|
التصنيع الدوائي .. الأولويات والمعايير الأخلاقية
أسامة عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 4234 - 2013 / 10 / 3 - 23:11
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
أصدرت كبرى شركات تصنيع الأدوية العالمية قبل فترة تقاريرها المالية عن العام 2012 وأوضحت هذه التقارير مقدار ما انفقته الشركات على (البحث العلمي والتطوير) ونشر موقع فارما دايلي قائمة بأكثر عشرة شركات إنفاقا على البحث والتطوير العلمي، حيث تفوقت شركة روش Roche السويسرية خلال العام 2012 بمبلغ 9.3 مليار دولار وبلغ مجموع ما انفقته الشركات العشر المذكورة في القائمة أكثر من 60 مليار دولار أنفقتها عشرة شركات فقط بغض النظر عن كونها شركات عملاقة وقد اعتدنا من زمن على قراءة أرقام خرافية فيما يتعلق بميزانياتها.
من الجدير بالذكر أيضا، أن كل معدلات الانفاق المرتفعة هذه قد لا تشكل سوى (جزء) بسيط من (كلّ) خرافي يتجاوز رقم الـ 60 مليار دولار لحدود أبعد من ذلك بكثير إذا ما أجملنا ما تنفقه جهات أخرى على الأبحاث العلمية الخاصة بالتطوير الدوائي وأبحاث الأمراض المستعصية، نذكر على سبيل المثال مراكز الأبحاث الحكومية (ليس في بلداننا) ومراكز الأبحاث التابعة لمنظمة الصحة العالمية والمراكز الجامعية والأكاديمية والمراكز والهيئات الخاصة والتجارية، لا يوجد رقم محدد يجمل معدل الانفاق الاجمالي العالمي على أبحاث الصناعات الدوائية ولكنه بالتأكيد رقم كبير، وهو شيء يفسر مدى استفحال وضخامة هذه التجارة أو الصناعة العالمية والتي تتداول سنويا كما من الأموال يجعلها ثالث أكبر تجارة شرعية على مستوى العالم.
تجعلنا هذه الأرقام مطمئنين إلى أن جميع مشاكلنا المرضية سيأتي يوم وتذهب إلى زوال، وبالتأكيد نعلم أن هناك أشخاصا آخرين يسهرون الليالي الطويلة من أجل الحصول على إجابات جديدة بشأن التساؤلات الخاصة بأمراض البشرية المستعصية والتي تزداد يوما بعد يوم حتى أعجزت بكثرتها القواميس والموسوعات، على أن هذه الأرقام قد تبدو لأول وهلة أرقاما خادعة وقد تعمدت أن أذكر فقط الأرقام التي املكها فيما يتعلق بمؤسسات تجارية معنية بتطوير وتصنيع الأدوية لفوائد ربحية خالصة.
ولنبدأ بذكر معلومات وأرقام أخرى .. ولكوننا نتحدث عن الأدوية والأمراض، فلنبدأ بأشياء شائعة وواسعة الانتشار، كالملاريا مثلا: حيث انه مرض معدي تتم الاصابة به بواسطة طفيلي يسبب أعراضا متطرفة الشدة قد تؤدي بصاحبها إلى الموت إذا لم يحصل على العلاج اللازم وهو مرض قابل للعلاج ويوجد منه أشكال متعددة ينتشر منها الأكثر فتكا وهو مرض يصيب حوالي 400 مليون شخص سنويا ويقتل حوالي 1 - 2 مليون شخص كل سنة ومعرض للإصابة به حوالي 40% من سكان الكرة الأرضية في مناطق القارة الأفريقية وامريكا الوسطى والجنوبية وبعض مناطق جنوب آسيا وشبه القارة الهندية ولكن 90% من الإصابات تتركز في قارة إفريقيا لوحدها. الطفيليات المسببة للمرض تتراوح شدتها ما بين الفتاك وما بين الكامن الذي يتكاثر داخل الجسم دون إحداث أعراض، ولكن بالتأكيد فإن الطفيل الأكثر فتكا (بلازموديوم فالسيبروم) يعتبر الأكثر انتشارا والأكثر تسبيبا للعدوى. ومن شدة المرض، أوصت منظمة الصحة العالمية جميع المعرضين للإصابة به حسب المناطق الجغرافية بالحصول على العلاج المناسب عند ظهور أول أعراض المرض مباشرة. يوجد أدوية كثيرة لعلاج الملاريا والوقاية منها وقد تم تطويرها بعد الاكتشاف الفعلي للطفيل المسبب للمرض وطرق انتقاله عام 1880 في الجزائر حيث كان هناك حاجة ملحة لعلاج المرض الذي عرض الكثير من الجيوش والبعثات الاستعمارية للخطر في مناطق مختلفة في العالم وظلت كثير من الأدوية تلك مستخدمة لحد الآن ومنذ فترة طويلة لم تقم أي شركة أدوية عالمية بتطوير وانتاج دواء جديد للملاريا ولذلك يجري استخدام الأدوية القديمة رغم أنها أثبتت قلة نجاعتها وقدرة الملاريا على مقاومتها واحتياجها لفترة علاج طويلة نسبيا وتسبب أعراضا جانبية كثيرة ومعدل سمّية مرتفع. يجري الآن انفاق ما معدله ((نصف مليار دولار سنويا)) على أبحاث خاصة بالملاريا (لعلاج 400 مليون مصاب بالمرض كل عان).
في الناحية الأخرى: نجد مرضا فتاكا آخر وهو الإيدز والذي يعتبر مرضا حديث الاكتشاف (1982) وحديث الانتشار (1985) في الدول الغربية وفي هذا العام بالذات اصدرت منظمة الصحة العالمية نشرات تحذيرية منه وبروتوكولات صحية جديدة على المستشفيات اتباعها للحد من انتشاره بطرق انتقاله المعتادة مثل نقل الدم أو استخدام أدوات طبية لمريض مصاب به (عدا عن الانتقال بواسطة العملية الجنسية طبعا) ، وفي عام 2012 بلغ عدد المصابين بالإيدز في جميع أنحاء العالم حوالي 40 مليون شخص جزء كبير منهم في أفريقيا وجزء لا يستهان به أيضا موجود في الدول الغربية، المرض فيروسي ، فتاك ، لا يوجد له - لحد الآن - علاج نهائي يقضي عليه بشكل تام ، يتعرض المصاب به لتدهور تدريجي في نظامه المناعي ويظل معرضا بشكل كامل للموت نتيجة اصابته بأقل الأمراض المعدية قوة أو تعرضة لأقل الظروف البيئية تأثيرا ولا يؤدي بصاحبه إلا إلى الموت المحقق نتيجة المرض ونتيجة عدم وجود علاج نهائي وناجع يقضي على الفيروس المسبب له أو يستعيد الحالة الطبيعية للجهاز المناعي بعد تدميره، وجميع ما يستخدم له من أدوية من مضادات فيروسية تستخدم فقط لتأخير نتيجته المتحومة، ذلك لم يمنع العالم من إنفاق حوالي 10 مليارات دولار سنويا لعلاج المرض الذي يصيب 40 مليون شخص في العالم.
إنه خيار معقد، ويعتمد بشكل أساسي على معايير أخلاقية، أي المرضين نحارب .. الملاريا أم الإيدز؟ سأقوم بتلخيص المعلومات وإعطاء صورة أفضل لعقد مقارنة فعلية بين المرضين بحيث نخلص إلى نتيجة محددة
الملاريا: الأدوية المستخدمة لعلاجه غير آمنة وقليلة الفعالية ويمكن انتاج أدوية أكثر قوة وفاعلية وأمان خلال 15 سنة من أبحاث مستمرة ذات موارد مفتوحة، يصيب حوالي 400 ملليون شخص في العالم كل سنة ويقتل الاطفال بشكل خاص بمعدل وفيات يصل إلى طفل كل 40 ثانية وقد حاولت منظمة الصحة العالمية من قبل تنظيم حملة للقضاء عليه وفشلت بسبب الطبيعة الجغرافية للأماكن التي ينتشر بها المرض حيث الحرارة المرتفعة والغابات والأدغال التي توفر مكانا آمنا لذبابة الأنوفيليس التي استمرت في النجاة من أكثر حملات استخدام المضادات الحشرية قوة.
الإيدز: الأدوية المستخدمة لعلاجه لن تؤدي إلى أي نتائج تحسن ملموسة .. ستظل حالة المريض تنتقل من سيء إلى أسوأ كما أن طريقة القضاء عليه أكثر سهولة ومنع الإصابه به أكثر سهولة وأقل تعقيدا .. انشر الوعي بالمرض في أفريقيا - مصدر المرض - وتوقف عن ممارسة الجنس بطريقة حيوانية واستعض عن المخدرات التي تعطى بواسطة الحقن بمخدرات أخرى تعطى بالشم أو عن طريق الفم .. ستجد انها أرخص واقل خطرا (يعني لن تقتلك بسرعة) .. وإذا لم تقدر على التخلي عن المخدرات الوريدية فحاول أن تجد لنفسك معدات طبية خاصة بك ولا تشاركها مع الآخرين ..
أيضا ..
الملاريا: لا تنتقل لأوروبا .. لا تصيب الرجل الأبيض .. ولو انتقل مريض إلى أوروبا فإنه لن يكون معديا فالطفيل يحتاج إلى وسيط في دورة حياته ينقل الطفيل للانسان وهو بعوضة الأنوفيليس وهي لا تعيش إلا في الماء الآسن وفي درجات الحرارة المرتفعة
أما الإيدز: فقد انتقل أول مرة للإنسان عبر قرود إفريقية متوحشة تهاجم تجمعات القبائل في بلدان وسط إفريقيا وقام بنقله لأوروبا موظفي منظمات الإغاثة العالمية الذين كانوا يغيثون منكوبي أفريقيا ويغتصبون نسائهن وأطفالهن كذلك، وانتشاره في أمريكا واوروبا لم يكن بأي حال من الأحوال شيئا يمكن التحكم فيه .. فأداة انتشاره الأولى هي غريزة بشرية ..
قد لا أكون عادلا في مقارنتي - بحسب البعض - ولكن لنعد الآن إلى النقطة التي أثرت فيها التساؤل وطرحت الأخلاقيات الانسانية معيارا للإجابة عليه: أيهما تحارب أيها الإنسان .. الإيدز أم الملاريا؟
شبه "منذر القباني" في روايته "فرسان وكهنة" هكذا نوع من المقارنات بأنه أشبه ما يكون بحيازة قنبلة موقوتة ستنفجر بعد لحظات ومن يحوزها مخيّر بين إلقاءها على الجانب الأيسر من البناية التي يقطنها حيث يوجد 400 مليون مصاب بالملاريا سنويا وفي الجانب الأيمن يوجد 40 مليون شخص مصاب بالإيدز، وقد تكون تلك مقارنة متطرفة ولا يحتاج الأمر لإلقاء قنابل والتضحية بجانب على حساب جانب آخر يستحق الحياة أكثر، فتلك أمور جدلية لا أحب الخوض فيها لكن الأرقام التي ذكرتها مثيرة للاستفزاز أيضا بشكل كبير ولماذا يحق لمرضى الايدز أن الذين يبلغ تعدادهم عُشر تعداد مرضى الملاريا أن تُسخر لاجل علاجهم موارد تُقدر بعشرين ضعف الموارد التي تُسخر لعلاج مرضى الملاريا !؟
وبالطبع يجب إيضاح أن شركات الأدوية والهيئات البحثية الخاصة - وحتى المؤسسات الأممية - تقدر الأمر بناء على معايير ازدواجية غير عادلة، فبالنسبة لها فإن الإنسان الأبيض وحياته موضع تقدير أكبر من الأفارقة وأيضا الاهتمام بصحته ذو فائدة أكبر ففي اوروبا وأمريكا وعلى الرغم من عدم قدرة الكثير من الناس على شراء أدويتهم الخاصة بمرض الإيدز بشكل مباشر وباستخدام دخولهم المتوسطة أو تحت المتوسطة إلا أنظمة التأمين الصحي تتيح لهم دفع مستحقاتهم كما ان الدولة تدعم صرف ادويتهم وتنفق على علاجهم من ميزانيتها الخاصة على العكس من أفريقيا والتي تعتبر أفقر قارة في العالم ماديا رغم امتلائها بالموارد الطبيعية حيث لا يوجد فيها سوق قادر على تغطية التكاليف الضخمة للابحاث والدراسات التي ستُسخر لأجل ايجاد أدوية جديدة لأمراضهم المتعددة .. أنا لا أريد أن نرمي القنبلة على مرضى الايدز بدلا من إلقاءها على مرضى الملاريا .. أريد أن ينظر العالم بطريقة أكثر أخلاقية للمشكلات التي يعاني منها الانسان ويوازن في المجهود الذي يبذله لحلها ..
وجدير بالذكر أيضا أن الملاريا والإيدز ورغم امتلاء المقال بالمعلومات حولهما ليسا سوى مثال بسيط أردت ان أوضح فيه وجهة نظري، فمثلا: الليفوفلوكساسين الذي نتنجه غالبية شركات الأدوية الكبرى يمكن استخدامه في أفريقيا لعلاج ملايين المصابين بمرض السل الرئوي الذي تطور بشكل كبير في مقاومته للمضادات الحيوية المعتادة والأكثر قدما على أن الشركات هذه تقوم بانتاجه بكميات محدودة للاحتفاظ بسعره المرتفع جدا ويتم تسويقه لمعالجة ألتهابات البروتستاتا والمسالك البولية! وكذلك أمراض مثل الكوليرا استطاع العالم التخلص منها بابتكار مضادات حيوية فعالة قادرة على القضاء عليها بشكل تام ولكن لحد الآن تنتشر أوبئتها بشكل مخيف في مناطق كثيرة في العالم وأمثلة أخرى كثيرة تبين مدى وحشية العلم في هذا المجال الصناعي الضخم الذي يجب ان يتسم بأقصى درجات الإنسانية والالتزام بأقصى معايير أخلاقية في التعامل مع الشريحة العريضة من البشر من المستفيدين منه
متى ستنتهي هذه الطريقة العفنة في التعامل مع التصنيع الدوائي على أنه ليس سوى تجارة لها أولويات وجدوى اقتصادية يحكمها معايير وقيم رأسمالية وبرجوازية بغيضة؟
#أسامة_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تنامي الخطر الداهم للسلفية الجهادية في فلسطين
المزيد.....
-
آخر ضحايا فيضانات فالنسيا.. عاملٌ يلقى حتفه في انهيار سقف مد
...
-
الإمارات تعلن توقيف 3 مشتبه بهم بقتل حاخام إسرائيلي مولدافي
...
-
فضيحة التسريبات.. هل تطيح بنتنياهو؟
-
آثار الدمار في بتاح تكفا إثر هجمات صاروخية لـ-حزب الله-
-
حكومة مولدوفا تؤكد أنها ستناقش مع -غازبروم- مسألة إمداد بردن
...
-
مصر.. انهيار جبل صخري والبحث جار عن مفقودين
-
رئيس الوزراء الأردني يزور رجال الأمن المصابين في إطلاق النار
...
-
وسيلة جديدة لمكافحة الدرونات.. روسيا تقوم بتحديث منظومة مدفع
...
-
-أونروا-: إمدادات الغذاء التي تدخل غزة لا تلبي 6% من حاجة ال
...
-
رومانيا: رئيس الوزراء المؤيد لأوروبا يتصدر الدورة الأولى من
...
المزيد.....
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (2/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
الجِنْس خَارج الزَّواج (1/2)
/ عبد الرحمان النوضة
-
دفتر النشاط الخاص بمتلازمة داون
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (مقدمة) مقدمة الكتاب
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
الحكمة اليهودية لنجاح الأعمال (3) ، الطريق المتواضع و إخراج
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثمانون عاما بلا دواءٍ أو علاج
/ توفيق أبو شومر
-
كأس من عصير الأيام ، الجزء الثالث
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
كأس من عصير الأيام الجزء الثاني
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
ثلاث مقاربات حول الرأسمالية والصحة النفسية
/ سعيد العليمى
-
الشجرة الارجوانيّة
/ بتول الفارس
المزيد.....
|