|
الثقافي و السياسي و بؤس الايديولوجيا : اليسارالماركسي نموذجا.
بيرم ناجي
الحوار المتمدن-العدد: 4237 - 2013 / 10 / 6 - 09:55
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
مقدمة :
ان طرح هذا المحور المعنون " الثقافي و السياسي:صراع أم تكامل؟" هو من اساسه قد يكون اعترافا بمشكل ليس فقط بسبب العنوان بل بسبب الممارسة الواقعية أو هو على الأقل احساس صادق بوجود مشكل. يمكن طبعا ان نقول منذ البداية ان العلاقة بينهما هي صراع أو تكامل أو هي هذا و ذالك حسب الثقافة و حسب السياسة و حسب الزمان و المكان و هكذا دواليك. يمكن القول ايضا انه طالما هنالك ثقافة سياسية و سياسة ثقافية فهنالك بالضرورة تداخل وتفاعل بينهما على الأقل. يمكن القول ايضا ان طرح المشكل من اساسه نابع من تصور مسبق حول تعريف للثقافة و للسياسة يجعلهما محل تساؤل حول احتمالات الصراع و التكامل و ان المشكلة من أساسها سوف تختلف حسب التعريفات المقدمة للمصطلحين. لكن الأخطر من كل هذا حسب اعتقادي هو التالي: هنالك شعور ما عندي ينبع مما ألاحظه في تونس يقول لي ان جزءا من المثقفين عندهم فكرة ثقافوية – ان صح التعبير- مفادها ان الثقافة هي المعرفة من ناحية و القيم و المبادئ من ناحية ثانية بينما السياسة هي الممارسة العملية من ناحية و المناورة من ناحية ثانية. في المقابل هنالك شعور آخر يقول لي ان جزءا من السياسيين عندهم فكرة سياسوية – ان صح التعبير ايضا- مفادها ان الساسة هي الفعل الميداني و النجاعة العملية اذن بينما الثقافة هي التأمل النظري المجرد و الهوس بالحقيقة المطلقة و المثل الأفلاطونية. بعض المثقفين يعتبرون انفسهم مثل المثقفين-الأنبياء المقدسين الذين ينطبق عليهم قول "لا نبي في قومه" و يرون الى السياسيين و كأنهم من تلويثات المدنس السياسي -الدنياوي وبعض السياسيين يعتبرون انفسهم عناترة الميدان وكبار الفاتحين و يرون الى المثقفين و كأنهم نساك و زهاد لا خير فيهم. النتيجة هي ثنائية عاملة النحل السياسية من ناحية و فأر المكتبات المثقف من ناحية ثانية أو ثنائية عاهرة السياسة من ناحية و قديس الثقافة من ناحية ثانية. ان الخطر الأول في هذه الثنائيات هو كونها أولا وقبل كل شيء نابعة نظريا من استبطان التقسيم اليوناني القديم للعمل بين العمل اليدوي و العمل الفكري . أما الخطر الثاني فنابع من صراع حقيقي بين المثقف و السياسي حول السلطة السياسية و الرمزية في التنظيمات السياسية و الثقافية و المجتمع عموما بحيث تخفي هذه الثنائية "عناد" بعض المثقفين وبعض السياسيين وانتفاخ انانيتهم الرافضة لتولي السياسي مهام القيادة العملية طورا أو رفض المثقفين القيادة النظرية تارة. و لكن خطرا آخر قد يصبح هو الأكبر أحيانا - من وجهة سوسيولوجيا اليومي ان شئنا- بسبب تأثيره السلبي الشديد في بعض اللحظات فيكمن في كونها ،أي هذه الثنائيات، تخفي أحيانا جبن بعض المثقفين- و ليس كلهم طبعا- عن خوض غمار الممارسة السياسة و لكن بتقديمه في جبة الزهد و المبدئية و تخفي احيانا اخرى جهل السياسيين بأبجديات الثقافة السياسية مع تقديمه في جبة نجاعة الممارسة العملية مقارنة بالنظرية. في كل الحالات اذن هنالك مرض حقيقي و لكن ما يهمني الآن هو أمر آخر : هو مكانة الايديولوجي في الربط الصراعي او التكاملي بين الثقافي و السياسي. و سآخذ اليسار الماركسي نموذجا و لكن هذا النموذج قد لا يختلف كثيرا الا في الاتجاه – وليس في الدرجة - عن النموذج الليبيرالي او القومي او الاسلامي مع كل الفوارق التاريخية التي لا يتسع المجال لنقاشها الآن.
1- الماركسية ومصطلح الثقافة.
لا يوجد عند ماركس و انجلس مصطلح الثقافة. هنالك اللفظ و لكنه ليس مصطلحا علميا قائما في جهازهما التحليلي. عندهما لا نجد في "المادية التاريخية" سوى القوى الانتاجية ( قوى العمل و ووسائل و ادوات الانتاج) و علاقات الانتاج ( الانتاج و التبادل و الاستهلاك و التوزيع) و نمط الانتاج و التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية و البناء الفوقي ( السياسي) و الوعي الاجتماعي بمختلف مكوناته. المرة الوحيدة التي يمكن القول فيها ان مصطلح الثقافة ظهر عندهما كانت سلبية و ذلك عند انجلس عندما تبنى نظريات مورغان وضمنها في كتاب "اصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" و قسم مثل مورغان تاريخ المجتمعات البدائية الى مراحل الوحشية والبربرية والمدنية و ربط الأخيرة بتطور الثقافة . و هذا التقسيم تطوري ينتقد الآن بشدة حتى من قبل "علم الانتروبولوجيا البورجوازي" نفسه. بعد ماركس و انجلز ظهر مصطلح الثقافة في الماركسية بطريقتين.الأولى عند ستالين ثم " الماركسية – اللينينية" و الثانية عند غرامشي. عند ستالين و في اللينينية ظهر المصطلح بتأثير من الاشتراكية الديمقراطية النمساوية و حزب "البوند" اليهودي الروسي و أدى الى نظرية الأمة في كتابه " الماركسية و المسألة القومية" و مصطلح " الوحدة النفسية – الثقافية للأمة" و الكتاب كان احد اسباب تعيين ستالين اول مفوض للقوميات في الاتحاد السوفياتي و اصبح قرآن الماركسيين –اللينينيين في النظرية القوميية. أما عند غرامشي فظهر مصطلح الثقافة في اتجاه مختلف- ولكن نسبيا- و ذلك عبر تعريف الثقافة والمثقف و المثقف العضوي و الهيمنة الثقافية و غيرها من المصطلحات التي أعطت أهمية "للبناء الفوقي" كما يقال و بالتالي لم تقطع جذريا مع تلك النظرية الماركسية الكلاسيكية ( بناء تحتي و فوقي) بل احدث عليها تعديلات لا غير مثلما حاول نيكولاي بوخارين في كتاب له عن علم اجتماع صدر سنة 1921 ادخال تعديلات مرنة على المادية التاريخية و لكنه اضطر الى تقديم نقده الذاتي حول الكتاب بعد سنوات قليلة وساهم ذلك الكتاب جزئيا في تحديد مصير بوخارين الذي اعدمه ستالين سنة1938. من ناحية أخرى اقترب جورج لوكاتش من التحليل الثقافي بالعودة الى "ماركس الشاب" و اعتبر "تحريفيا" من قبل الماركسيين التقليديين و تابع تروتسكي تقريبا التصور الطبقي الجاف عن الثقافة و اتبع ماوتسي تونغ تحليلا اقرب الى ستالين -مع تعديلات في نظرية الأمة - و لكنه لم يبرح التصور الكلاسيكي تقريبا الى ان ابتذل الأمر سنوات "الثورة الثقافية" في اواسط الستينات و اثر ذلك كثيرا على ثورة ماي1968 في فرنسا و على الدراسات التي ستعقبها. بصورة عامة اذن لم يكن الثقافي في الماركسية الكلاسيكية و الأرثوذكسية حاضرا الا كوعي اجتماعي طبقي ( حزبية الفلسفة و العلم و طبقية الوعي الاجتماعي...) و كان التقسيم الكلاسيكي قائما على ثنائية الوعي الطبقي العلمي البروليتاري الأممي ( و ليس القومي) و الايديولوجيا بمظهريها القومي ( كتاب "الايديولوجيا الألمانية") و العالمي ( الايديولوجيا البورجوازية) و لم يقطع غرامشي و لا لوكاتش كثيرا معه و لكن ستالين ادخل في "اللينينية" مصطلح "الوحدة النفسية الثقافية" للأمة و هو ما يمكن اعتباره تصورا جديدا اذ أصبح ينظر الى اللغة مثلا خارج البناء الفوقي ( فهي ليست بناء فوقيا حسب ستالين) و تم ادراج مظاهر من "الوحدة النفسية – الثقافية" الأخرى خارج البناء الفوقي الطبقي ايضا باعتبارها مكونا مشتركا لكل طبقات الأمة رغم تأثرها النسبي بالانقسام الطبقي و لكن نواة التصور الماركسي التقليدية حول الوعي الاجتماعي ظلت قائمة.
2 - مسدس غوربنغ و محفظة برنارد شو و "هندسة الأرواح" الجدانوفية.
يردد الجميع قول غورينغ " كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي" و يبدو ان هذا القول هو مجرد تحويل لجملة برنارد شو الشهيرة " كلما استمعت الى رجل الدين تحسست محفظتي" . و لكن مرددي القول الأول لا يتساءلون عميقا لم قال غورنغ هذا و هم في نفس الوقت يعتبرون النازية وريثة لجزء من الثقافة الألمانية و يذهب البعض الى اتهام هيغل وهايدغر وهوسرل و نيتشه و شوبنهاور بهذا مثلا. أما مرددو القول الثاني فيبالغون في اتهام كل رجال الدين بالمتاجرة بالدين ، و هذا يريح مبسطي نظرية البناء الفوقي و يجاري تصورهم العلماني الفج – اللائكي الفرنسي و السوفياتي- وتأويلهم المتشدد لقول ماركس "ان الدين هو أفيون الشعوب". عندنا اذن أمام اليسار مشهد قتل الثقافة الرأسمالي الفاشي و تسليع الثقافة الرأسمالي الليبيرالي . أما في الوطن العربي فاليسار بين ثنائية زيف الدجال وسيف الجلاد بكل أصنافهما الممكنة الاسلامية و القومية و الليبيرالية التابعة .و لكن اليسار العالمي و العربي استبطن مع الأسف هذه الثنائية و مارسها و لكن باسم الثقافة العلمية و السياسة البروليتارية ، بل وباسم الايديولوجيا اذ بعد ان كان مصطلح الايديولوجيا سلبيا و يعني "الوعي الزائف" و يقابله مصطلحا النظرية و الوعي العلمي تسلل مصطلح الايديولوجيا نفسه الى الخطاب فأصبحنا نتحدث عن "الايديولوجيا الماركسية- اللينينية "و عن" النضال الايديولوجي". أين المشكل بالتحديد؟ انه في الايديولوجيا بالذات و لكن ليس في مصطلحها العادي "المحايد" بوصفها نسقا من الأفكار ، اذ يمكن ان يكون النسق مفتوحا ،بل في مصطلحها العقائدي المغلق الذي يدعي امتلاك الحقيقة الوحيدة العلمية و العملية. ان مشكلة اليسار هي في طريقة ردة فعله على تسليع الثقافة و تصوراته الانفعالية عن كيفية تأميمها و مشركتها وفي طريقة ردة على عنف مسدسات القتلة و انخراطه في العنف الثوري المضاد المادي و الرمزي على السواء. وانني اعتقد ان انسلاخ عدد مهول من خيرة مثقفي العالم عن الأحزاب اليسارية او تبرمهم من الاقتراب منها رغم تعاطفهم العام مع اليسار يكمن هنا بالتحديد. ان مقتل اليسار التاريخي في علاقة السياسي بالثقافي يكمن في هذه المفارقة بالتحديد اذ رغم الابداعات الثقافية اليسارية العظيمة في تاريخ البشرية الحديث و المعاصر هنالك علبة سوداء ايديولوجية عقائدية تجعل من صعوده الملحمي عبثيا سيزيفيا احيانا و من نزوله الدرامي مأساويا احيانا اخرى. وان قمة تتويج هذا هو "هندسة الأرواح " الجدانوفية – الستالينية التي لم تستفد حتى من انتقادات لينين لمجموعة "البروليتكولت" ( الثقافة البروليتارية) في العشرينات بل حذت حذوها في كل مجالات الثقافة من العلم حتى الفن "الواقعي الاشتراكي" و ذلك ارتباطا بنظرية دكتاتورية البروليتاريا القائمة على "الهيمنة الايديولوجية" البروليتارية عبر سياسة الحزب الواحد و الخط الواحد داخل الحزب وبذلك أصبح "المثقف العضوي" خادما لدوغما القيادة الحزبية الواحدة شديدة المركزية و بالتالي شديدة البيروقراطية. و لكن لكل هذا جذور في الماركسية – اللينينية نفسها و ليس هو مجرد "خطأ تطبيقي " في "التجربة" لا غير.
3- " أصول الماركسية" وجدلية السياسي و الثقافي.
تعود أصول الماركسية الى هيغل و الفلسفة الألمانية والى سميث-ريكاردو و الاقتصاد السياسي الأنجليزي والى الاشتراكية الفرنسية . و لكن هذه الأصول المتعددة نسجت في نسق فكري واحد تميز بالشمولية من ناحية و الأحادية من ناحية ثانية. الشمولية في محاولة الامساك بما سماه هيغل "الكلي العياني" و الأحادية ( أو الواحدية بتعبير بليخانوف) بمعنى المادية . نتيجة هذا هو سقوط ماركس و الماركسيين في فخ هيغل ( ولكن بقلبه) و محاولة ايجاد نسق شامل لتفسير كل شيء و لكن احادي ينطلق من المادي "المطلق" عوض "الفكرة المطلقة" الهيغلية و يطبقه على الطبيعة و المجتمع و الفكر و يصبح الماركسي مقتنعا ان ماديته الجدلية هي " علم أعم قوانين الطبيعة و المجتمع و الفكر" الوحيد الصحيح و ان الشيوعيين هم وحدهم ممثلو الطبقة العاملة التاريخيون الى درجة ان كل من يختلف عن النسق يصبح انتهازيا و تحريفيا و خائنا و "يهوذا الاشتراكية" و عميلا للبورجوازية داخل صفوف العمال يجب التخلص منه من باب الحفاظ على " الوحدة النظرية و العملية" و من باب ان "النضال ضد الرأسمالية يمر حتما عبر النضال ضد الانتهازية" و ان " القلاع الحصينة لا تؤخذ الا من الداخل" و ان " الحزب يقوى بتطهير نفسه من العناصر الانتهازية" ... ان المصير الذي عرفته الماركسية كنسق لم يخل من التأثر بعوامل أخرى يتغافل عنها الماركسيون التقليديون كثيرا. لقد نشأت الماركسية في ألمانيا البروتستانتية التي ركزت على العمل و الطهرية كتجسيد "للمسيحية الحقة" بحثا عن الخلاص الديني في مواجهة الكاثوليكية . كما نشأت كوريث لسميث و ريكاردو المناضلين ضد الفيزيوقراط و المركانتيليين (الذين كانوا يركزون على الأرض- الريع و الرأسمال التجاري و الربوي) دفاعا عن الراسمال الصناعي . كما نشأت الماركسية من الاشتراكية الفرنسية حيث الأب ج.ج.روسو ينظر للطبية الطبيعة الأولى للبشرية و حيث سان سيمون الذي يحلل كل شيء بالتطور التقني و العلمي و ينظر لضرورة دين وضعي جديد و كنيسة وضعية جديدة. لقد ورثت الماركسية كل هذا و أعادت صهره في نسقها فأنتجت خطابا و ممارسة علومية – خلاصية يمكن تلخيصها بالمقارنة بالدين كما يلي: المادية الجدلية هي "العقيدة" الوحيدة الصحيحة و المجتمع كان مشاعيا بدائيا "طيبا" ثم وقعت "الخطيئة الأولى" و هي الملكية الخاصة و تطور البؤس البشري ووصل الى ذروته في الرأسمالية و لا بد من "الخلاص الحتمي" من خلال العودة الى الأصل ( نفي النفي و تحقيق الشيوعية) و" المخلص- الرسول" هو ماركس و انجلس هو "القديس بولص" و لينين و ستالين و تروتسكي و ماو تسي تونغ أو غيرهم "حواريون "و" خلفاء راشدون" و"كنيسته" هي حزب و اممية الماركسية- اللينينية و البروليتاريا هي "الفرقة او الطائفة الاجتماعية الناجية" لأنها وحدها العاملة حقا و عليها أن تحكم لوحدها بقيادة حزبها و انارة عقيدتها لتحقيق المرور الى مجتمع المستقبل الذي هو "الجنة الأرضية"( بتعبير مجازي من لينين في "حول الموقف من الدين") و هي التي ستحل فيها كل التناقضات وسيحصل فيها كل انسان على كل حاجياته ومن ثم ينتهي- ما قبل التاريخ - و يبدأ التاريخ الحقيقي. النتيجة – مع كاريكاتورية مبالغة – هي تأسيس دين ماركسي وضعي و كنيسة ماركسية-وضعية و لكن مع اعلان متكرر ان "الجدل ليس عقيدة جامدة بل هو منهاج للتفكير" ( و هو بالمناسبة ما تقوله كل الأديان أيضا عن نفسها و تخترع لذلك الاجتهاد و القياس و الاجماع و الاستحسان و غيرها مما نعرفه) و لكن الملاحظ ان الاجتهاد سرعان ما يتوقف لتحل محله الأصولية و دليل ذلك انه لم يوجد ماركسي واحد الى اليوم أضاف الى قوانين الجدل و مقولاته قانونا واحدا او مقولة واحدة رغم مرور أكثر من قرن ونصف على أولى كتابات ماركس و رغم كل تطورات العلم و الثقافة وكل التجارب السياسية التاريخية على الرغم من التكرار الدائم ايضا لمقولة "ان الماركسية هي الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الانسانية ".
4- الماركسية- اللينينية و تاريخ الثقافة
يربط الماركسيون ظهور المادية الجدلية بتطورات علمية و فكرية مهمة مثل المرور من الميكانيكا الى التيرمو- الديناميك و تحول الطاقة و مثل اكتشاف الخلية و ظهور البيولوجيا ومثل نظرية القيمة في الاقتصاد و ظهور الانثروبولوجيا و غيرها. و لكن لا يتساءل الماركسيون كيف تعامل ماركس و انجلس مع هذا و لا كيف تعامل لينين و غيره مع ما سيلحق من تطور علمي و ثقافي. انني أعتقد ان ما قامت به الماركسية هو شبيه بما قامت به الأديان مع العلوم بحيث حاولت التيولوجيا التأقلم مع تطورات العلم لتستوعبه خشية الانفجار و لكنها لم تفلح في ذلك وأساءت الى نفسها و الى العلم في نفس الوقت. قد يقول البعض ان هذا التشبيه خاطئ لأن التيولوجيا تعاملت مع ما لحقها بينما الماركسية تعاملت مع عصرها و هي ابنة الحداثة و الثورة العلمية و التقنية. هذا صحيح جزئيا فقط . قلت أعلاه انه لم يوجد ماركسي واحد الى اليوم أضاف الى قوانين الجدل و مقولاته قانونا واحدا او مقولة واحدة رغم مرور أكثر من قرن ونصف على أولى كتابات ماركس و رغم كل تطورات العلم و الثقافة وكل التجارب السياسية التاريخية على الرغم من التكرار الدائم ايضا لمقولة "ان الماركسية هي الوريث الشرعي لخير ما أبدعته الانسانية ". و أضيف الآن ما يلي: ماركس نفسه لم يضف الى لوحة قوانين و مقولات الجدل الهيغلي نقطة واحدة و اكتفي بقلب ذلك الجدل ليصير "واقفا على قدميه بعد ان كان واقفا على رأسه "لا غير. بهذا المعنى فالماركسية بالنسبة الي هي "فلسفة كلاسيكية ألمانية" و كتاب أنجلس " فيورباخ و نهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية" هو كتاب ايديولوجي سلبي وهو - و المعذرة على التشبيه- يشبه فعل " عودة المجرم الى مكان جريمته" لا غير. ماركس قلب الفلسفة الكلاسيكية الألمانية و لكنه لم ينهها ويتجاوزها بالقطع بل واصلها قالبا اياها لا غير. و الماركسية- اللينينية بقيت كذلك بوصفها انطلقت من مبحث الأنطولوجيا " ما الذي يوجد أولا: المادة أم الفكر؟" ثم عممته على الطبيعة و المجتمع و الفكر لتجعل منه " المسألة الأساسية في الفلسفة" وهي بذلك تواصل نفس المبحث التيولوجي و الفلسفي الكلاسيكي الراغب في تحديد "الخالق-الفاطر" و "الدافع" الأول و تخضع كل العلوم اليه. بهذا المعنى و في هذا الاطار تعامل ماركس و انجلس و لينين مع الثقافة و سآخذ دليلا على ذلك بعض الأمثلة المتزامنة مع ظهور و تطور الماركسية ،و ليس من تاريخ الثقافة العام ، و التي أعتقدها دالة و هي التالية: يقول بعض المؤرخين ان ماركس كان يريد اهداء الجزء الأول من كتاب راس المال الى داروين و لكن الأخير رفض . ويبدو ان رفضه كان مبررا بالنظر الى ما سيكتبه انجلس لاحقا في "دور العمل في تحويل القرد الى انسان".لقد كان داروين يعتبر الدماغ البشري ارقى الأعضاء و لكنه رفض تحليل أصل الانسان حصريا أو أساسيا بتطور الدماغ من باب الحذر العلمي. و في المقابل يقول ماركس و انجلز ان الدماغ هو ارقى اشكال المادة العضوية أيضا و لكنهما- هربا من المثالية - ركزا كثيراعلى دور اليد – عضو العمل االاقتصادي المادي- في تحول القرد الى انسان على خلاف داروين بل وذهبا بعيدا في الانسجان النسقي الفلسفي المادي بأن قاربا الدماغ الذي هو عضو التفكير نفسه بوصفه عضوا لانعكاسية المادة في الفكر بدرجة أساسية بحيث تصبح نظرية المعرفة سجينة الأنطولوجيا و لا ينظر اليها كفعل بشري ذاتي بالدرجة الأولى رغم كونها علاقة معرفية بين ذات عارفة و موضوع معرفة. ورغم كون الماركسية ليست مادية مبتذلة الا انها بقيت سجينة العامل الأول الانطولوجي- الزمني- السببي و لم تنظر الى المعرفة كتفاعل بين الذات و الموضوع الا ضمن ثنائية الأولي و الثانوي،السابق و اللاحق و المحدد ( بكسر الدال الأولى) و المحدد ( بنصبها) هربا من المثالية الموضوعية و الذاتية . من ناحية أخرى ربما يذكر البعض كيف احتج بعض علماء الرياضيات عند ماركس ضد كتابات انجلس في الموضوع حيث تحدث مثلا عن جدلية الرياضيات و ذكر الجذر التربيعي و سالبه في حين ان سالب الجذر التربيعي لا وجود له تماما وقد اضطر انجلس الى سحب ذلك و الاعتذار عليه لا حقا في احدى مقدمات "انتي دوهرينغ " الشهيرة. كما يمكن أيضا ذكر ما كتبه أنجلس في" أصل العائلة و الملكية الخاصة و الدولة" على اثر اطلاعه على أعمال مورغان الانتروبولوجية: في مقدمة كتابه ذكر انجلس تلك الجملة الشهيرة " ان تاريخ البشرية لم يكن الى حد الآن سوى تاريخ صراع الطبقات" ثم أضاف بين قوسين (باستثناء المجتمع البدائي). و لكنه اعتمد اعمال مورغان التطورية الاستعمارية في تقسيم مراحل الوحشية و البربرية و المدنية و تسرع في وصف "المشاعية البدائية" الخالية من وجود العائلة و الدولة و الطبقات و هو ما تفنده الآن الآنتروبولوجيا السياسية تحديدا ( انظر مثلا أعمال بيار كلاسترز و جورج بالانديييه ) اذ ان مفهوم الدولة على الأقل بوصفها " ا شرطة و جيشا" ظهر في مجتمعات بدائية بسبب تطور تقسيم العمل النسبي و حجم بعض المجتمعات الديمغرافي و نزاعاتها العسكرية مع الجيران على الأرض و غيرها من العوامل. بعد ماركس و انجلس خاصة ( و يبدو ان سارتر كان معه الحق في تحميل انجلس المسؤولية الأكبر في هذا) قام كاوتسكي و بليخانوف و لينين و غيرهم بنفس الشيء تقريبا و اليكم مثالين هامين من لينين: المثال الأول حول الموقف من أعمال سيغموند فرويد: رأى لينين في أعمال فرويد "علما بورجوازيا" لأن فرويد اهتم بعلم نفس الفرد و الفرد في الماركسية لا ينظر اليه الا بوصفه فردا من طبقة اجتماعية كما قال ماركس ذات يوم في "الايديولوجيا الألمانية" ضد "أوحد" ماكس ستيرنرعلى ما أذكر.نتيجة هذا كانت طلاقا بين علم النفس التحليلي و الماركسية و اتهاما عقائدي لكل من قام بعكس ذلك بالتحريفية من مدرسة فرانكفورت و غيرها. المثال الثاني من لينين حول انشتاين و نظرية الضوء و الكوانتا.من يرجع الى "المادية و المذهب النقدي التجريبي" للينين يرى سخريته من " انقراض المادة" ور بطه ذلك بماخ و افيناريوس و بيركلي و غيرهم . ولكن المشكل ان لينين لم ينتبه ان مع الفيزياء الكوانطية تم تغيير جذري في "البارديغم" العلمي الذي كان ميكانيكيا نيوتونيا و حراريا- ديناميا في السابق. صحيح ان المادة لم تمت بدليل اننا لم نتخل عن الكيمياء و الفيزياء النيوتونية و البيولوجيا و غيرها من "العلوم المادية"،و هنا لينين معه الحق، و لكن نظرتنا اليها تغيرت تماما بحيث تبين ان العلم ليس انعكاسا للمادة في الدماغ بل ان سهم المعرفة – وليس الاحساس- الأساسي ينطلق من الذات الى الموضوع و ان العلم هو اعادة تركيب للموضوع من خلال نماذج ذاتية يتم اختبارها على الموضوع "لاحقا" و ان معرفتنا العلمية بنائية بالأساس و ليست انعكاسية. ما قامت به الكوانطية هو تنسيب وثوقية الفيزياء و الميكانيكا و كان من المفروض ان ينسب ذلك نظرية المعرفة ويخرجها من طابعها الأنطولوجي- الزمني- السببي الأحادي . ولكن استغلال الفلسفة المثالية الفينومينولوجية و التأويلية للأمر الى حد السوليبسيسم بحجة ان "الفوتون" الضوئي هو تارة جسيم و أخرى موجة وثالثة مختلفة جعل لينين يقبع مكانه العقائدي ويرد الفعل في الاتجاه المعاكس المادي- العضوي بحيث يقف عند – او لنقل يركز على- تعريف المادة بتوسيعه من خلال كونها كل الأشياء " الخارجة عن الاحساسات و الموضوعية عنها" ( و هو تعريف سرعان ما يخبو لأن لينين يقول أن الاحساسات نفسها مادية باعتبارها عمل خلايا ووصلات الدماغ العضوية وبالتالي المادية هي نفسها) فنعود معه الى مادية مطلقة لأن "وحدة العالم تكمن في ماديته" ويركز في المقام الثاني على تعريف المعرفة بوصفها "انعكاسا للمادة في احساساتنا من خلال الدماغ" "خالطا" بذلك بين "الاحساس" و المعرفة و هما أمران مختلفان وان ترابطا. ان هذه الأمثلة و غيرها كثير تبين ان تعامل الماركسية مع العلم شبيه بتعامل التيولوجيا معه بحيث يتم اخضاع العلم الى النظرية النسقية عنوة و ليس الاستفادة من العلم للتفكير المنفتح.
5- بسيكو- سوسيولوجيا المثقف عند اليسار الماركسي.
ان ما يجعل الماركسية شبيهة بالتيولوجيا هو أيضا مقاربتها السوسيو- بسيكولوجية للمثقفين وهي لعمري مسألة هامة جدا لا بد من تفكيكها ولو باختصار لأنني أشعر ان في هذا الأمر مكمن داء عضال. تنظر الماركسية الى المثقفين بوصفهم من الطبقات الوسطى البورجوازية الصغيرة . و تنظر الماركسية الى هذه الطبقات عموما نظرة تتميز بأمرين: من ناحية أولى تتصورها بصدد الانقراض بناء على تصور ان السيرورة الطبقية للمجتمع تسير باتجاه "الانبساط" بحيث ستحل المعادلة نهائيا بانقسام الى معسكرين هما البورجوازية و البروليتاريا.الطبقات الوسطى هي اذن تسير الى حتفها النهائي وفق تطور التناقضات الاجتماعية المتعمقة و المتصاعدة و شرائحها و أفرادها سينقرضون أو – وفق تصور "كهرومغناطيسي "- عليهم ان يقتربوا حتما من احدى الطبقتين الاجتماعيتين الأساسيتين :البورجوازية أو البروليتاريا. لقد انطلقت الماركسية في تحليلها هذا خاصة من وضعية الفلاحين و لكنها عممته على جميع الشرائح الوسطى و لكن كل الدراسات الاجتماعية الحديثة تبين ان الطبقات الوسطى قد لا تنقرض بالضرورة بل تتجدد و يكون لكل مرحلة طبقاتها الوسطى الخاصة حسب تطور المجتمع و تجدد تقسيم العمل داخله.بل،و أكثر من ذلك ،ان البروليتاريا الصناعية الكلاسيكية هي التي قد تعرف مصيرا شبيها بالفلاحين و ليس الطبقات الوسطى بدليل ان البروليتاريا الصناعية التقليدية تتناقص عددا ووزنا في الانتاج الاجتماعي الجملي الآن في المجتمعات "ما بعد الصناعية". من ناحية أخرى لا ينتبه الماركسيون التقليديون انه بين الفلاحين و المثقفين اختلاف كبير من حيث وسطية موقعهم الاجتماعي. فالفلاح المتوسط يتبرجز او يتبلتر و الفلاحة تتمكنن فتضعف نسبة اليد العاملة الفلاحية كثيرا . و لكن المثقفين ، و ان حدث عندهم ما يشبه الفلاحين في مراحل ما و بأشكال ما، يرتبطون بشكل آخر من العمل الاجتماعي له ديناميكيته الخاصة جدا بحكم ارتباطه بكامل الوظائف المجتمعية : اقتصادية و اجتماعية و سياسية و ادارية وأمنية و عسكرية و فكرية و علمية و تعليمية و فنية ودينية وغيرها و هذا العمل ليس لصيقا مباشرا بشكل محدد من الانتاج الاقتصادي مثل التصاق الفلاح بالزراعة أو البروليتاري بالصناعة تحديدا. ما الذي قد ينتج عن سوسيولوجيا المثقفين هذه؟ انه بسيكولوجيا خاصة حسب التصور الماركسي الكلاسيكي. تتميز هذه البسيكولوجيا بثنائية متوترة حد الانفصامية احيانا. من ناحية أولى هنالك ذم بسبب ارتباط المثقف بالعمل الفكري مقابل مدح البروليتاري المرتبط بالعمل اليدوي . و لكن من ناحية ثانية هنالك مديح مشوب بالذم بسبب دور المثقف في حمل الوعي الى البروليتاري " من الخارج" من ناحية و لكن هنالك دائما تذكير بتذبذب المثقف الخائف على مكانته الاجتماعية و قدرته على تحويل كل الخيانات الى مبادئ فكرية مقابل البروليتاري النشيط الذي يقدم كضحية طيبة لتقسيم العمل الاجتماعي و صاحب النزعة العملية الصارمة و المقاتلة بتعلة انه لا شيء عنده يخسره "سوى السلاسل" مع نسيان ان البروليتاري هو نفسه بشر قد يخسر حياته و عائلته و عمله ،الخ ،اذا كان عاملا و قد يفعل كل شيء من أجل الحصول على عمل ان كان عاطلا عنه. باخصار شديد ، وهنا أعود الى الدين، يبدو لي ان بعض الماركسيين استبطنوا ثنائية المسيح – البروليتاري القادر على الذهاب طوعا الى المقصلة بحثا عن الخلاص و الالتحام بالمطلق مقابل صورة يهوذا الاسخريوطي الخائن و الذي عليه تقع لعنة التاريخ ان لم يثبت كل يوم ما يدل على انه نادم و مستعد لخدمة جموع المؤمنين المنتظمة في الكنيسة التي ستخلص البشرية من الآلام الأرضية. كما تبدو لي صورة المثقفين في الماركسية تشبه في بعض جوانبها صورة الشعراء في سورة الشعراء القرآنية :انهم " في كل واد يهيمون"و"يتبعهم الغاوون" و" يقولون ما لا يفعلون" و لكن بالطبع "الا الذين آمنوا " بحيث يصبح نموذج المثقف اليساري الجيد هو نفسه نموذج الشاعر حسان بن ثابت شاعر ومداح الرسول .
ان ما ينتج عن هذه البسيكولوجيا هو مزيج من الملاحم و المآسي في نفس الوقت :ملاحم المثقفين العضويين الملتحمين بشعوبهم حد الاستشهاد أحياناعلى الطريقة الغيفارية و مآسي المثقفين اليساريين الذين تم تخوينهم أو الذين انتحروا كماياكوفسكي و ألتوسير أو الذين أغتالهم رفاقهم كتروتسكي و بوخارين . وبين الملحمة و المأساة تحدث المهزلة أحيانا كثيرة فيظهر من بين المثقفين اليساريين من يحول الفكر اليساري الى مسخرة . لو بحثنا بسيكولوجيا عن سبب هذا لوجدناه ربما – وأقول ربما لأنني لست مختصا في علم النفس- في صورة "المثقف اللقيط" الذي عليه ان يكون عضويا فيكون اما غيريا الى حد التطرف و المازوشية أحيانا التصاقا بالبروليتاريا و أنانيا الى حد الصادية ضد البروليتاريا نفسها أحيانا أخرى و كأن الماركسية التقليدية تدفع به الى التطرف هنا هو هنالك لأنها لا تقبل من يلعب دور" الموقع الوسط" الذي ينظر اليه دائما نظرة قيمية تحقيرية على انه " بلا طعم ولا لون و لا رائحة" عوض النظر اليه نظرة علمية و موضوعية في خارطة العلاقات الاجتماعية وعملية تقسيم العمل الاجتماعية.
6- تبديد الأوهام.
اذا أراد اليسار اعادة بناء العلاقة بين السياسي و الثقافي بطريقة جديدة فعليه اعادة النظر في كل شيء و تبديد الأوهام. الوهم الأول الذي يجب محاربته هو الاعتقاد في امكان التجاوز المطلق لثنائية السياسي و الثقافي. من ناحية اولى : ان تقسيم العمل بين السياسي و الثقافي هو أمر طبيعي جدا و لكن ما يجب القيام به هو اعادة صياغة العلاقة بين الطرفين و ليس تصويرها كعلاقة تصارعية بالمطلق او تكاملية بالمطلق . لا بد من تنسيب المسألة باستمرار و الخروج من المنطق الثنائي للدخول في المنطق الجدلي. من ناحية ثانية : ان الحلم بتحويل كل المثقفين الى سياسيين او كل السياسيين الى مثقفين وهم نظري و عملي الآن و مستقبلا كالحلم بتحويل كل اقتصادي (او رياضي...) الى فيلسوف و كل فيلسوف الى اقتصادي أو غيره. و لعله من الأسلم التأكيد على شيء: ان المشكل الحقيقي ليس في العلاقة بين السياسي و الثقافي بوصفهما فعلين اجتماعيين بل بين رجال ونساء السياسة و رجال ونساء الثقافة أنفسهم و تصوراتهم و ممارساتهم السياسية و الثقافية. ان حلم ماركس بالقضاء التام على كل اشكال تقسيم العمل في الشيوعية الى درجة تمكن الفرد من ان يكون عاملا في الصباح و طبيبا في المساء وفيلسوفا في الليل هو حلم فردوسي- ديني ،و لكنه مقلوب، لا غير و هو ، مثل كل يوطوبيا، و ان كان يساعد ايجابيا على التقدم الفعلي في اعادة صياغة تقسيم العمل لكنه لن يقضي عليه في مجتمع خال من كل التناقضات الا مع الطبيعة . ان الانسان نفسه جزء من الطبيعة و اذا كان التناقض مع الطبيعة سيبقى فذلك يدل على بقاء التناقض بين البشر لأن امكانياتهم الطبيعية ليست متساوية و ستؤثر حتما على امكانياتهم الاجتماعية مما سيخلق مادة للتناقضات الاجتماعية التي من بينها التناقض المحتمل بين السياسي و الثقافي. لا بد من التذكر هنا انه حتى الجنة السماوية الموعودة فيها قادة و مقودون و بها خدم و حشم ،و هي تقابل الجحيم السماوي ، فما بالك "بالجنة الأرضية"؟ وواهم اكثر من يريد منذ الآن خلق تنظيم حالي على صورة " مجتمع المستقبل" بحيث يريد تجاوز ثنائية السياسي- الثقافي منذ الآن و هو لا يزال في مجتمع رأسمالي، وتابع أو شبه مستعمر ، وان هذا الوهم لا يختلف في شئ عن قرى الاشتراكيات الطوباوية و تعاونيات الفوضويين الجميلة جدا و لكن غير الواقعية. ان اليوطوبيا جميلة و ايجابية جدا في التاريخ و لكن بشرط الا تتحول الى ايديولوجيا سياسية مغلقة تدعي الحقيقة المطلقة نظريا و الخير المطلق عمليا و ان في الماركسية مع الأسف الكثير من هذا . ان صورة المجتمع الشيوعي الخالي من كل تقسيم للعمل ،و بالتالي من تقسيم بين السياسي و الثقافي، والخالي من السياسة بوصفها "فن ادارة الصراع الطبقي" و الخالي من الفلسفة - التي تعلن الماركسية نهايتها بوصفها تأملا فكريا- عبر الوعد بانتصار نهائي "للفلسفة العلمية" و الخالي من الايديولوجيا عبر الوعد بانتصار الوعي الصحيح على الوعي الزائف ، و الخالي من الدين عبر الوعد بالتخلص من الأفيون الديني كشكل بائس من العلاج للواقع البشري البائس و انتصار "مملكة العقل" ،الخ، هي صورة يوطوبية جميلة و لكنها اذا تحولت الى ايديولوجيا سياسية تصبح عقيدة دينية جديدة لا غير وهي تدمر بالتالي السياسة و الثقافة معا و في نفس الوقت و بنفس القدر.
خاتمة : الجديد و التجديد و القطع .
اذا كان هنالك امر على المثقف و السياسي اليساري القيام به فورا فهو التخلص نهائيا من صورة المثقف و السياسي" الرسولي" الذي يعد بالحقيقة المطلقة و"بالجنة الأرضية" التي ستعمل على تحقيق "الطبيعة البشرية الطيبة" و التخلص من "الخطيئة الأولى" ويعمل على تحقيقهما خاصة عبر العنف الرمزي أو عبر المسدس الأحمر الشيوعي أو الأسود الفوضوي. و لكن كل من يريد التخلص من هذا و ذلك ليبرر "الجحيم الرأسمالي" الحالي بحجة "نسبية الحقيقة" و" الطبيعة البشرية الشريرة" و يكف عن العمل من أجل الارتقاء بالانسان باستمرارنحو المزيد من الأنسنة هو سياسي و مثقف " شيطاني" أو هو يلعب دور"محامي الشيطان". نحن لسنا ملائكة و لا شياطين و لكن التقدم البشري ممكن دائما و من أنبل الأدوار المساهمة على تحقيقه كل من موقعه السياسي أو الثقافي أو من كليهما معا و من غيرهما و هو كثير. أنا لا أقدم جديدا معرفيا ، اذ بامكانكم العودة الى ماركس و برودون و كارل بوبر و ادغار موران و ادوارد سعيد بل و حتى محمود درويش ( الذي اعتبره مفكرا شاعرا) مثلا لمعرفة بعض مصادري .و أنا واع تمام الوعي بأنها "خلطة عجيبة" و لكنني أفضلها دفاعا عن الحياة و السياسة و الثقافة بدل نسق مغلق يقتل صاحبه ويقتل الآخرين ليقدمهم قربانا على مذبح آلهة الثقافة و السياسة العقائديين. أنا لا أدعو الى تجديد الماركسية لأن النسق فيها يطغى على كل ثراء التجديدات التي وقعت داخلها و على هامشها بل أدعو صراحة الى تجاوزها ايجابيا.أنا أدعو الى القطع المعرفي و السياسي و التنظيمي جذريا اذ "لا بد من اعادة النظر في كل شئ" نظرية و تجارب تاريخية و لكنني لست من المولعين من الوضعيين بما يسمى " نهاية الايديولوجيا" الذين ينسون انه توجد أيضا ايديولوجيات ليبيرالية عديدة و منها الوضعية بل أدعو فقط الى اعادة صياغة أنساق الأفكار بصورة مفتوحة و خاصة مؤنسنة على رأي الرائع ادوار سعيد، و ليست عقائدية مغلقة حتى لا تتحول الايديولوجيا الى "مهنة البوليس" كما قال الرائع محمود درويش في "مديح الظل العالي". و اذا كان هنالك شيء اعتبره ، من الناحية العملية السياسية، ضرورة ملحة فهو القطع فورا مع الأحزاب اليسارية الايديولوجية و البدء في تكوين أحزاب يسارية سياسية تكون مفتوحة لكل المثقفين الاشتراكيين الديمقراطيين غير العقائديين فكريا و غير التسلطيين سياسيا و تنظيميا. لقد فضلت كتابة هذا المقال دون مصادر و مراجع حتى يكون بمثابة الرسالة المختزلة و الى كل من يريد معرفة آرائي التي لا أزعم مطلقا انها نهائية أو شافية و ضافية أحيله خاصة الى مقالاتي التالية التي يجدها في موقعي الفرعي في "الحوار المتمدن" (1): 1- نقد الأصولية الحمراء : نحو تجاوز مادي و جدلي للماركسية. 2- نقد الأصولية الحمراء... ملحق حول رسائل انجلس في المادية التاريخية. 3- مع علم الانسان التاريخي وضد المادية التاريخية : نحو منظور علمي و انساني جديد. 4- الوصايا العشر اليسارية الجديدة : مديح الانتهازية الثورية. 5- من أجل حزب اشتراكي موحد و جديد في تونس : مشروع للنقاش حول وحدة اليسار.
لقد كتبت هذا المقال أشعر وكأنني أفقأ دملا قديما قاتلا و أرجو الا أرتكب خطأ يؤدي الى ان أفقأ العيون التي أحب. أرجو أن يكون حوارنا "حوارا متمدنا".
http://www.ahewar.org/m.asp?i=5544-
#بيرم_ناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مهمة عاجلة - حول الثورجية اليسراوية في تونس اليوم -.
-
الدولة و الثورة و الفوضى في تونس .
-
تونس و الدرس المصري : قبل فوات الأوان.
-
الائتلاف الوطني للانقاذ في تونس :من الانقاذ الى انقاذ الانقا
...
-
من-الجبهة الشعبية- الى -الجبهة الديمقراطية المتحدة- في تونس.
-
رسالة مفتوحة ثانية الى الرفيق حمة الهمامي: أسئلة حول المفاهي
...
-
رسالة مفتوحة الى الرفيق حمة الهمامي
-
شكري بلعيد : وصية شخصية
-
تونس : في الجبهة الديمقراطية المتحدة ضد التطرف الاسلاموي .
-
راشد الغنوشي واغتيال شكري بلعيد: بيان النفاق و تبيين الشقاق.
-
حكاية تونسية ...الى نيروز و ندى بلعيد.
-
تونس : من - مؤتمرالانقاذ الوطني- الى- جبهة الانقاذ الديمقراط
...
-
اغتيال الثورة التونسية و مسؤولية الديمقراطيين الانقاذية .
-
شكري بلعيد : في معنى الوفاء
-
عزمي بشارة و التدخل الأجنبي: كارثة المثقفين العرب.
-
الى الدكتورعزمي بشارة : رسالة عتاب شخصية.
-
من أجل حزب اشتراكي موحد و جديد في تونس: (مشروع للنقاش حول وح
...
-
تعقيب على الرسالة الرابعة الموجهة الى الجبهة الشعبية: الى ال
...
-
الجبهة الشعبية التونسية بين -اليمين الديني- و- اليمين الليبي
...
-
الوصايا العشر اليسارية الجديدة : مديح الانتهازية الثورية .
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|