|
اغتراب الوعي وهيمنة الخطابات الشمولية
عامر عبد زيد
الحوار المتمدن-العدد: 4240 - 2013 / 10 / 9 - 11:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المثقف الواعي يشعر أنّه في محنة كبيرة لا خلاصَ منها، فهو يجدُ نفسه وقد تحوّل وعيه إلى صخرة سيزيف يحملها على ظهره وكأنها لعنة أبدية أُصيبَ بها منذً اكتشف زوال الحجاب من حوله، فأصبح بصره خارقاً للحجب والمخيال الرمزي الذي صنع من حوله في العائلة والمدرسة ..بسبب من المؤسسات التي تدجن الوعي وتهيمن عليه وتعيد تأسيسه في كل مرحلة أنها أخاطت لنا شخصياتنا وملامح وجوهنا واستوطنت مثل الفيروسات في اللاوعي الفردي والجمعي، فأصبح كلٌّ منا شخصيات متشابهة إلى حد عجيب، كلنا نسير في طوابير طويلة من ما يسمى الرعية تحيط بنا عين الراعي ،وهو يهش عنا الذئاب وهو الذئب الحقيقي الذي حوّلنا إلى مصدر غذائه الدائم وقت حاجته مثلما نفعل نحن مع الدواجن ندجنها من أجل أن نتخذها غذاء أو متاعاً لنا وقت الحاجة ، وتغدو كلّ محاولات الرعاية والتغذية لها تصب في منفعتنا ، فنحن نرعى أنفسنا وهكذا يفعل الرعاة معنا، فهم حريصون على القطيع بقدر طاعته لهم والقطيع يشعر بالأمان ، إنه محميٌّ من قبل الراعي لهذا تعمل مؤسسات الراعي على إنتاج وإعادة إنتاج خطابها التاريخي الذي يحافظ على الذاكرة ويحميها من كل سوء ، وبين الرعاة القدماء والرعاة الجدد هناك فرق بين القراءة التراثية والقراءة الأصولية المتزمتة التي تعتمد العنف الثوري وتعيد فحص الضمير ولا تكتفي بالسلوك الظاهر بل تمتد إلى الوعي محاولةً إخضاعه إلى الفحص ، هكذا جاءت القراءات الأصولية تريد السمع والطاعة الصارمة الأبدية مقابل أنها توفر كل ما من شانه أن يبقى الفرد تحت السيطرة، وهي تكتفي بتوفير الحاجات في البنوك والشركات التي تدير المدخرات، فالفرد هو الرأسمال الحقيقي ،وهو مصدر المال وهو المستهلك به تكتمل الدورة الجهنمية التي تذكرنا بعملية التدجين التي يمارسها المزارع كما قلنا في البداية . وإلا فمن يخرج عن السامع والطاعة في البيت والطائفة والعشيرة يخلع بل إنّ المجتمع يتم تكفيره كله، ويحلُّ قتله أو تفخيخه إلى أن يعود إلى بيت الطاعة . وإذا عاد فهو آمن، لكنه عليه أن يؤمن أنّ سكان الطائفة الأخرى هم خارج الدين وخارج الحقيقة فلابد من قتالهم وإزاحتهم وتطويق أرضهم وحقولهم ونسائهم وإعادة ترويض أبنائهم وإدخالهم في التأويل الحق .ومن ثم فكل عمليات القتل ليس فيها جناح بل هي بحق الكفرة والمنحرفين ومشاهد القتل التي لاستنكرها أحد في عالمنا وهي تظهر الأطفال والكهول والشباب في أيام الأعياد مقتلين ممزقين لا تحزن الآخر بل هي مجال استمتاع وتبرك . في ظل هكذا وعي ، بماذا يفكر المثقف وقد تحول الوطن إلى خنادق طائفية تستعيد سرديات الماضي وتنفخ فيها من أجل تحويلها إلى نار تحرق كل ما تبقى ، أكيد سوف يشعر المثقف أنّه مغترب عن هذا عالم ، ومن هنا يغدو الاغتراب السياسي منتشراً بشكل واسع جداً في علاقة المواطن بالدولة،الدولة التي قدم أجداده وإباؤه تضحيات من أجلها سواء كانوا شيوعيين أو قوميين، اتضح أنّهم ليس سوى شيعة وسنة وعيهم مازال هكذا ، هذا ما تبين بعد كل هذا الوعي الحديث والتعليم الحديث أنّ الدولة كانت تمارس التغريب وفي الحقيقة كانت دولة طوائف وأحزاب طوائف وحربها كانت حرب طوائف . إنّ الوعي التحتي الوعي الذي يذكرنا بما قاله ابن خلدون عن العصبية إنها عصبية الطائفة التي تفجرت اليوم من خلال القراءات الأصولية وهي حرب الطوائف التي تمتلك تاريخاً متسعاً وصراعاً مستمراً يراد اليوم أن يفجر الدولة التي لم تفلح في خلق مجتمع مندمج على الطريقة الفرنسية، بل مجتمع تهيمن في طائفة على باقي الطوائف رغم إنها في الظاهر دولة علمانية وهي حالة يشترك بها كل العالم العربي او العالم الثالث المحكوم بالعصبية العشائرية والطائفية والعرقية انه الرعية وسرودها الأبدية التي حددها إفرادها وأعداؤها منذ البداية وأنتجت تاريخها و هذا هو الاغتراب قائم في ظل ثقافة رعوية زراعية وهيمنة المجتمع الأهلي الطائفة ، العشيرة ، الاثنية ، وقد كان هيجل يتحدث عن المجتمع ما بعد الصناعي وهو المجتمع المدني الذي أنتج عوالمه التخيلية وأنتج فئة جديدة تُسمّى (المثقفون) الذين يمارسون التنوير ويحضون على تغير الواقع ،فكل من هيغل وماركس شددا على علاقات العجز، يعني الإنسان غير قادر أن يؤثر في النظام العام، فهو مهمّش أو مضطَهد أو لا يجد مجالاً للعمل والتأثير في النظام، وقد يكون ذلك كما قلت بالنسبة إلى العائلة خاصة المرأة، والفتاة. وفي المؤسسات الدينية التي تفرض على الإنسان معتقدات قد لا يستطيع أن يتقبلها. إذاً المثقف العربي وهو يعيش محنة احتراب الطوائف التي تريد له أن يكون سجين البراديمات التي أنتجتها تلك الطوائف وتعمل على ترويضه بكل الوسائل إلا انه يعي دوره الاجتماعي التنويري بوصفه مثقف عليه أن يبحث عن المشتركات الكونية بين الأديان أي يبحث عن جوهر الدين ويؤكد على البعد المعنوي له ،وعليه أن يعيد القراءة لهذه الرسائل الإلهية التي تمظهرت في كل الأديان روح سمحة تعايشي تتقبل المختلفين من الصابئة واليزيدية والمسيحيين والمسلمين بكل طوائفه ...فالمثقف عليه أن يكون قارئاً مفعماً بالحب والانفتاح ويرفض القراءات الإيديولوجية التي تشذر الوطن الحديث والمجتمع المدني الحديث والثقافة الحديثة . انطلاقا من هذا الفهم الشمولي الايديولوجي الطائفي لا يمكن تقبله والخضوع له كجبروت مهيمن، فإنّ الإنسان المعاصر يفتخر أنه هو صنع الدولة ولكن الدولة تكتسب مع الوقت قوة وجبروتاً تتمكن من استعمالهما ضد المواطن، يفترض أنه هو خلقها وغيرها من المؤسسات ، لأنه السبب في استمراريتا وديمومتها . فيجب أن تكون دولة الجميع ويقف ضد من يريد أن يطفئها أو يريد أن يهدمها يجب أن تكون دولة مدنية تحمي الجميع من أيّ عنف رمزي إيديولوجي ، فإن بقاء المؤسسات التي تحرض على العنف وتريد خرق السفينة عليها ان تعي إن هذه السفينة ليس لأحد لأنها ملك الجميع ، لكن بقاء الوضع على حالة الاحتراب لن يفيد احد ، فالكل يتغالب في الهيمنة على المؤسسات كلما بقي الواقع المتشذر بين الخطابات الإيديولوجية التي لا يمكن مجال للتعايش بل مجال خصب للاحتراب والتغالب البدوي في ظل هكذا فضاء تغدو تلك المؤسسة تستبد بحياة الإنسان وعلى العكس يفترض توفير مناخاً أكثر رحابة حتى يتم بناء مؤسسات تعددية وقد يكون هذا موثقاً مثاليا إلا أننا نفكر في ما يجب أن يكون ، فالعدالة يجب أن تكون منصفة حتى تكون مجالاً للتعايش وممارسة الفعل السياسي في فضاء عمومي رحب تعددي يقوم على قبول المختلف حتى نحمي الإنسان من هيمنة الخطابات الشمولية التي تريد أن تكون بديل عن الدولة التي تريد تدميرها ساعتها يكون الإنسان عاجزاً وغير قادر يحركه انتمائه الاثني من اجل البقاء وساعتها سيكون الناتج هو حرب الكل ضد الكل إذا لا بد من مجال رحب للنقد وتوسيع روح المبادرات النقدية وفعاليات المجتمع المدني حتى يخرج الإنسان من كهف الطائفة ومن مخيالها. الذي إذا ما استمر مهيمنا فإنه سيولد الشعور عند الفرد المواطن بالعجز بدل أن يشعر أنه يسهم في تغيير المؤسسة نفسها وفي المشاركة في صنع مستقبل جديد. الذي يتجاوز كل أشكال العلاقات الاستبدادية السلطوية إن كانت في العائلة أو في المؤسسات الدينية أو في المؤسسات السياسية وهذه متوفرة جداً في المجتمع العربي. سلطوية مستبدة تتحكم بالإنسان وبمصيره ولا يستطيع أن يؤثر فيها أو يغيّر من أشكالها. هذا مصدر من أهم المصادر السلطوية، الاستبداد فرض المعتقدات وغيرها واللجوء إلى العقاب عندما يخرج الإنسان عن هذه المعتقدات السائدة. لكن العصر الجديد يقوم على قيم جديدة تؤمن بالآخر؛ لهذا نحن بين قيم القبيلة التغالبية وقيم الطائفة المستعادة في التنظير الايديولوجي نعيش في ظل فوضى عامة في المجتمع، أيضاً مع أنه يظن الإنسان أنّه في حالة الفوضى يستطيع أن يفعل كل ما يريد إلا أنه عندما لا يتمكن من ضبط القيم ولا يستطيع أن يتنبأ بماذا يمكن أن يحدث في أي علاقة قد يقيمها مع الآخرين أو مع المؤسسات في هذه الحالة و ليس هناك من قيم، ليس هناك من معايير تضبط العلاقة في هذه الحالة ، وفي هذه الحالة يظن الفرد أنه يملك حرية واسعة ليفعل ما يشاء إلا أنه في الواقع عندما لا تكون هناك قيم ومعايير تضبط السلوك الإنساني يجد الإنسان نفسه عاجزاً أيضاً؛ لأنه يعيش التشذر بين قيم المعاصرة والفردية وبين قيم المجتمع الأهلي . في ظل القيم الفردية الغربي والقيم الشرقية الشمولية التي تهيمن في ظل القراءات المستعادة للماضي في خطابات شمولية تريد أن تبني الدولة على غرارها دولة الحزب أو الطائفة التي تنفي الآخر هذه القراءة الشمولية هيمنت على عالمنا العربي ، انها تولد الشعور بالعجز ازاء هذا الخطاب الذي يسمى بالإنكليزية over control سلطة تستبد بحياة الإنسان .والإنسان عندما يكون عاجزاً قد يتقبل عجزه ويعايشه وفي هذه الحالة أقول إنَّ هناك force consciousness يعني غياباً للوعي بحقوقه، ودوره، وأهمية دوره في المجتمع. كي لا يكون الإنسان مغترباً على صعيد الوعي.. لابد أن يعي عجزه ويقرر أنه يجب أن يفعل شيئاً لتغيير نوعية هذه العلاقات التي تحيله إلى كائن عاجز في المجتمع. ومعرفة ووعي أسباب الاغتراب مهمة جداً، فعندما لا يعي الإنسان عجزه لا يستطيع أن يغير الواقع الذي يحيله إلى كائن عاجز.وهنا ينبع دور المثقف الذي ينشد الحرية والتعايش والتعدد ويقبل المختلف من أجل مقاومة كل الخطابات الشمولية التي تجعل وطننا مكاناً لاستحالة العيش فيه !
#عامر_عبد_زيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تمثل الدين الليبرالي عند عبد الكريم سروش
-
الوعي الجمالي والتأويلية
-
الخطاب البيوطيقي عند هانس جوناس
-
نقد الفكر السياسي الغربي
-
الفكر السياسي الليبرالي عند جون لوك والتنوير الفرنسي
-
الفكر السياسي الليبرالي - عند مكيافلي
-
أصول نقد الخطاب الابوي
-
رهانات الخطاب العلماني وتحولاته داخل الفضاء الغربي
-
السلطة وأثرها في تشكيل المخيال السياسي العراقي القديم
-
الحلم العراقي القديم
-
قراءة في كتاب قراءات في الخطاب الهرمنيوطيقي للدكتور عامر عبد
...
-
أطياف مدني صالح
-
اشكالية النهضة ج1 -من كتاب اشكالية المثقف -
-
اشكالية النهضة ج2
-
الحضارات صراع أم حوار
-
التأويل اللاهوتي لتاريخ عند أوغسطين
-
نظرية المعرفة
-
إشكالية الخطاب الإعلامي والتحول الديمقراطي العربي
-
من اجل إحياء العقلانية العراقية الغائبة
-
آراء أهل المدينة الفاضلة
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|