|
باي باي مناشير
فيصل القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1212 - 2005 / 5 / 29 - 11:11
المحور:
الصحافة والاعلام
الويل كل الويل لمن تسول له نفسه مزاحمة النظام أو الحزب العربي الحاكم في الاتصال بالجماهير والترويج لبضاعته السياسية . فهذا حكر على ما يُسمى بالدولة لا بل من الكبائر الكبرى وهو محرّم ليس فقط على العموم بل أيضا على الأحزاب الهزيلة الأخرى المفترض أنها "معارضة" ومشاركة في اللعبة السياسية لكنها ارتضت لنفسها أن تخرس وتخمد وتكون مجرد تابع ذليل وخادم مُزايد للحزب الحاكم مقابل منافع شخصية معينة وضيعة. لا أدري أي نوع من الديموقراطية هذا الذي يسمح بتعددية حزبية ثم يمنع بقية الأحزاب من النشاط السياسي والتعبوي داخل الجامعات والمدارس والمعاهد والمصانع والهيئات الشعبية. ولا أدري أين يمكن لأحزاب المعارضة أن تنشط إذا كان ممنوعا عليها التواجد في الأماكن التي تفهم في السياسة قليلا كالتجمعات الطلابية مثلا. هل تنشط في دورات المياه والسهول والوديان والأحراش بين الحيوانات المفترسة أو في دور البغاء مثلا لتسييس بائعات الهوى؟ لم يتركوا لها أي مكان لمزاولة نشاطها السياسي إلا في الغابات وفوق أعمدة الكهرباء. وبالتالي فقد كان يتحول هواة العمل السياسي الحقيقيون والمخلصون إلى النشاط السري، واعتاد النشطاء السياسيون في الماضي اللجوء إلى توزيع المنشورات بطريقة سرية جدا لإيصال أفكارهم ومشاريعهم من بعضهم البعض وإلى الناس. وكانوا يمضون وقتا طويلا في نقل المناشير من مكان إلى آخر تحت جنح الظلام كي لا تكشفهم كلاب المراقبة السياسية المتحكمة بالمسرح السياسي في معظم الدول العربية وتقطّعهم إربا إربا بأسنانها النتنة.
لقد كان توزيع المنشورات السياسية والحزبية عملية بطولية بكل المقاييس، وكم سمعت بعض المتحزبين العرب يتحدث بكثير من الانتشاء والنشوة عن فتوحاته العظيمة المتمثلة بوضع منشور تحت أوراق شجرة أو تحت حجر كي يأتي زميله وينقله إلى مكان آخر بالتتابع حتى يصل في نهاية المطاف إلى بقية "المناضلين" أو الناس. لكن هذا النشاط السياسي والإعلامي كان جريمة لا تغتفر، فقد أمضى ممارسوه عشرات السنين وراء القضبان في غياهب السجون العربية الغراء. بيد أن الزمن الأول تحول.
كم أصبح سهلا ويسيرا العمل السياسي المعارض هذه الأيام، فهو أسهل من شرب الماء بفضل ثورة المعلومات والاتصالات. فقد حدثني أحد المعارضين العرب ذات مرة أن جماعته كانت تحتاج أحيانا إلى ستة أشهر لإيصال خبر ما إلى الناس. لكن الأمور بدأت تتيسر أكثر فأكثر عندما ظهر جهاز الفاكس، فأخذت بعض الجماعات تستخدمه لإرسال آلاف المناشير من الخارج إلى الجماهير في بلد معين. وأثبت هذا التكتيك على بساطته نجاعة كبرى جعلت بعض الدول تتملل خوفا من تأثيره على المتلقين. لكن الخوف زاد أضعافا مضاعفة لدى بعض الأنظمة الحاكمة عند ظهور وسائل اتصال أسرع وأكثر تأثيرا. ولا اقصد الفضائيات أو الراديو هنا لأن تلك الوسيلتين محكومتان بقيود كثيرة كونهما تخضعان لقوانين وشروط البلدان التي تبثان منها. ما اقصده هو الانترنت تحديدا التي وفرت لمستخدميها مساحة تحرك وحرية لم يحلموا بها من قبل. فقد حولت الإنترنت بفضل هُلاميتها مثلا كل إنسان إلى ناشر وموزع للمناشير بعد أن كان مجرد حمل منشور سياسي ما جرما خطيرا.
ودعوني هنا أختلف تماما مع الذين يهزءون مما يسمونهم بمعارضي الانترنت. فهؤلاء المعارضون أصبحوا يشكلون قوة لا يستهان بها وهم في تصاعد مستمر مع ازدياد عدد المشتركين في خدمة الشبكة الدولية . فبالرغم من ارتفاع نفقات هذه الخدمة وصعوبة الحصول على جهاز كومبيوتر في بعض البلدان إلا أن جماعات المعارضة في الداخل والخارج بدأت تلتف على هذا الأمر بأن يساهم عدد من الأشخاص في حساب انترنت واحد ومن ثم يتناوبون على استخدامه كل حسب دوره. يحدث هذا مثلا في بعض دول المغرب العربي.
صحيح أن بعض الدول العربية تأهبت منذ البداية لكبح جماح هذا القادم الجديد المسمى الانترنت. فبعضها مثلا اشترى أجهزة متطورة جدا بملايين الدولارات لمراقبة وحجب مواقع الانترنت التي تعتبرها معادية. وقد سمعت من أحدهم أن إحدى الدول العربية التسلطية دفعت أكثر من عشرين مليون دولار للحصول على تلك الأجهزة الكومبيوترية العملاقة بينما يتضور الآلاف من شعبها جوعا ولا يجدون ما يسترون به مؤخراتهم العارية. زد على ذلك أن بعض الدول العربية أصبح لديها أجهزة أمنية خاصة لمراقبة الانترنت ومستخدميها. لكن كل هذه المحاولات الفاشلة لا تستطيع أن تقف في وجه هذا الطوفان الإعلامي الجديد مهما أنفقوا من ملايين، فمستخدمو الانترنت يزدادون بالألوف حتى في العالم العربي الذي يعتبر أكثر بقاع الأرض تخلفا في استخدام الكومبيوتر والشبكة الدولية، فحسب تقرير التنمية البشرية الأخير الصادر عن الأمم المتحدة فإن ستة ملايين عربي فقط من أصل حوالي ثلاثمائة مليون نسمة يستخدمون الكومبيوتر. لكن الرقم في تصاعد.
ولا ننسى أن هناك ملايين العرب المغتربين في أوروبا وأمريكا وبقية بقاع العالم، فنسبة هائلة من هؤلاء تمتلك الكومبيوتر ولديها اشتراكات في شبكة الانترنت نظرا لانتشارها بشكل هائل، ففي أمريكا مثلا يدخل إلى الانترنت أكثر من خمسة وسبعين بالمائة من السكان. ولا ننسى أيضا أن جماعات المعارضة العربية في الخارج بدأت تعتمد اعتمادا كبيرا على الانترنت في التحريض على الأنظمة الحاكمة ونشر برامجها ومشاريعها وبياناتها السياسية البديلة مما اضطر بعض البلدان إلى حجب المواقع والصحف الالكترونية المعارضة، لكن الشعوب التائقة إلى الحقيقة والكلمة النظيفة داخل هذا الوطن العربي المكبل تعرف كيف تحبط ألاعيب وقيود الأنظمة على مواقع الانترنت، فكم اندهشت عندما سمعت بعض الأشخاص في بعض الدول العربية يقولون لي إنهم قرأوا هذا أو ذاك الخبر على الموقع الفلاني فقلت لهم، لكنه موقع محجوب، فقالوا لي وهل تعتقد هذه الحكومات العربية المتخلفة أنها أذكى منا، فنحن لدينا ألف وسيلة ووسيلة للوصول إلى مواقع المعارضة ومنشوراتها الالكترونية في الخارج.
لقد ولىّ زمان تكبد المخاطر والويلات لمجرد نقل منشور سياسي صغير من قرية إلى أخرى أو حتى من حي إلى آخر. إن بيانات جماعات المعارضة تظهر على الشبكة العنكبوتية الآن بسرعة البرق خارقة كل الحواجز والقيود والحدود لتصل إلى زوايا العالم الأربع بلمح البصر. وعلى ما يبدو هناك تضامن من نوع ما بين مستخدمي الشبكة، فهم دائما يرشدون بعضهم البعض إلى وسائل فك شفرات البروكسي للدخول إلى المواقع الممنوعة.
ولعل الأنكى من كل ذلك بالنسبة للحكام أن منتديات الانترنت بدأت تشهد نقاشات حامية جدا بالكلمة والصوت والصورة مما يثير الرعب في نفوس بعض الأنظمة الحاكمة، فهناك مثلا غرفة نقاش على البالتوك لإحدى المعارضات العربية تلقى رواجا منقطع النظير داخل إحدى الدول العربية، ناهيك عن المنتديات التي تتمادى إلى أقصى حد في إيذاء الأنظمة الحاكمة من خلال التهجم العنيف والصارخ أحيانا، فلم يعد مجرد نقد بسيط للحاكم من البطولات التاريخية، فقد بدأ البعض يشن هجمات تجريح عنيفة جدا ضد الحكام لا بل يتلذذون في هجائهم وسلخهم وفضحهم. فالحاكم العربي صاحب عشرات الألقاب الفخمة و"الطنانة" لم يعد مقدسا بل مدنسا في منتديات الانترنت. وبينما كان مجرد التلميح إلى الحاكم جريمة نكراء يختفي مقترفوها وراء الشمس أو يقضون نحبهم وراء القضبان، أصبح إذلاله وتسخيفه و"شرشحته" في غاية السهولة. وبما أن لدى الإنسان العربي إرثا طويلا من الكبت السياسي المقيم فإنه يبدو من خلال كتاباته في منتديات الانترنت كالوحش الضاري الخارج للتو من القفص يستمتع إلى أقصى درجة بحريته المكتسبة حديثا. ولا داعي هنا لذكر الألقاب البديلة التي يغدقها معارضو الانترنت على الزعماء العرب. ومن الملاحظ أن أكثر المواقع شعبية هي تلك التي توفر لزائريها منتديات نقاشية. وقد أصبح من الصعب فعلا إحصاء عدد منتديات الحوار والنقاش على العربية الشبكة الدولية لكثرتها وتنوعها. وأبرز ما يميز هذه المنتديات مساحة الحرية وليس هامشها كما عودتنا الأنظمة العربية في مصطلحاتها. فبينما يتحدث العالم الديموقراطي عن الحرية كنا نحن العرب ومازلنا نتحدث عما نسميه هامش الحرية، لأن الحرية تُقدم لنا بالقطارة، لكن هذا المصطلح الرديء في طريقه إلى الاندثار والزوال من القاموس العربي السياسي بفضل تكنولوجيا المعلومات التي ألغت القيود على الفكر.
قد يقول قائل إنني متفائل أكثر من اللازم بمعارضة الانترنت، فهي ليست أكثر من مواقع للبذاءة والتنفيس في أحسن الأحوال وليس لها أي تأثير يُذكر على الأنظمة الحاكمة التي تتصرف كما لو أنها ما زالت تعيش في الستينات. وهذا غير صحيح، فالأنظمة العربية التي تبدو صماء لما يدور حولها تدرك أكثر منا جميعا أنها تخوض معركة خاسرة ضد الإعلام الحديث وعلى رأسه شبكة الانترنت وأنها مهزوزة في داخلها بالرغم من أنها قد تبدو قوية في الظاهر. فالنظام الذي يحارب موقعا الكترونيا بسيطا ويجند كلابه البوليسية ليل نهار ويبذر أموال الشعوب من أجل التصدي لموقع انترنت نظام متهاو أو آيل للسقوط. ولا ننسى أن بعض المواقع أصبحت تشكل صداعا مرعبا لبعض وزارات الداخلية العربية. فكما هو معلوم فإن ملف الإعلام بأيدي أجهزة الأمن لا بأيدي وزراء الإعلام في العالم العربي. فهم في معظم الأحيان مجرد شهود زور أو نواطير لا أكثر ولا أقل. لا عجب إذن أن نرى من يسمون أنفسهم بمسئولي الأمن الإعلامي يتقاطرون على تونس الخضراء بين الفينة والأخرى لتنسيق موقفهم المتناسقة أصلا في مواجهة الخطر الإعلامي الجديد الذي يقض مضاجعهم ليل نهار. وهناك مثل عربي بسيط قد يبعث الأمل والمثابرة في نفوس معارضي الانترنت. يقول المثل: " هناك ضربات قد لا تقتل لكنها "بتطووووووووووووش".
#فيصل_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعلام تدجيني Counter-Revolutionary
-
الروتين تنكيل منظم بالشعوب العربية
-
عندما يصبح -الشعب- خطراً على الديموقراطية والعالم
-
تنازل أكثر تحكم أطول!
-
كم أنتِ ناكرة للجميل أيتها الصهيونية!
-
الانطفاش الإعلاماواتي الحنكليشي
-
الحرس القديم .... يادادا
-
الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس
-
تدويل العرب!
-
بلادي وإن جارت علي لئيمة!
-
فيفا أوكرانيا...فيفا أوكرانيا!
-
الصفر الوطني والصفر الاستعماري
-
باي باي إصلاحات
-
متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|