|
ثقافة الحرية و حرية الثقافة
نزار جاف
الحوار المتمدن-العدد: 1211 - 2005 / 5 / 28 - 14:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
نزار جاف لم تستطع المدارس الفکرية و الفلسفية على إختلاف إتجاهاتها و مشاربها أن تباري الوجودية في إهتمامها المفرط و الاستثنائي بموضوع الحرية و علاقته الوثيقة جدا بالانسان. ورغم إن الوجود الانساني على کوکب الارض قد بدأ مع حرية تامة من کل الجوانب، إلا أن تعاقب المراحل التأريخية تترى و توسع و تشابک الحياة الانسانية في المجتمعات المختلفة دفع بالانسان نفسه من خلال النظام الفکري ـ الاجتماعي أن يضع العديد من القيود على تحرکه و علاقاته بإتجاهات مختلفة. وبرغم المبررات التي وضعت للحد من حرية الانسان، إلا أنه مع ذلک لم يکن بمقدور کل تلک الاغلال و القيود الفکرية ـ الاجتماعية أن تکبح من جماح رنو الانسان صوب الحرية و تشبثه الراسخ بها. وقد يکون أقوى مبرر يمکن طرحه لتعلق الانسان بالحرية و عدم تفريطه بها، هو ما ردده غالبية المفکرين و الفلاسفة من أن الحرية أقدم القيم الفکرية أصالة وترسخا في أغوار الذات الانسانية حتى باتت طبعا و سجية مترادفة مع الانسان منذ تواجده ولغاية فنائه. وإذا مادققنا في جوهر و ماهية کل الثورات و حرکات التغيير و تطور المراحل الفکرية ـ الاجتماعية للإنسان، لوجدنا الحرية کدافع و مبرر و غاية نهائية لجميعها على حد سواء. لقد کانت لبشاعة و قساوة الاستهانة بکرامة و ماهية الانسان عبر الحقب التأريخية المتباينة، سببا قويا لدفع المفکرين و الفلاسفة لسبر غور إشکالية الحرية و علاقتها بالانسان محکوما و حاکما. وتکاد تکون فترة الاستبداد الکنسي في الغرب من أسوأ المراحل التأريخية کبتا و سحقا للحريات المختلفة للانسان. ورغم الذي طرح و يطرح من أوجه إختلاف و تفاضل بين المسيحية و الاسلام وإعتبار أن الاسلام هو غير المسيحية في تعامله و تعاطيه مع الانسان؛ إلا أن الذي جرى أيضا من حالات کبت و إظطهاد و مطاردة للعديد من الشعراء و الکتاب و المفکرين تحت يافطة الکفر و الزندقة تارة أو تحت مسميات الخروج على الملة أو الارتداد تارة اخرى، تدفعنا للمزيد من التعمق و البحث في فاعلية دور الاسلام "سلبا و إيجابا" بذلک الاتجاه. والحق إن ماجرى من جور و إضطهاد و تعسف بحق عقول نيرة من قبيل أبن المقفع و أبي العلاء المعري و بشار أبن برد و الحلاج و آخرون غيرهم، تميط اللثام عن جانب ضئيل من حقيقة کبيرة أخفتها متانة و قسوة الجدران الفکرية ـ الاجتماعية عبر التأريخ العربي ـ الاسلامي. وفي نفس الاتجاه لم يکن غريبا أن يکبح جماح فکر الدکتور طه حسين في ماذهب إليه بخصوص بعض الافکار المحددة التي طرحها في بداية نشاطه الفکري، بسبب من العامل الديني. کما أن الدکتورة نوال السعداوي تعرضت و تتعرض لحملة عنيفة و قاسية بسبب من آرائها و مواقفها الفکرية المتباينة تجاه العديد من الإشکاليات، ولاسيما إشکالية علاقة المرأة بالرجل، وإشکالية الحرية بمعناها العام. غير أن العامل الديني"على الرغم من سطوته و نفوده الاستثنائي" لايتراجع وإنما يصح أن نقول يتداخل بشکل نستطيع أن نسميه جدليا مع العامل السلطوي ليوسع من دائرة المحظورات بوجه الانسان وبالتالي إضافة المزيد من القيود على تحرکه، مما يعني بالنتيجة تضييق دائرة الحريات المتاحة للانسان. لقد تربت أجيالا عديدة من المثقفين في بلدان العالم الثالث"على وجه التحديد" على مانستطيع أن نسميه" الثقافة الملجومة أو الموجهة" وهذه الثقافة کانت من أهم أهدافها المرتجاة هي السعي لتحديد خط و مسار الرؤية العامة و الخاصة للمثقف. إذ کانت هناک خطوطا و دوائر محددة لعبت فيها أنامل السلطة الحاکمة الدور الاهم في وضع لبناتها و أسسها. من هذا المنطلق، کانت محدودية وسائل الاتصال"خصوصا في أواسط القرن الماضي" وإحتکار الوسائل الاعلامية برمتها من قبل الدولة، عاملا مهما في جعلها صاحبة القرار الاهم في مجال تحديد النظرة العامة للکثير من الامور"سيما الطارئة منها و المستجدة". لقد کنا نطبل و نزمر لرئيس جمهورية أفريقيا الوسطى"جان بيدل بوکاسا" حين غير ديانته الى الاسلامية و کنا جذلين به حين نصب نفسه إمبراطورا"!!" على شعبه المغلوب على أمره وسمى نفسه"صلاح الدين بوکاسا الاول". لکننا لم نواجه سلطاتنا الموبوئة بمرض "عفن الاستبداد" لنطالبها بمعنى دعم طاغية مثل بوکاسا الذي حين أسقط من الحکم وجدوا في ثلاجته قطع آدمية طازجة لأطفال يظهر أن الطاغية قد إستطيبها أکثر من اللحوم الحيوانية الاخرى!! تلک السلطات علمتنا أن نتبرأ من الشيوعية و أن نتجنب الليبرالية، وأن نتمسک بعاداتنا و تقاليدنا و نعتز بها. لقد جعلونا نرقص طربا ونحن نرى صناعة سيارات نصر في مصر و صلاح الدين في العراق، متناسين أن کلاهما مجرد صناعة تجميعية بائسة تقتاد على فضلات شرکتي "فيات" الايطالية و "سافيم" الفرنسية! وأتذکر کيف أن سلطات الحکم البعثي في أواسط السبعينات من القرن العشرين بشرت العراقيين بنبأ "إنتصار" علمي حين زعموا بأن العلماء العراقيين قد إکتشفوا علاج مرض السرطان في دواء سموه وقتها"بکرين" نسبة للرئيس الاسبق أحمد حسن البکر، و" صدامين" نسبة للدکتاتور صدام حسين الذي کان وقتها نائبا للبکر. ولم أذکر أن أحدا تجرأ على أن يسأل بعد ذلک عن ذلک العلاج الاسطورة! وکذلک الامر بالنسبة لمصر في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حين قدموا في إستعراض عسکري صاروخي "الناصر" و "الظافر" و الذي ثبت فيما بعد إنهما کانا بمصداقية البيانات الحماسية التي کان يذيعها "أحمد سعيد" إبان حرب حزيران عام1967! لقد ربونا على الشغف بکل ماهو قشري و سطحي و غير حقيقي. علمونا کيف نسمع الکذب ونحن متيقنون من إنه الکذب بعينه لکننا رغم ذلک کنا نصدقه وعن طيب خاطر! وهکذا صار عسکريا مهزوما مثل "حافظ الاسد" قائدا لثورة تصحيحية، و عسکريا مغامرا مثل معمر القذافي صاحب النظرية العالمية الثالثة، و الحسن الثاني أميرا للمؤمنين وهکذا هلم جرا مع حکامنا الاشاوس المنزهون عن الاخطاء و الحاملين لکل معاني القيم و المبادئ السمحة. أما نحن فکنا نصفق لهم و نصدق أن للثعلب دين!! ولو تتبعنا لحرکة الابداع الثقافي بمجمل مجالاته في المنطقة وقارناها بمثيلاتها في بعض البلدان التي تمت إتاحة فضاءات جيدة نسبيا للابداع الثقافي"کما في بعض بلدان أمريکا اللاتينية مثل أرجنتين و البرازيل على سبيل المثال" لوجدنا أن هناک بونا شاسعا بين الطرفين لصالح الطرف الثاني بالطبع! أما إذا قارناه بالغرب، فلانملک إلا أن نقول المثل الدارج"هات ليل و خذ عتابا" ذلک أن الفرق شاسع الى درجة مقارنة الثرى بالثريا! کل بلدان المنطقة فيها وزارات ثقافة وإعلام بل وأن في بعض منها بالاضافة للوزارات المذکورة، مجالس عليا لرعاية الثقافة والاعلام، لکن جميع بلدان المنطقة يجمعها قاسم مشترک أعظم واحد هو عدم وجود ثقافة حقيقية تعکس صورة منطقية لما يجري في الواقع الموضوعي مضافا إليها الاختلاجات و الارهاصات التي تجول في أعماق المثقفين وتعکس هي الاخرى بعدا ذاتيا بإمکانه أن يطرح ثقافة وجدانية ـ ذاتية متممة للبعد الاول الذي أشرنا إليه لاحقا. إن الثقافة السائدة في عموم بلدان المنطقة هي ثقافة تمجيد السلطة و التصفيق "لمنجزاتها العظيمة للشعب" وکفانا فخرا بهرجان المربد الذي کان يضطلع به الحکم العراقي السابق و مثيلاتها الصفراء في العديد من عواصم و مدن المنطقة الاخرى، إذ أن جميعها تقام تحت خيمة" الرئيس القائد أو جلالة الملک المفدى" وليس بإمکانها أن تنطق ولو مجرد حرفين هما "لا" بوجه صاحب الخيمة! ونظرة الى الواقع الثقافي للمنطقة تبين أن جل الاقلام الجريئة تتوزع على أربعة محاور أساسية هي : 1 ـ قضوا نحبهم و شبعوا موتا. 2 ـ يقبعون في غياهب السجون و مامن أحد يعلم عن مصيرهم شيئا سوى الله و الراسخون في العلم من أصحاب الحظوة عند السلطات. 3 ـ باعوا أقلامهم و مواقفهم السابقة لقاء منصب ما أو شئ من حطام الدنيا و متاعها. وباتوا على أثره مجرد أبواق تحمد و تمجد بفضل ولي الامر الرشيد و الحکومة المخلصة الواعية الخدومة! 4 ـ هربوا بجلودهم وإستقروا في بلاد الله الواسعة التي لاتکمم الافواه و لاتقطع الالسن إذا نطقت بکلمة رفض أو إعتراض. من هنا کان بديهيا أن تصطبغ ألوان الواقع الثقافي في بلدان المنطقة کلها باللون السائد في وزارة الثقافة أو الاعلام والمأخوذة بدورها من لون عباءة الحاکم. وحين تنعدم الالوان الاخرى و يکون هناک لونا واحد فاقعا لايسر الناظرين، فلنا أن نقرأ السلام على روح الثقافة الحقة و نقيم مأتمها في أعماقنا المملوء بسياط الکبت و القهر و الخوف.
#نزار_جاف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرية اوجلان..التنافس الاوربي الامريکي الضمني
-
من رفع القران الى ترشيح جمال مبارک: کلمة حق يراد بها باطل
-
المرأة و الجنس..حکاية الورقة و التوت
-
ترکيا و إعادة محاکمة اوجلان: خيارين لا ثالث لهما
-
الاسلام السياسي و الارهاب:الدوافع و المبررات
-
الرفسنجاني مجددا..فشل البدائل أم اللاخيار؟
-
ولاية الفقيه..وجه آخر للإستبداد
-
الکورد و الاستفتاء في الصحراء الغربية
-
المرأة و الدين ...الخطيئة و الکمال
-
الکورد و التيار الصدري..نقيضان وإن إجتمعا
-
قسم البشير بين التنفيذ و إعادة التأويل
-
أشبعناه سبا و فاز بالابل
-
کرکوک.. لاتتعطل فيها لغة الکلام
-
النظام العربي الرسمي و سراب الاصلاح الذاتي
-
المرأة و التکنلوجيا..صراع الحديد و الاحاسيس
-
أوقفوا العنف النفسي ضد المرأة
-
إشکالية الحرية والانظمة الفکرية ـ الاجتماعية في المنطقة
-
الانثى و الحضارة
-
الکورد..إنفصاليون أم يطلبون حقوق مشروعة؟
-
الحکم السوري : تعددت الاسباب والموت واحد
المزيد.....
-
هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب
...
-
حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو
...
-
بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
-
الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
-
مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو
...
-
مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق
...
-
أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية
...
-
حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
-
تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|