تاريخية معيّنة فكانت الانتفاضة "ذات الطبيعة الثورية" التي كانت تبدو بعيدة عن الأذهان عامّة. إنها اللحظة التي فتحت الطريق أمام الكثير من الإمكانيات والاحتمالات. ومثل هذه اللحظات تتفرّد دائما بأشكال تبدّيها بحيث أنها لا تكرر ما جرى في الماضي. الخصوصيات التاريخية والاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية تولّد طرقاً متباينة في التعبير وفي الاحتجاج؛ هذا بالرغم عن الاشتراك عامّة في الأهداف التي تسعى الشعوب من أجل تحقيقها.
تجدر الإشارة أن الحراك الشعبي العربي الحالي له جذوره حيث يذكّر بمحاولات سابقة في المشرق منها "ثورة" طانيوس شاهين وعرابي باشا. ذلك من حيث المنبت الشعبي لتلك الانتفاضات التي لم تنل ما تستحقه من اهتمام الباحثين والمؤرخين العرب.
حراك "شبابي"
لعب الحراك الشبابي دور الصاعق في تفجير أوضاع كانت مهيّأة للانفجار. ولو لم يكن الأمر كذلك كان إضرام الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار بنفسه قد مرّ كأحد الأحداث "المتفرّقة" قد يأتي، وقد لا يأتي، ذكره في الصحافة المختصّة. لكن ذلك الفعل وجد صداه الفوري والمباشر لدى مجموعات اجتماعية كبيرة وجدت أنها تعاني من نفس الأسباب على خلفية حالة التهميش و"التغييب" التي دفعتها سلطة القمع والاستغلال الحاكمة إليها فانتفضت لتعلن أنها "موجودة". لم يكن الحراك الشعبي في تونس وغيرها من بلدان "الربيع العربي" موجّهاً ضد الامبريالية ولا الاستعمار ولا ضد السياسات الخارجية للدول ولكنه تركّز حول هدف واحد هو إسقاط السلطات القائمة واستعادة الحقوق وسبل العيش الكريم مثل هذه الدينامية في الحراك الشعبي عرفتها المسيرة الإنسانية كلّها يشرح الفيلسوف الان باديو بإسهاب في كتابه الصادر بعد انتفاضة الشعب التونسي تحت عنوان "استيقاظ التاريخ". لعلّ من أهم ميزات الحراك الشعبي الشبابي أنه لم يكن خاضعاً عند انطلاقته للقيادات الحزبية وبالتالي كان بعيداً عن حساباتها، ولم تكن له قيادات معروفة ومكرّسة بل عدد من الأسماء التي لم يسمع بها أحد من قبل غير دوائر ضيّقة محدودة. واستطاع الشباب، والشعب عامّة، إثبات وجودهم على ساحة الفعل في بلدانهم. ويمكن بهذا الصدد المقارنة مع ما كانت قد عرفته "كومونة باريس" عام 1871 التي استمرّت شهرين قام المعتصمون أثناءها بنوع من الإدارة الذاتية للمدينة. وكان أولئك الشباب على وعي تام بأنهم محطّ أنظار العالم الذي كان ينظر بإعجاب إلى شجاعتهم، مما عزز من إحساسهم بأهميّة ما يقومون به. هذا ما يعبر عنه بوضوح ما نقلته الصحافة عن أحد الشباب في ميدان التحرير أثناء الانتفاضة المصرية عندما قال: "من قبل كنت أشاهد التلفزيون، الآن التلفزيون هو الذي يشاهدني".
وما جرى في تونس يجد صداه في بقية البلدان العربية التي شهدت حراكاً شعبياً وانتفاضات ليس بـ "العدوى"، ولكن بفعل تشابه السلطات الاستبدادية والتهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. إن نفس الأسباب أدّت إلى نفس النتائج. بدأت الاحتجاجات من قبل أقلّية في جميع الحالات ولكنها عبّرت في الواقع عن أغلبية الشعوب المعنيّة مهما تباينت ردّات الفعل حيالها والتعبير عن مدى المشاركة، أو عدم المشاركة، الفاعلة فيها. بكل الحالات أيضاً كان الحراك الشعبي سياسياً في جوهره وسلمياً في بداياته لكن بدون برنامج محدد للذين حملوا شعلته "الثورية". هذا لا ينتقص أبداً من قيمة هذا الحراك الشبابي الذي شارك فيه طلبة وعمّال ومثقفون وعلمانيون ومتدينون ورجال ونساء جمعهم كلّهم البحث عن الحريّة والمساواة تحت سقف المواطنة وعن أفق مفتوح بدل الطريق المسدود في وجه مستقبلهم. في المحصّلة تتمثل فرادة الحراك الشعبي الذي شهده، ويشهده، العالم العربي أنه انطلق من الشعب وخاصّة من الشرائح الشبابية فتياناً وفتيات لأول مرّة، ومن خارج الأحزاب التقليدية تحت عنوان الحريّة العريض والمطالبة بحقوق المواطنة. وتبقى المواطنة المطلوبة تقتضي بالضرورة وضع الدولة في خدمة الشعب وتحت تصرّفه، أي تبنيّ في الواقع العربي منظومة ديمقراطية "عملية" لا تستند فقط إلى المفاهيم السائدة للعلمانية والثورة بالمعنى التقليدي بل الاعتراف بكافة مكوّنات الشعب انطلاقاً من الحريّة الفردية المطلوب تنميتها بشتى الوسائل حيث أنها تمثّل القضية المركزية للحراك الشعبي العربي ولمستقبله. وبدون وجود المواطن ـ الفرد الحر سيبقى المستقبل مسدوداً أمام مسيرة التقدّم الحقيقي. بالطبع لن يكون من السهل إرساء أسس ثقافة ديمقراطية يكون احترام الشخص الإنساني وأفكار الآخر جوهرها. وغياب مثل هذه الثقافة يكرّسه غياب المؤسسات الديمقراطية. ومن التبسيط المخلّ في هذا السياق القول إن هناك تنافراً لا يسمح بالجمع بين المعتقد الإسلامي والديمقراطية. ذلك أن التجربتين التركية والاندونيسية تثبتان عكس ذلك.
سلطات "جديدة"
"الشعب يريد إسقاط النظام". و"الشعب يستطيع إسقاط النظام،أي نظام". لكن ماذا بعد ذلك؟. هذا هو السؤال الأهم. ما ُتثبته دروس التاريخ كلّه هو أن المهمّة الأصعب في مسيرات الثورات ليست إسقاط الأنظمة السائدة ولكن بناء أنظمة جديدة تقطع مع الماضي ومع مختلف أشكال الاستبداد التي كانت سائدة فيه وتفتح بالمقابل آفاق الحريّة. ولا ننسى أن الثورة الفرنسية، رغم عراقتها، أعقبتها فترة عُرفت بـ "سنوات الرعب" ثم عاد النظام القديم ممثلا بالإمبراطورية وكان لا بد من "ثورة ثانية" وإرساء أسس الجمهورية الفرنسية. وما تثبته دروس التاريخ أيضاً هو أنّ بناء أنظمة جديدة تحدث قطيعة نهائية مع المنظومات السابقة يجري بالأحرى في "الزمن الطويل" وليس في انقلابات "سحرية" تغيّر طبيعة الأنظمة بين ليلة وضحاها، وليس هناك تحوّلات سريعة في التاريخ فالجديد يولد بالضرورة في رحم القديم وهناك "فترة انتقال" طويلة بين الأفول التام للقديم والولادة النهائية للجديد. ذلك أن هناك قوى سياسية محافظة عديدة "تقاوم" أي انتقال حقيقي على خلفية قناعتها أن ذلك قد يكون بداية نهايتها. بهذا المعني كان المؤرّخ الفرنسي الشهير "فرنان بروديل" قد بنى أطروحته حول تطوّر المنظومات الاجتماعية على أساس مبدأ التطوّر التاريخي "خلال المدى الطويل" بفعل عوامل متعددة بعيدة عن التغيرات اللحظية. القول بالتبدّل الفوري "الثوري" هو بالأحرى ضرب من الأوهام والأفكار "الطوباوية"؛ هذا دون التقليل من أهميّة هذه الأفكار ذات الطابع الإنساني رغم أنها لا تتغذّى بمعطيات الواقع. هناك جملة شهيرة للفيلسوف "بول ريكور" تقول ما مفاده: "يمكن للمجتمع أن يعمل دون إيديولوجيات ولكن ليس دون أفكار طوباوية". وبهذا المعنى أيضاً يواجه الحراك الشعبي العربي آلام الولادة العسيرة لأفق تحرري هو بصدد محاولة التوجّه نحوه. وسيكون عليه مهمات صعبة أيضاً ليس أقلّها صعوبة تعلّم ممارسة الحريّة في إطار بنى اجتماعية لا تزال تفعل بداخلها، بل وتحكمها إلى حد كبير، علاقات الولاء القومي والطائفي والإتني والقبلي وما دون ذلك في أحيان كثيرة.
البديل الراهن
الأنظمة التي وصلت إلى السلطة في بلدان ما سمي بـ "الربيع العربي" اتسمت عامّة بطبيعة شمولية وانتمائها لما يُطلق عليه تسمية "الإسلام السياسي"خاصّة بنسخته المصرية المتمثلّة في "الإخوان المسلمين" والتونسية بـ "حركة النهضة". وقد كانت قواها، بطبيعتها أيضاً، بعيدة عن أي مشروع ثوري مجتمعي واضح يقوم بقطيعة حقيقية مع الماضي ويفتح الأفق نحو تغيّر حقيقي سياسي واقتصادي واجتماعي. لكن ليس من السهل قبول المقولة الشائعة بأن "الشتاء الإسلامي" قد أعقب "الربيع العربي"، كما جاء في تعليقات العديد من المراقبين الغربيين بعد النجاح الانتخابي للإسلاميين في كل من تونس ومصر وبروز المعارضة الإسلامية المسلّحة في سورية والجنوح نحو أفق مجابهات على خلفية طائفية. ذلك أن الواقع أكثر تعقيداً بكثير من مثل هذا التبسيط المخلّ. إن الأمل الذي خلقته بوادر "الربيع العربي" هو حقيقة وليس وهماً. وجدار الخوف الذي أشادته قوى التسلّط الأمني والقمع الحاضر في مختلف تفاصيل حياة بشر العالم العربي قد انكسر. ولا يقلل من أهميّة ذلك بروز أشكال جديدة من الخوف ليس أقلّها الخوف من الفوضى ومن الحروب الأهلية في ظل انقسامات "عمودية" تهدد الوحدة الوطنية لبعض البلدان ووحدة أراضيها، كما هو الحال في الحالة السورية. لقد أصبح معلوماً أن الإسلاميين الذين تُطلق عليهم صفة "المعتدلين" قد "انتصروا" في الانتخابات التي شهدتها تونس ومصر. وبدا من الواضح أيضاً أنهم، رغم الوعود التي قطعوها، يلجأون إلى تبنّي آليات السيطرة على المجتمع بالتوازي مع السيطرة على مؤسسات الدولة. هذا يعني أن القوى التي تتبنّى مثل هذه الإيديولوجية المحافظة بطبيعتها هي بصدد الذهاب في الاتجاه المعاكس لتطلعات الحراك الشعبي وما يمكن تسميته بـ "ثورته". إن الترجمة المباشرة لمثل هذا التوجّه الصريح في كل من تونس ومصر تكمن عملياً في إبعاد واستبعاد صانعي الحراك الشعبي عن سلطة القرار وبالتالي إبعاد أفق الانتقال السياسي. هذا يعني، فيما يعنيه، لعب دور ينضوي تحت خانة "الثورة المضادة"، لكن من موقع السلطة وباسم "الثورة" نفسها هذه المرّة. المهمةّ الأساسية التي وضعتها الأنظمة الجديدة تمثّلت في هيمنتها على الحياة العامّة في بلدانها وعلى مؤسسات الدولة وتوظيفها لخدمة مشروعها السياسي عبر صياغة وتبنّي دساتير تتماشى مع إيديولوجيتها ولو كان ذلك عبر صناديق الاقتراع مستفيدة من تقهقر الحياة السياسية لقوى التقدّم في ظل أنظمة استبدادية استأثرت بالسلطة المطلقة على مدى عقود عديدة. لقد كانت مثالاً بليغاً لـ"سلطة فوق الدولة" بامتياز. سلطة "ابتلعت" الدولة التي يُفترض فيها أن ترعى مصالح الشعوب وليس الحكّام أو مصالح فئات قليلة قريبة منها .وتباين دور الجيش من حالة إلى أخرى، ففي تونس كان موقفه "المعلن" هو الوقوف على "الحياد" ورفض المشاركة في قمع الانتفاضة الشعبية ـ وفي مصر تولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة مهمّة تسيير أمور الدولة وممارسة السلطة فعلياً على مدى عدّة شهور بعد رحيل الرئيس السابق حسني مبارك. لكن ذلك المجلس لم يكن أكثر من "نمر من ورق"، حسب التعبير الشهير للزعيم الصيني الأسبق ماوتسي تونغ. ذلك أن الرئيس محمد مرسي استطاع بدون عناء أو اعتراض حقيقي التخلّص من الرمزين الأساسيين لذلك المجلس أي وزير الدفاع حسين طنطاوي ورئيس أركان الجيش سامي عنان. وتحت خانة "أولوية الاستقرار" تمارس الأنظمة البديلة القائمة نفس سياسات الأنظمة التي حلّت مكانها. وهذا ما يشكل نكوصاً واضحاً نحو ممارسة الاستبداد وقمع الحريات الفردية والجماعية. وخبت بالمقابل الكثير من الآمال التي أبرزها الحراك الشعبي عند انطلاقته. الأمثلة على التقهقر نحو ممارسات الأنظمة السابقة تبدو بوضوح في الكثير من إجراءات التمييز والتضييق على الحريات. إن الكثير من الممارسات التي تعرفها كل من مصر وتونس تشير إلى أن الأنظمة البديلة الراهنة هي بصدد القيام بنوع من إعادة إنتاج آليات الأنظمة السابقة "البائدة". ومثال استدعاء الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف للتحقيق، بحجة الإساءة للرئيس وللإسلام، له قيمة دلالية واضحة في هذا الإطار. مجرّد مثال في سلسلة طويلة من الأمثلة تصبّ كلّها في طاحونة ما يمكن تسميته بـ "الثورة المضادة".
...وإلى أين؟
إن ما تم وضعه تحت خانة "الثورات العربية" قد لا يذهب أبعد من نوع من الانقلابات التي تستبدل نظاماً بنظام آخر وتبعية بتبعية أخرى و ولاءات بدلاً من ولاءات سابقة، والانتقال من منظومة إقليمية أو دولية نحو منظومة أخرى. هذا إذا لم تستطع صياغة وتبنّي عقد اجتماعي جديد في مضمونه بحيث يؤسس لنظام يصون الحقوق الاقتصادية والحريات الفردية والعامّة بعيداً عن كل أشكال الاستبداد ويحقق المساواة بضمان الدستور. وشرط آخر لا يمكن لأي حراك شعبي أن حقق ثورة إلا إذا امتلك إرادة مستقلة بعيداً عن أي ارتهان لقوى خارجية سيكون همّها الأول والأساسي هو تحقيق مصالحها. ومثل هذا الواقع لا يزال بعيداً وبالتالي يبدو بوضوح أن الانتقال السياسي الفعلي والواقعي في بلدان الربيع العربي لا يزال بعيداً جداً والطريق في غاية الوعورة.
ومن أكبر المخاطر التي قد تؤدّي إلى إجهاض الحراك الشعبي العربي الاعتماد على الخارج والدخول في حسابات القوى الإقليمية والدولية التي لا تصبّ، ولا يمكن أن تصب، إلا في مصالح تلك القوى. هذا فضلاً عن الشروخ التي قد تترتب على الدور الخارجي في تشتت المعارضة السياسية وبروز شخصيات مريبة تطمح للوصول إلى السلطة. من الملفت للانتباه أن الفيلسوف الفرنسي الان باديو اعتبر الحراك الشعبي العربي ذا الطبيعة الثورية بمثابة درس ينبغي أن يتعلّم منه العالم كلّه، وخاصّة العالم الغربي. هذا ما عبّر عنه منذ شهر شباط ـ فبراير من عام 2011 عندما كتب في مقال له بصحيفة "لوموند" الفرنسية ما مفاده : "علينا أن نكون تلامذة لهذه الحركات وليس أساتذتها الأغبياء". لقد قالت جموع المنتفضين في وجه السلطة الاستبدادية وأجهزتها القمعية إنها موجودة وليست غائبة ،كما أُريد لها، ولا شيء يمكن أن يمنعها من التعبير عن مواقفها. وكان إثبات وجودها هو عنوان انتصارها الأوّل. وهناك ما يسمح بالاعتقاد الجازم أن الحراك الشعبي ذا الطبيعة الثورية الذي بدأ في نهاية عام 2010 بتونس مرشّح للاستمرار. هذا ما عبّر عنه جان بيير فيليو، أستاذ العلوم السياسية في باريس، في كتابه "الثورة العربية، عشرة دروس حول الانتفاضة الديمقراطية"، بما مفاده: "سوف يمر وقت مديد قبل أن تقوم أنظمة تتسم بالدوام. هذه المجتمعات تخرج من تجربة أليمة مؤلمة استمرّت خمسة عقود من الدكتاتورية". ويشرح أن المجتمعات العربية تعيد بناء نفسها "من أسفل". ذلك على عكس مجتمعات أوروبا الشرقية بعد انهيار جدار برلين عام 1989 التي أُعيد بناؤها "من أعلى"؛ ومجتمعات أميركا اللاتينية التي جددت من بنيتها عبر اندماج "العسكر" في اللعبة السياسية.
بهذا المعنى يمكن لحركات الاحتجاج التي عرفها العالم العربي أن تؤرّخ لمنعطف جديد على صعيد النضال التحرري عبر التأكيد على دور الشعوب في رسم مسارات تاريخها. وتأكيد آخر وصارخ أن التاريخ لم ينته،كما أطلق المفكر الأميركي ذو الأصل الياباني فرنسيس فوكوياما في أطروحته الشهيرة بعد انهيار جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفييتي ومعه المنظومة الاشتراكية. ذلك على أساس أن الليبرالية انتصرت على الاشتراكية مرّة جديدة، وكل مرّة إلى الأبد. التاريخ لم ينته وما بدا مستنقعاً جامداً في الأوضاع العربية تحوّل إلى بحيرة هائجة تتلاعب فيها الأمواج المتنوّعة بدون شك، ولكنها بداية تؤسس لما بعد "المستنقع" وليس هناك ما يسمح بالقول إن الملايين الشعبية التي كسرت حاجز خوفها حيال سلطة اختزلت مصيرها إلى مجرّد أدوات لتعزيز سطوتها ستقبل أن تكون أسيرته من جديد. ما أثبتته هذه الملايين، وفيما هو أبعد من المسارات التي ذهبت إليها حركتها لاحقاً بفعل حسابات السياسة وتلاعبها بالواقع وأشكال التدخّل الخارجي، هو أن الشعوب قادرة دائماً على الفعل مهما كانت درجة القمع والتسلّط التي تمارَس عليها...ومهما بلغت أدوات ذلك من سيطرة على الحياة العامّة. والدرس الذي أثبتته دروس التاريخ ولا ينبغي أبداً نسيانه هو أن الشعوب وحدها هي التي تكتب تاريخها وتساهم عبر ذلك في كتابة تاريخ العالم الأشمل، الكوني. وهل يمكن لأحد أن ينكر أن الألوف تجمّعوا واعتصموا في ميدان التحرير بالقاهرة قد ساهموا في كتابة تاريخ بلادهم وأن "ساحات تحرير" عديدة جرى تعميدها بهذه التسمية في الكثير من بلدان العالم. ولذا لا يستطيع المواطن العربي الحريص على مستقبل وطنه إلا العمل على استمرار جذوة هذا الحراك حتى لا تتمكّن المصالح الضيّقة، الداخلية قبل الخارجية، أن تحوّلها إلى رماد، كما فعلت بثورة طانيوس شاهين مثلاً، بل تجعل منها تتويجاً لها ولكل الثورات التي تألّبت عليها قوى الردّة. ولا شك أن المثقّفين، وبشكل أعمّ كافة النخب موضوعة الآن على المحك لتثبت جدارتها بالمسؤولية التي تتنطع إلى القيام بها.. علينا، نحن المثقفين، أيضاً أن ننتفض على قناعاتنا المتوارثة التي شلّت قدرتنا على الفعل في سبيل شعوبنا.
#بطرس_حلّاق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثورات الربيع العربي ما بعد -المستنقع-الراكد
المزيد.....
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
-
اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|