|
قراءة في مسرحية -ثور فالارس- للكاتب والصحفي ماجد الخطيب
كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 4243 - 2013 / 10 / 12 - 13:36
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
الكتاب: مسرحية ثور فالارس الكاتب: ماجد الخطيب الطبعة: الأولى 2013 دار النشر: المطبعة والوراقة الوطنية مكان النشر: مراكش عدد الصفحات: 85 صفحة
صدرت في خريف هذا العام مسرحية جديدة للكاتب المسرحي والصحفي الأستاذ ماجد الخطيب، وهي المسرحية السابعة التي تصدر له خلال السنوات القليلة المنصرمة، والثانية في هاجسها المشروع المتنامي حول العلاقة بين المثقف والسلطة، وهو هاجس يهيمن على الغالبية العظمى من مثقفي ومثقفات العراق نتيجة العلاقة الملتبسة والمسيئة للثقافة والمثقفين والمثقفات التي تبذل النظم الحاكمة المستحيل لفرضها على الحياة الثقافية وعلى الفاعلين فيها بما في ذلك استخدام الحكومات القمعية لقاعدة "الهراوة والسكر" لإسكات أو تركيع المثقف والمثقفة، إذ أن كلا الاتجاهين قاتلان لحرية واستقلالية المبدعين والمبدعات فكرياً ولدورهم في الحياة الثقافية والعامة. وينطبق هذا الأمر على الشعراء والكتاب والعلماء والمبدعين في الفنون التشكيلية والمسرحية والسينمائية والموسيقية والغنائية من جهة، والمؤدية، في حالة نجاح الدكتاتوريات في الوصول إلى غايتها، إلى نشوء فجوة خطرة بين الفئة المثقفة والشعب وحضارته وتراثه ومصالحه وطموحاته التي يفترض أن يعبر عنها هؤلاء المبدعون جميعاً من جهة أخرى.
إن النص المسرحي الذي أمامنا هو نص درامي يحمل بامتياز عناصر البناء الدرامي الحديثة، وقد بذل في إنجازه النص جهداً كبيراً. تتسم أعمال الكاتب المبدع ماجد الخطيب بالجدية والدأب في التحري عما يساعده في تقديم عمل إبداعي يتسم بالجدية والحداثة والمعلومات التي تسهم في تطوير الثقافة العامة من جهة، ولكنها تهدف من جهة أخرى إلى معالجة إشكالية عامة معينة ومن جوانب مختلفة بحيث تمنحنا صورة لوحة بانورامية عن مسرح الأحداث وأجوائه وشخوصه. فالمعرفة الجيدة في أجواء القرن السادس قبل الميلاد والحياة الثقافية حينذاك والاقتراب الشديد من أدوار شخصيات فكرية وعلمية معروفة عالمياً وعلى نطاق واسع وكتب عنها وعن فلسفتها ونشاطها العملي الشيء الكثير هي التي سمحت للصديق الكاتب أن يتناول هذه الفترة وهذا الموضوع الحساس بالكتابة والتحليل. وهو اختيار مقصود، إذ إن تخلق لدى القارئ والقارئة تداعيات عن الفترات السابقة والحالية مما يسهم في رفع الوعي لما يجري في الواقع المعاش عراقياً أو عربياً على سبيل المثال لا الحصر. وعند قرائتي للنص شعرت بالمقاربة بين تاريخ تلك الأحداث ودراميتها والأحداث التي مرَّ بها العراق على مدى أكثر من خمسة عقود حتى الوقت الحاضر. وشكلت هذه المقاربة التاريخية من الناحيتين الفكرية-السياسية والجانب الدرامي للأحداث أهمية خاصة. أذاً النص المسرحي الذي نحن بصدده هو من جانب نص درامي ويحمل في تكوينه البنيوي الجانب الآخر الجانب الفكري والسياسي العملي. فهو بهذا المعنى نص درامي متميز، ومن جانب آخر نص يعالج مسألة فكرية سياسية كانت وما تزال ذات أهمية فائقة للمبدعين والمجتمع في آن. وأجد في النص ذاته إجابة شافية وافية إلى حدود بعيدة عن السؤال الكبير الذي كان وما يزال يدور في بال الكاتب ماجد الخطيب، إذ كتب ما يلي: "أتساءل منذ ثلاثين سنة، وما زلت أتساءل، وأنا على ثقة من أنني سأبقى أردد هذا السؤال حتى مماتي. ما الذي يدفع مبدعاً واعياً برسالته الفنية-الإنسانية إلى تسخير فنه لخدمة طاغية دموي. كيف تسنى للشاعر الفلاني أن يمجد قاتلاً يعاني من "النيكروفيليا"؟ ألم ترتجف يد فنان رقيق مثل بيريليوس وهو ينحت الثور النحاسي الهائل ويهديه إلى فالارس بل كيف تفتق ذهنه عن هذه الوحشية، بمعنى أن يزود الثور بنظام موسيقي يحول صرخات المشوي داخله إلى موسيقى يرقص عليها الملك؟ "النيكروفيليا (Necrophilia) مصطلح يستخدم لوصف احد أنواع الاضطراب والشذوذ الجنسي (Paraphilia ) المتمثل في الانجذاب جنسيا نحو جثث الموتى. هذا الانجذاب قد يكون تخيليا فقط أو قد ينطوي على اتصال جسدي حقيقي...". (أياد العطار، "نيكروفيليا .. الجنس مع الموتى (1) موقع كابوس). وبمعنى أخر إنه عشق الموت وشذوذ نكاح الموتى، ك.ح). أشار الأخ ماجد الخطيب إلى وجود دراسة تحليلية قيمة للأستاذ الطيب الذكر غالب هسا عن عاشق الموت الذي شبهه بصدام حسين. سأحاول في هذه المقالة أن أتطرق إلى الجانبين الفكري والدرامي المتلازمين والمتكاملين. لا شك في إن الأسئلة التي يطرحها الكاتب مهمة جداً وتستحق المزيد من البحوث في مجال علم النفس الاجتماعي، ولا في أن من مرّ بتجارب حياتية معينة عايش بعض المناضلين الشجعان الذين صمدوا تحت سياط الجلادين ولكنهم في لحظة معينة انهاروا تماماً وراحوا يبدعون في إيذاء رفاقهم الذين ناضلوا معهم. لقد مررت بتجارب من هذا النوع والتقيت بالبعض من هؤلاء ويمكن البحث في الحالة النفسية للشخص، سواء أكان شاعراً أم فناناً تشكيلياً أم مسرحياً، أم إنساناً اعتيادياً. وربما سأكتب عن بعض التجارب في هذا الصدد في محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة المهمة، وهي لن تكون إجابات نهائية ولا مطلقة بأي حال. هذا هو النص المسرحي الثاني الذي يقدمه لنا ماجد الخطيب حول هذا الموضوع المهم وهو بعنوان "ثور فالارس"، في حين كان عنوان النص المسرحي الأول "عاشق الظلام"، الذي دار موضوعه حول ذات العلاقة بين السلطة والمثقف، إذ اختار الكاتب شخصية أدبية مميزة في الثقافة العراقية، في الشعر والكتابة الصحفية وله تراث وتاريخ نضالي تقدمي يشار له بالبنان والذي تحول بفعل تلك العلاقة التي فرضها الحاكم الجلاد على المحكوم الضحية، على الشاعر بالهراوة المصحوبة بالسكر، إلى شاعر يمدح الجلاد وأفعاله الدنيئة وحروبه الدامية ويسعى إلى تمجيده وتقديسه!!! لم تكن هذه الشخصية، الشاعر، هي النموذج الوحيد في هذا السقوط الدرامي، بل كان هناك العديد من الشخصيات الأخرى التي عاشت وضعاً دراميا مماثلاً. اختار الكاتب واحداً من هذه النماذج ليكون عينة كانت الأكثر فداحة لتلك العلاقة بين الجلاد والضحية التي خضعت لإرادة الجلاد وتبعته وسارت في ركابه وروجت لمفاهيمه بعد التخلي، قهراً أو عجزاً أو رغبة أو لأي سبب كان، عن مبادئه ومفاهيمه وعقلانيته السابقة وفلسفته في الحياة والنضال والثقافة ودور كل ذلك في حياته وحياة المجتمع. لقد تابعت في "عاشق الظلام" حواراً مهماً ومتماسكاً يشد القارئ والقارئة إليه وينقله ليصل به إلى الحدث الدرامي، إلى لحظة تحول هذا الشاعر الرقيق من مواقعه المبدئية والوطنية والتقدمية السابقة إلى سقوطه في مستنقع الانتهازية وخيانة قضية الشعب ودفاعه عن الحرب والقتل والتدمير، دفاعاً عن الدكتاتورية. إنه الحدث الأكثر درامية، أو الخطأ المأساوي الذي كان يعرف الشاعر إنه سيصل الأمر به إلى هذا الدرك إن سار على "درب الصد ما رد" الذي دفعه النظام الدكتاتوري إليه, وهو مشابه للخطأ المأساوي الذي ارتكبه أوديب والذي أطلق عليه بـ "مأساة أوديب".
منذ نشوء الدولة ومؤسساتها، وخاصة سلطتها التنفيذية، برزت ظاهرة الصراع بين المثقف والمثقفة من جهة، والحكم من جهة أخرى. وبرز من حيث المبدأ صراع بين تيارين أو اتجاهين متصارعين، يتوزع الاتجاه الأول صوب المحافظة والجمود على ما كان عليه ويبشر بأن "ليس بالإمكان أبدع مما كان"، واتجاه آخر ينزع للتغيير والتقدم ويبشر بالتقدم وتحقيق الأفضل ويرى بأن الجمود والمحافظة لا يستقيمان مع مفهوم الحياة وحركة الزمن المستدامة. هذا الانقسام ما يزال قائماً وفاعلاً في كل المجتمعات. ولكن الانقسام الأخطر برز وما يزال يفعل في الصراع بين المثقف والسلطة، حين لعبت أو تلعب السلطة دورها في كسب جمهرة من المثقفين، وفي فترة لاحقة حين تكونت جمهرة من المثقفات في الدول النامية، ومنها العراق، إلى جانب الحكم وإبعادها عن المعارضة، في حين ابتعدت جمهرة أخرى عن السلطة المستبدة ولجأت إلى الصمت الفاضل تجنباً للوقع بحبائل النظم لأنها ليست ديمقراطية ولا تعمل لصالح الشعب وغير قادرة على تحمل ظلم النظم وتعذيبه أو قتله، ولكن البعض الآخر حاول أن يمارس العمل على طريقة كليلة ودمنة. هذا الانقسام الفعلي بين مجموعتين من المثقفين والمثقفات، مجموعة أتباع السلطة والمجموعة المستقلة عن السلطة وفيها المعارض للسلطة. وإذ اشتملت المجموعة الأولى جمهرة من المحافظين وغير المحافظين، اشتملت المجموعة الثانية على محافظين وديمقراطيين وتقدميين ويساريين بألوان شتى. والعامل الحاسم في هذا التقسيم برز ويبرز في الموقف من مسائل مهمة بالنسبة للمثقف والمثقفة وأعني بها: حرية المثقف واستقلاليته وقدرته على التعبير بما يحس به ويشعر بدون قيود أو شروط تحد من قدرته أو قدرتها على الإبداع والالتزام بالفكر أو الرأي السياسي الذي يتبناه ويتجاوب مع مفاهيمه في الحياة والعمل والإبداع والموقف من مصالح الشعب على وفق اجتهاده الشخصي. هذا الانقسام خطير ومؤلم لكل المثقفين والمثقفات، ولكن الأخطر منه يبرز في محاولة السلطة ونجاحها في تأليب مثقف السلطة ضد بقية المثقفين والعمل على كسبهم عن طريق السكر أو الجزرة التي "يتمتعون بها!" أو بالتهديد والوعيد والإساءة والاتهام أو الشحن غير الأخلاقي لدى السلطة ضدهم. وفي هذا يتحول مثقف السلطة ليس إلى واعظ أجرب لسلطان مستبد حسب، بل وإلى أداة قمع وتخريب وإساءة ضد بقية المثقفين والمثقفات وضد الثقافة بوجه عام. عن هذا الصنف من المثقفين، وليس عن أولئك الذين كفوا عن النضال وسكتوا بعيداً عن أضواء السلطة أو الإساءة للمثقف الآخر والذي حاول ان يختزن في ذاكرته ما يمكن أن يعبر عنه بأساليب وطرق أخرى، كالكتابة على طريقة كليلة ودمنة أو لوحات فنية رمزية ...الخ. إذا كانت مسرحية "عاشق الظلام" قد تحدثت عن شاعر عراقي كنموذج للبقية المماثلة له بالعراق أو في غيره من الدول، فأن ثور فالارس واقعة تاريخية، وضعها الكاتب ماجد الخطيب في نص مسرحي درامي، مأخوذ من الميثولوجيا وكتب التاريخ الإغريقية التي تتحدث عن نحات مشهور عاش في القرن السادس قبل الميلاد، إنه النحات المعروف في وطنه بيريليوس الذي أبدع عملاً فنياً كبيراً هو الثور النحاسي، ولكنه ثور جهنمي، دس في العسل السم الزعاف، وضع أداة للقتل الهمجي بيد الحاكم المستبد ضد شعبه وأصبح الضحية الأولى لمنجزه الفني. دعونا نتابع مع الكاتب هذا النص المسرحي. بعد المقدمة المهمة التي شرح لنا الكاتب كيف توصل إلى كتابة هذه المسرحية، يضعنا عبر مدخل قصير للمسرحية في الأجواء التي كانت سائدة في مملكة "أركاغوس" في اليونان القديم وبحدود النصف الأول من العقد السادس قبل الميلاد بعد أن وقع انقلاب على الملك ثيرون قاده المهندس الذي كلف ببناء معبد للإله أبوللو. يقدم لنا شبحاً يرافق الكثير من لوحات العمل المسرحي يحمل معه تاريخ وأحدث ومآسي هذه المملكة ويعلن منذ البدء بأن بناء المعبد قد أنجز من قبل المهندس المشهور فالارس واستغرق البناء أربعة عشر عاماً بين 570-556 ق.م واستخدم الآلاف من العبيد المسخرين والمراقبين لإنجاز هذا المعبد الذي أقيم بثلاثة أضلاع مع باحة وسطية مثلة لاحتفالات الملك. وبعد الانتهاء من البناء قاد هذا المهندس ألاف العبيد في هجوم انقلابي على القصر وأجهزوا على الملك ومن هم في القصر. ولم ينج من هذه المجزرة سوى شخص واحد هو تيليماخوس من أقرباء الملك. استولى فالارس على العرش وأعلن نفسه ملكاً على أركاغوس وتحول إلى طاغية جبار وظالم مارس القتل والقمع ضد من لا يمتدحه. نتعرف في هذا المقدمة على أبرز شخصيات المعارضة الجديدة للملك الجديد، إنهم غالاتا الشابة الجميلة ابنة مهرج الملك، ثم تيليماخوس صاحب الجماعة المعارضة, وباريليوس الشاعر الشاب المتسم بالثورية والمندفع بحماس الذي أعلن بأن فالارس المهندس المشهور والمحب للفن، لكنه لا يقبل في مملكته من لا يرفع راية الولاء له ويكيل المديح له. تقدم لنا اللوحة الأولى نحاتاً مرموقاً وعاشقاً للفتاة غالاتا ابنة المهرج وهو يعمل في ورشته وأمامه عمل فني ضخم مغطى بستارة لا تكشف عنه. تدخل عليه حبيبته غالاتيا فيدور بينهما حوار أخلاقي مهم. فهو يريد تقدم هذا العمل الفني إلى الملك هدية ليتحفه بمبلغ من المال يستطيع معه الزواج من حبيبته وبناء عش الزواج الجميل ويطلب منها أن يتوسط أبوها لدى المقابلة لتنظيم لقاء مع النحات. لا تعرف غالاتيا طبيعة الهدية ولكنها تستنكر تقديم هدية من فنان كبير إلى ملك ظالم ويمارس القتل يومياً. يدعي الفنان إنه لا يريد رشوة ولكنه يعطيه عملاً فنياً يأخذ عنه مبلغاً من المال. تغادره دون أن تعرف نوع الهدية التي أنجزها الفنان وتوعده بالحديث مع أبيها. يشعر الفنان بالزهو من عمله الفني المتقن ويريد أن يحتفظ بسرية تامة لمنجزه. في هذه اللوحة يشعرنا المؤلف بحبكة واعية بمسألتين: إن النحات المشهور غير مبال بظلم الملك وطغيانه وقتله للمزيد من أبناء مملكته، وإنه يتطلع بانتهازية خبيثة نحو الحصول على المال للزواج من حبيبته، في حين تتخذ الفتاة موقف المعارض والمناهض للملك ولتقديم هدية إلى جزار وتحذر حبيبها بجملة قاطعة وهي خارجة: حسناً ولكن لا تنحت سيفاً للجلاد يا بيريليوس! يا ويلك إن سلطه على رقبتك. أما اللوحة الثانية فتضعنا أمام النحات في ورشته حيث ينتبه إلى دخول رجل عجوز، إنه الشبح الذي تقمص هذه المرة شخصية تاريخية معروفة، إنه شاعر الملاحم العظيمة في القرن السادس قبل الميلاد، إنه ستيسيكورس، والذي لم يتعرف عليه النحات رغم إنه قد نحت له تمثالاً، إذ يثير ظهوره الفزع لدى النحات. يطرح هذا الشبح ما عاناه من طاغية بلاده. ويجري حوار مهم بين الشاعر الشبح والنحات حول العديد من عباقرة اليونان الذين قتلوا بطرق شتى على أيدي الطغاة. ويحذر الشبح بيريليوس من مغبة تقديم النحت الذي أنجزه، الثور النحاسي، إلى الملك، إذ سيصبح أداة للقتل اليومي بيد الملك ضد أبناء شعبه. لقد كشف النقاب عن النحت المنجز وأثار استغراب النحات. ويحاول أن يخفف من طبيعة الهدية، ولكن الشبح يحذره "لكن هذا التمثال ، أيها الفنان الكبير، ليس بومة نحاسية نحتها فنانو أوليمب هدية إلى ألهة الحكمة أثينا... إنه تمثال ضخم نحته بشري جشع ليضعه بين أيدي بلوتو. لا يشعر النحات بالمخاطر فجشعه أعمى بصره وبصيرته. وهذه اللوحة تقدم لنا تلك الحكمة الفيثاغورية التي برهنت على صحتها إن "الحكمة والمال لا يجتمعان". ويرد النحات بقوله إن الفن والحب والمال يجتمعان. وتضعنا اللوحة الثالثة في قصر الملك فالارس ومعه ميلانخوس, مهرج وضحاك الملك ووالد غالاتيا حيث استطاع إقناع الملك باستقبال النحات بيريليوس. إن التحليل الدقيق لطبيعة وسلوك النحات جعلت الكاتب يؤكد: ينحني الفنان طويلاً في حضرة الملك. فيرحب به الملك باعتباره فناناً مشهوراً في أركاغاس، ويرد عليه الفنان ويطلق عليه احيي جلالة الملك فالارس، ملك اركاغاس، شاعر الملك وملك الشعراء. ثم يبدأ بوضع الهدية بين أيدي الملك. فما هو هذا النحت المتقن الذي وضعه الفنان ليهديه إلى الملك؟ إنه تمثال لثور نحاسي ضخم جداً متقن الصنع وفيه خاصيتان تجسدان وعياً سادياً مرضياً لدى النحات ذاته، إضافة إلى انتهازيته وجشعه ومدحه للملك بالضد من الخصائص التي تميز الطاغية. ** الخاصة الأولى تبرز في إمكانية تقديم القرابين البشرية إلى الآلهة على وفق التقاليد القديمة التي جرى التخلي عنها ويردي النحات إعادتها. حيث يمكن أن يوضع الضحية في جوف الثور وتغلق الفتحة المصممة لهذا الغرض وتوقد ناراً تحت جوف الثور النحاسي ليشوي الضحية ويموت مشوياً ويتحول إلى رماد. ** الخاصية الثانية صنع ألة موسيقية متقنة تسمح بتحويل صراخ وتشنجات الضحية المشوي إلى موسقى صاخبة تصدر من فم ومناخير الثور النحاسي فيطرب الطاغية لهذا التشنجات الصادرة عن الضحية. إذ يقول: "زودت الفم بآللة موسيقية كي تخرج صرخات الضحية من الفم وكأنها خوار ثور يجامع بعنفوان، وزودت المنخرين بآلتين موسيقيتين صغيرتين تحولان زعيق وعويل المشوي إلى موسيقى جميلة تليق بطقوس تقديم القرابين". وإذ يذكر الملك الفنان بأن دلفي لم تعد تأخذ بالتقاليد القديمة ويقدمون الحيوانات قرابين بدلاً من البشر، باعتبار تقديم البشر عمل فينيقي لا إنساني بعد أن التزم بمبادئ فيثاغوراس. ويرد عليه الفنان بضرورة العودة إلى طقوس تقديم القرابين البشرية. وهنا وبهذا الحوار المرعب يضعنا الكاتب ماجد الخطيب على عتبة المأساة الخطأ، فالنحات يحفر قبره بيديه، إذ يطلب الملك منه أن يريه كيف يعمل الثور النحاسي أو السماوي، أن يفتحه، أن يدخل فيه وحين انتهى من رفع الأغطية يدفع الملك به إلى جوف الثور ويغلق الفتحة ويطلب من الحراس بإشعال النيران تحت جوف الثور. إنها اللحظة التي لا بد أن النحات قد تذكر حبيبته وهي تقول له "لا تنتج سيفاً للجلاد يا بيريليوس! يا ويلك إن سلطه على رقبتك" أو تحذير الشبح من مغبة صنعه لهذه الألة القاتلة وتسليمها بيد جلاد ظالم. جلس الملك وبيد كأس من الشراب يستمع إلى الموسيقى المنطلقة من فم ومناخير الثور التي حولت عويل وزعيق وتشنجات النحات إلى موسيقى طقسية مناسبة للطغاة. إنها مأساة الخطأ الذي كان يعرف به النحات وكان متوقعاً وهو يضع بيد الجدلان هذا السلاح لا ليقتل النحات به بل ليقتل الآخرين، ولكن الحكمة الشعبية تقول "يا حافر البير لا تغمج مساحيها، خاف الفلك يندار وانت التگع بيها". وهنا وفي هذه اللوحة يستعرض الكاتب عبر الأشباح أولئك الشعراء الضحايا الذين قتلوا على أيدي الطغاة كالشاعر أنا كريون من تيسوس الذي قدم طعاماً للخنازير الذي يدخل ويحمل رأسه بين يديه، أو الشاعر أيبيكوس من ساموس الذي قتله القراصنة وقطع رأسه الطاغية بوليكراتيس. وشبح ثالث يحمل رأس كاتب قصص الحيوان أوسيبيو من دلفي الذي رماه الكهنة بالبحر. إنهم يتحدثون عن مآسي تلك الشخصيات الفئة والأدبية التي كانت ضحايا للملوك الجلادين. إن التفكير بإنجاز عمل فني من هذا النوع ويقود إلى هذه الطريقة في القتل هو السادية المرضية القاتلة بعينها، وهي التي جعلت الكاتب ماجد الخطيب يتساءل في مقدمته للمسرحية: كيف يمكن لفنان مرهف أن يفكر بهذه الطريقة ويضع مثل هذا العمل الفني في خدمة القتل اليومي للبشر؟ لقد أصيب هذا النحات العظيم بوباء الانتهازية وعشق فتاة جميلة يريد الوصول إليها، إضافة إلى جشعه وهوسه في الحصول على المال بغض النظر عن الوسيلة التي يصل بواسطتها إلى غاياته. فيصنع هذا الثور النحاسي الهائل ليهديه إلى ملك ظالم نجح في الوصول إلى السلطة عبر انقلاب على الملك السابق الأكثر عدلاً وأصبح عاشقاً للقتل والهيمنة التامة. صنع الثور من النحاس في العام 556 ق.م. وقتل به في ذات العام. وهكذا كلما مات واحدة من ضحاياه بالشوي واسترخى على موسيقى تشنجات القتلى، استدعى من سجونه ضحية أخرى. أما اللوحة فتعرض علينا وضع المعارضين للنظام بعد مقتل النحات بآلته الجهنمية، إذ اجتمع أصدقاء النحات غالاتيا وميلانخوس وتيليماخوس وباريليوس في ورشة الفنان المقتول. البنت تندب حظها والأب يحاول تهدئتها. يبحثون عما يمكن فعله. الحزن يسيطر على الجميع والعواطف جياشة والرغبة في الخلاص من الملك القاتل عارمة. وفي هذا يبرز الاختلاف بين الشاعر الشاب بريليوس الذي يريد أن يعلن الثورة دون أن يحسب لميزان القوى حساب، والسياسي المطالب بالعرش تيليماخوس الذي يحذر من حركة لم تنضج ظروف إعلانها لأنها ستكون وبالاً على الجميع. غالاتيا وميلانخوس يقفان إلى جانب تيليماخوس، في حين ينفرد باريليوس بالموقف الثوري ولا يهتم لتحذري غالاتيا حين تقول له: كلا يا باريليوس، أنت شاعر ومفكر، ولست مقاتلاً فلا ترتكب خطأ يجعلك طعماً للنيران. فهل يستمع لها الشاعر الشاب المندفع بحماسه الثوري دون تفكير؟ يؤكد بأنه سيتحدى الملك الظالم بقصيدة وليكن ما يكون. ولم ينتبه باريليوس إلى حديث الشبح الذي ولج عليهم وحدثهم عما يفعله الملك بالآلة الجهنمية التي صنعها النحات القتيل ويعلن إن الشعراء يعيشون فترة عذاب شديد خشية أن تشويهم هذه الآلة الجهنمية كما التهمت عشرات المشويين في جوف الثور. فماذا حصل؟ هذا ما تنبؤنا به اللوحة السادسة اللاحقة. تجسد اللوحة الخامسة السلوك المرضي للطاغية فهو لم يعد قادراً على العيش دون ضحايا يومية حتى أتى الثور النحاسي على من في السجون من معتقلين فقد كانت قبل حصوله على الهدية مكتظة بالسجناء الأبرياء. شهية الملك مفتوحة لمزيد من السجناء لشويهم في محرقته والحراس يخبرونه بعدم وجود سجناء آخرين، كما لم تعد ألاعيب المهرج التي كانت قبل ذاك تسليه أصبحت سخيفة.، فما العمل؟ ينظر إلى الثور النحاس من طرف وإلى المهرج من طرف آخر ويجد بينهما لعبته الجديدة فيطلب من المهرج أن ينظف جوف الثور. يبرز الرعب في عيني المهرج ولا يمكن رد الطلب يبدأ بالتنظف ويعلن انتهاء تنظيف الجوف يطلب منه تنظيف الفم والمنخرين. وحين يدخل إلى الجوف ثانية يتقدم الملك ليغلق الباب وفي هذه اللحظة المميتة للمهرج يدخل الحراس ليعلنوا عن عثورهم على سجين هزيل كان قابعاً في السجن منذ سنوات. ينتشي الملك المعتوه ثم يسأله عن اسمه ومتى سجن ولماذا سجن. نسى المسكين كل شيء لا يعرف كل ذلك ولا يعرف حتى اسمه ولكنه يشعر ببرد شديد. إنها لحظة مجنونة، لحظة يرتقي بنا النص إلى مستوى جديد من الدراما: الضحية يرتعش من الرد ويطلب الدفء الإنساني، وإذا بالملك الفاجر يدفع به إلى المحرقة ويقول لحراسة: اشعلوا النيران! دفئوه جيداً، لقد أنقذ السجين أمسيتي. وفي اللحظة التي يشكر السجين الملك، يرتفع صوت الخوار والموسيقى من فم ومناخير الثور. لقد أوصلنا الكاتب بنصه إلى دراما إنسانية جديدة، إنها السادية المرضية التي استفحلت عند الطاغية وأصبح لا يطرب ولا يسكر إلا على تلك الموسيقى المنبثقة من شوي الناسي. يطرح علينا النص في لوحته السادسة الشاعر الشاب باريليوس المنتفض على الطاغية وهو يقرأ قصيدة نارية تكشف عن سر الثور النحاسي ومقتل النحات بيريليوس الذي صنع آلة الموت الجهنمية. وأثناء اللقاء القصيدة يدخل الطاغية محمولاً من حراسه فيتلعثم الشاعر ولكن الملك يطلب منه مواصلة القراءة فيقرأ: أنا الثور النحاسي الجميل، لماذا صنع مني بيريليوس موقداً يشوي في جوفه العبيد؟ وكيف أصبح خالقي أول القرابين؟ ... وهنا يدرك الطاغية ضرورة الخلاص بطريقة الهراوة والجزرة من الشاعر. فيمتدحه ويرمي له بكيس ثقيل من النقود، فيرفعه أمام الجمهور الذي استمع لقصيدته المناهضة للملك ويقرر الأخير منحه قصراً ويوفر له سبل الراحة وينهي ثوريته ومعارضته للنظام دون استخدام فعلي للهراوة، إذ كان التأشير بها كافياً، وهكذا كان!!! ينقلنا الكاتب مباشرة في لوحته السابعة من جديد إلى ورشة النحات القتيل حيث يلتقي هناك المعارضون غالاتيا وأبوها وتيليماخوس وهم في أشد حالات الحزن والقلق على ما صار إليه الشاعر الشاب من جانب، والخشية من اعترافه عليهم لدى الطاغية واحتمال اعتقالهم. وبعد حوار يجسد حالتهم النفسية يقررون في جو كئيب هروب تيليماخوس واللجوء إلى المدينة التي حط فيها فيثاغوراس وجماعته, الذين كانوا قد هربوا قبل ذاك أيضاً من مملكة أخرى ولجأوا إلى مملكة كروتون التي أوت فيثاغوراس وجماعته واعتنق ملكها أراء وفلسفة فيثاغوراس. فهذا الملك لا يسلم اللاجئين لديه ويحميهم. ويمنحنا النص فرصة الاطلاع على السمات العلمية والإنسانية لفيثاغوراس وتعطشه للمعرفة والفلسفة. واللوحة الثامنة تمنحنا فرصة التمتع بحوار جميل بين فيثاغوراس وتيليماخوس حول الشاعر الشاب الإنساني النزعة باريليوس الذي رفع العلم الأحمر ضد الطاغية ولكنه عجز عن حمله وانهياره أمام الخشية من الموت وقبل بالجزرة! وترد هنا أسماء عدد من المناضلين الكبار الذين قتلوا على أيد الطغاة لنضالهم ضدهم، في حين أن بيريليوس لم ين سياسياً ولكنه سمح لجشعه أن يدفعه لصنع آلة موت التهمته قبل غيره. يطلع تيليماخوس على فلسفة فيثاغوراس علة تقاليدهم وولعهم بالموسيقى وحركة النجوم والكواكب، كما يطمئن إليه ويبحث عن أهمية وطبيعة العلاقة بين الرياضيات أو الأرقام والموسيقى ونسمع هنا الحكمة من فم فيثاغوراس حين يقول: "الأرقام والموسيقى من صلب طقوسنا، فكل شيء في هذا الكون يتألف من أرقام وحروف موسيقية متناغمة. كل شيء في هذا العالم يُصدِر الموسيقى، وأن لم نسمعها، لاحظ أن الكواكب في حركتها الدائرية تصدر أيضاً نغمات. الموسيقى علاج للغرائز الحيوانية والشهوات، تغسل الأرواح من الشوائب، وتحافظ على اتزان الناس، وتنظم علاقاتهم ببعضهم. لن يبقى للإنسان روح بلا موسيقى، بل لن يستمر الوجود بدونها", أو لنقل ليس هناك من وجود بدونها. ومع هذا القول قفزت إلى ذهني مواقف شيوخ الدين الذين يحرمون الموسيقى والغناء وكأنها الطاعون، في حين كان البابليون يدرسون الأطفال الموسيقى في المدارس حينذاك، فهي يمكن فهم هذه الردة الفكرية في مجتمعاتنا الإسلامية ومنها المجتمع العراقي في ظل القوى الإسلامية السياسية الطائفية والرجعية التي هي الطاعون بعينه. اللقطة الجميلة التي يقدمها لنا الكاتب ماجد الخطيب نجدها في الأفراد المرتبطين بفكر وفلسفة فيثاغوراس، إنهم من الرجال والنساء وفي القرن السادس قبل الميلاد وهو يشكلون حلقات دائرية متعاكسة ويساهمون في النقاش. وهم في هذا لا يبتعد عن تراث بابل في العلاقة بين الرجل والمرأة، فماذا حصل لمجتمعاتنا العربية أن تصاب بهذه العار، عار عزل المرأة عن الرجل واعتبارها ناقصة عقل ولها نصف ميراث الرجل وأينما اجتمع امرأة ورجل كان بينهما الشيطان ولِمَ لا يكون ملاك الرحمة أو "الرحمن". إنه بؤس الثقافة المتدهورة التي يعيشها العالم العربي بمجتمعه الإسلامي المتخلف. في هذا اللقاء الحميمي بين الاثنين يقرر فيثاغوراس أن يتحدى الطاغية، أن يذهب إلى عقر داره ويتحداه هناك وينهي مأساة شعب يعيش تحت ملك مصاب بشتى الأمراض النفسية ومنها النرجسية والسادية المضخمة وشهوة القتل. ويخبرنا النص في لوحته التاسعة من أن الطاغية كان قد كلف حراسه بالتفتيش عن تيميلياخوس الذي لجأ إلى مملكة كروتون، ويخبروه عن لجوئه إلى فيثاغوراس فيفكر بشن الحرب ولكن حراسه يخبرون بأن قوى أكبر من جيوشه خسرت أمام إيمان وعزم وتصميم جماعة فيثاغوراس وملك كروتون. ويقرر الطاغية اعتقال جماعة فيثاغوراس في مملكته وتسليط آلة الموت النحاسية لقتلهم شر قتلة، يلقون واحداً تلو الآخر في جوف الثور النحاسي لتحيله النار إلى رماد. وهنا يتدخل الشبح ليعلمه عن بعض خصائص فيثاغوراس وإنه من نسل الإله أبوللو وإنه مات مرات وعاد إلى الحياة. أما اللوحة العاشرة فتدور أحداثها في معبد الفيثاغوريين حيث يلتقي المعلم فيثاغوراس بتيلمياخوس مع وجود مجموعته من الجنسين. ويشير له بأن طاغية أركاغاس طلب من ملك كرتون تسليم اللاجئ ويجابه بالرفض، كما يعلمه بأنه الطاغية إنه سيفرج عن جماعة فيثاغوراس المعتقلين في مقابل تسليم تيلمياخوس. ويطلب الأخير تسليم نفسه. يرفض فيثاغوراس ويعرب بشجاعة عقلية بأنه سيتحدى الطاغية وسيذهب إلى أركاغاس. يفاجأ جماعة فيثاغورس وتتجلى في توقفهم عن الحركة ثم البدء من جديد بحركة غاضبة ضد الطاغية. وهنا يتوقف الكاتب عند فكرة تؤكدها مسيرة التاريخ إذ تقول على لسان فيثاغوراس: لا يمكن للشر أن ينتصر دائماً على الخير خصوصاً إذا تزاوج الخير بالحكمة. سأهزمه، وليكن أتباعكم على أهبة الاستعداد. واللوحة الحادية عشرة تنبؤنا عن ولوج الشبح إلى بلاط الطاغية ويراه في حين لا يراه الحراس. ويدور حوار بين الاثنين. يتحدث الشبح عن وصول فيثاغوراس إلى أركاغاس ليتحداه في مناظرة الإجابة عن أسئلة يطرحها الطرفان. وبين الرفض والقبول يؤكد الشبح بأن رفض الطاغية سيعني الجبن أمام شعبه، وإن القبول يمكن أن يقود إلى الهزيمة أيضاً لحكمة فيثاغوراس. ولكن الطاغية يشعر بقوته ويقرر أن يقبل التحدي ويطرح على فيثاغوراس سؤالاً محرجاً يتغلب عليه فيه. هنا يشعر القارئ والقارئة بأن الكاتب يضعنا أمام أكثر من شبح، يحمل معه الشر وآخر يحمل معه الخير، أو إنه شبح واحد يحمل الاثنين في الواحد، كما في الديانات القديمة كالديانة الزرفانية أو الديانة الإيزيدية مثلاً. إنه يحذره من التراجع وإنك ستخسر أكثر إن رفضت النزال. واعلم إنك إن خسرت الرهان فلن يرميك إلا بحجر صغير واحد لا غير. فيقرر النزال واستخف بالعدو. واللوحة الأخيرة تقدم لنا نزالاً فكرياً بين حكيم وطاغية. إذ تتحكم بالأول إرادة الخير والحكمة وحب البشر، تتحكم بالآخر إرادة الشر والجنون وكره البشر والرغبة في قتلهم. ويضعنا الكاتب في نصه المسرحي من جديد أمام مأساة الخطأ الذي يرتكبه الطاغية وهو مشابه لخطأ أوديب. فالنزال يجري أمام جمهور واسع وكله في حقيقة الأمر كارهاً للملك، في حين يكشف النص عن اعتقاد الطاغية بأن الشعب يحبه. وحين يخسر الملك الرهان ويرفع حجراً صغيراً ليرمي به الملك ترفع ألوف الأيدي أحجاراً صغيرة ترمي بها الملك وتطارده وحاشيته وتقضي عليه. وهنا يعلن موت الطاغية وتسليم تيلمياخوس الحكم. ولكن هل ينتهي الوضع. كلا، فالكاتب يذكرنا بأن قتل الطغاة بهذه الطريقة ودون وجود وعي لدى الناس ومشاركتهم الفعلية في الخلاص منه لا يقود على استقرار الأوضاع وبناء حياة جديدة. فالتغيير يفترض أن يكون ما في نفس الناس. ولهذا قيل قديماً تغيير ما في النفي أصعب بكثير من القيام بثورة وكذا الاحتفاظ بها.
عند قرائتي لما كتب عن النظام الدكتاتوري البعثي الصدامي البغيض بالعراق وقعت على مادة كتبها صحفيون ألمان ثلاثة التقيت بأحدهم في ندوة في قناة فينكس الألمانية في العام 2004، أي بعد سقوط الدكتاتورية الفاشية على أيدي قوات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وإعلان احتلال العراق، وكنت قبل ذاك قد التقيت به بطلب منه لنتحدث عن أوضاع العراق ومشكلاته وما كان يجري في فترة حكم حزب البعث والدكتاتور أحمد حسن البكر ورديفه صدام حسين والعواقب الوخيمة لاحتمال تسلم القوى الإسلامية السياسية الطائفية الحكم بالبلاد. حين كنت أقرأ مسرحية ثور فالارس في خريف هذا العام (2013) تذكرت تلك الندوة والمقابلة مع الصحفي الألماني كريستوف ماريا فرودر Christoph Maria Frö-;---;--hder والمقالة التي كتبها وسلمها لي في حينها حول العراق ومن ثم الكتاب الذي أصدره حول حرب بوش بالعراق. وفتشت على المقالة في أوراقي فلم أجدها وقدرت إني فقدتها فكتبت له راجياً إرسال تلك المادة. ولكنه أرسل لي مادة مماثلة كتبها ثلاثة صحفيين ألمان زاروا العراق في فترة مبكرة من سقوط الدكتاتور صدام حسين ونظامه. جاء في هذا المقال ثلاث صفحات عن ماكنة كهربائية عملاقة مهمتها لفرم اللحوم والعظام، وهي الماكنة التي استخدمها النظام العراقي في فرم أجساد الموتى أو رميهم بها وهم أحياء. ولكي لا ألخص هذا الموضوع المهم والذي، كما أعتقد، لم يطلع عليه إلا القلة من الناس، وخاصة ألألمان، قمت بترجمة هذه الصفحات الموضوع أرفق مع هذا المقال الترجمة الكاملة للنص الخاص من مقال الصحفيين الثلاثة المنشور على الإنترنيت موقع وارفقها مع هذه القراءة لمسرحية "ثور فالارس، إذ إن تاريخنا العراقي مليء بمثل هذه الممارسات والتي تقترب من ذلك الثور النحاسي الذ1ي مهمته لا قتل البشر فحسب بل وتعذيبهم. جاء في مقال الصحفيين الثلاثة ما يلي: " إنه مجرد أنبوب عادي، لكنه يجسد رمز القسوة التي عانى منها العراقيون بسبب الشكوك التي تنشأ عند الدكتاتور حوله. الأنبوب يقود إلى "ماكنة الموت". في واحدة من قاعات معسكر سري تابع لجهاز الأمن. الموقع يستخدم اليوم من قبل القوات الأمريكية. الصحفيون الأجانب ، وخاصة الألمان، منعوا من ولوج هذا الموقع. يصعب فهم هذا الموقف، إذ من مصلحة أمريكا الكشف عن أساليب التعذيب التي كانت أجهزة أمن الدكتاتور تمارسها. تمكن ضابط إيطالي من زيارة الموقع الجهنمي بعد سقوط النظام مباشرة. اسم الضابط الإيطالي هو Colonell Georg Di Pauli, Carabinieri إليكم أحد الضحايا. حين اختفى حاول ابن أخته قرر أن يبحث عنه بأمل العثور عليه. بعد تحريات فاشلة، توجه إلى أحد زملاء الدراسة الذي يعمل في أجهزة الأمن. صديق الدراسة طلب منه الحفاظ على السرية التامة، إذ وجد إشارة في جهاز الكومبيوتر تؤكد وفاته تحت التعذيب. في عمود خاص وجد إشارة إلى أن جثمان عم صديق الدراسة قد فرم بماكنة فرم الجثث. وبهذا أمكن مسح أي أثر للعم. أبن الأخ لم يستطع استكمال الحديث عن عذابات عمه حتى النهاية وعن صورة الماكنة، لأنها كانت ماكنة لفرم الضحايا. في الجهة المقابلة لمعسكر الأمن السابق يعيش ضابط طيران سابق. كان على علم بماكنة القتل هذه، حتى إنه كان مرة في الموقع حين انهار النظام وهجم الناس على هذا المكان. هو نفسه حافظ على مجموعة من أجهزة التعذيب لكي لا تسرق أو تدمر، ولكن لا يحتفظ بصورة لهذه الأجهزة. إلا إنه يعرف الضباط الذين كانوا يعملون على هذه الماكنة. بعد مرور يومين عرض علينا تخطيطاً لأحد هذه المكائن الخاصة بالقتل الذي وضعه أحد الزملاء. وخشية من العقوبة التي يمكن أن تلحق بهم رفضوا الاتصال بنا والحديث معنا. وأخيراً فرض الأمريكان عليهم الصمت المطبق. هذا هو الجهاز (الماكنة). من كل جهاته تبر سكاكين تدور وتقطع. من أعلى الجهاز كانت ترمى الأجسام في الماكنة وبالسكاكين كانت تقطع أجسام الضحايا. وقد نبه الذي وضع التخطيط إلى دقة عمل ماكنة القتل الصدامية. الشاهد الأخير تسنى له مشاهدة الماكنة بأم عينيه حين كان معتقلاً عدة مرات. كتقني لم يمكن ملزماً بتصليح الماكنة وهو لا يمتلك صورة لها، ولكن يعرف عن وجود مكائن أخرى مماثلة لها وأنجز تخطيطاً وتخطيطات أخرى للمكائن التي شاهدها. أنه يعيش حتى الآن في كوابيس ... ثم حدثنا بما يلي: في أحد الأيام احتاجوا إلى أعز صديق لي. لقد قاوم، ولكنهم جلبوه إلى الموقع، ولكنه واصل المقاومة بيأس شديد. استطاع أن يدفع وأثناء المقاومة باثنين من حراسه بحوض الماكنة الكهربائية المتحركة. عندها وجهت إلى صديقي نيران الحرس وقتل في الحال وجرى قذف جثته في الماكنة. هكذا قتل ثلاثة أشخاص أمام عيني. لقد كان مشهداً مريعاً. القضية تطرح الكثير من الأسئلة. المفروض أن يجري توضيح مسألة ماكنة القتل الصدامية بعد انسحاب القوات الأمريكية. ويفترض أن يجري التيقن من البلد الذي باع هذه المكائن إلى النظام، وهل حقاً إن إحدى الدول الأوروبية هي التي باعتها له وهل إن بعض الأوروبيين التقنيين قد سافر إلى العراق لتصليح العطلات التي كانت تتعرض لها." هذا هو النص الكامل حول الماكنة الذي نشر في من قبل تليفزيون ألمانيا الأول ARD بتاريخ 2003. علماً بأن الصحفي السيد Christoph Maria Frö-;---;--hder قد أعطاني في حينها نسخة من تقرير أعده للجهة الإعلامية التي أودته إلى بغداد بعد سقوط الدكتاتورية مباشرة وكان فيه تخطيط لهذه الماكنة الكهربائية العملاقة. ومن المؤسف أني فقدت هذا التقرير فكتبت له وأرسل التقرير ولكن بدون تخطيطات صادر عن التلفزيون المشار إليه في أعلاه، والتقرير محفوظ في أرشيفي ولكن يمكن العثور عليها باللغة الألمانية وعلى الموقع الإلكتروني التالي: Duell mit Saddam, Buchs Krieg gegen den Irak,ARD 3. Mä-;---;--rz 2004, 23.00 Uhr Eine Dokumentation von: Jorg Armbruster, Christoph Maria Frö-;---;--hder, Ulli Neuhoff
لم يكن اختيار هذا الموضوع من الناحيتين الفكرية-السياسية والدرامية عفوياً، كما أشار إلى ذلك الكاتب ماجد الخطيب ذاته في مقدمة الكتاب، بل كان اختياره للموضوع مدروساً وموفقاً ومناسباً لواقع العراق والكثير جداً من الدول النامية، كما إن الطريقة التي عالج بها المشكلة ناجحة تماماً ووصل بها إلى الهدف المنشود بشكل يشكر عليه. أراد الكاتب بهذه المسرحية أن ينبه الكاتب المبدعين على نحو خاص إلى: 1. الابتعاد عن مراكز السلطة الغاشمة وعدم الوقوع في حبائل حب المال والروح الانتهازية واعتماد غير مبدئي لقاعدة "الغاية تبرر الواسطة" بما لا يستقيم مع الإبداع الفني والالتزام بمبدأ الإخلاص لقضية الشعب ووضع الفن في خدمة التقدم بحيوية ومسؤولية في آن. 2. وأن يُذكّر الكتاب والكاتبات والناس جميعاً لما حصل في ظل الهيمنة البعثية الصدامية على العراق وشعبه والمصير الذي آل إليه من سقط في أحضان الدكتاتورية والفاشية من كتاب وفنانين تقدميين وبعضهم يساري أو شيوعي أيضاً، كما في مسرحة "عاشق الظلام" على سبيل المثال لا الحصر. 3. والغريب في الأمر أن من تورط بالعمل مع نظام البعث الصدامي كان يعرف جيداً طبيعة هذا النظام والجرائم التي اقترفها بحق الشعب بكل قومياته حتى قبل بدء الحرب العراقية الإيرانية والحروب اللاحقة، فبعضهم مجد الدكتاتورية و"عظمة القائد الضرورة"، وبعضهم الآخر أضاف إليها تمجيد حروب الدكتاتور الداخلية وضد شعبه والخارجية ضد جيرانه والأشقاء العرب وساهم عملياً في الدفع باتجاه وقوع المزيد من ضحايا الحروب والدكتاتورية. 4. وإن المرحلة الراهنة وفي ظل الصراعات الطائفية المقيتة بين الأحزاب والقوى الإسلامية السياسية الحاكمة المتفاقمة يسهل السقوط في حبائلها وحبائل من بيده السلطة والمال والقدرة على الإغواء. 5. ونبه إلى أهمية المعرفة الدقيقة بموازين القوى في التحرك لعملية التغيير التي يفترض أن تستند إلى الغالبية العظمى من المجتمع، إلى إرادة التغيير التي يمكنها أن تحقق المعجزات. 6. وأن الطغاة مهما تجبروا لن يدوم لهم الحكم بأي حال وإن إسقاطهم بالطريقة التي جرت بالعراق دون مساهمة فعلية مباشرة من جانب الشعب وضعف الوعي وسيطرة الفكر الديني المتخلف لا تقود على السلام الاجتماعي ولا إلى الهدوء والاستقرار. فالمشكلة تكمن في ضعف الوعي الاجتماعي والثقافي وضعف شعور الشعب بضرورة التغيير والخلاص من الدكتاتورية الظالمة وضعف قدرته على تحقيق ذلك. 7. ويبدو مفيداً الإشارة هنا إلى إن هناك فرقاً واضحاً بين شخصية الشاعر في مسرحية عاشق الظلام وشخصية النحات في مسرحية ثور فالارس هو أن الأول كان سياسياً ومناهضاً للنظام الاستبدادي ثم سقط في أحضانه، في حين أن الثاني ورغم صداقته للمعارضين لم يكن سياسياً، رغم إن السياسة لا يمكنها أن تفارق أحداً بسبب علاقتها بحياة الإنسان اليومية، كما إن الأول كان لا بد وقد عاش الصراع الداخلي بعنف شديد، في حين أن الثاني لم يعش هذا الصراع الداخلي بسبب موقفه اللامبالي مما كان يجري في المجتمع وما يمارسه الدكتاتور ضد شعبه، كان المهم عنده أن يصل إلى ما يريد بأقصر الطرق والتي قادته إلى حتفه. كلاهما حالة درامية، تراجيديا، مأساة، وأن اختلفا في المنحى. لقد استخدم ماجد الخطيب الحدث التاريخي لبلد غير العراق، لبلد إغريقي، البلد الذي انطلقت منه كلمات الحرية والديمقراطية وتكرست مبادئ الفلسفة، ليجسد لنا ما حصل ويحصل بالعراق أيضاً, عراق الحضارة القديمة، عراق الانقطاع المتكرر عنها، ولكنه في الوقت نفسه عراق الاستبداد والقسوة والسادية التي تميز بها الحكام عموماً والتي ما زالوا يتسمون بها حتى الآن!!!
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقاش هادئ مع أفكار افتتاحية طريق الشعب في 10/10/2013
-
هل من أخطاء فادحة ارتكبتها المعارضة السورية؟
-
جرائم بشعة متلاحقة ترتكب يومياً بالعراق!!!
-
قراءة في كتاب -نبوة محمد- للكاتب الدكتور محمد محمود
-
الحذر ثم الحذر ثم الحذر من مخاطر التلويث الإضافي لبيئة عراقي
...
-
قراءة في كتاب هروب موناليزا -بوح قيثارة- للشاعرة بلقيس حميد
...
-
بشاعة الجرائم الدموية التي ارتكبت بمدينة الثورة ببغداد، فمن
...
-
هل وقع حكام العراق على وثيقة شرف جديدة, أم إنها محاولة جديدة
...
-
من المسؤول عن قتل وتهجير أتباع المذهب السني وآل السعدون في ا
...
-
من المسؤول عن ضحايا المفخخات وضحايا السرطان يا وزير الإسكان
...
-
لماذا يُعقد مؤتمر أصدقاء برطِّلة بالعراق؟
-
من أجل محاكمة بشار وماهر الأسد أمام المحكمة الجنائية الدولية
...
-
يواجه الشبك إرهاب القاعدة وغياب الحماية الحكومية بالعراق
-
من يمارس القتل ضد مجاهدي خلق في معسكر أشرف بالعراق؟
-
مع حركة الأنصار الشيوعيين العراقيين في مؤتمرهم السابع
-
هل نسى نوري المالكي أن الشعب العراقي يمهل ولا يهمل!!
-
البعث الصدامي وبعث الأسد وجهان لعملة وجريمة واحدة!!!
-
سلوك السفير العراقي ببرلين كان الاحتجاج والهروب لا الإصغاء ل
...
-
مرة أخرى من يجب أن يحاكم بالعراق: الدكتور مظهر محمد صالح أم
...
-
هل سيقرأ الشعب المصري الفاتحة على حزب -جماعة الإخوان المسلمي
...
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|