|
الروتين تنكيل منظم بالشعوب العربية
فيصل القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1208 - 2005 / 5 / 25 - 10:06
المحور:
الادارة و الاقتصاد
قلما تواجه إنساناً عربياً إلا ويشتكي بكثير من الألم والقرف والإحباط والحسرة من الروتين القاتل في مؤسسات الدولة العربية ودوائرها من المحيط إلى الخليج إلا ما ندر. والدول المستثناة هي تلك التي بدأت تحترم نفسها في السنوات الأخيرة وراحت تنتقل من الحكومة الورقية إلى الحكومة الالكترونية اختصارا للوقت ومجاراة للعصر.
أما السواد الأعظم من البلدان العربية فهي ما زالت تمارس التنكيل الإداري المنظم والمبرمج بمواطنيها مما يعطي الانطباع بأن الهدف الأول للأنظمة العربية هو تركيع شعوبها وإذلالهم ودوس كرامتهم وتعقيد حياتهم وتضييع وقتهم وشل حركتهم وإبقاء المجتمعات العربية عبيداً أذلاء تحت حذاء السلطة.
لم يعد لدي ادنى شك بأن الدولة العربية التي تنغص حياة مواطنيها بجعلهم يلهثون ويتوسلون أمام حثالة الموظفين من أجل إنجاز أبسط المعاملات هي دول معادية لشعوبها بامتياز، لا بل إنها هي العدو الحقيقي لمجتمعاتها وليس الأعداء الخارجيين الذين تـُلهي الشعوب بخطرهم. يا الله ما أحقر تلك الدول وما أنتنها! فهي تتشدق ليل نهار بأزعومة الدفاع عن الوطن بينما تمارس ضد مواطنيها أبشع أنواع العدوان مما يجعل العدو الخارجي الذي تتذرع به بعض دولنا أرحم وأقل خطراً على بلداننا من العدو الداخلي بمئات المرات إذا توخينا الاقتصاد في التعبير.
بالله عليكم ارشدوني! ما هو الهدف من تعقيد حياة المواطن وجعله مشغولاً دائماً بسفاسف الأمور التي تجاوزتها المجتمعات الحية منذ مئات السنين؟ لماذا يشعر الإنسان العربى بنشوة عارمة لمجرد أنه تمكن من إنجاز معاملة سخيفة في إحدى دوائر الدولة كأن يسدد مثلاً فاتورة مياه أو يشتري كيساً من الطحين أو السكر أو الإسمنت من إحدى المؤسسات الحكومية الساقطة؟ لماذا يشعر وكأنه وصل إلى القمر أو أنه حقق انتصاراً مبيناً لمجرد أنه انتزع توقيعاً حقيراً من موظف سافل لا يساوي كعب حذاء مهترئ في وقت الغلاء؟ كيف ننافس الشعوب التي سبقتنا بمئات السنين الضوئية ونحن ما زلنا نناضل لانتزاع إخراج قيد بسيط من دائرة النفوس أو سند تمليك من دائرة العقار أو رخصة لبناء قن دجاج؟ من الذي يتآمر على الإنسان العربي، الصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية أم حكوماته العثمانية التي ما زالت تطبق قوانين خشبية أكل عليها الدهر وشرب ولم تكن صالحة حتى في زمانها قبل مئات الأعوام؟
في الوقت الذي بدأ فيه العديد من دول العالم ينتقل من الحكومة الورقية إلى الحكومة الالكترونية ما زالت معظم الدول العربية تتلذذ في تكديس الأضابير والملفات الإدارية والاحتفاظ بأطنان من الوثائق الصفراء التي التهمت الفئران قلبها. فبدلاً من اللجوء إلى الكومبيوتر للعودة إلى معاملات هذا المواطن أو ذاك ترى الموظف العربي في أكثر من بلد يبحر في أكوام مخيفة من الأوراق والملفات العفنة كي يراجع معاملة قديمة هذا إذا لم تكن قد ضاعت في سراديب الدائرة أو أتلفتها الديدان. إنها عملية مضنية للموظف الذي وضعته الدولة للتنكيل بالمواطنين وقاتلة للمواطن الذي ارتضى أن يكون دمية حقيرة يتلاعب بها حثالة الموظفين. لقد قال لي أحد الأشخاص الذين تعقدت إحدى معاملاته الإدارية في إحدى الدوائر الحكومية إنه يتمنى من كل قلبه لو تأتي النيران على ملفات وأضابير تلك الإدارة فتلتهمها غير مأسوف عليها. وقد لفتت أمنيته تلك انتباهي إلى أمر خطير للغاية، فتساءلت بيني وبين نفسي: ماذا لو فكر أحد العابثين فعلاً بإضرام النار بمبنى إحدى الدوائر الحكومية التي تحوي ملايين الوثائق والسندات والملفات؟ ماذا لو كان المستهدف مبنى إحدى المؤسسات الحساسة ودفاترها القديمة التي تنظم الشؤون العسكرية أو الأمنية في هذا البلد أو ذاك؟ لقد حصل ذلك في بعض البلدان بنسب قليلة لكنه ليس مستبعداً أن يحصل على نطاق خطير وواسع خاصة وأن لدى ملايين المواطنين العرب ثارات لا تحصى مع حُماة الروتين القاتل في هذا الوطن العربي الروتيني إلى حد القرف. لقد ألغت الكثير من الدول التي تحترم نفسها وشعوبها المعاملات الورقية وبدأت تتواصل مع مواطنيها إدارياً عن طريق الانترنت وفي أضعف الإيمان عن طريق الكومبيوتر بحيث انتفى حتى ذهاب المواطن إلى هذه الدائرة الحكومية أو تلك واصبح بمقدور الملايين أن يتابعوا معاملاتهم وإنجازها وهم في بيوتهم بكبسة زر بدلاً من الانتظار في أقبية الدوائر الحكومية التي تفوح من ردهاتها رائحة الفضلات البشرية النتنة. ولا أدري إذا كان ذلك مقصوداً أيضاً، فعلى ما يبدو فإن بعض الحكومات العربية العفنة لا تكتفي بسحق مواطنها عن طريق تعذيبه إدارياً والمماطلة في انجاز معاملاته وتخليص قضاياه الإدارية بل تستقبله أيضأ بروائح تفوق رائحة المزابل بشاعة عندما يدخل مبنى هذه الدائرة أو تلك وكأنها تمعن في التنكيل به وتجعله يكفر بالساعة التي ولد فيها عربياً.
إن حكوماتنا تبذر المليارات على السيارات الحكومية وإصلاحها ووقودها كما يشفط مديروها الملايين من خزينة الدولة بينما تتردد ألف مرة في شراء كومبيوتر بسيط لموظفيها كي يسهـّلوا معاملات الموظفين ويختصروا الوقت وكأنها تؤكد ضرورة التنكيل المنظم بمواطنها. ألا يمكن القول في هذه الحالة إن الهدف من الروتين القاتل الذي تطبقه بعض الحكومات العربية هو إحدى وسائلها لضبط المواطن وإخضاعه وإبقائه تحت نعالها؟ كيف لا وقد غدت العلاقة بين معظم الشعوب العربية وحكوماتها علاقة عداء مستحكم؟ السلطة لا تستطيع الاستمرار إلا بالقمع والضغط والتنكيل، والشعوب تئن للخلاص من الاستعمار الإداري الداخلي الذي تفوق بشاعته بشاعة الاستعمار التقليدي عشرات المرات.
لكن لا تحزنوا، فالكومبيوتر العملاق قد دخل بعض الدوائر الحكومية العربية. قد تظنون أنه دخل الجامعات والمدارس ودوائرها بسبب قدرة الاساتذة والطلبة على التعامل معه بسهولة أكثر من غيرهم. لا أنتم مخطئون، فالجامعات والمؤسسات التعليمية ليست جديرة بهذه النعمة الوافدة. الجدير الأول والوحيد حتى الآن بنعمة الكومبيوتر العملاق الذي يستطيع التعامل مع ملايين القضايا وتسهيلها هو بعض أجهزة الأمن العربية التي ما إن اكتشفت روعة التعامل الالكتروني حتى راحت تشتري أجهزة كومبيوتر عملاقة للإمعان في مراقبة الناس وقمعهم وشل حركتهم والتنغيص عليهم. فإذا كان لا بد من اللجوء إلى التقنيات الحديثة لدى بعض الدول العربية فهو لتحديث عمليات التنكيل بالمواطنين وليس إزالتها أو التخفيف منها.
قد يقول البعض إن المشكلة لا تكمن في الحكومات العربية بل في تلك العقلية والقوانين الروتينية البالية التي تجذرت في الموظفين العرب على مدى السنين. وهذا طبعاً كلام فارغ، فلو كانت هناك إرادة سياسية لدى الأنظمة العربية الحاكمة لاجتثت تلك القوانين وألغتها بسرعة البرق وطهرت إدارات ومؤسسات الدولة من تلك النوعية القذرة والفاجرة من الموظفين الذين يتعاملون عادة مع المراجعين بطريقة فوقية مخزية كما لو كانوا ثلة من الشحاذين، فنحن نعلم أن النظام العربي يستطيع أن يقول كن فيكون إذا كان الأمر في مصلحته، أما إذا كان في مصلحة المواطن فلا بأس أن ينتظر ويعاني مئات السنين. المشكلة أن الحكومات العربية استمرأت التنكيل بشعوبها عن طريق قوانين وتصرفات إدارية قميئة وهي تستخدم تلك القوانين بالدرجة الأولى لإحكام قبضتها على رقاب الشعوب. ولا يمكن أن نصدق أيضاً الزعم القائل بأن الروتين هو الطريقة الأمثل لكبح الفساد الإداري، فبالرغم من تعقيدات العمل الإداري في العالم العربي فإن الفساد ضارب أطنابه في كل المؤسسات والإدارات العربية دون استثناء.
لقد قابلت شاباً طموحاً في إحدى الدول العربية عاد لتوه من إحدى دول الخليج وفي جعبته مبلغ من المال يريد أن يستثمره في إقامة منشأة صغيرة لتصنيع النعال المستخدمة في صناعة الأحذية، فراح يحضر لإنشاء المعمل الصغير فإذا به يواجه قائمة لها أول لكن ليس لها آخر من الشروط الإدارية القاتلة، وكأن الحكومة تقول لأمثاله نحن هنا لتعطيل مصالحكم وعرقلة أموركم وشل حركتكم وجعل حياتكم جحيماً لا يطاق من خلال روتيننا العفن. لقد طلبوا منه الحصول على موافقة الجهات التالية : عضو المكتب التنفيذي، قيادة المنطقة، المخابرات العسكرية، المصرف الصناعي، اتحاد الحرفيين، الصناعة،الاقتصاد، الخدمات، الري، الزراعة، التموين، البيئة، النقل، الاتصالات، الكهرباء، مجلس المدينة، شعبة الرخص، مكتب الاستثمار، ثم هيئة مكافحة البطالة. لقد ظننت أن الأمر نكتة سمجة، فإذا بها حقيقة ماحقة. ففي الوقت الذي أصبح فيه شعار العالم "البقاء للأسرع"، ما زالت بعض حكوماتنا العربية تضع ألف عائق وعائق أمام مواطنها جاعلة ابسط أموره معجزات عظاماً. بالله عليكم ما علاقة كل تلك الدوائر السخيفة المذكورة بإنشاء معمل بسيط للنعال؟ ما علاقة المخابرات العسكرية بتصنيع المواد المستخدمة في صناعة الأحذية؟ حاولت أن اجد مبرراً لتدخلها في هذه المهنة الحذائية فلم أجد؟ هل تهدد النعال أمن الوطن؟ هل يمكن استخدام النعال في التآمر مع العدو والجيوش الأجنبية على حماة الوطن وعسكره؟ ربما، من يدري؟ لقد سألت أحدهم عن ذلك التدخل الأمني المقيت حتى في صناعة الأحذية، فرد بسخرية لاذعة: "من حق أجهزة الأمن العربية أن تتدخل في صناعة النعال لأن النعال هي أحد أهم الأسلحة التي تستخدمها في إذلال الإنسان العربي وتمريغ كرامته بالتراب".
ولا داعي للحديث عن موظفي البلديات والمؤسسات الحكومية الأخرى الذين تحولوا إلى ما يشبه العلق الذي يعتاش على السمسرة والرشوة وتخريب المشاريع التجارية والزراعية والصناعية الخاصة إذا فشل أصحابها في سد أفواههم النتنة بالرشاوى الضخمة جهاراً نهاراً. ويحدثونك عن التحديث والتطوير ومنافسة الأمم الحية!! لمصلحة من هذا التنكيل الإداري المنظم بملايين المواطنيين العرب هذا إذا استطعنا تسميتهم مواطنين أصلاً؟ من هو العميل والخائن الحقيقي للوطن، أهو ذلك الشخص الذي يتصل بالعدو أم تلك الحكومات العربية القميئة التي نالت من شعوبها وجعلتها "ملطشة للي يسوى وما يسواش"؟ هل أتقنت تلك الحكومات على مدى تاريخها سوى لعبة التنكيل بالشعوب وجعل مجتمعاتها فريسة سهلة للطامعين باوطننا من أعداء مجاورين وغزاة قادمين من خلف المحيطات؟ بالله عليكم ارشدوني؟ من هو العميل والخائن الحقيقي؟ من هو العدو الاصلي للشعوب العربية، ذلك العدو الخارجي الذي يهددها على بعد مئات أو الآف الأميال وهو معروف بأنه عدو، أم ذلك العدو المحلي المتستر بالوطنية الذي يستخدم ضد الإنسان العربي شتى أنواع الأسلحة اليومية الفتاكة كالروتين القاتل وتعطيل مصالح الناس والتنكيل والإفساد المنظمين والذي ينخر الجسد العربي كالسرطان ثم يدعي أنه الأمين على مصالح المواطنين وشؤونهم؟
#فيصل_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عندما يصبح -الشعب- خطراً على الديموقراطية والعالم
-
تنازل أكثر تحكم أطول!
-
كم أنتِ ناكرة للجميل أيتها الصهيونية!
-
الانطفاش الإعلاماواتي الحنكليشي
-
الحرس القديم .... يادادا
-
الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس
-
تدويل العرب!
-
بلادي وإن جارت علي لئيمة!
-
فيفا أوكرانيا...فيفا أوكرانيا!
-
الصفر الوطني والصفر الاستعماري
-
باي باي إصلاحات
-
متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي
المزيد.....
-
كم سعره اليوم؟.. أسعار عيارات الذهب اليوم في العراق السبت 23
...
-
موراليس: الولايات المتحدة فقدت قوتها الاقتصادية
-
اليابان تعتمد 250 مليار دولار لمواجهة التحديات الاقتصادية
-
منظمات مناصرة للفلسطينيين تسعى لوقف صادرات الأسلحة الهولندية
...
-
بعد نمو ضعيف هذا الصيف - توقعات بشتاء قاسٍ للاقتصاد الألماني
...
-
مشاركة فعالة لشركات روسية في معرض إفريقيا للأغذية في الدار ا
...
-
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يشكل مستقبل التجارة الدولية؟
-
أبرز 7 دول و7 شركات عربية تصنع الدواء وتصدره للعالم
-
في يوم استقلال لبنان: حضرت الحرب والأزمة الاقتصادية الخانقة،
...
-
دعوى في هولندا لوقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|